الوضع القانوني للطوائف اليهودية في الإمبراطورية العثمانية
(١) العصور الوسطى
عاشت الدياسبورا اليهودية في العديد من بلدان العالم منذ أقدم العصور في عزلة، مكوِّنة جاليات إثنودينية قائمة بذاتها. وكان وضعها القانوني في هذا المجتمع أو ذاك تُحدِّده الشرائع الدينية للبلد الذي تسكنه (والتي تميزت بالقسوة الشديدة، وخاصة في العصور الوسطى)، فضلًا عن درجة التسامح في هذا المجتمع ولدى الطبقة العُليا بصفة رئيسية، بوصفها الطبقة التي تُشكِّل السلطة في جميع المستويات. وحتى في أفضل العصور التي عاشها اليهود، وفي سياق أفضل صور ولائهم للحكام، كانوا جميعًا يُعَدُّونَ مواطنين من الدرجة الثانية. كان اليهود يتمتَّعون في ظل إدارة قرطبة، المزدهرة اقتصاديًّا، والتي أصبحت خلافة بعد ذلك (من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر)، بحرية العقيدة والتنقل (لم يكن هناك اضطهاد ديني أو مظاهر للمحاصرة)، بل كانت لهم الحرية في اختيار المهنة التي كانت تتحدَّد قبل ذلك في أغلب الأحوال تبعًا للمهن التقليدية للأسرة، الأمر الذي كان معمولًا به في كل مكان. على أنه، وفي سياق كل ذلك، فقد كانت حياتهم مقيَّدة بمعايير الدولة الإسلامية؛ ومن ثم لم يكن من الممكن اعتبار هذا الوجود مُستقرًّا. وقد لعبت العلاقات الشخصية لوجهاء اليهود وأثريائهم مع السلطة العليا دورًا كبيرًا في هذا النظام، على الرغم من أن هذه العلاقات اتخذت في بعض الأحيان طابعًا متناقضًا؛ إذ إنه كلما ازداد تأثير وعلاقات بعض اليهود لدى البلاط، أصبحت الطائفة بأكملها عرضة لمخاطر كبرى باعتبارها رهينة جماعية؛ فالمذبحة التي تعرَّض لها اليهود في عام ١٠٦٦م في غرناطة «الفاخرة» بدأت باعتبارها تمرُّدًا ضد الوزير اليهودي صاحب النفوذ الواسع.
كانت جموع من المسلمين في القاهرة وغيرها من مدن الشرق الأوسط تقوم من وقتٍ لآخر بهدم السيناجوجات والكنائس التي يَملكها اليهود والمسيحيُّون، مُستغلين سيطرة قوانينهم الدينية، التي تعتبر غير المسلمين مواطنين من الدرجة الثانية. ومع ذلك فيَنبغي علينا أن نُعطي مسلمي العصور الوسطى حقهم؛ فمثل هذه التجاوزات لم تكن تحمل على أيِّ حال طابع الاضطهاد والملاحقة المنظَّمَين، مثلما حدث على امتداد العصور الوسطى في أوروبا المسيحية، التي كانت أيديولوجيا الكنيسة تباركها.
على أي نحو كان وضع الطوائف اليهودية التي عاشت قبل ذلك في مناطق البلقان وآسيا الصُّغرى والشرق الأوسط، والقادمين الجدد فيما بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر داخل حدود الدولة العثمانية؟
كان الإسلام، الذي حدَّد معايير خاصة لوجود الشعوب التي استقرَّت في الإمبراطورية العثمانية، يسمح، طبقًا للقرآن، بالعيش وحق الامتلاك، جزئيًّا، للمسيحيين واليهود، بشرط الالتزام بالقوانين الإسلامية المعمول بها، ودفع الضرائب المفروضة. وقد تعامَلَت السلطات بقدر من التسامح، تبعًا للقوانين الإسلامية، مع الذمِّيِّين (المسيحيين واليهود) الذين هم من «أهل الكتاب». لكن هذا الوضع لم يكن وضعًا مُستقرًّا؛ ففي ظلِّ الاستبداد الشرقي، الذي كانت الإمبراطورية العثمانية إحدى صوره، لم تكن حياة أي شخص، بما في ذلك حياة السلطان نفسه وأفراد عائلته، مأمونة بسبب تعسُّف وجود بعض الأفراد والجماعات التي كانت تَمتلك في وقت محدَّد تأثيرًا واسعًا. أما فيما يتعلق بمُمتلكات أي فرد من الرعية، سواء كان مسلمًا أو «كافرًا»، فهذه كانت، من وجهة النظر الإسلامية، مِلكًا لله ونائبه على الأرض: السلطان/الخليفة. كانت الثروات الكبيرة تتمُّ مُصادرتها عادةً بعد وفاة أصحابها لصالح خزانة الدولة، وكانت السلطات تَترك للورثة ما تراه ضروريًّا لهم.
كان مسموحًا لغير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية بحُرِّية ممارسة العبادة والحياة في إطار الشرائع الدينية الخاصة بهم. وفي عهد محمد الثاني الفاتح الذي فتح القسطنطينية (استمرَّ حُكمه من ١٤٤٤م وحتى ١٤٤٦م، ثم من ١٤٥١م وحتى ١٤٨١م)، عاش أصحاب المِلَل المختلفة من الجاليات غير المسلمة وهم على النحو التالي: اليونانيون – الأرثوذوكس، اليهود (هناك معلومات تشير إلى أنهم نشئوا بشكلٍ رسمي بحلول عام ١٤٩٣م وربما بعد ذلك)، الأرمن – الجريجوريانيون. وقد ازداد أصحاب الملل الأخرى بمرور الوقت، وجميعهم بقوا حتى الانهيار النهائي للإمبراطورية في عام ١٩١٨م.
لم يكن النظام المِلِّي بدعة من جانب الحكام العثمانيين. فقد كان هناك عزل مُشابه للطوائف ذات الإثنيات الدينية في مختلف البلدان قبل تطبيق هذا النظام شمل مناطق آسيا الصغرى والبلقان والشرق الأوسط التي استولى عليها الأتراك. لقد ظلَّ الأتراك، في جوهر الأمر، طوال فترة وجود الدولة العثمانية شعبًا غازيًا، وكانت الحرب والإدارة موجودتين دائمًا في مجال اهتمامهم على نحو استثنائي. لقد بدا نظام الحكم الذاتي الداخلي للطوائف غير المسلمة نظامًا مقبولًا بالنسبة للأتراك أيضًا، وقد طُبِّقَ قبلهم في العديد من الدول الإسلامية، وخاصة أن السكان غير الأتراك كانوا يُمثلون أغلبية بين جميع السكان.
كان اليهود والقرَّاءون يُجبَرُون على القيام بأعمال الحراسة والخدمة أمام الأبواب، كما كانوا يمارسون الأعمال الشاقة في جميع أنحاء الدولة العثمانية التي كانت تضم حتى الربع الأخير من القرن الثامن عشر القرم، فضلًا عن ليتوانيا وبولندا.
يحقُّ للمسلم الزواج من امرأة ذمية، بينما لا يحق للمسلمة الزواج من رجل غير مسلم، كما لا يجوز أن تعمل في خدمته. ولهذا السبب يستطيع المسلم أن يمتلك عبدًا ذميًّا أو أَمَةً، بينما لا يحق للذمي أن يمتلك عبدًا مُسلمًا أو أَمَةً مسلمةً، ويحظر على اليهود والمسيحيين الإقامة في المدن المقدسة في الجزيرة العربية — مكة والمدينة.
