مسارات نحو العظمة
هناك متعة في فهم الأشياء القديمة من وجهة نظر جديدة.
كانت تلك أجمل الأوقات، وفي الوقت نفسه أكثرها مرارة. رحل ريتشارد فاينمان عن لوس ألاموس في أكتوبر من عام ١٩٤٥ نجمًا جديدًا لامعًا في مجتمع الفيزياء. كان أوبنهايمر قد حاول سابقًا في عام ١٩٤٣ إقناع رئيس قسم الفيزياء بجامعة كاليفورنيا ببيركلي أن يعرض عليه وظيفة، قائلًا له: «إنه بلا أدنى شك أكثر الفيزيائيين الشبان نبوغًا هنا … إن تميزه معروف جيدًا، سواء في برينستون … أو لعدد لا يستهان به من «كبار العلماء» العاملين في هذا المشروع، وقد عُرض عليه بالفعل وظيفة لفترة ما بعد الحرب، ومن المؤكد أنه ستعرض عليه غيرها.» كان أوبنهايمر يقصد عرضًا جاء من بيته الفطن دائمًا، الذي كان بحلول نوفمبر عام ١٩٤٣ رتَّب لعرض أكاديمي لفاينمان للعمل في جامعة كورنيل، بحيث يُعتبر فاينمان في إجازة رسمية من كورنيل أثناء وجوده في لوس ألاموس. وتباطأ رئيس جامعة بيركلي الرصين في تقديم العرض حتى صيف ١٩٤٥، قائلًا لفاينمان: «لم يسبق لأحد أن رفض وظيفة عرضناها عليه.» ولكن فاينمان رفض العرض. لقد عرف بيته وأحبه، وكان الأخير يكوِّن مجموعة ممتازة في كورنيل. علاوة على ذلك، استطاع بيته أن يجعل عرض جامعة كورنيل منافسًا لعرض بيركلي وبراتب أعلى، وهكذا غادر فاينمان لوس ألاموس في الخريف، واتجه إلى كورنيل ليكون أول من غادر الموقع من قادة المجموعات.
كان تنبؤ أوبنهايمر صائبًا، كما كان الحال في أغلب الأحيان. وفي خلال عام واحد، تلقَّى فاينمان مزيدًا من العروض بوظائف ثابتة بمعهد الدراسة المتقدمة، وجامعة برينستون، وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس، وقد رفضها جميعًا حتى يتمكن من الاستمرار ضمن مجموعة بيته. وتسببت تلك العروض في ترقيته بكورنيل من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك.
كان من الطبيعي أن ترفع كل هذه الموافقات والعروض من معنويات فاينمان. إلا أنه على الرغم من ذلك كان منهكًا، متشائمًا، ومكتئبًا. فعلى الرغم من أن وفاة زوجته كانت أمرًا متوقعًا، فإنها كانت صدمة مروِّعة له. لقد كانت آرلين طوق النجاة له في الحياة. وما ضاعف من شعوره بالاكتئاب في أعقاب وفاتها إحساس غريب بالغربة والضياع اجتاحه لدى معرفته أنه قد صار في الإمكان صنع الأسلحة النووية، وأن الولايات المتحدة لن تظل طويلًا المحتكرة الوحيدة لها. فعلى سبيل المثال، تذكَّر فاينمان في وقت لاحق أنه كان مع والدته في نيويورك بعد الحرب مباشرةً وفكَّر في عدد من يمكن أن يقتلوا لو أن قنبلة ألقيت على المدينة.
وعند هذا الحد، بدا التأمل في المستقبل بلا معنى لأنه شعر بأنه لا يوجد مستقبل. وعلى غرار أينشتاين، الذي قال ذات مرة: «كل شيء تغير، إلا طريقة تفكيرنا.» رأى فاينمان أنه لم يحدث أي تغيير في العلاقات الدولية بعد الحرب، وكان على يقين من أن الأسلحة النووية سوف تستخدم مرة أخرى في القريب العاجل. وعلى حد قوله: «ما يمكن لأحد الحمقى أن يفعله، يستطيع أحمق آخر فعله أيضًا.» وكان يعتقد أنه من السخف بناء الجسور التي سرعان ما ستتعرض للتدمير. لهذا أيضًا، لا بد أنه قال لنفسه، ما الداعي لمحاولة التوصل إلى فهم جديد للطبيعة؟
بالإضافة لكل هذا كان لديه فتور طبيعي ورغبة في الاسترخاء بعد ذلك الإيقاع اللاهث والضغط الشديد الذي تعرَّض له أثناء المشاركة في مشروع ضخم هائل كمشروع مانهاتن: التحدي الذهني، والاستراحات القصيرة السريعة، والعمل الجماعي … كل هذا تغيَّر عندما انتقل إلى كورنيل. وبعد سنوات الحرب عالية الإنتاجية، التي كان لا بد خلالها من إيجاد حلول عاجلة لمشكلات حقيقية، وإخضاع النتائج لاختبارات عملية في وقت قصير، لا بد أن العودة إلى التأمل مليًّا في قضايا يحدث التقدم فيها بإيقاع أبطأ وأكثر تشتتًا على نحو حتمي كانت أكثر صعوبة على فاينمان.
