الفصل العاشر

الطوائف اليهودية في شمال أفريقيا

بلاد المغرب١

يرى كثير من المؤرِّخين أن المستوطنات اليهودية في شمال أفريقيا تعود إلى عصور ضاربة في القِدَم، وهم يفترضون أن اليهود جاءوا إلى هذه المنطقة في ذلك الوقت، الذي استجمَع فيه الأسطول الفينيقي قوته في البحر المتوسِّط؛ أي في نهاية الألف الثانية قبل الميلاد، وأن اليهود كانوا يُشكِّلون جزءًا من قوام هذا الأسطول، الذي كانت لديه نقاط ارتكاز في عدد من المدن الواقعة على سواحل شمال أفريقيا. وتُشير الممارسات الدينية ما قبل التلمودية، التي احتفظت بها هذه الطوائف، إلى قِدَم أصول هذه المستوطنات.

ووفقًا لسترابون٢ فإن اليهود شكَّلوا جزءًا مهمًّا من السكان المحليين آنذاك.
وبعد الاستيلاء على وتدمير أورشليم في عام ٧٠ ميلادية على يد القوات الرومانية بقيادة تيتوس،٣ تدفَّقت موجة جديدة من المهاجرين على سواحل شمال أفريقيا، وفي عام ١١٥ ميلادية بدأ سكان ليبيا وقورينيا٤ المتمردون في ضرب الرومان. وقد زاد اضطهاد الإمبراطور ترايان٥ بقَسوته من وتيرة التمرد. وبعد نضال استمر ثلاث سنوات واضطهاد دموي استطاع جزء من السكَّان المتمرِّدين في المحافظات الرومانية أن يجدوا لهم ملجأً لدى البربر. وفي القرن الثاني الميلادي استقرَّ اليهود في قرطاجنة؛ المدينة الأكبر على ساحل البحر؛ حيث وصل تعداد الطائفة آنذاك إلى حوالي ٣٠ ألف نسمة،٦ كانوا يَعملون بالتجارة. وقد بقت في الجزائر بقايا جبانات يهودية بها آثار تدلُّ على ممارسة طقوس دينية قديمة ونقوش باللغة العِبرية القديمة. كان من الواضح أن السلطات المحلية، كما يبدو، كانت تتميز بالتسامح إلى حد كبير؛ حيث ازدادت الطائفة عددًا وكانت تتمتَّع بالنفوذ.

في قرطاجنة عاشت شخصيات بارزة مثل الحاخامين أبا وحنانيا، اللذين ورد ذكرهما في التلمود. كان للطائفة اليهودية نفوذ كبير لا شك فيه، تشهد على ذلك الجهود التي بناها الآباء المشاهير للكنيسة المسيحية مثل ترتوليسان وكيبريان والقديس أوغسطين من أجل قمع الدين اليهودي الذي انتشر على هذه الأراضي. وبحلول نهاية الهيمنة الرومانية على شمال أفريقيا، كان اليهود ما يزالون يتمتعون بممارسة التجارة الحرة والملاحة، على الرغم من وجود عدد من القيود المدنية.

كان الوندال،٧ الذين قامت دولتهم على أطلال الإمبراطورية الرومانية، يحترمون حرية الديانة لليهود. على أنه وبعد استيلاء الجيش البيزنطي بقيادة فيليزار في عامي ٥٣٣م و٥٣٤م على شمال أفريقيا تجدد اضطهاد اليهود؛ فقد منع الإمبراطور يوستينيان (٥٢٧–٥٦٥م) اليهود من ممارسة طقوسهم الدينية والاحتفال بالأعياد، وتمَّ تحويل العديد من المعابد اليهودية إلى كنائس، وجرى إرغام اليهود على اعتناق المسيحية. وهنا لجأ الجزء الأكبر من اليهود للاختباء في المناطق الداخلية للقبائل البربرية، بينما تمسَّك بعضهم بشريعة موسى وهو ما اعتبر ذريعة لاضطهادهم من قبل البيزنطيين.

بدأت هجرة اليهود إلى المغرب في القرون الوسطى، في نهاية القرن السابع الميلادي كما يبدو، عندما انتقلَت مجموعات جديدة من المهاجرين من إسبانيا، الذين نجوا من قبائل القوط الغربيين.

منذ النصف الثاني للقرن السابع الميلادي بدأ دخول العرب في شمال أفريقيا ونشوب المعارك الدموية بين المسلمين والسكان البربر المحليِّين.

في هذا الزمن البعيد لم تكن هناك حدود تفصل بين أقاليم المغرب: تونس والجزائر ومراكش، على النحو الذي هي عليه الآن. استمر ممثلو العشائر الحاكمة في التدخل بشكلٍ دائم في الأراضي المجاورة واستولوا عليها بقوة السلاح وقسموها إلى مناطق مستباحة.

وبناءً على ما أورده المؤرخون العرب، ومن بينهم ابن خلدون، فقد اعتنقَت قبائل بربرية عديدة الديانة اليهودية. ومِن بين هذه القبائل قبيلة جيراو، التي كانت تقودها امرأة تدعى الكاهنة، والتي نظمت حركة لمقاومة قوات حسَّان العربية وانتصرت عليها في ٦٨٨م. وقد انسحبت بقايا هذه القوات بعد هزيمتها لتَختبئ في تريبوليتانيا (طرابلس). وفي حوالي عام ٦٩٣م عاد العرب، وفي هذه المرة كان التوفيق حليفهم. مُنِيَ جيش الكاهنة بالهزيمة لتفرَّ هي وأنصارها، وسرعان ما لقيَت حتفَها٨ مقتولة.

قام موسى بن نصير؛ الوالي الجديد على أراضي شمال أفريقيا المحتلة، بإرغام القبائل البربرية على الدخول في الإسلام، الذين كان جزء منهم قد اعتنق الديانة المسيحية أو اليهودية، على أن العديد منهم ظلَّ على وثنيته متوجهًا في عبادته إلى قوى الطبيعة.

فرَّ البربر، الذين ظلوا متمسكين بالديانة اليهودية، إلى واحات الجنوب، وانضموا فيما بعد إلى الطوائف اليهودية في المدن.

وعلى امتداد قرون عدة ظلَّ وضع يهود شمال أفريقيا في حالة عدم استقرار، فقد ظلَّ وضعهم متوقفًا على أهواء الحاكم وعلى توزيع القوى السياسية.

وفي الفترة من القرن العاشر وحتى القرن الثاني عشر ازدهرت الطائفة اليهودية في القيروان، مثلها في ذلك مثل غيرها من الطوائف. هنا عاش مشاهير الأطباء والحاخامات والفلاسفة. لقد تغير الوضع في فترة حكم الموحِّدين في القرن الثاني عشر؛ ففي عام ١١٤٢م تمَّ تدمير المستوطنات اليهودية في الجنوب بشكلٍ تامٍّ تقريبًا؛ فبعد المنابع التي جرت هناك بدا كما لو أن اليهودية في الجزائر باتت على وشك الزوال، وأخذ اليهود يفقدون تدريجيًّا معرفتهم باللغة العبرية القديمة، واضطرُّوا إلى اللجوء أكثر فأكثر إلى المحاكم الإسلامية لحلِّ ما يقع بينهم من مشكلات.

لم يكن من المُمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال أن يستمر ازدهار السكان في ظلِّ الصراعات الداخلية العسكرية القائمة. لقد كانت الحرب الدائرة بين القبائل الرُّحَّل والقبائل المتحضرة، وصراع الأسرة الحاكمة، سببًا في إثارة جو من الفوضى بين السكان جميعهم. وبالطبع لم يكن باستطاعة اليهود أن يظلوا بمعزل عما يحدث. وفي بعض الأحيان كانت الحوائط الضخمة العالية المحيطة بالحي المعزول تَقيهم شدة هذه الفوضى. لكن غضب الجماهير العداونية كان باستطاعته أن يباغتهم بعيدًا عن حدود الحي، وخاصة أن بعضًا منهم كان مضطرًّا للعيش وسط المسلمين. ويرى بعض المؤرِّخين أن التطرُّف ضد اليهود في شمال أفريقيا اتَّسم بطابع النَّهب أكثر من الاضطهاد الديني. ويعتقد هؤلاء المؤرخون أن المذابح اليهودية في هذه المنطقة لم يكن الدافع وراءها هو التعصُّب الديني، مثلما حدث في أوروبا، وإنما الطمع والشعور بتفوق هؤلاء الذين أعلنوا عن أنفسهم باعتبارهم سادة البلاد.٩ على أنَّ هذا الطمع كان مقترنًا تمامًا بالتعصب الديني، وبالأحرى فقد كانت هذه الدوافع متشابهة بشدة مع نظائرها في أوروبا.

كان سلاطنة الدولة الحفصية، التي تولَّت السلطة في تونس في القرن الثالث عشر الميلادي بعد انهيار دولة الموحدين الشاسعة، يولون اهتمامًا كبيرًا لتنمية التجارة، وقد تعاملوا بشكل متسامح، سواء مع المسيحيين أو مع اليهود، ولم يَطلُبوا منهم سوى دفع الجزية وارتداء الملابس المميزة لهم، ولم يتدخَّلوا في شئونهم الداخلية. ولكن الحاخام المنتخب من الطائفة اليهودية يمثل الطائفة أمام السلطان. كانت الخلافات الطائفية الداخلية تتمُّ تسويتها أمام المحكمة الحاخامية، أما الخلافات التي تنشب بين اليهود والمسلمين فكانت تخضع للأحكام القضائية التي تُقرها المحكمة الشرعية. كان اليهود يُمارسون الحِرَف، الصباغة والتجارة والعمليات المالية، التي كثيرًا ما كانوا يُشاركون فيها بوصفهم وسطاء.