عاش اليهود في المدن الأخرى في أحياء مُنفصلة معزولة، أما في الدولة العثمانية فلم يكن بها جيتو يهودي، كما لم تكن أمامهم موانع للسُّكنى في العديد من المدن والأراضي شأن أوروبا.
كان النظام الملِّي العثماني في جوهره نظامًا دينيًّا وسياسيًّا، وكان يُوفِّر لغير المسلمين إمكانية إدارة معظم شئونهم داخل الطوائف. أما رئيس الطائفة فيختاره أعضاء الملة باعتباره قائدًا دينيًّا ومدنيًّا، ويتمُّ اعتماده بعد الانتخاب من جانب السلطات ليُدير شئون الطائفة برعاية منه.
هناك معلومات تُفيد أن كبير الحاخامات في إسطنبول كان معتمدًا بمُبادرة من المهاجرين الإسبان في بداية القرن السادس عشر، وكانت سُلطة كبير الحاخامات في البداية مقيدة بالدرجة الأولى بحدود المدينة.
كان كبير الحاخامات (حاخام – باشي)، مثله مثل غيره من رؤساء الملل غير المسلمة، مسئولًا عن جمع الضرائب، وفي الحالات الاستثنائية يسعى لمصلحة الطائفة أمام السلطات العثمانية، وتتشابه وظائفه جزئيًّا مع تلك الوظائف المنوط بها ممثلو الدول الأجنبية. صحيح أنه كانت هناك حالات، وإن كانت نادرة، كان الباب العالي يتدخل فيها في اختيار رئيس الطائفة ويرفض اعتماد المرشح غير المستحب الذي جرى اختياره.
كان أعضاء الطائفة الدينية يتوجَّهون بشكاواهم وطلباتهم إلى رئيسهم أو إلى المجلس الملِّي، وبعد مُناقشتها في المجلس يقوم رئيس الملَّة بإرسال هذه الوثائق إلى الديوان السلطاني. وفي الأمور التي تمسُّ الزواج والطلاق والميراث والتعليم والأعمال الخيرية، وعند ظهور مشكلات مدنية أخرى، يكون لرئيس هذه الملَّة شرعية مستقلَّة. كان لليهود والمسيحيين مدارس خاصة ومُستشفيات ومحاكم ومصحات عقلية.
وبالرغم من أن شعوبًا مختلفة العقائد عاشت في دولة واحدة، فقد كانوا في واقع الأمر يخضعون لقوانين مختلفة داخل الطوائف، كما كانت لهم عاداتهم وتقاليدهم، الأمر الذي كان سببًا في ظهور خلافات مُستمرة بين هذه الطوائف، ولم تكن هناك طائفة واحدة، رغم ذلك، بإمكانها مخالفة القوانين والعادات التي فرضها الإسلام عليهم.
كان الأتراك يَستغلُّون التوتر القائم بين الطوائف لأغراضهم، على أنهم كانوا يُحاولون أن يُبقوا هذا التوتر تحت سيطرتهم تجنبًا لاندلاع اضطرابات يمكن أن تحدث في لحظة واحدة.
حتى مُنتصَف القرن التاسع عشر لم يكن بإمكان غير المسلم أن يشغل أي وظيفة في السلَّم الإداري؛ ومن ثم فإن الذين خرجوا من هذه الطوائف، بعد أن اعتنقُوا الإسلام، كان بإمكانهم الترقِّي في السلَّم الإداري حتى أعلى المناصب. بعض اليهود والمسيحيين استثنوا من ذلك نظرًا لانضمامهم للخدمة لدى السلطات، وهؤلاء شغلوا وظائفهم باعتبارهم مُترجمين وأطباء وجباة للضرائب ورسوم الجمارك وأحيانًا مُستشارين ودبلوماسيين.
ما ذكرناه سابقًا يُمكن أن يخلق انطباعًا، وكأن الأتراك كانوا يتعامَلُون مع غير المسلمين من السكان وكأنهم أجانب، وخاصة أن رئيس الكُتَّاب (وهو بمَثابة وزير الخارجية) كان هو الذي يُدير شئون أصحاب الملل. هنا نجد في الحقيقة قدرًا من التشابه؛ حيث إن قواعد الإسلام كانت تسمح بقدرٍ نِسبي من التسامح تجاه «الكفار» فقط بشرط خضوعهم التام، لكن هذه القواعد لم تَعترف مطلقًا بحقهم في المساواة مع المسلمين، سواء أكانوا رعايا للسلطات أم أجانب.
أصبحت هذه الدوجما التي طرحها الإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين تحديدًا تُمثِّل حجر عثرة في طريق إعادة إصلاح نظام الدولة الذي استشرى فيه الضعف إلى حدٍّ يُثير اليأس، وكذلك أمام المحاولات المتكرِّرة التي اتخذها النظام لتوحيد التنوع الإثنوديني لسكان الإمبراطورية. هكذا بدَت العقيدة العثمانية، عقيدة وطن واحد للمسلمين وغير المسلمين، عقيدة باطلة.
دفع أسلوب التعامل مع غير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية الحكومات الأوروبية إلى فرض بنودٍ في بعض معاهدات الاستسلام تُعطي الحق لمواطنيها في عدم الخضوع للتشريعات المحلية، وكذلك امتيازات لم يكن ليحلم بها أصحاب المِلَل.
هذه الامتيازات أو تلك التي أعطيت للطوائف كانت تتوقَّف على نزوة السلطان، وكانت تُمثل تنازلًا من جانب واحد ولا تدخل في المعاهَدات الرسمية الثنائية التي استطاعت الدول الأوروبية أن تفرض فيها نظام الاستِسلام، خلافًا لأصحاب الملل مهضومي الحقوق.
كان من الممكن إلغاء الامتيازات أو التسهيلات التي تُقدَّم إلى هذه الطائفة أو تلك في أي وقت. ومن المعروف أن محمدًا الثاني أصدر لائحة خاصة أعفى بمقتضاها اليهود من بعض الضرائب على بيع اللحوم وتبادل النقود وغيرهما من الإعفاءات من هذا النوع؛ وذلك بغرض التخفيف على القادمين منهم في مكان إقامتهم الجديد. ظلت هذه التسهيلات، التي أنعم عليهم بها هذا السلطان سارية طوال عهده فقط، بعد ذلك كان من المُمكن للحاكم القادم أن يُجدِّدها أو يلغيها.
أدَّت توجُّهات الدولة العثمانية تجاه المواطنين غير المسلمين، والتي استمرَّت لعدة قرون، إلى أثر كبير في واقع الأمر في حماية هؤلاء المواطنين من أي عدوان خارجي، وأحيانًا من أي عدوان داخلي. لقد وضع المفهوم الإسلامي للدولة الذميين على هامش الحياة، وكانت القوانين الإسلامية تُوضع موجَّهة إلى «المؤمنين» وتتجاهَل كلَّ مَن لا يَنتمي إليهم. ولهذا تحديدًا لم تستطع هذه الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، بسبب هذه القوانين الدينية وطريقة تفكيرها التي كانت تتماشى ومصالح الطبقة العليا فيها، توحيد السكان المُتنافِرين داخلها على أساس قيَم عامة ما، ومن ثَمَّ فقد باتت مَقضيًّا عليها بالانهيار والفناء.