ربما كانت المشكلات التي ارتبطت بمشروع القنبلة الذرية مليئة بالتحديات الرياضية، غير أنها اشتملت بصورة أساسية على فيزياء أو هندسة مفهومة جيدًا. ومن هذا المنطلق كانوا أشبه بمن يحل المسائل في قاعة الدرس — فكلاهما محدد جيدًا وميسور — باستثناء أن المخاطر أكبر بكثير والضغوط أشد. أما المشكلات التي كان فاينمان بصدد العودة إليها فقد تضمنت أسئلة عميقة عن المبادئ، حيث لا أحد يعلم أين الاتجاه الصحيح. فمن الممكن أن يعمل لسنوات دون تحقيق تقدم واضح. وهذا النوع من الأبحاث يمكن أن يكون محبطًا حتى في أفضل الظروف.
اجتمع مع هذا قلقه بشأن إضاعة ثلاث سنوات من عمره كان يمكن أن يعمل فيها على حل تلك المشكلات، وقلقه من أن العالم كان يتجاوزه. كان جوليان شفينجر، الذي التقاه لأول مرة في لوس ألاموس بعد اختبار ترينيتي بفترة قصيرة، والذي تقاسم معه لاحقًا جائزة نوبل، في نفس عمر فاينمان، أي في السابعة والعشرين، غير أن شفينجر كان اسمه قد ارتبط بالفعل باكتشافات في مجال الفيزياء (وفي غضون عامين كان سيحصل على الأستاذية الكاملة في هارفارد)، في حين شعر فاينمان أنه ليس لديه ما يعرضه على الرغم من كل الجهود التي بذلها.
وأخيرًا، كانت هناك صدمة البدء بغتة في مجال وظيفي جديد كأستاذ جامعي. فبعد تركيز الاهتمام على المشكلات البحثية، سواءٌ أكانت عميقة أم غير ذلك، فإن وابل التفصيلات الدقيقة الذي يتعرض له المدرسون الجدد، والذي لا يكونون مستعدين له على الإطلاق تقريبًا، يمكن أن يكون معوقًا على أقل تقدير. وصل فاينمان إلى كورنيل مبكرًا عن زملائه الآخرين، ولم يصل بيته إلا في شهر ديسمبر، وبهذا لم يكن موجودًا ليؤدي دور الناصح لفاينمان خلال المرحلة الانتقالية لوظيفته الجديدة.
إن التدريس يستغرق وقتًا أطول بكثير مما يتوقع المرء، وكون المرء مدرسًا ناجحًا — كما كان فاينمان فيما يبدو في علوم الفيزياء الرياضية والكهربية والمغناطيسية — يمكن أن يخلق شعورًا سلبيًّا تجاه الحالة البحثية للمرء. قال أينشتاين ذات مرة إن التدريس أمر طيب لأنه يمنح الإنسان كل يوم وهمًا مفاده أنه أنجز شيئًا ما. فمن الممكن أن تحقق المحاضرة الجيدة إشباعًا فوريًّا، في حين أن البحث العلمي الواحد قد يستمرُّ شهورًا دون إحراز أي تقدم.
وفوق كل ذلك، فإن والد فاينمان — وهو الرجل الذي كان أول من شجعه على حل الألغاز وحثه على الاستمتاع بطرح الأسئلة عن كل ما يتصل بالطبيعة، والذي كان مشغولًا للغاية بشأن مستقبل ولده، والذي كتب له خطابًا أخيرًا مليئًا بالفخر والزهو بعد تعيينه في كورنيل — توفي فجأة جراء إصابته بسكتة دماغية بعد عام واحد من رحيل آرلين في توقيت كان فاينمان خلاله في ذروة الاكتئاب. كان فخر أبيه به مدعاة لتفاقم مخاوفه بشأن ما سيحققه من إنجازات. لقد انتبه إلى أن آخر بحث منشور له كان ذلك البحث الذي كتبه أثناء دراسته الجامعية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مما جعله يشعر بأنه قد استُنزِف، إذ شعر أن أفضل سنين عمره قد ولت وهو بعد في تلك السن المبكرة، في الثامنة والعشرين من عمره. هذا التفكير جعل العروض الوظيفية الجذابة التي يسيل لها لعاب أي شخص والتي انهالت عليه تبدو في نظره أسوأ، كما لو كان لا يستحق هذا التزلف، وأنه لم يعد بمقدوره إنجاز أي شيء مهم.