كان السلاطنة الحفصيُّون الذين استمرُّوا في الحكم حتى عام ١٥٣٤م يعترفون لليهود بحق الملكية الخاصة. وبطبيعة الحال لا يخطر ببال أحد أن يضع صورة مثالية للعلاقات بين العرب واليهود في البلاد؛ حيث سادت فوضى الحروب الداخلية. على أننا إذا ما أخذنا في الاعتبار تركيبة الظروف القائمة بأكملها؛ الاحتقار التقليدي لأصحاب الملل الأخرى، الحروب الضارية التي نشبت بين القبائل بعضها ضد بعض، وهي الحروب التي أتت على الأخضر واليابس، فإن مشاركة يهود شمال أفريقيا لم تكن تزيد على مشاركة الفئات الدنيا في المجتمع الإسلامي، التي تعرَّضت لنفس المعاملة القاسية من جانب الصفوة الحاكمة. وممَّا يُؤكد هذا الافتراض نُورد الحقائق التي تحدثت عن احتفال اليهود مع باقي السكان بانتصار المسلمين على الإسبان، الذين كانوا يَفتكون بهم من قبل.١٠

بطبيعة الحال، فإن تعسُّف السلطات الإسلامية المحلية كان كثيرًا ما يُخالف المبدأ الأساسي الذي وضعته الوثيقة العُمَرية، والذي ينص تحديدًا على احترام حياة وممتلكات أهل الذمة، على أن الممارسات الفعلية كانت مُختلفة تمامًا.

لقد نجح بعض اليهود في تحقيق الثراء، وأن يكتسبوا مكانة لدى الأمراء بل وحتى السلاطين، الذين قدَّروا لهم خدماتهم، بل إنهم استطاعوا أيضًا أن يشغلوا مناصب المستشارين، ولكن في نطاق ضيق صارم. في القرن الحادي عشر حدد الماوردي بدقة الظروف التي تتيح للذميين الوصول إلى الوظائف الحكومية١١؛ فالذمِّي الذي يعمل في بلاط الحاكم المسلم لا ينبغي له أن يمتلك أية صلاحيات قانونية، ولا أن يُمنح وظائف الموظَّفين المسلمين، ولا أن تكون له قوات مسلحة، أو أن يُشرف على أو يدير بيت المال. وفي الوقت نفسه فإنه لا أهمية خاصة لأن يكون هذا الذمي حرًّا أو عبدًا، على علم بالشريعة، أو أن تكون لديه معرفة خاصة بالأمور العسكرية أو فرض الضرائب، الأمر الذي لا يساعد، بطبيعة الحال، على فاعلية نظام الإدارة.

على وجه العموم فإن الحالات التي قام فيها الذمِّيون بوظائف مهمة لدى الحاكم المسلم، كانت نادرة للغاية. كان اليهودي في المدينة الإسلامية يُنظر إليه في أغلب الأحوال لا باعتباره عدوًّا أجنبيًّا، وإنما باعتباره، على أقل تقدير، شخصًا من مرتبة أدنى لا يعتد به. وإن كان يتمتع بالحماية، وعليه أن يُعوض عن حالة الدونية، التي هو عليها، بدَفع الضرائب والقيام بالوظائف الضرورية للمسلمين. واليهودي في المدينة الإسلامية كان دائمًا وسيطًا متعدد الأغراض. كان هو تحديدًا من يقوم بالاتصالات التجارية بين المدن الكبيرة والمناطق الداخلية، كما كان يقوم أيضًا بتموين وإمداد المدن والقرى وحتى أبعد الواحات بالمواد الغذائية والبضائع الأخرى. وهو أيضًا الذي كان يُساعد في الاتصالات التجارية المُنتظمة بين بلاد المغرب وأوروبا. ومن لفائفه وصُرَرِه ظهرت الأشياء الضرورية للجميع المألوف منها والجديد؛ ومن ثَمَّ فإن علاقة السكان المسلمين باليهود ظلت على امتداد مئات السنين متعددة الجوانب.

بدأ هروب اليهود من شبه جزيرة أيبيريا في نهاية القرن الرابع عشر وشكَّل هذا الهروب مرحلة جديدة في التاريخ اليهودي ككلٍّ، وفي تاريخ طوائف شمال أفريقيا بصفة خاصة، وفي عام ١٤٩٢م اضطرَّ آلاف اليهود، الذين بقوا في إسبانيا لمغادرتها، واتجه الجزء الأكبر منهم إلى شمال أفريقيا.

ولم يَقتصِر تميُّز اليهود الإسبان الذين وصلوا إلى الجزائر ووهران وقسطنطينة وتلمسان وغيرها من المدن على اختلاف مظهرهم عن اليهود المحليِّين؛ فقد كان اليهود الجزائريون يعتمرون الطواقي، أما الغرباء فكانوا يَعتمرون البيريهات. وهكذا أطلق عليهم اسم «أصحاب البيريهات». وكذلك تميَّز اليهود الإسبان بثقافة أرفع ودرجة تعليم أعلى وبدرجة من التطوُّر الفكري والمهني عن اليهود المحليين الذين أصابهم التدهور من جراء وقوعهم تحت الهيمنة الإسلامية على مدى عدة قرون. وقد استطاع بعض من اليهود الإسبان الحفاظ على جزء من ممتلكاتهم. وكانت شريعة موسى فقط هي التي وحَّدت بين هاتين الجماعتين.

لقد تبيَّن أن الحياة في المغرب أكثر استقرارًا مقارنة بفظائع محاكم التفتيش الإسبانية، وأنَّ السيطرة العربية في ذلك الوقت بدت أكثر احتمالًا رغم جميع المتاعب. وقد احتاج الأمر إلى جهود مضنية طويلة من أجل التقريب بينهما في شتَّى مناحي الحياة اليومية.

ترأَّس سيمون دوران (وُلد عام ١٤٣٩م، وتُوفي بعد عام ١٥١٠م) الطائفة اليهودية في الجزائر في القرن الرابع عشر، وهو ابن الحاخام سولومون دوران المشهور بثقافته الفلسفية. وقد شارك سيمون دوران مصير خمسين فردًا من أبناء ملَّته، الذين باعهم الإسبان عبيدًا في الجزائر، وبفضل الجهود التي بذلها افتدى سيمون هؤلاء الأفراد مقابل ٧٠٠ دوكاتية١٢ جمعتها الطائفة.١٣

في عام ١٥١٠م أرسل الملك الإسباني فرديناند أسطولًا يقوده بدرو نافاري للاستيلاء على مدينتي بوجيا وتونس. وبعد أسبوعين من حصار مدينة بوجيا تمَّ الاستيلاء عليها ونهبها. واستسلمت مدينة تونس لقوات بدرو نافاري. أما اليهود الذين لم يَنجحوا في الهرب فقد ظلوا يدفعون، في أفضل الأحوال، إتاوة سنوية لملك إسبانيا.

وفي عام ١٥٤١م حاول الإمبراطور كارل الخامس؛ حفيد إيزابيلا ملكة إسبانيا، حصار الجزائر، لكنَّ الحظ لم يُحالفه. كانت سعادة اليهود وفرحتهم عظيمة حتى إنهم احتفظوا في ذاكرتهم بهذا الشعور واعتبروا هذا اليوم هو عيد البوريم في الجزائر؛ إذ كان العديد منهم يعرفون أن كارل الخامس بعد استيلائه على مدينة تونس في عام ١٥٣٥م، قد استباحها ثلاثة أيام، أما سكانها من اليهود، الذين فشلوا في الفرار منها، فقد قُتلوا أو بيعوا عبيدًا.

أقام الإسبان في القرن السادس عشر عددًا من الحصون على ساحل شمال أفريقيا، وجهزوا هناك رقابة حرمت سكان مدينة الجزائر من إمكانية ممارسة التجارة بحُريَّة. وقد لجأ الجزائريون إلى القرصان عرُّوج طلبًا للعون، وقد استطاع عرُّوج أن يُلحق الهزيمة بالإسبان، لكنه سرعان ما لقيَ حتفه في إحدى المعارك. وحتى يتمَّ طرد الإسبان نهائيًّا قام أخوه خير الدين بارباروسا (١٥١٨–١٥٤٦م) بإعلان تبعية الجزائر للسلطان العثماني. وقد حاز بارباروسا على لقب بايلرباي،١٤ كما حصل على دعم مالي ووحدات عسكرية. واستنادًا إلى الحماية الهائلة التي تمتَّع بها، استطاع أن يُحقِّق وحدة البلاد تحت سلطته وأن يُعيد بناء وتقوية ميناء الجزائر، وأن يُنزل الهزيمة بالحملة العسكرية التي قادها كارل الخامس عام ١٥٤١م. وهكذا جرى تحرير جزء كبير من الساحل من الإسبان.
وصل تعداد مدينة الجزائر في القرن السادس عشر إلى حوالي ستين ألف نسمة، فضلًا عن حوالي ٢٥ ألف أسير من المسيحيين، الذين عاش جزء كبير منهم في الضواحي. ومن بين سكان المدينة كان هناك اثنا عشر ألفًا وخمسمائة جزائري أصلي، ستة آلاف موريسكي،١٥ كانوا قد فرُّوا من الأندلس وغرناطة، ثلاثة آلاف وخمسمائة قبيلة وبضعة آلاف من العرب، وحوالي خمسة آلاف يهودي عاشوا في حي خاص بهم.