على أنه، وحتى في غياب المساواة الدينية والاجتماعية، فسرعان ما أصبح وضع اليهود في الدولة العثمانية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أفضل قانونيًّا وأحيانًا عمليًّا، من وضع اليهود في معظم بلدان أوروبا، حيث تعرضوا هناك للاضطهاد الديني، بل وللإبادة الجسدية أيضًا في أحيان كثيرة. في النصف الأول من القرن الخامس عشر بدأت السلطات العثمانية في تسجيل سكان الإمبراطورية، ولكنَّ التعداد على نحو منتظم لم يبدأ إلا منذ النصف الثاني فقط من هذا القرن على فترات من عشرة إلى عشرين عامًا. وفي الحقيقة فإن هذه الإحصاءات لم تكن إحصاءات شاملة بالمعنى المعروف للكلمة اليوم.
غزا الأتراك العثمانيون فلسطين وغيرها من أراضي الشرق الأوسط في عام ١٥١٦م، وتمَّ بناءً على أمر السلطان سليم الأول (١٥١٢–١٥٢٠م) تقسيم الأراضي التي تمَّ غزوها إلى سناجق، تشكل معًا جزءًا أكبر يعرف بالولاية. كان الكتبة يحسبون الجاليات اليهودية في صفد وأورشليم والخليل وغزة ونابلس والسامريين على حدة، فضلًا عن حسابهم للعائلات اليهودية القادمة من إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وألمانيا والمجر وبلاد المغرب إضافة إلى اليهود الذين يتحدَّثون العربية. وقد بلغ عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في الجليل حوالي ١٠٠٠٠ نسمة، بينما بلغ مجموع سكان فلسطين بين عامي ١٥٥٥م و١٥٥٦م حوالي ٣٠٠٠٠٠ نسمة.
من بين وثائق الأراشيف العثمانية سجلات تَحتوي على معلومات حول أعداد العائلات اليهودية والضرائب التي دفعوها في مختلف المراكز السكَّانية في سنوات معيَّنة. على أن هناك كثيرًا من الوثائق تحتوي أيضًا على معلومات حول العائلات المسلمة وغير المسلمة دونما تمييز ما للأخيرة. وهناك بعض المعلومات عن اليهود العثمانيين في أوراق إدارة الشئون المسيحية، ومن اللافت للاهتمام شكاوى الحرفيين اليهود والتجار بسبب الظلم الواقع عليهم وفساد الموظَّفين ومعلومات أخرى عن اليهود الذين يقومون على تنفيذ تكليفات الموظَّفين الأتراك لهم، وكذلك تقارير عن نزاعات نشبَت بين اليهود ورعايا الدول الأخرى في الإمبراطورية وخارج حدودها. وتشهَد السجلات السورية للقرن السادس عشر على أن اليهود عاشوا في حلب وطرابلس ودمشق وبيروت وصيدا وبعلبك وغيرها من مدن الشرق الأوسط.
يُوفِّر لنا سجلُّ دمشق معلومات دقيقة عن توزيع مختلف الطوائف اليهودية على الأحياء السكنية، وقد عاش اليهود المحليُّون جنبًا إلى جنب مع السامريين والقرَّائين واليهود المُنحدِرين من جزيرة صقلية وغرب أوروبا، وكان الأتراك يُطلقُون عليهم اليهود الإفرنج، أما باقي الأوروبيين فكانوا يُطلقون عليهم الإفرنج دون تمييز.
لم تكن هناك وجهة نظر واحدة لدى الطبقة الحاكمة العثمانية بشأن السياسة الإثنية الطائفية الداخلية، على أن معظم السلاطين كانوا يتبنَّون مع هذا مبدأ التسامح النِّسبي تجاه غير المسلمين؛ إذ إنَّ اقتصاد الدولة كان متوقفًا عليهم في واقع الأمر. وعندما ألحَّ الصدر الأعظم — وهو صهر السلطان — رستم باشا، في إقناع سليمان الأول (١٥٢٠–١٥٦٦م) بطرد جميع اليهود من حدود البلاد، مُعتبرًا أنَّ ضررهم أكبر من نفعهم، لم يُصغ السلطان إلى حُجَج الوزير، بل إنه قام بتقديم المساعدة، وفرَض حمايته على التجار اليهود، وكان قد أرسل خطابًا إلى البابا بولس الرابع أخبره فيه بأحداث محدَّدة تعرض فيها اليهود للظلم في الأملاك البابوية عندما سافروا إليها لقضاء أعمالهم.
وكما أسلفنا فإنَّ التنوع الإثنوديني لسكان الدولة العثمانية وتضارب مصالح الجماعات الإثنية لم يكن من الممكن إلا أن يخلق صراعات داخلية، لم تكن الحكومة العثمانية لتقف حيالها موقف الحكم فحسب، وإنما كان عليها أن تتصرف باعتبارها طرفًا يشارك على نحو فعَّال في صياغة قواعد التجارة وإنتاج الحرف. ولكي يتمكن غير المسلمين من إدارة أعمالهم بشكل ناجح، كان من الضروري عليهم في بعض الأحيان الالتفاف على هذه القواعد، وهو ما كان يتم بمهارة. وكان الموظفون كثيرًا ما يَلجئون لعقد صفقات قسرية وأعمال تتعلق، بالدرجة الأولى، بالأعمال العسكرية. لقد تميَّز الاقتصاد العثماني بشكل كبير بأنه اقتصاد إمبراطورية ظلَّت على مدى بضعة قرون تعتمد في وجودها على الجباية وجمع الضرائب من السكان في الأراضي الخاضعة لها، وكذلك على غزو ونهب أراضٍ جديدة. أما الأمر الجوهري الذي كان يُميز الحكومة الإسلامية في الماضي أو الحاضر فكان، وسيبقى، هو التدخل المباشر للسلطة المركزية في الحياة الاقتصادية عن طريق إصدار قوانين وفرض رقابة دائمة حتى على أبسط الأمور، الأمر الذي من شأنه أن يُؤدي، بطبيعة الحال، إلى إعاقة تنمية الاقتصاد والحد من ازدهاره.
وفي الوقت نفسه فقد كان من الضروري، نظرًا لأهمية النشاط الاقتصادي للسلطات العثمانية، تقديم امتيازات خاصة في بعض الأحيان للمُنتجين من الجماعات الإثنية، وكذلك إعطاؤهم الحق في احتكار تصدير المواد الخام ووضع قواعد مَضمونة لتسويق البضائع. وهكذا حصل يهود سالونيك، على سبيل المثال، على حق احتكار شراء الحديد؛ لأن الإنتاج الكُلي للمنسوجات الحريرية في هذه المدينة كان مُخصَّصًا للعاصمة، التي كانت تمتلك دائمًا وضعًا اقتصاديًّا مُتميزًا في الشرق، فضلًا عن وضعها السياسي. مثل هذه الخصوصية الاقتصادية لم تكن لتُسهم، حتى في وجود رءوس أموال كبيرة، في قيام سوق لعموم الدولة، سوق كانت أصولها قد تشكَّلت في القرنين السابع عشر والثامن عشر في إطار الدول الأوروبية.