قد يكون من المثبط جدًّا للمعنويات أن يراك العالم بصورة مختلفة عن الصورة التي ترى نفسك بها. أذكر مرة أخرى من واقع تجربتي الشخصية كيف أنني — بعد أن نلت الزمالة التي طالما حلمت بها من جامعة هارفارد — لم أستطع التركيز في عملي لأكثر من ثلاثة شهور لأنه بعد خمس سنوات من الحياة في نفس المدينة كطالب دراسات عليا مغمور لا يعرفه أحد، كان الانتقال إلى مكانة جديدة كفيلًا بأن يجعلني أشعر على أفضل تقدير بعدم الجدارة. وعندما تلقى فاينمان عرضين في آن واحد من برينستون ومن معهد الدراسة المتقدمة، كان رده: «لقد كانوا مجانين بحق.»
ينسب فاينمان إلى عدد من الأمور الفضل في إخراجه من أزمته، ومن بينها حوار مع روبرت ويلسون، الذي انتقل إلى كورنيل مديرًا لمعملها الجديد للدراسات النووية. طلب منه ويلسون أن يكفَّ عن القلق، وقال إنه لا ينبغي أن يشعر بأي ضغوط، فتعيين كورنيل له مسئوليتهم هم لا مسئوليته. وذكر فاينمان لاحقًا قصة شهيرة ذكرته بالسبب وراء استمتاعه بدراسة الفيزياء: لقد شاهد طبقًا يلقى في الكافيتريا يرتعش بطريقة غريبة مرة كل دورتين، فقرر معرفة سبب حركته على هذا النحو، بغرض اللهو.
ولعل أكثر ما أسهم في شفائه من تلك الحالة كان مرور الوقت، والحاجة إلى التغلب على أحزانه لوفاة زوجته ووالده، والحاجة للتصالح مع أمه، التي كانت معارضتها لزواجه من آرلين سببًا في ابتعادها إلى حد ما عن ولدها، ثم أخيرًا الحاجة لاستعادة إيقاع الفيزياء كما عرفه قبل الحرب. لم يكن من الممكن طمس شخصيته، المشعة حماسًا وثقة بالنفس، وعقليته — التي انصب اهتمامها على المغامرة الكبرى المتمثلة في حل ألغاز الطبيعة — إلى الأبد. (وقد علق بيته لاحقًا، عندما علم باكتئاب فاينمان، الذي لم يكن ظاهرًا للآخرين في كورنيل، بقوله: «إن فاينمان وهو مكتئب يكون أكثر بشاشة إلى حد ما من أي شخص آخر عندما يكون مبتهجًا.»)
•••
خلال سنوات الحرب، لم يكف فاينمان تمامًا عن التفكير في مشكلات الفيزياء. لقد كان يحمل معه في كل مكان مجموعة من قصاصات الورق المليئة بالحسابات، التي كثيرًا ما كان يجريها أثناء رحلاته الأسبوعية لزيارة آرلين، وفيها كان يعود لطرح سؤاله عن كيفية صياغة نظرية كمية حقيقية للكهرومغناطيسية. انصبَّ تركيزه في المقام الأول على كيفية دمج نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين في معادلاته بصورة صحيحة.
تذكر أنه عرف، وهو بعد طالب في الجامعة، أنه ما من أحد غير بول ديراك اكتشف الطريقة السليمة لوصف الحركة النسبية للإلكترونات، وأن بحث ديراك عن صياغة لاجرانج لميكانيكا الكم كان هو الملهم للعمل الذي أدى لأطروحة فاينمان العلمية. كانت المشكلة تكمن في أنه على الرغم من أن طريقة «حاصل جمع المسارات» التي ابتكرها يمكنها على نحو كامل إنتاج معادلة شرودينجر، وهي معادلة ملائمة لميكانيكا الكم في إطار خارج النسبية، فإن فاينمان لم يتمكَّن من إيجاد وسيلة للتوسع فيها بسهولة بحيث تنتج معادلة ديراك في سياق النسبية. لقد اكتشف أنه عندما حسب مجموع الطاقات ظل يحصل على إجابات لا معنى لها، من بينها الجذور التربيعية لأرقام سالبة، وعلاوة على ذلك، عندما حاول حساب الاحتمالات، كان جمع احتمالات جميع الأحداث لا ينتج حاصلًا مقداره ١٠٠ بالمائة.