ضمَّت تركيبة سكان الجيتو المعقدة عددًا صغيرًا من اليهود من ذوي الأصول الأفريقية، الذين لا يتميَّزون تقريبًا في شيء عن السكان الأصليين الفقراء وعن العديد من المهاجرين، الذين قدموا من جزر البوليار في نهاية القرن الثالث عشر (الشيكيليون)، وقد ظهر هنا بعد مائة عام الكيبوسيون، الذين فروا من إسبانيا. ويعتبر الكيبوسيون، الذين ظهروا في عام ١٣٩١م، هم الأرستقراطية الدينية والتجارية، وكان من بينهم العديد من الحاخامات.

سمح خير الدين بارباروسا، حليف السلطان سليم الأول ثم تابعه بعد ذلك، والذي حاز لقب بايلرباي في عام ١٥٨١م، سمح لليهود بالاستقرار والعيش بصفة مُستمرَّة من الأراضي التي استولى عليها. وبمرور الوقت أصبح لهؤلاء القادمين من إسبانيا نفوذ في الحياة العملية، ومع ذلك فقد كانوا يتعرَّضون دائمًا للإهانة من جانب باقي السكان، وجرى إرغامهم على ارتداء زيٍّ خاص بهم وعلى دفع جزية الأنفس.

وفي عام ١٥٧٣م استولى الأتراك على مدينة تونس بعد أن سحقُوا الحامية الإسبانية وتابعيها، واضعين نهاية للتدخل الإسباني وأعمال النهب. لقد أدَّت العمليات العسكرية المتواصِلة على هذه الأراضي إلى إفقار السكان جميعهم وعلى رأسهم اليهود الذين يُمثِّلون الجزء الأضعف من السكان، وقد تعرضت بيوتهم إلى النهب. وهناك أدلة على أنه بوصول الأتراك إلى الجزائر ساءت أحوال الطائفة اليهودية، فقد فرضت ضرائب باهظة وغرامات ضخمة على الطائفة. أما الذين عجزوا عن الدفع أو رفضوا، فقد تعرَّضوا للضرب دون شفقة. لقد كان القضاء التركي أداة للابتزاز الفاضح.

لقد تعرَّض اليهود والمسيحيون إلى عقوبات فظيعة: بتر الأطراف، الخنق، التسمير في الحائط، الوضع على الخازوق، وقد أُرغم اليهود على ارتداء الملابس الداكنة فقط: البرانس السوداء، السراويل والطاقيات، وكانوا يشغلون مكانة متدنية في المجتمع. وقد احتفظ بعض اليهود من ذوي الأصول الإسبانية وعدد من العائلات الجزائرية الغنية ببعض الميزات في الفترة الأولى من الحكم التركي. كان هناك تراجع ملحوظ في تجارة التجزئة وفي الحرف، وعانت الغالبية العظمى من السكان اليهود من الفقر، وبات كثير منهم يقاسون من العوز. وهكذا تعرَّضت الحياة الروحية للتدهور بعد أن كانت مزدهرة في وقت ما. على أنه في هذه الظروف السيئة حدَث تقارُب تدريجي بين اليهود المحليِّين ويهود إسبانيا. ومن الأمور المُثيرة للأسف أن اليهود المحليين لم يتمكنوا في البداية من الارتقاء إلى مستوى اليهود الإسبان. وقد حدَث العكس فيما بعد؛ إذ هبط القادمون من إسبانيا إلى مستوى الحياة المغربية.

على أنه ومنذ مُنتصف القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا ظهر عنصر يهودي جديد ونَعني به اليهود الإفرنج، الذين جاءوا من وسط أوروبا. وبفضل السياسة التجارية والليبرالية الشديدة التي انتهجها دوق مدينة ليفورنو التوسكانية، أصبحت المدينة هي المركز المالي والتجاري الأكبر في هذا الوقت والسوق الأهم للنخاسة، مع وجود العديد من المخازن المليئة بالبضائع التي جلبها القراصنة.

في القرنين السادس عشر والسابع عشر انتشرت القرصنة في بلدان شمال أفريقيا وفي العديد من بلدان أوروبا. كان القرن السابع عشر الميلادي هو زمن الصعود الأكبر لهذه المِهنة في الجزائر؛ حيث وُجد فيها واحد من أقوى الأساطيل في البحر المتوسط. كانت دول كثيرة تدفع لداي١٦ الجزائر إتاوة سنوية نظير حرية ملاحة سفنها. وقد أتاحت سرعة السفن وقدرتها على المناورة ومعداتها الجديدة وتسليحها الجيد للجزائريِّين إمكانية الهجوم على المدن الساحلية والاستيلاء على الغنائم الثمينة والأسرى، الذين كان يتمُّ دفع فدية مقابل الإفراج عنهم أو استخدامهم في التجديف على السفن وفي الأعمال الزراعية.
كان ميناء الجزائر في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديَّين يتمتَّع بدفاعات جيدة ومُحصنًا بالقلاع، يستخدمه الكثير من القراصنة الأوروبيِّين قاعدة لهم. وقد عمل في هذه المهنة اليهود المحليُّون واليهود الإفرنج. وفي هذا الميناء كان لعدد كبير من اليهود، الذين استقروا في ليفورنو، والذين جذبهم الازدهار التجاري والإمكانات الهائلة للتجارة العالمية في بضائع المستعمرات، الواردة من أفريقيا وآسيا، الدور الأكبر في التجارة القائمة فيه. كان من المجزي لبعضهم أن يقيم مقاره التجارية أو فروعها في بلاد المغرب، كما كان يهود الشام يقيمون لفترات طويلة في الجزائر وفي بون (عنابة) وفي وهران وغيرها من المدن؛ حيث كانوا يعاملون باعتبارهم أجانب، يقيمون تحت حماية القناصل الفرنسيين، ولذلك فقد تسنَّى لهم تجنُّب جميع أشكال التضييق والازدراء والعقوبات، التي كان يتعرَّض لها اليهود المحليون. كان بإمكان اليهود الإفرنج أيضًا ارتداء ما شاء لهم من ملابس، وأن يعيشوا بعيدًا عن الحي اليهودي، كما أنهم لم يكونوا يخضعون لمحاكم الدايات الكريهة.١٧
مبدئيًّا، فإن الأراضي التي جرى ضمُّها إلى الإمبراطورية العثمانية في الجزائر وتونس كانت تُدار بواسطة البايلربايات، ثم جاء من بعدهم الباشاوات، الذين اعتمدهم السلطان. ومنذ عام ١٦٧١م أصبحت السلطة في أيدي الداي، الذي يأتي اختياره من قبل الديوان المكوَّن من قادة الإنكشارية-الأغا وقباطنة القراصنة والرؤساء.١٨ كانت القوات البحرية يتم تجنيدها من مختلف فئات السكان والمغامرين من شتى البلاد.

كان للداي ووزرائه حرية التصرُّف في المبالغ المالية الضخمة، التي يتمُّ جمعها من حصيلة الاعتماد في الوظائف، ومن حصة غنائم القرصنة ومن الأرباح الناجمة من مختلف المؤسسات (مثل تجارة الخبز). وفي الوقت نفسه فقد كان الداي الجزائري يخضع للإنكشارية، الذين كانوا يبدلون الدايات ويقتلون منهم من لا يرضون عنه.

كان الدايات المختارون من قِبَل الديوان يتسلمون الاعتماد من الباب العالي وكانوا يُعدُّون تابعين للسلطان العثماني. وفي الواقع فقد كانوا يمارسون سياسة مستقلة للغاية ويقيمون العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى. كان الدايات بعد اختيارهم يرسلون بالهدايا من ملابس ومجوهرات وأسلحة جميلة وخيول إلى تركيا. وفي المقابل كانوا يحصلون على الرُّتب والتجهيزات العسكرية (السفن والمدافع والبارود) وعلى حق تجنيد الإنكشارية بالخدمة من تركيا. كان لاهتمام الداي بهذه التعزيزات والإمدادات بالسفن والأسلحة أثره في دعم العلاقات بين مختلف أراضي شمال أفريقيا وإسطنبول.١٩

كان الداي حاكمًا مستبدًّا؛ إذ إنَّ سلطته كانت، صوريًّا فقط، مربوطةً بالديوان، الذي كان يُمثل في الأغلب هيئة استشارية. كان الداي يقوم بنفسه بتعيين خمسة وزراء: أمين خزانة الدولة، قائد القوات البرية، وزير الأسطول البحري، المشرف على شئون القصر (القهرمان)، وكذلك القيِّم على الإرث المُصادر لصالح الدولة ومحصِّل (جامع) المكوس.

كانت إدارة القضاء واحدة من المهام الأساسية للداي. كان الداي يرسل القضايا إلى المحاكم المناسبة، وكان الأتراك والسكان المحليُّون يخضعون للمثول أمام مختلف المحاكم، ويمتثلون لمختلف نظم الحراسة؛ فكان الأتراك الأحناف يتم النظر في خلافاتهم أمام قاضٍ من مذهبهم، بينما قضايا العرب المالكية يَنظرها قاضٍ مالكي المذهب، وكان الأغا رئيس فيلق الإنكشارية يَنظر قضايا الأتراك في المحاكم الجنائية، أما قضايا العرب فكانت تقع تحت إشراف مساعده الكيخيا. ويتمُّ تنفيذ الأحكام الصادرة على الفور، وكثيرًا ما جرى إحراق المرتدِّين واليهود.

كان الداي يُرسل القضايا المدنية إلى القاضي، أما القضايا الأكثر تعقيدًا فكانت تُعرَض على رجال الإفتاء المالكية أو الأحناف.

بدءًا من عام ١٦٨٩ ميلادية انتقل التعيين لمنصب الداي إلى يد قيادة قوات الإنكشارية. كان الفيلق (أوجاق) يُفضل هذا المرشح أو ذاك تبعًا للظروف، الأمر الذي أثار صدامات داخلية وتمرُّدات عديدة، على الرغم من أنَّ السلطان كان هو الذي يَعتمد الداي كما كان يحدث من قبل.