يُحرِّم القرآن الإقراض بالربا على نحو قاطع: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (البقرة: ٢٧٥)، ويَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ (البقرة: ٢٧٦) … إلخ. وقد حاول بعض التجار المسلمين فيما بعد الالتفاف حول هذا التحريم وذلك باللجوء إلى مختلف أشكال التلاعب. من ذلك أن تُعقد الصفقة دون ذكر الفائدة المتَّفق عليها في العلن. وهكذا تبدو، من الناحية الشكلية، صفقة غير ربوية؛ ومن ثم كانوا يعقدون كثيرًا من الصفقات التجارية الإضافية (إعادة البيع على سبيل المثال)، ويعتبرون الربا مكسبًا تجاريًّا، وهَلُمَّ جَرًّا. حتى الفقهاء في العصور الوسطى كان يفرقون أيضًا بين الفائدة الشرعية (ربا الفضل) والفائدة المحرَّمة (ربا النسيء). بيد أن كثيرًا من المسلمين لم يكونوا يَعترفون بشرعية هذه التَّفرقة ذاتها. لقد أصبح تحريم الربا عاملًا جوهريًّا في إعاقة عمل المؤسسات التي تقوم على الاعتمادات المالية في الشرق الإسلامي.
لم تكن التجارة وإدارة الأموال في الإمبراطورية العثمانية، التي قامت بقوة السلاح، من الأعمال التي تحظى بالاحترام والتوقير، الأمر الذي كان من المحتَّم أن يؤدي بالاقتصاد، بل وبالدولة نفسها، إلى الانهيار.
لقد بنى الأتراك العثمانيون، الذين كانوا بالأمس القريب قبائلَ رُحَّلًا، دولة على أراضٍ اغتصبوها، وراحت هذه الدول تقوم بشكل أساسي على جمع الإتاوات. ومِن هنا ظلَّت التجارة والحرف وتداول الأموال لمدة طويلة حِكرًا على الأقلية الإثنودينية: اليونانيون، والأرمن، واليهود.
ونظرًا للطابع العسكري المتفوِّق للدولة العثمانية، فقد اكتفت الزمرة الحاكمة فيها بجمع الضرائب الجمركية والاعتماد على الأموال التي يقوم بتحصيلها الولاة على الأقاليم (الأيَّالات). وهذه جميعها كانت ذات تأثير محدود في تنشيط التجارة العثمانية، وحتى أعمال الوساطة كان الدور الرئيسي فيها في يدِ غير الأتراك.
من المعروف أنَّ الطوائف اليهودية بدأت منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر تقريبًا تَعقد هذا الدور البارز الذي تقوم به في سالف الزمن في الاقتصاد العثماني، فإذا بها وقد أصابها الفقر وآلت إلى الانهيار. وفي الوقت ذاته تقريبًا ظهرت بوادر انهيار الدولة العثمانية، والذي تمثَّل أيضًا في الاقتصاد الذي وضعت الدولة الثيوقراطية المُستبدَّة سماته في عدد لا نهائي من التنظيمات الحكومية، فضلًا عن المحاذير والعقبات التي فرضتها على النشاط الاقتصادي والرقابة الشاملة من جانب الجهاز البيروقراطي، ناهيك عن المستوى المتدني، مقارنة بأوروبا، لتداول البضائع والأموال وغياب المناخ التنافُسي الطبيعي والفساد المقنَّن.
لقد تجمَّعت الأموال التي تمَّ تحصيلها من الضرائب في إسطنبول ومراكز الأقاليم في الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي أسهم، بطبيعة الحال، في نمو التجارتين الداخلية والخارجية. لكن النشاط التجاري، الغارق في المحلية، لم يكن من المُمكن أن يجد له مكانًا إلا في إطار أشكال الإنتاج القروسطي التي تشكلت منذ زمن بعيد، وهذا النشاط كان مرهونًا إلى جانب ذلك بالشروط والموانع، التي صيغت بصفة رئيسية وفقًا لمطالب الفئة المسيطرة. وهنا لا يُمكن الحديث عن أي تنمية اقتصادية مؤثِّرة في المستقبل.
لقد أتاحت المشاركة الفعالة في التجارة، سواء الداخلية أو الخارجية، وكذلك الالتزام بجباية الضرائب الحكومية، لبعض مُمثلي الأقليات الإثنودينية، ومن بينهم اليهود، الفُرصة للربح وجمع الأموال والثروات الطائلة. لكنَّ رءوس الأموال هذه، على الرغم من ضخامتها، لم تكن، ولم يكن من المُمكِن أن تَصبَّ لزمن طويل في مجال الإنتاج، سواء التِّجاري أو البنكي (لم تظهر البنوك إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)؛ إذ إنَّ ميراثهم في دولة إسلامية كان يُمثِّل مشكلة كبيرة، فما إن يموت صاحب المال حتى تتمَّ مصادرة أملاكه عادةً لصالح خزانة الدولة، فهذه الثروة هي ملك لله وَفقًا للشرائع الإسلامية، والسلطان هو مُمثِّلُه على الأرض.
ما المعايير التي يُمكن استنادًا إليها تقييم العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في الإمبراطورية العثمانية؟ من الصعب تحديد هذه العلاقات ببساطة؛ فقد ظلَّت هذه المعايير تتغير على مدى العصور التاريخية المختلفة. فمن ناحية كان للوضع القانوني لكلِّ جماعة إثنية في الدولة أهميته، ومن ناحية أخرى كانت درجة ازدهار أو فقر هذه الجماعة أو تلك تمثل أحد المعايير المهمة أيضًا.
ظلَّت البلاد الإسلامية على مدى قرون طويلة تمتلك موارد مالية كبيرة، ومع ذلك لم تهتم، بالقدر الكافي من الحماس، بمسألة تنمية إنتاجها الخاص وتجارتها، خلافًا لأوروبا الغربية. بل لم يَخطُر ببال الحكومات الإسلامية، سواء في العصور الوسطى أو العصر الحديث، أن تُموِّل التجارة من فوائض البضائع المُنتَجة في داخل بلادها وتَضمن، على نحو أو آخر، تشغيل المنتجين لديها من أجل تحسين حياتهم، أو تسعى لخَلقِ توازُن بين الاستيراد والتصدير في البلاد.
لقد استمرَّت التجارة في الشرق الأوسط تَعتمِد لزمن طويل على بيع البضائع وشرائها، وكذلك جمع الضرائب على التجارة المارة عبر أراضيها (الترانزيت). وما إن نجح البرتغاليون والإسبان في اكتشاف طرق بحرية جديدة حتى أخذ عبور البضائع يفقد أهميته تدريجيًّا.
وإلى جانب الفئات العاملة بالتجارة، والتي اهتزَّ وضعها في الإمبراطورية، ظهرت فئة أخرى كبيرة هي البيروقراطية العثمانية، وهذه كانت تضمُّ علية القوم في الإدارة المركزية (الصدر الأعظم، القادة العسكريون في الجيش والأسطول، كبار الموظفين في العاصمة، كبار رجال الدين)، كما كانت تضمُّ أيضًا كبار العاملين بالقصر، وهؤلاء كانوا يَحصُلون على رواتب ضخمة أكسبتهم وضعًا اجتماعيًّا مُميزًا، على الرغم من أن مصادر دخلهم لم تكن دائمًا مشروعة. كان هؤلاء يملكون بيوتًا فاخرة، كما أصبحوا هم أول المُستهلِكين للبضائع المستورَدة والمحلية، ومن ثم باتوا يُمثِّلون عنصرًا مهمًّا في تنشيط التجارة وعلى رأسها سلع الرفاهية.