بعد انتهاء الحرب، ومع بداية عودته لتلك المسائل، ركَّز اهتمامه في البداية على ما كان من المفترض أن يمثل مهمة أكثر يسرًا: كتابة نتائج رسالة الدكتوراه التي بدأها عام ١٩٤٢، والتي لم تنشر رسميًّا بعد. وهنا بدأت سمة أخرى من سمات شخصية فاينمان في البروز بوضوح. لم يجد سهولة في كتابة بحثه وإعداده للنشر. لم تكن لديه مشكلة في كتابة النتائج بشكل عفوي لاستخدامه الشخصي أو بحيث يفهمها هو — ففي حقيقة الأمر، لقد فعل ذلك في العديد من المناسبات بانضباط عظيم — ولكن الكتابة من أجل النشر تتطلب صياغة تعليمية رسمية لا يحتاج فيها لاستعراض تاريخ كيفية اكتشاف الأشياء وإنما يحتاج لتحليل متدرج مترابط منطقيًّا للنتائج النهائية باستخدام لغة وعلاقات يرتاح إليها باقي الوسط العلمي.
علاوة على ذلك، كانت هناك قضية أخرى تتمثَّل في الدقة. فعندما كان فاينمان يعمل على مشكلات تخصه هو، كان يتوصل للحلول بديهيًّا في الغالب، ثم كان في استطاعته بعد ذلك مراجعتها للتأكد من أنه كان على صواب بتجربة العديد من الأمثلة المحددة. لم يكن يتبع أي تسلسل منطقي واضح، غير أنه كان يدرك أن هذا هو المطلوب من أجل نشر المقالات. تطلبت ترجمة نتائجه جهدًا هائلًا؛ كان هذا أشق عليه من خلع ضرس.
ظهر عمله للنور أخيرًا عام ١٩٤٧ في دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس بعد أن رفضت نشره دورية بحثية أكثر التزامًا بالنهج التقليدي في نشر البحوث وهي «فيزيكال ريفيو». غير أنه ربما ما كان لينشر في تلك الدورية ذلك العام لو لم يكن صديقاه بيرت ومُليكة كوربن — اللذان كان في زيارة لهما في صيف عام ١٩٤٧ — قد أرغماه على كتابة البحث أثناء إقامته عندهما. وصف بيرت الأمر ببساطة بهذه الكلمات: «لقد حبسنا ديك فعليًّا في غرفة وأمرناه ببدء الكتابة.» وأدخلت السنون على تلك القصة المزيد من التفاصيل، وعندما رواها الفيزيائي فريمان دايسون — الذي قال هو نفسه عن فاينمان: «كان الأمر يتطلب إجراءات متطرفة لإقناعه بكتابة أي شيء!» — في مذكراته كان محورها عندئذ مُليكة وكانت القصة أكثر تطرفًا: «لقد استضافت فاينمان في منزلها، وحبسته بكل بساطة داخل غرفة ورفضت أن تطلق سراحه حتى يكتب البحث. بل أعتقد أنها رفضت إطعامه إلا بعد أن يكتبه.»
أيًّا كان ما حدث بالفعل، فإن إعادة صياغة رسالته من جديد لم تتح له إنعاش أفكاره القديمة فحسب، وإنما كذلك التوسع فيها بحيث بدأت صياغته لميكانيكا الكم تبدو مرئية أكثر. بدأ «يفكر» من منظور المسارات. والحقيقة أن فاينمان في مقاله هذا يصف بشكل صريح ولأول مرة ميكانيكا الكم بهذه اللغة الجديدة؛ من منظور «حاصل جمع المسارات». وقد قال عن ذلك لاحقًا: «جاء الوضوح من خلال كتابة مقال دورية ريفيوز أوف مودرن فيزيكس … أمكنني حينها رؤية المسار … وكان لكل مسار نطاق.» وبهذا البحث أتمَّ فاينمان إعادة صياغته لفهمنا لميكانيكا الكم. ولسوف تتطلَّب الأهمية الحقيقية لإعادة الصياغة — وإدراك أنه عند مستوى عميق معين قد لا يتوقف الأمر عند كونها صورًا أكثر جوهرية من الصور التقليدية وإنما أعظم قوة بكثير منها أيضًا — بعض الوقت ليترسخ فهمها، سواء من فاينمان أو من باقي أعضاء مجتمع الفيزياء.