في سياق غضِّ البصر من جانب قناصل الدول الأوروبية، الذين كان الدايات مُضطرِّين لأخذهم بعين الاعتبار، كان التجار الأوروبيُّون يتاجرون بشكل مُتكرِّر في البضائع التي استولى عليها القراصنة، كما كان اليهود أيضًا يَبيعون هذه البضائع، وقد وصل هؤلاء اليهود إلى ليفورنو وإلى جزر الأنتيل أيضًا.

كان التجار يَجلبون الجلود والشمع والصوف بالدرجة الأولى. أما التصدير إلى أوروبا فكان محدودًا: الزبيب، التين، التمر وبعض المنسوجات والدخان. كان حكام بلاد المغرب يبيعون التراخيص وإجازات حق التجارة. وكان الوسطاء يتلقَّون أيضًا البقشيش، وقد استطاع اليهود التأقلُم مع الظروف المحلية إلى حدِّ أنهم حصلوا على إمكانية أن يُصبحوا صيارفة وسماسرة للداي ومسيطرين على العديد من مجالات الاقتصاد في البلاد. وفي الوقت نفسه فقد تعرَّضوا، كالسابق، للمذابح والإبادة. على أنه، وبرغم جميع الظروف المُجحفة التي مروا بها، فإن قليلًا من الناس هم الذين تمكَّنوا من منافستهم، وخاصة المارقين من سكان مارسيليا، الذين لم يكن هناك شيء بإمكانه أن يوقفهم في حربهم.

بحلول نهاية القرن السابع عشر الميلادي اصطدم اليهود في صراعهم التنافُسي بالبروتستانت من أهل لانجيدوق، الذين منذ عام ١٦٨٥م، إبان الحروب التي دارت مع الكاثوليك والاضطهاد الذي تعرضوا له، راحوا يبحثون عن ملجأ في الجزائر وتونس والمغرب.٢٠
كان اليهود المحليون، مثلهم مثل الغالبية العظمى من السكان، يتحدَّثون باللهجة المغربية العربية. كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية التي كان يستخدمها قادة القوات البرية والبحرية، وكذلك المارقون، الذين صنعوا لأنفسهم مهنة. كانت اللغة الإفرنجية lingua franca مستخدمة هي أيضًا، وهي لغة العلاقات التجارية، وهي خليط من العربية والإسبانية والتركية والإيطالية والبروفنسالية. أما أحفاد السكان المُنحدِرين من أصول إسبانية وبرتغالية فكانوا يتحدَّثون اللادينو (أو البوديسمو)، وهؤلاء لم يكتفوا بالحديث بها وإنما بكتابتها أيضًا، مستخدمين الأبجدية العبرية القديمة.

في منتصف القرن السابع عشر الميلادي وقعت تغيُّرات جوهرية في الطوائف اليهودية في تونس.

بدأت هجرة اليهود الأوروبيِّين، التي بدأت بتنكيل محاكم التفتيش بهم، تأخذ نطاقًا واسعًا من جديد نتيجة لمشاركتهم النشيطة في التجارة مع بلدان المشرق، ومن جديد يتمكن هؤلاء اليهود النازحون من ليفورنو وباليرمو وغيرهما من المدن من السيطرة على الجزء الأكبر من مُجمل التجارة المحلية. شارك اليهود أيضًا في دفع الفدية عن الأسرى المسيحيِّين، الذين وقعوا في أسر القراصنة. ومن المعروف أنه منذ القرن السابع عشر ظلت الدوائر التجارية اليهودية تستأجر ما تحتاجه من سفن وتُوقِع عقودًا جماعية.

رفض اليهود الإفرنج (الأوروبيُّون) النازحون الاندماج في الطوائف المحلية، وهؤلاء أخذوا على عاتقهم ما يتعلَّق بحياتهم الخاصة بقدر أو آخر: السيناجوج، المحكمة اليهودية، بيع اللحوم وغيرها من السلع الغذائية، طقوس الدفن وصيانة المدافن.

هذا الانشقاق الواضح تمامًا بين الطوائف اليهودية في تونس نصت عليه الوثيقة المؤرخة عام ١٧٤١ ميلادية، وقد ورَد فيها أن اليهود «التوانسة» المحليين اعترفوا بالحكم الذاتي لطائفة ليفورنو.٢١ وبذلك كان لكل طائفة السيناجوج الخاص بها ومحكمتها ومدافنها ومحالُّ بيع اللحوم الخاصة بها، وهلَّم جرًّا. وقد استمر هذا الانفصال لعدة قرون ولم تتوحَّد بنية هذه الطوائف إلا مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
أُسِّست أول مطبعة يهودية في فاس عام ١٥١٦ ميلادية على يد مُستوطنين برتغاليِّين واستمر نشاطها عدة أعوام. أما في مدينة تونس فقد صدر أول كتاب في شمال أفريقيا عام ١٧٦٨ ميلادية باللغة العبرية القديمة كتبه الحاخام إسحاق لومبروزو. وقد ظلت ذكرى الحاخام حاييم سوف دافيد أزولاي قائمة بين أبناء الطائفة اليهودية التونسية ردحًا من الزمن، وكان رجلًا مشهودًا له بالثقافة وقوة الملاحظة.٢٢

وفي القرن الثامن عشر الميلادي ظهرت بوادر انهيار الحياة الاقتصادية في العديد من المدن الواقعة على ساحل شمال أفريقيا.

أخذت الإمبراطورية العثمانية في الضعف، وتعرَّضت للهزائم العسكرية، وبدأت في فقدان الأراضي التي استولت عليها يومًا ما. ساءت أحوال القراصنة بشدة. نقص عدد الأطقم ذات الخبرة، العاملة على سفن القراصنة، وتكرَّرت صداماتهم مع الأساطيل المعادية، واكتسبت معاهدات السلام، التي اضطرَّ السلاطين لتوقيعها مع الدول الأوروبية، أهمية وفعالية.

اندلعت في الجزائر الفتن الداخلية، وانتشر الطاعون، وساد الجفاف، ولم يبذل الدايات جهدًا في سبيل نهضة الاقتصاد.

وفي مطلع القرن التاسع عشر انخفض عدد سكان مدينة الجزائر حتى وصل إلى ثلاثين ألف نسمة. وحتى أعداد الإنكشاريِّين المجندين، الذين جاءوا من قلب الإمبراطورية العثمانية، تقلَّصت حتى باتت غير كافية للدفاع عن المدينة.

وفي مطلع القرن التاسع عشر أيضًا بلغ عدد سكان الجزائر حوالي ثلاثة ملايين نسمة أغلبهم من القبائل العربية والبربرية، التي انصهرت فيما بينها بدرجة كبيرة.

كان الشيخ هو رأس القبيلة، ويتمُّ اختياره في اجتماعٍ عام تعقده القبيلة، عادة بين أكثر العائلات ثراءً ونفوذًا، وينبغي على الشيخ أن يكون دبلوماسيًّا محنكًا، وعلى علم جيد بالعالم الخارجي والعلاقات القائمة بين القبائل الأخرى والجماعات العرقية. كانت مهمة الشيخ تَشمل حلَّ مشكلات الحرب والسلام وقيادة جيش القبيلة، كما كان للشيوخ أتباع شخصيُّون يُمكن اختيارهم من الأقاليم الأخرى وتُدفع لهم رواتب، وفي بعض الأحيان كانت المدن الداخلة في حدود أراضي القبيلة القوية تخضع له، وفي هذه الحالة كان المخالفون في الدين، وعلى رأسهم اليهود، هم أكثر من يتعرَّضون للأذى والازدراء من جانب هذه القبائل.

كان سكان المدن يَنقسمون إلى عدة طوائف منعزلة؛ فعلى سبيل المثال عاش في مدينة الجزائر في مطلَع القرن التاسع عشر أربعة آلاف تركي إنكشاري (بلغ إجمالي عددهم في البلاد سبعة وثمانين ألف نسمة) ومن ألفين إلى ثلاثة آلاف، أحفاد الأتراك والنساء المحليات، وهؤلاء لم يكونوا يَرثُون مزايا آبائهم. كان المورو هم الجماعة العرقية الأكبر (من اثنَي عشر ألفًا إلى ستة عشر ألف نسمة) وهؤلاء هم أحفاد العرب، الذين جرى طردهم من شبه جزيرة أيبيريا إبان سنوات استرجاعها منهم. كانوا يَعملون بالحِرَف والتجارة، وكان هناك عدد كبير من بينهم متعلمين يمارسون المهن الحرة. وفي المدينة عاش خمسة آلاف يهودي، تجار وحرفيُّون ووسطاء تجاريون. وقد عاش بمدينة الجزائر أيضًا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما ذكرنا من قبل، بضع عشرات الآلاف من الأسرى المسيحيِّين، لم يعد لهم في القرن التاسع عشر أي أثر تقريبًا. كل هذه الجماعات عاشت كل منها في عزلة في أحيائها دون أن تختلط ببعضها البعض تقريبا.٢٣

كان يعيش في مدن الجزائر من خمسة إلى ستة بالمائة فقط من السكان، وكانت تُعتبر بمثابة المراكز الإدارية؛ حيث كانت تُوجد السلطات التركية، وكان الجزء الأكبر من هذه المدن يُشكل قواعد لعدد من الحاميات الإنكشارية الصغيرة.

وقد أدَّى تراجع الدُّخول الواردة من القرصنة، إلى وضع الدايات للبحث عن مصادر أخرى لملء الخزانة، وقد أدَّت زيادة الضرائب، التي لجئوا إليها، إلى اندلاع عدد من الانتفاضات الضخمة في مطلع القرن التاسع عشر قادتها العشائر المسلمة.