كانت هناك أيضًا حلقة وسيطة في الإدارة تمثَّلت في طبقة مُستقرة إلى حدٍّ كبير من الموظفين، هم في غالبيتهم من الأتراك، إلى جانب بعض الوظائف الأخرى كان يَشغلها مُمثِّلو القوميات الأخرى: التراجمة، وهم من اليونانيِّين أساسًا، الأطباء العاملون في القصر وغالبيتهم من اليهود، أما جامعو الضرائب والجمارك فكانوا أيضًا من اليهود والمسيحيين (أو من وكلائهم). كل هذه الفئات من البيروقراطية العثمانية كانت هي التي تُحدِّد الطلب على سِلَع الرفاهية. وقد دخل أثرياء اليهود أيضًا ضمن مُستهلكي هذه السِّلع. وقد لعبت الأقليات الإثنية، بما فيها اليهود، دور الوسيط الرئيسي في الاتصال بين الأوروبيين وكبار الموظَّفين العثمانيين، وكانت هذه الصلات تكتسب أهمية أكبر كلما فقد الأتراك مكانتهم في التجارة العالمية.
أصبح ضعف القُدرة العسكرية للأتراك أمرًا ملموسًا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، وهو ما أدَّى إلى انهيار هيبة الحكومة الإمبراطورية وتصاعد الفساد في جميع مفاصل الإدارة، ونتيجة لذلك ظهرت الأزمة المالية الطاحنة. في هذه الظروف بدأ الصراع الشرس بين الدول الأوروبية بهدف التأثير على الصدر الأعظم، الذي زادت أهميته، وخاصة إبان حكم عدد من السلاطين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، تميَّزوا بضعف الإدارة وغياب القدرة على العمل وإدارة شئون الدولة. انهارت دخول المركز، بما في ذلك الدخول المتحصَّلة من التجارة الخارجية، كما انهارت الدخول الواردة من الأقاليم. الآن أصبح لزامًا على كل إقليم أن يَعتمِد بشكلٍ أكبر على قواه الذاتية؛ حيث بدأت الموارد المالية للإمبراطورية في التلاشي تدريجيًّا.
(٢) العصر الحديث
ما إن امتلكت الدول الأوروبية قدرة عسكرية واقتصادية أكبر مما كان لديها من قبل، حتى ألزمت الباب العالي بمبدأ حماية حقوق السكان المسيحيِّين، وأصرَّت روسيا على حقوق الشعوب التي تَعتنِق العقيدة الأرثوذوكسية، وهذا المبدأ تحديدًا كان وراء جميع حروبها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وعلى مدى هذين القرنين راح الأتراك يَفقدُون جزءًا وراء الآخر من الأراضي. أما فيما يتعلَّق بالسكان اليهود، الذين كانوا غير مقبولين من الجميع، فإنَّ أيًّا من الدول الأوروبية لم يولهم أدنى اهتمام. الواقع أنه، وبعد اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى في عام ١٧٨٩م، تخطَّى مختلف فئات السكان، الذين لم يكونوا يَمتلكون حقوقًا من قبل، بمَن فيهم اليهود، تخطَّوا كثيرًا من العقبات حتى حصلوا جميعًا بالتدريج على المساواة الرسمية أمام القانون، شأنهم شأن غيرهم من المواطنين.
على أثر الانهيار الواضح للإمبراطورية، قام أكثر كبار الموظفين العثمانيين ثقافةً في القرن التاسع عشر بالعمل على إجراء الإصلاحات في المجال العسكري بالدرجة الأولى، ثم في مجالات التشريع والتعليم وفي هياكل الدولة؛ وذلك بدعم من السلاطين، وليس بتأثير أفكار الثورة الفرنسية على الإطلاق. وقد تبيَّن آنذاك أن تحديث الدولة الإسلامية، الثيوقراطية في جوهرها، عمل معقَّد للغاية يَستلزم عقودًا طويلة. وكانت المحصلة هي تدهور الإمبراطورية، وقد وُوجه الإصلاحيون بمقاومة شديدة في المجتمع، وعندما سعى غير المسلمين (ما عدا اليهود) إلى الاستقلال التام، قامت الدول الأوروبية، وخاصة روسيا، بمُساعدتهم على ذلك بالطرق الدبلوماسية، فضلًا عن القوة العسكرية، ساعين إلى حصول اليونان ودول البلقان السلافية على حريتها.
لم يكن رجال الدولة العثمانيون في النِّصف الأول من القرن التاسع عشر يرون مسألة مساواة المسيحيِّين واليهود بالمسلمين أمرًا ذا أهمية كبرى، وإنما هو أمر يرتبط بإصلاح المؤسسات الحكومية، أضف إلى ذلك أنَّ هذه المسألة أصبحت فيما بعد جزءًا لا يتجزَّأ من السياسة الرسمية العثمانية، وذلك في سياق التدخُّل الدائم واللَّحوح من جانب الدول الأوروبية.
في الثالث من نوفمبر عام ١٨٣٩م، إبان حكم السلطان عبد المجيد الأول (١٨٣٩–١٨٦١م)، صدر مرسوم جولخان (خطي شريف). وقد ضمن هذا المرسوم لغير المسلمين الحياة الكريمة وسمح لهم بالملكية، وهو ما لم يكن مُتاحًا لهم من قبل. إنَّ تطبيق قرارات على هذا النحو من الراديكالية بالنِّسبة لدولة إسلامية بدا آنذاك مهمَّة غير واقعية؛ إذ كانت تمس وبأكبر قدر من الحساسية التقاليد الدينية لدى المسلمين. على أنَّ الفصل بين المبادئ المدنية والدينية في الدولة كان ما يزال أمرًا بعيدًا. وعلى أيِّ حال فإن هذا المرسوم تحديدًا، على الرغم مما جاء في مقدمته التي تؤكِّد صحة أركان الإسلام الخالدة، كان بمثابة الصدمة بالنِّسبة للمسلمين. وقد تمَّ اعتماد مبادئ مرسوم جولخان وتطويرها في خط همايوني الصادر في عام ١٨٥٦م.
كان إعلان التسامح الديني هو أساس هذا المرسوم:
«سوف يتَّخذ الباب العالي إجراءات فعَّالة لكي يوفر لكل دين، مهما بلغ عدد أتباعه، الحرية الكاملة لإعلانه.
وإنَّ أيَّ تمييز أو وصف يُقصَد به إهانة جزء من رعاياي أمام الآخرين بسبب دينهم أو نعتهم أو أصولهم، سوف يتم حذفه إلى الأبد من جميع الوثائق الإدارية. وسوف تعاقب القوانين بكلِّ حزم على عادة السب أو الإهانة من جانب الأشخاص العاديِّين أو من أصحاب السلطة من جميع الرتب.
لكلِّ شخص الحق في مُمارسة شعائره الدينية بكل حرية، وألا يتعرَّض للاضطهاد بسبب عقيدته، وألا يُرغم على تغيير ديانته.
ولمَّا كان تعيين واختيار الموظَّفين وكذلك جميع المسئولين الآخرين يتوقَّف بشكل مُباشر على إدارتنا العليا في الإمبراطورية؛ فقد قرَّرنا السماح لكل رعايا إمبراطوريتنا، دون أي تَفرقة قومية، بالعمل بالوظائف العامة حسب ما يتمتَّعون به من مواهب واستحقاقات، وبناءً على القواعد المرعية المطبَّقة على الجميع على قدم المساواة.