•••
بعد أن تحرر من هذا العبء، عاد فاينمان إلى مهمة محاولة صياغة نظرية كمية نسبية للكهرومغناطيسية. وقد تناول هذه المسألة مثلما تعامل مع كل المشكلات المشابهة، باستكشاف كل طريقة ممكنة لتصويرها. وحسبما وصف في خطابٍ كَتَبَه إلى تيد ويلتون، قال: «يحدوني الأمل في أن يعمل تعديل طفيف في واحدة من الصور على حل بعض المشكلات الحالية … صحيح أننا لسنا بحاجة إلا لإجراء الحسابات، لكن من المؤكد أن الصورة وسيلة مريحة، ولا يقترف المرء إثمًا بتشكيل صورة.»
ولكي نفهم طبيعة الصور التي كان يلهو بها، نحتاج أولًا لاستكشاف قدر بسيط من التعقيد الكبير الجديد الذي أدخله ديراك على ميكانيكا الكم عندما اكتشف معادلته الشهيرة حول الخصائص النسبية لجسيمات مثل الإلكترونات. كما أوضحت من قبل، تمتلك الإلكترونات خاصية تسمى «اللف المغزلي» لأنها تحمل داخلها «زخمًا زاويًّا» ذاتيًّا، وهي الخاصية التي تمتلكها الأجسام العادية عندما تدور في حركة مغزلية. على نحو تقليدي، لا يوجد هذا المفهوم مطلقًا على مستوى الجسيم النقطي، الذي لا يمكنه أن يسلك سلوكًا يبدو معه وكأنه يتحرك حركة مغزلية لأنه لا يوجد له «مركز» (أي نقطة أخرى) يدور حوله. فلكي يكون لها زخم زاوي، مثل عجلة الدراجة الدوارة، يجب أن يكون للأجسام العادية امتداد مكاني.
هذا الدوران الغريب، أو الزخم الزاوي، الذي يجري «تكميمه» — شأنه شأن كل شيء آخر في ميكانيكا الكم — (أي إنه يوجد على صورة مضاعفات تكاملية لأصغر وحدة)، يلعب دورًا محوريًّا، ليس في سلوك الإلكترونات وحدها وإنما في سلوك كل صور المادة في واقع الأمر. الإلكترونات التي تدور في مدارات حول الأنوية داخل الذرات، على سبيل المثال، تمتلك زخمًا زاويًّا، مثلها مثل الكواكب التي تدور حول الشمس، لكن القيم تكون مكممة، كما أوضح نيلز بور وكان أول من بيَّن ذلك. ثم يتضح أن الزخم الزاوي الذاتي للإلكترونات يحمل قيمة تساوي نصف أصغر وحدة للزخم الزاوي المداري، لذا نسميها جسيمات اللف المغزلي ١ / ٢.
تفسر لنا هذه الخاصية في نهاية المطاف السبب الذي يجعل الأجسام الصلبة موجودة وتتصرف على النحو الذي تسلكه. كان عالم الفيزياء النظرية السويسري العظيم فولفجانج باولي، قد أوضح من قبل أن الخصائص الذرية يمكن فهمها إذا افترضنا وجود ما سماه «مبدأ استبعاد» على النحو الآتي: الإلكترونات، أو أي جسيم آخر من جسيمات اللف المغزلي ١ / ٢ (البروتونات والنيوترونات أيضًا تنتمي لهذه الجسيمات)، لا يمكنها أن توجد في ذات الحالة الميكانيكية الكمية في نفس المكان وفي نفس الزمن.
من ثم، لا يمكن لإلكترونين يدوران داخل ذرة هيليوم، على سبيل المثال، أن يوجدا على نحو طبيعي في نفس المدار تمامًا. لكن يمكنهما ذلك إذا كانا يدوران في اتجاهين مختلفين تمامًا بحيث لا يكونان في حالتين متطابقتين من حيث ميكانيكا الكم في هذا المدار. وإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى ثاني أخف عنصر بعد الهيليوم، وهو الليثيوم الذي تدور حول نواته ثلاثة إلكترونات، فسنجد أنه لا يوجد خيار للإلكترون الثالث، الذي ينبغي عليه حينئذ الدوران حول النواة في مدار مختلف، وهو مدار يُفترض أنه ذو طاقة أعلى. إن علم الكيمياء كله يمكن فهمه في ضوء تطبيق هذه القاعدة البسيطة للتنبؤ بمستويات طاقة الإلكترونات في الذرات.
بالمثل، إذا قربنا ذرتين متماثلتين تمامًا إحداهما من الأخرى، فلن يكون هناك تنافر كهربي بين الإلكترونات ذات الشحنة السالبة في إحداهما وبين نظيراتها في الذرة الأخرى فحسب، بل يخبرنا مبدأ الاستبعاد لباولي أنه سيكون هناك أيضًا تنافر إضافي لأنه لا يمكن أن يوجد إلكترونان في نفس الحيز في نفس الحالة الكمية. وهكذا فإن إلكترونات إحدى الذرات تُدفع بعيدًا عن إلكترونات الذرات المجاورة حتى لا تتداخل معًا في نفس الموضع في نفس المدار. وتجتمع هاتان الظاهرتان الناجمتان عن مبدأ الاستبعاد لباولي لتحددا الخصائص الميكانيكية لجميع المواد التي تشكل العالم الذي نعرفه.