وعلى سبيل المثال، استطاعت الإنكشارية قمع انتفاضة الأعوام ١٨٠٣–١٨١٣م بصعوبة بالغة.

وقد تبين أن الحِرَف في المدن الجزائرية تعرضت في مطلع القرن التاسع عشر للانهيار. تقلَّص عدد الورش في البلاد إلى ثمن عددها مقارنة بما كانت عليه في القرن السابع عشر.

في الواقع لم يكن في الجزائر طبقة من التجار، وقد لعبت الشركات الأجنبية وبيوت التجارة اليهودية الدور الأساسي في التجارة الكبرى.

كان الدايات والقناصل الأوروبيُّون يرون أن اليهود الإفرنج هم وحدهم الذين يستحقُّون الاهتمام، وهؤلاء كانوا يُشكِّلون في القرن الثامن عشر الأرستقراطية الدينية والثقافية بين اليهود المحليِّين. وعلى مدى سنوات طويلة سيطرت عائلات جاكي وبوشيار وبكري وبوسناش المنحدرة من مدينة ليفورنو، على يهود مدينة الجزائر، كما سيطروا على المجال المالي والتجاري للبلاد بأسرها. وقد قام كوهين بكري وأربعة من أبنائه وصهره نفتالي بوسناش بتأسيس تحالف شركات كان يتحكَّم في الجزء الأكبر من الاقتصاد الجزائري. وقد تولى رجال بنوك الرايات احتكار تجارة الحبوب. واشتغل عملاء بكري في مدن أفريقيا والمشرق العربي وفي المراكز الأوروبية الكبيرة. وبالإضافة إلى العمليات التجارية، التي كانوا يقومون بها، كانوا يُتابعون الأحداث السياسية الراهنة، التي تنتهجها الدول العظمى، ثم يقومون بإبلاغ أصحاب الأعمال بكل تفاصيلها. وقد أبلغ القنصل الفرنسي في زمن حكومة المديرين٢٤ المستشار ديفاوز رئيسه تايليران قائلًا: «إذا كانت حكومة المُديرين نفسها لن تستطيع تحقيق السلام مع الجزائر، فلن يُصبح أمامنا عندئذ سوى اللجوء إلى التعاون السرِّي مع بكري.»٢٥

تمَّ تعيين نفتالي بوسناش صهر بكري رئيسًا للطائفة اليهودية، والذي لم يكتفِ بأعمال الطائفة، وإنما قام، بمُوافَقة الداي، بالوظائف الإدارية.

يَمتلئ تاريخ الجزائر في العقود الأولى من القرن التاسع عشر بالصراعات الدَّموية الداخلية والتنافُس من أجل الوصول إلى السلطة. وقد دفع الداي مصطفى ونفتالي بوسناش المقرَّب منه حياتهما في التمرد الدموي الذي وقع في القصر عام ١٨٠٥م؛ إذ قتل الاثنان على يد الإنكشارية، واستولى المتمرِّدون على الحي اليهودي وقتلوا اثنين وأربعين شخصًا من سكانه وجرحوا الكثير منهم ونهبوا المحال التجارية. وأصبح أحمد، المحرِّض على التمرد، هو الداي الجديد للجزائر؛ حيث إنَّ الأتراك لم يتدخَّلوا حتى هذا الوقت تقريبًا في الشئون الداخلية لهذا البلد. وقد قام أحمد بمُصادرة كل ممتلكات بوسناش وأودع قريبيه دافيد وميشيل بكري السجن، وعيَّن دافيد ديوران رئيسًا للطائفة اليهودية وهو من أبناء العشيرة المعادية الكبرى. ومن الواضح أن وراء هذا الصراع كانت المواجَهة بين الطوائف اليهودية المحلية ويهود ليفورنو. على أنَّ دافيد ديوران لم يستمر طويلًا على رأس الطائفة؛ فبعد عدة شهور استبدل به منافسَه دافيد بكري. استمرَّ الصراع الدامي بين العائلتين وبعد خمس سنوات تمَّ قطع رأس بكري بأمرٍ من الداي. على أنه سرعان ما لقي دافيد ديوران المصير نفسه.

ومِن جديد تعود الأغلبية العُظمى من اليهود لتعيش في فقر مُدقع. وفي هذا الوقت قَرَّب الفقر بشكلٍ مُتساوٍ بين أحفاد اليهود المحليِّين والغرباء النازحين من جهة، والبربر، الذين تحوَّلوا إلى العقيدة اليهودية، واليهود السفارديم من جهة أخرى. وعلى الرغم من العزلة التامة داخل الجيتو فإنهم لم يَستطيعوا تجنُّب تأثير الوسط الإسلامي الذي يعيشون فيه من ناحية اللغة والحياة اليومية بل وحتى ممارسة بعض الطقوس.

أما بالنسبة لحكام تونس فقد رأوا أن من الضروري حلَّ مشكلة السكان الذين لا يُمكن السيطرة عليهم فعليًّا على طريقتِهم الخاصة. في عام ١٨٢٢م نجح الداي محمود في عقد اتفاق مع دوق توسكانيا الكبرى بشأن اعتبار رعايا دوقية توسكانيا الكبرى المُقيمين في تونس أكثر من عامين مواطنين تابعين للباي بكلِّ ما يترتَّب على ذلك من نتائج. وقد أثار هذا الاتِّفاق غضب العديد من سكان ليفورنو، الذين نجحوا بمساعدة قنصل توسكانيا الجديد في إلغاء هذا الاتِّفاق، الذي انتقص من قدر يهود ليفورنو.

في عام ١٨٢٣م ظهر ما يُعرف ﺑ «قضية القبعة»؛ ففي مطلع القرن التاسع عشر كان النظام القَسري في ارتداء الملابس ما يزال ساريًا. أُرغم يهود تونس على ارتداء طواقٍ وملابس داكنة اللون تُشبه في طواها القفاطين، بينما كان اليهود الأوروبيُّون يرتدون الملابس الأوروبية.

وقد بدأ بعض اليهود المحليِّين أيضًا في ارتداء الملابس على الطريقة الأوروبية وكذلك على اعتمار القبعات، الأمر الذي أثار حفيظة الباي عندما بلَّغه ذلك، فأمر بعقاب الذين خالفوا النظام القديم بالضَّرب بالعِصيِّ. على أنه في أثناء الحملة على اليهود المحليِّين، الذين كانوا يَعتمرون القبَّعات، كان من بينهم بالصدفة يهودي من جبل طارق من رعايا بريطانيا. وقد اتَّخذ الأمر شكل الفضيحة. ونظرًا لردِّ الفعل المهدد من جانب القنصل الإنجليزي، الذي أثار هذا الأمر استياءَه، تمَّ إلغاء عقوبة الضرب بالعِصي.٢٦

وبالنِّسبة لليهود كان نظام الحاكم أحمد بيه (١٨٣٥–١٨٥٥م) نظامًا جيدًا نسبيًّا. وقد عمل في خدمته يهود في وظائف التموين وأطباء وموظَّفُون، وكان لنفوذهم أثر في جلب المنفعة أيضًا للطائفة ككُل.

آنذاك أيضًا، وكما ذكرنا من قبل، ظلَّت الطائفة اليهودية الجزائرية تُعاني بشدة من جراء انهيار وإفلاس البلاد إجمالًا. وقد تراجع عدد سكان المدن بقوة بعد وباء الطاعون الكاسح الذي وقَع في عام ١٧٨٧م. ظلَّ التنظيم الداخلي للطائفة في مطلع القرن التاسع عشر أيضًا على ما كان عليه في القرن الخامس عشر؛ ففي كل مدينة توجد بها طائفة يهودية وُجدت مجالس طائفية، كان يرأسها المقدم، الذي كان يتمُّ تعيينه من قبل الداي، وكان مسئولًا عن جمع الضرائب، وهو الذي كان يُتابع تنفيذ قرارات المحكمة الحاخامية.

كان المقدم هو الذي يُعيِّن أعضاء مجلس الطائفة، وهو الذي كان بإمكانه أن يعزلهم حسبما يتراءى له. كانت المحكمة الحاخامية تنظر في القضايا المدنية من زواج وطلاق وميراث وهبات وهلمَّ جرًّا، بينما كانت جميع القضايا الجنائية تخضع للقاضي الشرعي، ووفقًا لأوامر الحاخام كان من المُمكن إيداع المتَّهمين السجن وأن يتعرَّضوا لما هو أسوأ وهو الحرمان من الانتماء إلى الطائفة. أما العقوبات التي كان يحكم بها القاضي فكانت أكثر قسوة بكثير.

كان الجمع بين زوجتَين مُنتشرًا في الجزائر، وكان قد تم حظره لدى الطوائف اليهودية الأوروبية منذ القرن الرابع عشر الميلادي.

عاش اليهود الجزائريون في عزلة تامة تقريبًا عن غير اليهود، فضلًا عن عزلتهم عن شركائهم في العقيدة من الأوروبيين. وإذا كان وجود اليهود الإفرنج في المدن والموانئ الكبرى، وكذلك تراكم ثروات بعض اليهود المحليِّين، قد ساعدا على اتساع أفق وارتفاع المستوى الثقافي لدى هاتَين الطائفتين إجمالًا، فقد ظل الفقر والخوف يُسيطران على القرى الداخلية للجزائر كما كان عليه الوضع سابقًا.

في الخامس من يوليو عام ١٨٣٠م احتلَّت القوات الفرنسية الجزائر ورفعت على القلعة علمها ذا الألوان الثلاثة. ومنذ هذه اللحظة بدأت حياة جديدة لثلاثين ألفًا من اليهود الموجودين في المدينة.