سوف يُسمَح لجميع رعايا إمبراطوريتي دون تمييز بالالتحاق بالمدارس الحكومية والعسكرية؛ وذلك إذا ما انطبقت عليهم شروط السن واجتياز امتحانات القبول المحددة في نظم هذه المدارس.
وكما ذكرنا من قبل، فإن غالبية التصريحات التي وردت في المراسيم العليا لم تتحقق عمليًّا.
لم يجرؤ الأتراك على تسليح المسيحيين. لقد كان تأسيس وحدات عسكرية مستقلة على أساس التمييز الإثني الديني بالنسبة لهم عملًا انتحاريًّا، أما العمل تحت إمرة القادة المسلمين فأمر كان المسيحيُّون يرفضونه. أما اليهود فكانوا يُفضلون دفع بدل نقدي مقابل عدم الخدمة في الجيش العثماني، وهو أمر يَكفله القانون.
في عام ١٨٤٠م أصدرت الحكومة قانونًا جنائيًّا جديدًا مُسترشدة في معظم ما جاء فيه بالقواعد القانونية الأوروبية، على الرغم من أنَّ القواعد السابقة، سواء المسيحية أو اليهودية، ظلَّت سارية على أساسٍ طائفي.
في عامَي ١٨٦٢م و١٨٦٣م صدر ميثاق يُنظم الطوائف المسيحية، واستهدف هذا القانون الحد من نفوذ رجال الدين لدى هذه الطوائف وزيادة أهمية المؤسَّسات المدنية.
وقد حصل اليهود العثمانيون على ميثاق مُماثل في عام ١٨٦٥م، لكنه لم يُثِر أي حماس لدى طوائفهم. وكان مشروع إعادة التنظيم الداخلي للطوائف غير المسلمة قد أعلن أيضًا في خط همايوني في عام ١٨٥٦م. كانت الحكومة تستهدف القضاء على التناحر الديني والصراعات بين الطوائف من أجل ضمان الأخوَّة العثمانية والمساواة بين الرعايا وقد عاشت الحكومة بضعة عقود أسيرة لهذه الأوهام.
وفي عام ١٨٦٨م تمَّ تأسيس مجلس الدولة العثماني (شورى إي ديفليت) برئاسة الوزير-الرئيس، وذلك على نموذج مجلس الدولة الفرنسي. وقد اشتمل المجلس في عام ١٨٧٣م على أربعة أقسام: تشريعي، إداري، تحكيمي وآخر للشئون الاجتماعية (سرعان ما تم إغلاقه). من بين ستة عشر مستشارًا في هذا المجلس، كان هناك ثلاثة يُمثِّلون الطوائف غير المسلمة وهم اليونانيون واليهود والأرمن.
هذه التصريحات لم يَشُبها أي قصور، بينما لم تَصِل الحكومات المجاورة، في روسيا مثلًا، حتى إلى مستوى إصدار مثل هذه التصريحات.
على أنه سرعان ما دبت الخلافات في هذا المجلس ليتعرَّض للتعديل، حتى إنَّ بعضًا من الظرفاء أطلقوا عليه اسم «مجلس موافقون» (شورى إي إيفيت على وزن شورى إي ديفليت).
وقد أولى زميله ورفيق فكرِه عالي باشا الاهتمام نفسه لمبدأ المساواة الذي رُفع إبان الثورة الفرنسية – «كل فرد حر ويقف على قدم المساواة مع أي فرد آخر.» وفي هذا السياق يُؤكِّد عالي باشا على أن أوروبا ليس لديها تَفرقة دينية على أساس قانوني.
في القرن التاسع عشر عمل كثير من المسيحيِّين، غالبهم من اليونانيين والأرمن، في خدمة الباب العالي، وقد شغل بعضهم منصب الوزير. أما اليهود فقد ظلُّوا في هذه الفترة، في واقع الأمر، بمنأى عن عملية تحديث الطوائف غير المسلمة، تلك العملية التي راحت تَستجمع قوتها.
وكانت علامات انهيار الطوائف اليهودية داخل الإمبراطورية العثمانية قد لوحظت منذ القرن السابع عشر على خلفية نهوض وتعاظم قوة الوحدة المسيحية التي تجمعها أفكار الاستقلال القومي. ومن بين أسباب التدهور التدريجي للسكان اليهود يُمكن أن نذكر الضرائب الباهظة التي فُرضت عليهم في تلك الفترة، والهجوم الدائم عليهم من قبل الإنكشارية (بالنَّهب والحرق)، ناهيك عن غياب زعماء لهم من ذوي النفوذ. لقد تخلى اليهود عن مكانتهم في الاقتصاد للأرمن واليونانيِّين، وخسروا في معركة المنافسة الحامية.
لقد وقفت الاضطرابات الداخلية في الإمبراطورية العثمانية حجر عثرة في طريق تحديث الحياة الطائفية. على أيِّ حال فقد أسهمت الدعوات إلى التضامن من اليهود الشامل بعض الشيء في التخفيف من حدة التباعُد الذي دام طويلًا بين طائفتي السفارديم والأشكيناز.
لقد بدأ اليهود في تعلم اللغة التركية لكي يتمكَّنوا من شغل الوظائف الحكومية طبقًا للمَراسيم السلطانية.
رُتب الموظفين | مسلمون تقليديون | مسلمون إصلاحيون | يونانيون |
---|---|---|---|
رتبة الوزير | ١ | ١٢ | ٣ |
الرتبة العليا | ٤ | ٩ | ٧ |
الرتبة الأولى للطبقة الأولى | ١٣ | ٢٣ | ١٣ |
الرتبة الأولى للطبقة الثانية | ١٨ | ٢٠ | ١٧ |
الرتبة الثانية للطبقة الأولى | ٢٢ | ١٥ | ١٣ |
الرتبة الثانية للطبقة الثانية | ١٦ | ٥ | ١٧ |
الرتبة الثالثة | ١٠ | ٩ | ١٠ |
رُتب الموظفين | أرمن | يهود | عرب مسيحيون | أوروبيون |
---|---|---|---|---|
رتبة الوزير | ٤ | — | — | ١٧ |
الرتبة العليا | ٦ | — | ٢٩ | ٣٣ |
الرتبة الأولى للطبقة الأولى | ١٥ | — | ١٤ | ١٧ |
الرتبة الأولى للطبقة الثانية | ٢٣ | ١٧ | ١٤ | — |
الرتبة الثانية للطبقة الأولى | ١٥ | — | — | ١٧ |
الرتبة الثانية للطبقة الثانية | ١٢ | ٢٥ | — | — |
الرتبة الثالثة | ١٢ | ٨ | ٤٣ | ١٧ |
وكثيرًا ما كان العداء يدبُّ لأسباب مختلفة بين أبناء هذه الشعوب على أنه بمجرَّد نشوب خلاف بين أحد منها وبين اليهود كان الجميع يَتضامَن مع أعداء الأمس، تمامًا كما يفعل العرب في أيامنا هذه. إنَّ العرب يُكرِّرون الوشايات نفسها المعادية لليهود، ويستخدمون تكتيك الهجمات، التي استعاروها من المسيحيِّين؛ فقد كانوا يسعون للاستفزاز وارتكاب المذابح في توقيت أعياد اليهود أو المسيحيِّين.
وكما ذكرنا من قبل فإنَّ المغزى الأكبر للكراهية المتبادلة بين اليهود والمسيحيِّين، إلى جانب الأفكار الدينية التي راجت لدى المسيحيِّين، إنما تعود أسبابها إلى المنافسة التجارية وخاصة في مقدونيا وغرب الأناضول؛ حيث عاش عدد كبير من اليونانيِّين.