بعد ذلك بحث الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي في إحصائيات نظم العديد من الجسيمات المتطابقة ذات اللف المغزلي ١ / ٢ مثل الإلكترونات، وأوضح أن مبدأ الاستبعاد يحكم بقوة سلوك العديد من حالات الجسيمات تلك. ونحن الآن نسمي جميع تلك الجسيمات ذات اللف المغزلي ١ / ٢، و٣ / ٢، وغيرها «فيرميونات»، نسبة إلى فيرمي. أما الجسيمات الأخرى ذات قيم الدوران الكاملة، ومن بينها الفوتونات — كميات المجالات الكهرومغناطيسية ذات اللف المغزلي ١ — وكذلك الجسيمات التي لا توجد لها قيمة لف مغزلي على الإطلاق، فتسمى الآن «بوزونات»، نسبة إلى عالِم الفيزياء الهندي ساتيندرا بوز، الذي وصف، هو وألبرت أينشتاين، السلوك الجمعي لتلك الجسيمات.
•••
عن طريق «اللهو» — على حد تعبيره فيما بعد في الوصف الرياضي لجسيمات اللف المغزلي ١ / ٢ — تمكن ديراك عام ١٩٢٨ من اشتقاق معادلة تصف الإلكترونات، ويمكنها أن تفسر دورانها، وتحقق متطلبات السرعات النسبية وفقًا لنظرية النسبية لأينشتاين. كان هذا إنجازًا رائعًا، كما كان بمنزلة نبوءة أكثر روعة؛ في الحقيقة، نبوءة من الروعة بحيث إن ديراك، ومعظم كبار العلماء الآخرين، لم يصدقوها. لقد تنبَّأت النظرية بأنه بالإضافة للإلكترونات، ينبغي أن توجد جسيمات مثل الإلكترونات تمامًا تمثِّل حلول طاقة سالبة للمعادلات. غير أنه لما كانت الطاقة السالبة تبدو غير مادية — إذ إن معادلات أينشتاين تربط دائمًا بين الطاقة الموجبة والكتلة — فإن تلك الجسيمات يجب فهمها بصورة مختلفة قليلًا.
يذكرني التفسير الذي توصل إليه ديراك بنكتة قديمة سمعتها عن اثنين من علماء الرياضيات جالسين في إحدى حانات باريس ينظران إلى مبنى قريب. مع بدء تناولهما وجبة الغداء، شاهدا شخصين يدخلان المبنى. وأثناء التحلية، لاحظا خروج ثلاثة أشخاص. وعندها التفت واحد منهما للآخر وقال: «لو دخل شخص آخر هذا المبنى فسوف يكون خاليًا من الناس!»
بالمثل، إذا فسرنا الطاقة السالبة على أنها طاقة أقل من الصفر، فإننا قد نتصوَّر على نحو خاطئ أنه إذا كان الإلكترون يحمل طاقة موجبة، وإذا كانت حالة عدم وجود إلكترونات تعني طاقة تساوي صفرًا، فإن حالة الطاقة السالبة تعني ببساطة وجود عدد أقل من الصفر من الإلكترونات. وهكذا فإن حالة طاقة سالبة مساوية بالضبط ومعاكسة في الوقت نفسه لطاقة إلكترون واحد توصف بأنها أقل بإلكترون واحد عن الحالة التي يوجد فيها عدد صفر من الإلكترونات.
مع أن هذه العبارة تبدو سليمة، فإنها من الناحية الفيزيائية سخيفة. فما الذي يعنيه فيزيائيًّا قولنا: «صفر إلكترونات ناقص إلكترون»؟ يأتي مفتاح الإجابة عن هذا السؤال من التفكير في الشحنة الكهربائية التي يحملها الإلكترون: فلما كانت الإلكترونات تحمل شحنة كهربائية سالبة، وكانت حالة «صفر إلكترونات» معناها شحنة كهربائية قيمتها صفر، فإن حالة الصفر ناقص واحد إلكترون يكون لها شحنة كهربائية موجبة. وللتعبير عن هذه الفكرة بطريقة مختلفة، نقول إن وجود عدد سالب من الإلكترونات يعادل وجود عدد موجب من الجسيمات موجبة الشحنة. ومن ثم فإن حالة الطاقة السالبة التي ظهرت في معادلة ديراك يمكن تفسيرها على أنها تعبير عن جسيم موجب الطاقة له شحنة تعادل شحنة الإلكترون ومضادة له.