وقد ظلَّت تونس خاضعة للسلطان العثماني، على الرغم من أن النفوذ التركي فيها كان ضعيفًا، وأصبح الحكام مُضطرِّين يومًا بعد الآخر لمراجعة القناصل الأوروبيين في كل شئونهم.

بعد أحمد باي تولى محمد حكم البلاد في عام ١٨٥٥م، وفي عهده حصلت الطائفة اليهودية على بعض التسهيلات الضريبية، كما تمَّ تخفيض بعض الجمارك على البضائع التي يَستوردها اليهود. وقد كان جوزيف ساماما يحظى بثقة الباي.

على أنَّ حادثًا وقع إبان حكم محمد كانت له نتائج مُهمَّة؛ ففي عام ١٨٥٧م وُجهت إلى اليهودي التونسي باتو سفيتس تهمة ازدراء الإسلام، وقُدِّم إلى المحكمة الشرعية. وسواء أكان الاتِّهام الذي وجه إليه حقيقيًّا أم باطلًا فقد كان يُمثل خطرًا مميتًا؛ حيث إن القسم الذي يؤديه المُدَّعِي في مثل هذه الحالات أكثر أهمية من ذلك القسَم الذي يُؤديه يهودي، ناهيك عن أن الإجراءات القضائية في البلاد الإسلامية كانت تتميَّز بالبساطة والسرعة. وقد تدخل القناصل الأوروبيون لإنقاذ حياة باتو سفيتس، لكن الرجل أُعدم بقطع رأسه برغم كل ما بُذل من جهود.

أثار هذا الإعدام رد فعل مفاجئًا، فضلًا عن قلق عدد من الدول، وبناءً على مبادَرة من نابليون الثالث أُنشئت في باريس لجنة لتقديم المساعدة العاجلة للسكان غير المُسلمين في تونس إذا ما اقتضت الحاجة.

أرغم الأسطول الفرنسي الذي وصَل على الفور إلى لاجوليتا، أرغم الباي على قبول بعض القواعد التي لم تعهَدْها المجتمعات الإسلامية من قبل. واضطر الباي محمد إلى أن ينشر في التاسع من سبتمبر عام ١٨٥٧م ما عرف باسم «المعاهدة الأساسية».

أقرَّت هذه الوثيقة المساواة بين جميع رعايا الباي مهما كانت الديانة التي يَعتنقُونها، وقد أُعلن في سياقها عن الحرية الكاملة للعقيدة وممارسة العبادة.

وقد نصَّت المادة الرابعة من هذه الوثيقة على إصدار أوامر لحراس النظام فيما يخصُّ السكان اليهود، وجاء فيها: «إن رعايانا من اليهود ليسوا مُضطرِّين إطلاقًا لتغيير عقيدتهم وغير مسموح أيضًا وضع أية عراقيل أمام قيامهم بعباداتهم. كما يجب احترام سيناجوجاتهم وحمايتها من أي إهانة …»

وقد تناولت المادة السادسة حتمية وجود ممثل الطائفة اليهودية في المحكمة الجنائية في حالة محاكمة يهودي. وتحدَّثت المادة لاحقًا عن ضرورة احترام شرف وكرامة جميع رعايا الباي، ويحظر احتقار وإهانة أي شخص لمجرد الاتهام الموجه ضده، مهما كان الوضع الذي يشغله في المجتمع مُقدم الاتهام. الجميع سواءٌ أمام القانون.

وللرقابة على تنفيذ هذه المعاهدة التقدمية أسس الباي المجلس الأعلى للقضاء.٢٧

وفَّرت المعاهدة المُعلَنة شيئًا من الارتياح لدى القناصل الأوروبيِّين واليهود المحليِّين وبعض من أفراد البرجوازية المحلية، ولكنها لم تُرضِ على الإطلاق السواد الأعظم من السكان المسلمين، الذين لم يَقبلوا ببساطة ما جاء بها؛ ومن ثم ظلَّ الوضع على ما كان عليه. استمرَّ الجور وتعسُّف السلطات المحلية.

وفي عام ١٨٦٤م بات الوضع الاقتصادي في تونس على حافة الانهيار وعندئذ قام الباي بمُضاعفة الضرائب، ونتيجة لذلك اندلع التمرد في المناطق الساحلية، وسرعان ما امتدَّ ليشمل البلاد كافة، واضطر اليهود للهرب وحاولوا أن يجدوا لأنفسهم ملجأً في طرابلس والجزائر ومالطة وليفورنو.

في السنوات من ١٨٦٦م وحتى ١٨٦٨م داهمت الأراضي التونسية النكبات الطبيعية: الجوع، وباءا الكوليرا والتيفوس، اللذان قضيا على ما يَقرُب من ثلث السكان. وفي هذه السنوات العصيبة اشتد اضطهاد اليهود، الذين اضطرَّ كثير منهم إلى البحث عن الحماية لدى قناصل أوروبا. كان على القناصل أن يُقدِّموا ما يحتاجه هؤلاء، وقد قاموا دون تردُّد بمد يد العون لهم وأيدوا طلباتهم لدى الباي. هذا الدعم الذي قدمه مُمثلو الدول الأوروبية احتاجت له الطائفة اليهودية مرة أخرى في عام ١٨٧٥م.

فقد قام أحد المسلمين من الأشراف بقتل يهودي نهارًا في أحد شوارع تونس المُزدحمة. وعلى الفور أغلق اليهود محالَّهم حدادًا عليه، وللمرة الأولى سارت الجنازة علنًا على صورة تظاهر عبر شوارع المدينة كلها. اختبأ المذنب في إحدى الزوايا التي تحظى باحترام المسلمين، لكنه أُخرج منها وتمَّ إعدامه. ومن الواضح تمامًا حدوث تغييرات في الوعي الاجتماعي وفي السياسة.

في عام ١٨٦٣م أنشأ الاتحاد اليهودي العام في تونس لجنة لمتابعة الجرائم والتمييز اللذَين يستهدفان اليهود المحليين، وفي عام ١٨٨٧م افتتح الاتحاد نفسه أول مدرسة له في تونس، وفي عام ١٨٧٧م أُلغيت عقوبة ضرب اليهود بالعِصيِّ بمرسوم حكومي.٢٨

عشية فرض الحماية الفرنسية تحسَّنت حالة اليهود في البلاد على نحو ملحوظ. وبفضل الجهود المستمرَّة للقناصل الأوروبيين والسياسة الجديدة التي انتهجها الدايات وجد اليهود الحماية والدعم الحقيقيَّين.

في الثامن عشر من مايو عام ١٨٨١م تم في بوردو توقيع معاهدة تُفْرَض الحماية الفرنسية بموجبها على تونس.

•••

تُمثل المذكرات التي كتبها الدبلوماسيون والكُتَّاب والصحفيون والعسكريون والموظَّفون والاتحاد اليهودي العام والمبعوثون والأطباء، وهلم جرًّا، أهمية كبرى لدراسة الطوائف اليهودية في تونس إبان الهيمنة التركية عليها، وجميعها تمثل وجهة النظر الأوروبية والأمريكية في القرن التاسع عشر تجاه حياة سكان تونس وثقافتهم، وخاصة فيما يتعلَّق بالجوانب المختلفة لحياة اليهود المحليِّين. نُورد هنا بعض المقاطع باعتبارها شهادة شهود عيان، وهو ما يُمكن أن يُعدَّ مصدرًا من مَصادر الموضوع الذي اخترناه.٢٩

ملحق

في عام ١٨١٤م وصَل إلى تونس موردخاي مانويل نوح بوصفِه قنصلًا للولايات المتحدة الأمريكية واستمر في منصبه هذا حوالي عام. وقد ترك وضع يهود الشرق والفقر المدقع الذي يَعيشونه، وكذلك تاريخ المصائب التي عاناها شركاؤهم في العقيدة القادمون من شرق أوروبا، ترك لديه انطباعًا لا يُمْحَى. وقد قرر لدى عودته إلى الولايات المتحدة أن يُقيم مدينة تكون ملجأً لبؤساء يهود العالم. ويُعد هذا الرجل واحدًا من رواد الصهيونية العالَمية. اشترى نوح أرضًا بالقرب من شلالات نياجرا وقد أقام احتفالًا فاخرًا بمناسبة تأسيس مُستوطنة جديدة أطلق عليها اسم أرارات٣٠ تذكيرًا بالنبي نوح، الذي يحمل هو نفسه اسمه. لم تنجح محاولة تأسيس المدينة، لكن مذكراته تشهد على كونه كان إنسانًا إيجابيًّا قوي الملاحظة.٣١

«سأحكي واقعة مسَّت شغاف قلوبنا. ذات يوم بعيد قام القنصل الأمريكي (الرائد موردخاي مانويل نوح-إ.ف) لسببٍ ما بضرب رجل يهودي كان يعمل بالجمرك. اشتَّ اليهودي إلى حمود باشا، الذي طالب القنصل بالاعتذار وأن يعانق الرجل الذي وُجهت إليه الإهانة كنوع من المصالحة. كان موقفًا عادلًا من جانب الباي، أما القنصل فلم يَخجل من النزوة التي اقترفها. وقد تبين أنه رجل قادر على ملاحقة المتهمين وطرد المضطهدين …

يبلغ عدد اليهود في المملكة التونسية حوالي ستين ألفًا، وعلى الرغم من وجود آراء مُختلفة بشأن هذا العدد. أنا شخصيًّا أرى أنه من المستبعَد أن يزيد عددهم على عشرين ألفًا، وهؤلاء يُمكن أن تجد بينهم يهودًا إيطاليِّين وآخرين من البربر (السكان المحليون لشمال أفريقيا-إ.ف) يتميزون أساسًا بمظهرهم الخارجي. يرتدي اليهود المحليون سترة زرقاء ذات صفٍّ واحد من الأزرار دون أكمام ودون ياقات، تحتها قميص من الكتان ذو أكمام واسعة. أما في الشتاء فهم يَرتدون جوارب طويلة وشباشب دون كعوب أو مُؤخِّرة تُغطيها سراويل واسعة. ويَعتمِر اليهود أغطية رأس على رءوس حليقة عبارة عن طاقية صغيرة تحيطها عمامة من الحرير الأزرق ولا يسمح بارتداء أي ألوان أخرى. أما بالنسبة لليهود الإيطاليِّين فإنهم يرتدون مثل المسيحيين المقيمين.