كان المسيحيون يتَّهمون اليهود بالسحر والفساد ونشر الأمراض، التي كان اليهود أنفسهم يُعانون منها بطبيعة الحال بدرجة لا تقلُّ عن الآخرين. وكان من الأمور المُعتادة تمامًا بالنسبة للمسيحيين قيامهم باحتقار اليهود والسخرية منهم ومقاطعة التجار اليهود ووضع العوائق أمام النشاط الاستثماري لهم والتمييز العنصري (كان المسيحيون يُحاولون عدم قبول اليهود في العمل بحُجة أنهم يُحرِّمون العمل يوم السبت، وهلمَّ جرًّا).
على أنَّ الأمور في شرق الأناضول، حيث عاش الأكراد بشكلٍ مكثَّف، قد سارت على نحو مُغاير. في ديار بكر وأورفا وماردين وغيرها، وفي بعض المدن الأخرى، راح الأكراد يَضطهدون الطوائف اليهودية، واضطرُّوهم إلى دفع ضرائب تفوق ما كانوا يَدفعونه من ضرائب للسلطات التركية. وكانت مُحاولات الاحتجاج يتمُّ إخمادها على الفور وبكلِّ قسوة. كان البلطجية يتصرَّفون بوقاحة أكثر، مُعتمدين على إفلاتهم من العقوبة.
مع نهاية القرن التاسع عشر، تعرَّضت الطوائف اليهودية في ولاية ديار بكر للتدمير، وراحت أعدادهم تتناقص عامًا وراء الآخر على نحو ملحوظ.
ظلَّ اليهود يدفعون للسلطات المحلية الضرائب السابقة، التي كانت تَحمي حياتهم وأملاكهم بدرجة كبيرة من السرقة والنهب. وعلى الرغم من أنَّ هذا «التنازل» لم يكن يُعوَّل عليه دائمًا، فقد كان له أثره في نجاة الكثيرين في أوقات التمرُّد والعصيان. لقد سعى اليهود ألا يستفزوا عداء المسلمين نحوهم في المسائل السياسية؛ إذ إنهم لم يكونوا سعداء كثيرًا ﺑ «المساواة العامة»، التي أعلنت في سنوات التنظيمات. كانت المزايا الدينية والاقتصادية التي حظوا بها إبان الدولة العثمانية مناسبة لهم؛ فلم يولوا اهتمامهم للحقوق السياسية الوهمية؛ إذ كانوا يتصوَّرون أن هذه القوانين يستحيل تطبيقها في الواقع.
لم يكن للأفكار الصهيونية التي راحت تَستجمِع قواها، والتي ظهرت وتطورت بنجاح في أوروبا الشرقية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، سوى أثر طفيف على اليهود العثمانيين، ولذلك أسباب شتى؛ فالإمبراطورية العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت في التكامل تدريجيًّا مع النظام الاقتصادي العالمي باعتبارها شبه مُستعمرة. وقد دفع التحالف الاقتصادي والانهيار السياسي بالأتراك إلى إجراء الإصلاحات (التنظيمات)، لكن المسلمين لم يستفيدوا منها شيئًا.
ازدادت الأعراق غير المسلمة، وخاصة اليونانيين والأرمن، قوة من الناحية الاقتصادية، لكنَّ اليهود استفادوا أيضًا من الإصلاحات. وخلافًا للمسيحيين، الذين لم تكن لديهم الرغبة في دعم الحفاظ على الإمبراطورية حتى بعد الإصلاحات؛ فقد قبل اليهود الاشتراك في الحركة الدستورية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلَع القرن العشرين، وخاصة في نشاط اللجنة الثورية لتركيا الفتاة «الاتحاد والترقي». كان اليهود يُعوِّلون على إضفاء الصبغة الليبرالية على النظام ولا مركزية الإدارة وحرية المُبادَرات الفردية. هذه المزايا تحديدًا تدخل في البرنامج الذي وعَد به واحد من أشهر الإصلاحيِّين الأتراك هو الأمير صباح الدين. آنذاك لم يكن هناك سوى عدد قليل يُؤمن بنجاح الصهاينة؛ فاليهود العثمانيون رأوا أنَّ عصفورًا في اليد خير من عشرة على الشجرة.
خلاصة القول، أنَّ اليهود قد دعموا تركيا الفتاة، التي قبلت برضًا تعاوُنَهم معها؛ فاليونانيون والأرمن قد تخلوا عنها بالفعل. وهؤلاء وأولئك حصلوا على الاستقلال التام عن الأراضي العثمانية، كما أن خطط تركيا الفتاة، التي كانت تسعى إلى وحدة الإمبراطورية والسيطرة على الإدارة والقضاء على تدخل الدول الأجنبية في الشئون العثمانية، لم تكن تُناسبهم. لقد بدأت تركيا الفتاة نضالها من أجل إلغاء الامتيازات الأجنبية وامتيازات الحصانة التي يتمتَّع بها رعايا الدول الأجنبية؛ فالعدد الأكبر من غير مُسلمي الإمبراطورية كانوا يسعون بالحق والباطل للحصول على الجنسية الأجنبية التي تُوفر لحاملها، بفضل هذه الامتيازات، تسهيلات كبيرة.
الحقيقة أن بعض اليهود الأكثر مبادرة حصلوا بعد عام ١٨٧١م على الجنسية الإيطالية. ولكن لمَّا كانت إيطاليا قد تأخرت بشدة في الاتحاد كدولة، فإنَّ قدراتها الاقتصادية كانت أقل من المكانة المتينة والقديمة التي كانت تشغلها كل من إنجلترا وفرنسا.
لقد فضَّلت الغالبية العظمى من اليهود وَهْمَ النهضة وإصلاحات الدولة التركية على الحياة في دول مسيحية جديدة، سواء حصلت على استقلالها أو تسعى للحصول عليه في البلقان، وعلى الكفاح دون أمل. هكذا كان اليهود يتصوَّرون، من أجل الحصول على وطن قومي لهم في فلسطين. كان لخوف اليهود من أن تفقد تركيا في المستقبل القريب الأراضي الغربية في اليونان أو بلغاريا أثر كبير عليهم، ومِن ثمَّ فقد تناقصت أعدادهم فيها على نحو ملحوظ.
كان الخوف من إمكانية الملاحقة هو السبب وراء الهجرة الجماعية لليهود من الأراضي التي بدأ الباب العالي في فقدانها تدريجيًّا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفي سياق حروب البلقان على وجه الخصوص (١٩١٢-١٩١٣م). وقد رأى اليهود أن الولاء لتركيا الفتاة، التي وصلت إلى السلطة نتيجة لثورة ١٩٠٨م، بعد أن ظلَّت لمدة طويلة حركة سرِّية معارضة للنظام السلطاني، كان يُمثل بالنِّسبة لهم الدفاع الأفضل ضد العداء القومي من جانب الرعايا العثمانيين السابقين، المعادين تاريخيًّا للسامية. وخلافًا للمسيحيين، فإن اليهود العثمانيين لم تكن لديهم أية أهداف سياسية تتعارَض مع مصالح الأتراك، كما لم تكن لديهم أيضًا أية منظَّمات سياسية مُستقلة. وحتى عندما نجح الصهاينة في فتح «مكتب» خاص بهم في إسطنبول، لم يجدوا تأييدًا من أبناء عقيدتهم المحليين. وقد استطاع الصهاينة بصعوبة بالغة أن يَعثُروا على نائب يهودي وافق على عرض المذهب الصهيوني في البرلمان العثماني. هذا العضو هو الاشتراكي من سالونيك المدعو فلاخوف أفندي. وفي فلسطين ذاتها لم يجد الصهاينة في البداية سوى عدد قليل من المؤيِّدين لهم بين اليهود المحليين.