غير أنه كانت هناك مشكلة كبرى واحدة على الأقل في هذا التفسير الغريب. فالطبيعة ليس بها سوى جسيم «واحد فقط» معروف أنه يحمل شحنة موجبة مساوية ومضادة لشحنة الإلكترون: إنه البروتون. غير أن البروتون لا يشبه الإلكترون على الإطلاق؛ فهو، على سبيل المثال، أثقل منه ألفي مرة.
بغرض التعامل مع تلك المشكلات، قدم ديراك مقترحًا جامحًا. علينا أن نتذكر أن الإلكترونات فيرميونات، ومن ثم لا يمكن إلا لجسيم واحد فقط أن يوجد في كل حالة كم مختلفة. تخيل ديراك ما يمكن أن يحدث إذا احتوى حيز الفراغ بالفعل على «بحر» لا نهاية له من الإلكترونات سالبة الشحنة وصار من الممكن شغل جميع حالات الكم المتاحة لتلك الجسيمات. عندها لن توجد حالات متاحة تتحول إليها الإلكترونات الحقيقية موجبة الطاقة. علاوة على هذا، زعم ديراك أنه إذا صارت إحدى حالات الطاقة السالبة غير مشغولة وفقًا لعملية ما، فإن هذا من شأنه أن يترك «فجوة» في التوزيع. واستجابة لغياب الإلكترون ذي الشحنة السالبة في بحر الإلكترونات، يمكن اعتبار الفجوة على أنها جسيم ذو شحنة موجبة، وهو ما يمكن اعتباره بروتونًا.
كان التعليق المؤقت لحالة عدم التصديق الذي ترتب على تأكيدات ديراك هائلًا. كان معناه الضمني أولًا أن الفراغ — أي الحيز الخاوي من المادة — يحوي بصورة أو بأخرى عددًا غير محدود من الجسيمات التي لا يمكن رصدها والتي تقابل المستويات المشغولة بطاقة سالبة، وعلاوة على ذلك فإن الفجوة المفردة في تلك المستويات المشغولة يمكن رؤيتها كبروتون، وهو جسيم مخالف تمامًا للإلكترون فيما عدا أنه يحمل نفس قدر شحنته الكهربية.
بقدر ما كان مقترح ديراك بوجود بحر لا نهائي من الجسيمات ذات الشحنة السالبة نوعًا من الشجاعة الفكرية الفائقة، فقد كان مقترحه بأن الفجوات الموجودة في هذا البحر تمثل بروتونات ينمُّ عن نوع نادر من الجبن الفكري. لقد بدت الحالات سالبة الطاقة في معادلته متوازنة تمامًا مع حالات الطاقة الموجبة، بما يشير إلى أن لها بالضبط نفس الكتلة، وهو ما يمثل تناقضًا صريحًا مع حقيقة أن البروتون أثقل كثيرًا من الإلكترون. لقد حاول ديراك الالتفاف حول هذه المشكلة الواضحة بأن افترض أنه في البحر الممتلئ تكون التفاعلات بين الجسيمات في حالة تسمح للفجوات القليلة التي قد تظهر بتلقي إسهام إضافي يضيف إلى كتلتها نتيجة لتلك التفاعلات.
لو كان لدى ديراك قدر أكبر من الشجاعة لأمكنه ببساطة التنبؤ بأن تلك الفجوات تمثل جسيمات أولية جديدة في الطبيعة ذات كتلة مساوية لكتلة الإلكترون، لكنها ذات شحنة كهربية معاكسة. لكن حسبما قال لاحقًا: «كل ما هنالك أنني لم أجرؤ على افتراض وجود جسيم جديد عند هذه المرحلة؛ لأن المناخ العام للرأي في ذلك الوقت كان ضد فكرة وجود جسيمات جديدة.»
ولعل ديراك كان يأمل في وضع تفسير لجميع الجسيمات الأولية المعروفة في ذلك الوقت، وهي الإلكترونات والبروتونات، باعتبارها ناتجة عن مظاهر متنوعة لجسيم واحد هو الإلكترون. يعكس هذا روح علم الفيزياء، وهي تفسير الظواهر التي تبدو مختلفة باعتبارها ليست سوى وجهين لعملة واحدة. وعلى كل الأحوال فإن الارتباك لم يدم طويلًا. فقد بحث علماء فيزياء آخرون مشاهير هذه النظرية، من بينهم فيرنر هايزنبرج، وهيرمان وايل، وروبرت أوبنهايمر، واستدلوا على نحو صائب على أن التفاعلات الواردة في «بحر ديراك» لا يمكنها مطلقًا أن تضيف كتلة إلى الفجوات وأن تؤدي إلى جعل هذه الفجوات تمتلك كتلة مختلفة عن كتلة الإلكترونات. وفي نهاية المطاف اضطر حتى ديراك نفسه للاعتراف بأن نظريته تنبَّأت بوجود جسيم جديد في الطبيعة، وهو الجسيم الذي أطلق عليه اسم «الإلكترون المضاد».