يعيش اليهود المحليون في حي خاص ويقوم رئيس الطائفة على تنظيم شئون حياتهم الذي يعتمده الباي. ومن الشائع لديهم مدُّ يدِ العون للفقراء من أصحاب عقيدتهم، ويدفع الأغنياء رسومًا بمثابة ضريبة على لوازم الرفاهية يَلتزمون بدفعها مضاعفةً حيث يذهب نصفها للفقراء.

يسكن مُعظم اليهود المحليِّين بيوتًا فقيرة، تخلو من الجمال، ولكنَّهم يحرصون على نظافتها، ويستخدمون الجير في تبْييض الحوائط. نظام التعليم عندهم قديم ويهتم بالدرجة الأولى بتدريس اللغة العِبرية القديمة والتقاليد الدينية، التي يتمُّ الحفاظ عليها بشكل صارم ومتزمِّت عند جميع الطوائف اليهودية.

تعدُّد الزوجات أمر شائع لدى البربر، والشريعة الإسلامية لا تُحرِّمه، وكذلك لا تُحرِّمه شريعة موسى، وإن كان نادر الحدوث منها للغاية. سمعت عن حالة واحدة فقط للجمع بين زوجتَين؛ فقد تزوج الحايك زوجتين وهو شابٌّ غني، وإن لم يكن في مُقتبَل العمر، لكنه احتفظ بحيوية مُدهشة.

في البلد الذي نتحدَّث عنه، وهو بلد غير مُتمدين، كانت النساء اليهوديات، مثلهن مثل المسلمات، يُعامَلن باعتبارهن كائنات أقل درجة، وهنَّ نساء يتميَّزن بالبدانة وبمشيتهن الخرقاء للغاية. كُن يَرتدين فوق جونلاتهن الحريرية ذات اللونين الأصفر والبنفسجي فستانًا خفيفًا شفافًا له عدة ثنيات، ويُغطِّين رءوسهن بشالٍ حريريٍّ ملوَّن، أما النساء غير المُتزوِّجات فيعقدن ضفيرتَين أو ثلاثًا بشرائط ملوَّنة، وهنَّ لا يرتدين جوارب، وإنما يَسرن مُنتعلات شباشب، ويُزيِّن كواحلهن بخلاخيل من الفضة، كما أنهنَّ يَخضبن كُعوبهن وأكفهن وحواجبهن بالحناء ذات اللون البني الداكن. هؤلاء النِّسوة عادة ما يربطن شالًا أسود حول رقابهن ويغطين به أفواههن وذقونهن، تاركين الجزء الأعلى فقط من الوجه مكشوفًا. حياتهن المنزلية مغلقة ولم أزر واحدة منهن.

في الليل أقمنا احتفالًا بشكلٍ ما في قنصليتنا بمناسبة الذكرى السنوية لميلاد جورج واشنطن. السماسرة اليهود الذين دعوناهم طلبوا التصريح لهم باصطحاب زوجاتهم. وافقتُ وسرعان ما امتلأت إحدى الغرف باليهوديات الجميلات، اللائي يَنتسبن إلى صفوة المجتمع. كنَّ يرتدين ملابس فاخرة مصنوعة من المخمل والحرير، موشَّاة بالذهب، وقد غطتها المجوهرات أيضًا، والتي كانت مُجمَّعة دون أي ذوق أو خيال. وكما اعتدن فقد جئن في أحذية موشَّاة وساق مكشوفة حول كاحلها خلاخيل.

للنساء اليهود وجوهٌ نضرة لطيفة، وعيون وأسنان جميلة، لكنَّ قوامهنَّ مُمتلئ وثقيل. وقد أُصبنا بالدهشة عندما عرفنا أن هذه الأمور تُعدُّ من معالم الجمال وفقًا للمَعايير المحلية. السيدات التونسيات من أصول عربية كن يتحدَّثن مع اليهوديات بلباقة، مُعتبرات إياهنَّ سيدات كريمات ذوات تربية حسنة.

ليس من المقبول هنا تبادُل الزيارات، وتتقابَل النساء اليهوديات ويَتبادَلن الحديث في المدافن بشكلٍ أساسي، وهي موجودة خارج أسوار الحي؛ حيث تَهيم فيها، أحيانًا، الحيوانات المنزلية. وتُبْنَى المقابر من الآجر والكلس، وهي مُستوية وترتفع عن الأرض إلى ما يزيد على خمسة عشر سنتيمترًا. وعلى المقابر توضع لوحات صغيرة من الطين، كتب عليها أسماء المتوفين باللغة العبرية القديمة.

بعد ظُهر أيام الجُمَع تذهب النساء اليهوديات إلى المقابر يَحملن جِرارًا مليئة بالجير وفرشاة؛ فيقمن بتنظيف مقابر أقاربهنَّ وأصدقائهنَّ ويُبيضنها. هنا تحديدًا في هذا المكان الكئيب تسنى لي دراسة هؤلاء الناس. رأيت كيف أنَّ أمًّا ما أو زوجة تأتي حاملة جرة وفرشاة فتجد المقبرة العزيزة عليها، تتحسَّس بيدها النقش ثم تضعها على شفاهها. تجلس إلى جوار المقبرة، تبكي، تتحدَّث إلى المُتوفى حتى تشعر بشيء من السكينة، تُشاطره المشكلات المنزلية، الأفراح والأتراح، وتطلب من هذا الذي رحل عن الحياة الدعم والحماية، وبعد أن تُسرِّي عن أحزانها تقوم بتنظيف المقبرة، ثم تنضم إلى النساء الأخريات لكي تتعرَّف منهنَّ آخر الأخبار، التي يكون من بينها دائمًا أخبار عن أموات جدد.»

(١) يهود تونس عام ١٨١٦م٣٢

رافق الطبيب العسكري لويس فرانك فيلق نابليون الاستكشافي إلى إيطاليا ومصر، وقد زار لويس فرانك تونس مرتين. في عام ١٨٠٦م عمل طبيبًا خاصًّا للباي. لا يخلو وصفُه لتونس من الخرافات والتحامُل الذي يتَّسم به غالبية الأوروبيين، ومع ذلك فإن هذا الوصف مُهم بحكم ما فيه من قوة الملاحظة وحب الاستطلاع لدى هذا الرجل.

اليهود في تونس أكثر بكثير منهم في مدن البربر الأخرى، على الرغم من أنَّ عددهم غير معروف على وجه الدقة؛ وذلك لأنهم هم أنفسهم لا يَميلون إلى تلك الإحصاءات.

أظنُّ أن عددهم لا يزيد على عشرين ألفًا في هذه البلاد، وهو الرقم الأكثر استخدامًا.

وهنا، مثلما في كل مكان، نجد أن هذا العِرق مُفعَم بالوساوس بصورة كبيرة وبالمكر والشر وكراهية كل من ليس على عقيدتهم. البعض منهم يُمارس شتى الحرف، لكن غالبيتَهم يعملون بالتجارة. يشترون التراخيص من الباي لممارسة أعمالهم، وتُمثِّل تجارة الشمع بصفة خاصة مصدرًا للأرباح الكبيرة.

وهم يُنفقون أموالًا طائلة لكي يحصلوا على تصريح لإنتاج الفودكا حيث يَسمح لهم ببيعها لطوائفهم فقط. على أنه، وبالرغم من الحظر الصارم على تسويقها بين العرب والأتراك، فإنهم عادة ما يجدون وسائل للالتفاف على هذا الحظر؛ حيث إن الجزء الأكبر من الأرباح التي يَجنونها يأتي من بيع الفودكا سرًّا.

يعمل العديد من التجار اليهود بالتجارة في ليفورنو ومارسيليا، والجزء الأكبر من تجارة هاتَين المدينتَين مع تونس يقع في حوزتهم. وقد ظلُّوا لزمن طويل يشغلون بنجاح تام وظائف السمسرة في العمليات التجارية والمالية بين الأوروبيِّين والسكان المحليِّين ويَحصُلون مقابل ذلك على نسبة مئوية من كلا الطرفين.

يدفع اليهود والذميون جزية تضمن لهم سلامتهم في المجتمع الإسلامي، على أنه ليس هناك شيء أكثر ابتذالًا من المهانة والخسارة المادية التي يتعرَّضون لها من جانب العرب، الذين يتعاملون معهم هنا بشكل سيئ للغاية، لكن اليهود يتحملون كل ذلك في الحقيقة بخضوع مُدهش، وإذا ما تجرَّأ أحد على إبداء مقاومة للاستبداد والظلم، فإنه سيجد نفسه حتمًا أمام محاكمة جادة ربما تنتهي بالطائفة اليهودية إلى دفع مبلغ باهظ من المال. وغالبًا ما يكون لهذه الإهانة سبب واحد هو الاستفزاز المستبد ومخالفة القانون.