في عام ١٩١٢م تمَّ اختيار فيتالي فرجي رئيسًا للجنة الميزانية في البرلمان، بينما تولَّى إيمانويل سالم المشاركة في إعداد مشروعات القوانين. أما النائب عن بغداد إيحيز يُقيل ساسون فكان عمله في البرلمان هو تولي مشكلات الزراعة والتجارة، نسيم روسو خدم في وزارة المالية، فيتالي سترومسا كان عضوًا في المجلس الأعلى للإصلاحات المالية، صمويل إسرائيل شغل منصب رئيس القسم السياسي لبوليس العاصمة، وقد أزيح عن منصبه فيما بعد إبان انقلاب يوليو ١٩١٢م، ومعه قادة تركيا الفتاة. أغلب هؤلاء السياسيِّين والموظَّفين كانوا قد تلقوا تعليمهم في مدارس الائتلاف اليهودي العام.
عَمِلَ أعضاء اللجان الإقليمية لتركيا الفتاة على دفع الأتراك واليهود إلى مُكافحة الهيمنة الاقتصادية للمسيحيين، وقد دعَت اللجنة المركزية أيضًا هذه المجموعات من السكان إلى محارَبة المواقع الحاكمة في مجال الأعمال. وفي عام ١٩١٢م شرعت تركيا الفتاة في مناقشة مناهج تنظيم الاقتصاد القومي، مُستلهمة مفهومه من أعمال الاقتصادي الألماني فريدريخ ليست. وقد روَّج لهذا المفهوم موسى كوهين، اليهودي من سالونيك، الذي استقر به المقام في إسطنبول في عام ١٩١٢م، وكان معجبًا أساسًا بأفكار إحياء الوعي اليهودي والهوية اليهودية. لكن نجاحه الحقيقي تحقَّق مؤخرًا إبان عمله على صياغة مذهب الأصالة التركية والنزعة القومية. ولإعجابه الشديد بالفكرة الجديدة اتخذ لنفسه اسمًا تركيًّا هو تيكينالب وتحت هذا الاسم راح ينشر مؤلفاته.
كانت تركيا الفتاة تُولي ثقتها لليهود العثمانيين، وقامت بتوظيفهم. على أن هؤلاء أصبحوا الضحية الأولى في أثناء أعمال التمرد التي قامت ضد اللجنة. في أكتوبر عام ١٩٠٨م هاجم المُتمرِّدون يهود بغداد باعتبارهم أنصارًا لتركيا الفتاة. وفي أثناء حرب البلقان وبعدها تعرض اليهود، شأنهم في ذلك شأن المسلمين بالمناسبة، للاضطهاد على يد المسيحيين في فراكيا ومقدونيا. عندها اضطرَّ الكثير منهم إلى الفرار إلى الأناضول. وفي مطلع عام ١٩١٣م، عندما ظهر تهديد حقيقي بانزال قوات يونانية غرب الأناضول، قامت تركيا الفتاة بتسليح الفلاحين الأتراك، فضلًا عن تسليح السكان اليهود.
استولَت تركيا الفتاة على السلطة، عندما دخلت عملية انهيار الإمبراطورية مرحلتها النهائية. وبدأت الدول الأوروبية، التي كانت قد قسَّمت تركة «الرجل المريض» منذ زمن بعيد، في إدارة المفاوضات بشأن مصير الأراضي العثمانية.
دعَّمت إنجلترا القوميِّين العرب في نضالهم ضد سلطة إسطنبول، بعد أن وعدتهم بمساعدتهم في إقامة الخلافة العربية الجديدة في الشرق الأوسط.
لم يَستطِع جمال باشا، أحد رؤساء تركيا الفتاة الثلاثة والقائد الأعلى للجيش في سوريا ولبنان وفلسطين، أن يستميل إلى صفه الثوار العرب.
إضافةً إلى ذلك فقد وعَدت الحكومة التركية بعمل تشريع اجتماعي خاصٍّ يَحفظ حقوق اليهود في فلسطين. وفي يوليو ١٩١٨م حصلت السلطات الألمانية على امتيازات ضخمة في فلسطين لإنشاء مستعمرة لليهود الألمان، لكن الوضع على جبهات القتال الألمانية والتركية ساء إلى حدِّ أنَّ أية مخطَّطات بدت ضربًا من الخيال. وقد فجَّر وعد بلفور الذي عرضه في خطابه إلى لورد لايونيل والتر روتشيلد الغضب في العالم العربي، الذي ساند الإنجليز على أمل أن يُنفِّذوا وعودهم. في هذا الوقت كانت إنجلترا مُستمرة في مناوراتها. في الواقع كان الشرق الأوسط إبان الحرب العالمية الأولى ميدانًا لصراع الجميع ضد الجميع. أما التنافُس القديم بين إنجلترا وفرنسا والذي كانت ساحته هذا الإقليم فقد كان في أثناء الحرب يُخفف فقط منه أحيانًا. الحكومة الإنجليزية علَّلت إعلان بلفور بضرورة حصولها على دعم اليهود في حربها مع ألمانيا. حلفاء إنجلترا، وخاصة فرنسا، لم يُسعدهم وعد بلفور، ولكنهم اضطرُّوا على أيِّ حال لقبوله.
الإخفاق في سياسته في الشرق الأوسط وهزيمته على الجبهة دفَعا بأحمد جمال باشا للاستقالة من منصبه كقائد عسكري ومحافظ.
مُنيت الإمبراطورية العثمانية وحليفتها ألمانيا بالهزيمة في الحرب العالمية الأولى.
وفي نهاية أكتوبر من عام ١٩١٨م قسَّمت دول الوفاق الثلاثي كلًّا من سوريا ولبنان وفلسطين إلى مناطق ثلاث؛ الجنوبية الإنجليزية، وتضمُّ صنجاقيات أورشليم ونابلس وعكا، والشمالية الفرنسية، وتضمُّ بيروت وطرابلس واللاذقية ومعها أيضًا حسبية ورشِّية وبعلبك وأنطاليا والإسكندرونة وجسر الشعور وغيرها، أما باقي المناطق وحتى الحدود الشمالية لمناطق الجبل وسمان والباب فقد تشكَّلت منها المنطقة الشَّرقية العربية، التي نزلت فيها قوات إنجليزية. زِدْ على ذلك أن حاميات إنجليزية كانت تقيم في المناطق الثلاث جميعها.
تمَّ إنشاء الإدارة العربية في الحجاز ووسط الجزيرة العربية، وإن ظلَّ التأثير الاقتصادي لإنجلترا قويًّا في تلك المنطقة.
بانتهاء الحرب العالمية الأولى انتهى تاريخ الجاليات اليهودية في الإمبراطورية العثمانية وبدأت مرحلة جديدة في تركيا الجمهورية وفي أراضي الشرق الأوسط الواقعة تحت الحماية. أما يهود البلقان فقد كانوا قبل ذلك الحين يعيشون في دول مستقلة: في اليونان وصربيا وبلغاريا.