أعلن ديراك استسلامه عام ١٩٣١، وقد جاء إعلانه هذا في الوقت المناسب. فلم تحتج الطبيعة إلا لعام واحد حتى تثبت أنه على صواب، على الرغم من وجود قدر من التشكيك في احتمال وجود الجسيمات الأولية الجديدة غير المرئية حتى إنه بعد العثور على دلائل قوية على وجودها، لم تصدق مجموعة العلماء التي كانت أول من لاحظ الإلكترون المضاد، أو «البوزيترون» كما أطلق عليه فيما بعد، ما توصلت إليه من بيانات.
خلال ثلاثينيات القرن العشرين، وقبل اختراع معجلات الجسيمات وتصنيعها لأول مرة، كانت الغالبية العظمى من المعلومات عن الجسيمات الأولية تأتي من مشاهدات لمنتجات المعجلات الفيزيائية الفضائية الموجودة في الطبيعة، وتحديدًا الأشعة الكونية التي تنهمر على كوكب الأرض يوميًّا، والتي تتباين مصادرها؛ فتارة تكون من مكان قريب كالشمس، أو من مصادر أكثر نشاطًا مثل النجوم المتفجرة في مجرات بعيدة من الكون. في عام ١٩٣٢ كانت هناك مجموعتان مختلفتان من العلماء على جانبي الأطلنطي تبحث كل منهما بيانات الأشعة الكونية. إحدى المجموعتين — وكانت تعمل في نفس المعمل الذي يعمل فيه ديراك بكامبريدج بالمملكة المتحدة — تحت قيادة باتريك بلاكيت، أبلغت ديراك أنها عثرت على أدلة تشير إلى جسيمه الجديد، غير أنهم جبنوا عن نشر نتائجهم قبل إجراء المزيد من الاختبارات. في هذه الأثناء — وربما على نحو مميز للسلوك الأمريكي الأكثر تهوُّرًا — نشر كارل أندرسون في كاليفورنيا دليلًا مؤكدًا على وجود البوزيترون عام ١٩٣٢، وهو ما أوصله في نهاية المطاف لنيل جائزة نوبل عن اكتشافه هذا. ومن المثير أنه حتى بعد أن تشجَّع بلاكيت ومعاونه جيوسيبي أوشيلياني أخيرًا بسبب اكتشاف أندرسون على نشر نتائجهما بعدها بعام، فقد ظلا مع ذلك متردِّدين في أن ينسبا هذا الجسيم إلى اقتراح ديراك. وأخيرًا، بحلول نهاية عام ١٩٣٣ اضطر حتى أولئك التجريبيون للاعتراف بأنه إذا كان الطائر يشبه البطة ويصيح مثل البطة، فهو على الأرجح بطة. لقد كانت الخصائص التي تنبأ بها ديراك تتفق بصورة مذهلة مع المشاهدات العملية، وسواء شئنا أم أبينا، بدا أن الإلكترونات والبوزيترونات — وهي أول مثال معروف من الطبيعة على الجسيمات المضادة — يمكن صنعهما أزواجًا وسط السيول القوية التي تحدثها الأشعة الكونية التي تقصف أنوية الذرات.
فجأة صارت البوزيترونات حقيقة واقعة! وقد قال ديراك فيما بعد وهو يتأمل تردده الأولي في قبول نتائج نظريته التي تنبَّأت بوجود الجسيمات المضادة: «كانت معادلتي أكثر ذكاءً مني!»
•••
في ظل تلك التطورات العجيبة والثورية، شرع ريتشارد فاينمان عامي ١٩٤٧ و١٩٤٨ في ابتكار «صور» جديدة لضم إلكترونات ديراك المتوافقة مع النسبية إلى الصورة الناشئة التي رسمها لميكانيكا الكم والتي تشتمل على حاصل جمع المسارات والمكان والزمان. وأثناء قيامه بهذا، اكتشف أنه بحاجة لإعادة ابتكار أسلوبه الخاص في ممارسة علم الفيزياء من جديد، على الرغم من أنه يحاول في الوقت نفسه إعادة ابتكار ذاته، والتعامل مع الخواء العميق في حياته الشخصية.