بعض اليهود هنا يرتدون الملابس على الطريقة الأوروبية، وهؤلاء غالبًا ما يكونون من مواليد مدينة ليفورنو، أما اليهود المحليون فيرتدون الملابس على الطريقة الشرقية. النساء يَعتمرن قلنسوة وشالًا، إما بلون رمادي أو أزرق، لا لأنهنَّ يُفضِّلن تحديدًا هذين اللونين، ولكن لأنهن مُرغمات على ذلك حتى يمكن تمييزهن عن المسلَّمات. أما باقي الملابس فهي متشابهة.

وبالرغم من الوضع الذليل الذي يَعِشنه، إلا إنهنَّ يستطعن هنا على أيِّ حال ركوب الخيل والبغال، وهو أمر محظور عليهن في مصر وعدد من البلاد العربية الأخرى.

وإلى جانب لون غطاء الرأس والشال تتميز اليهوديات عن النساء العربيات بشيء آخر أيضًا هو أنهن يغطين الجزء الأسفل من الوجه بمنديل أسود، بينما تغطي الأخريات وجوههن تمامًا.

لقد قابلت كثيرًا من اليهوديات الجميلات لهنَّ قوام مُتناسق، لكن ملابسهنَّ الشرقية الخشنة تعوق رؤية ما يملكن من مزايا، وهن لا يُولين أنفسهن اهتمامًا ولا يُحاولن أن يظهرن بمظهر أفضل، لكنهنَّ يبذلن كثيرًا من الجهد لكي يُخفين مغامراتهن العاطفية، فإذا علم بذلك الزوج أو حاخام السيناجوج، فإنهنَّ يتعرَّضن لعقوبات قاسية، بل وللطرد من قبل الزوج.

لا يتطلَّب الأمر جهدًا كبيرًا من اليهودي ليطلق زوجته، إذا ما استطاع أن يقدم حجة من تلك الحجج لتبرير قراره. لا يلجأ الجميع إلى الطلاق باعتباره طريقة للزواج مرة أخرى؛ فالبعض، مثل المسلمين، يجدون لأنفسِهم زوجة ثانية؛ فالشريعة لا تحرم عليهم ذلك.

كثير من اليهوديات يَعملن بالتجارة البسيطة في المدينة، وهنَّ يَحملن بضائعهنَّ ويطفن بها من بيت لآخر وعلى الحريم. والنساء العربيات لا يُغطين وجوههنَّ في حضور اليهوديات؛ إذ لا يَعتبرنهنَّ نِدَّاتٍ لهن.

هناك حالات كان اليهود يتعرَّضون فيها للقتل داخل البيوت العربية بغرض الاستيلاء على ما بحوزتهم من بضائع. وقد أصدر الباي أمرًا إلى الباعة اليهود الجائلين أن يسيروا من الآن فصاعدًا كل اثنين معًا، وعندما يدخل أحدهما إلى أحد البيوت مع بضاعته يَنتظره الآخر أمام باب البيت. بعد تنفيذ هذه التعليمات البسيطة والحكيمة للغاية، لم يَقع يهودي واحد ضحية للطمع والغدر من جانب اللصوص القتلة.

يتمتَّع الحاخامات باحترام كبير لدى الطوائف، وهؤلاء لا يقتصر عملهم على متابعة الحفاظ على شرائع موسى بشكلٍ صارم، وإنما على التزام جميع أعضاء الطائفة بتنفيذ المعايير الأخلاقية. فور وصولي إلى المنطقة حلَّ جفاف شديد. استمر الحاخامات لمدة يومين أسبوعيًّا في الالتزام بالصيام الصارم والصلاة لكي تَنزل عليهم رحمة الله وليُنعم عليهم بالمطر الغزير. على أنه بالرغم من الصيام والتوبة والانكباب على الصلاة استمر الجفاف يفترس البلاد. عندئذ بدأ الحاخامات في إقناع الطائفة بأن السبب الوحيد لغضب السماء عليهم هو الذنوب وفسوق الناس، وخاصة الأرامل والمطلقات. وبدأ تقصِّي الأمر في جميع العائلات اليهودية بدقَّة. وقد تمَّ اكتشاف عدد كبير من النساء اللائي هجرهنَّ أزواجهن أو اللائي كتبت عليهن الوحدة بسبب وفاة أزواجهن، وقد تمَّ اكتشاف أنهن كن يَلتقين برجال فاسقين وأن بعضهن كن حوامل. عادة ما تَستوجب هذه الخطايا إنزال عقوبة قاسية، لكن البحث كشف عن أن العديد منهن وُقِّعت عليهن عقوبة، لكنهنَّ لم يَرتدعن. وإلى جانب هذا النوع من الخطايا، كانت هناك انتهاكات أخرى.

كلُّ يهودي ثبت أنه تناول طعامه على مائدة واحدة مع مسيحي أو مسلم يتعرَّض لإدانة قاسية من جانب الحاخام في السيناجوج في حضور جمع كبير من أبناء العقيدة، فإذا ما تكرر الأمر فإنهم يعلنون في الطائفة اليهودية أنه فقد الحقوق المدنية والدينية فلا تُقبل شهادته في أيِّ مكان، وتحلُّ عليه اللعنة، ويُعتبَر عارًا على الطائفة.

كان الحاخامات يُحاولون تنظيم أسلوب ارتداء الملابس في الطائفة، وكانوا يدينون الرغبة العارمة لدى الفتيات الشابات نحو امتلاك الحليِّ الثمينة والثياب الحديثة الفاخرة الأوروبية.

كان اليهود يكتبون بلغة هي خليط من الكلمات العبرية القديمة والعربية وكثير من الألفاظ الأخرى المستخدَمة في حوض البحر المتوسط. على أنه كان من المحظور عليهم أن يستخدموا في مُراسلاتهم الخط العربي، المخصَّص فقط للمسلمين. كان هذا الحظر ساريًا في جميع بلدان شمال أفريقيا على الرغم من أنه لم يصدر به أيُّ قانون أو أوامر.

•••

في عام ١٨٢٥م سجَّل المبعوث البروتستانتي جوزيف جريفس يومياته إبان وجوده في تونس، نُورد هنا أجزاءً منها، وهي تتضمن بعض جوانب من حياة الطائفة اليهودية.٣٣

(١-١) الثلاثاء، ١٦ نوفمبر ١٨٢٤م

لليهود محكمتهم الخاصة، التي تنظر في كل خلافاتهم الداخلية، وعليهم أن يَدفعوا مبلغًا كبيرًا للسلطات المحلية مُقابل هذه الميزة، وإذا ما عزمت الحكومة على طلب شيء ما من اليهود، فإنها تخاطب الحاخام الأكبر، الذي يمثل الطائفة.

(١-٢) الخميس، ١٨ نوفمبر ١٨٢٤م

أخذني موردخاي نجار إلى المدرسة الابتدائية اليهودية التابعة للسيناجوج الفقير للغاية. يبلغ عدد التلاميذ الذين يتعلمون في المدرسة حوالي خمسين طفلًا، تتراوح أعمارهم ما بين ستِّ وعشر سنوات، ويقوم بالتدريس اثنان من الحاخامات الفقراء؛ أحدهما يُعلِّم الأطفال الأبجدية العبرية القديمة، أما التلاميذ الأكبر سنًّا فيقرءون مع الحاخام الثاني أجزاءً من التوراة على نحو رتيب. وبعد التعليم الأوَّلي تبدأ الفصول الأكثر تقدمًا في دراسة التلمود. يقرءون كل سبت في السيناجوج من فصلين إلى ثلاثة فصول من التوراة.

أروني شابًّا من مالطة اعتنق اليهودية منذ عدة أيام مضت ليتزوج من يهودية …

(١-٣) الجمعة، الأول من ديسمبر ١٨٢٤م

قسوة البربر. فتًى يهودي وامرأة يهودية وقعا ضحية لقسوة البربر؛ فقد اتُّهم الاثنان بممارسة الزنا. على أن الأمور سارت على نحو غريب. حتى إنَّ كثيرين آمنوا ببراءتهما. أعلن القضاة أن الجريمة وقعت منذ أربعة أيام مضت تمامًا. تم القبض على المتهمَيْن وأودعا السجن. اقتيد الشاب إلى الباي. ظهر أناس شهدوا على اليهودي. قبيل موته المحتم جزاء الاتهام المُوجَّه في حقه، حاول المسكين اللجوء إلى آخر وسيلة للنجاة، فأعلن الشهادة، التي تُحوِّله إلى مُعتنق لدينٍ جديد، لكنهم اعترضوا لأن الأوان قد فات، ولأنه اعتنق الإسلام خوفًا من الموت فقط. ظلَّ الفتى اليهودي يكرر في إصرار قوله بأنه بريء، لكنَّهم أطاحوا برأسه وتمَّ سحل جثته عبر شوارع المدينة. ترك الفتى زوجة وطفلين باتوا في فقر مُدقع؛ إذ تمَّت مصادرة كل ما كان يملكه. العربية التي رأيتها بدَتْ لي امرأةً مُنفِّرة وشريرة، وقد أنزل بها العقاب وفقًا للشريعة الإسلامية، أي وُضعت في جوال ثم أُغرقت.

سرعان ما انتشر خبرٌ آخر مفاده أن عملًا من أعمال الظلم والانتقام قد مورس ضد يهودي حاول أن يَستعيد دَيْنَه من عربي.

كان المسيحيون في هذه البلاد يتمتَّعون بالحماية من مثل هذا التنكيل بفضل القناصل، الذين لولاهم لطُبِّقت هذه الأحكام، أما اليهود فلم يكن لديهم مَن يُدافع عنهم.

(٢) زفاف يهودي في تونس٣٤

يصفُ جان هنري ديونان، وهو واحدٌ من مؤسسي منظمة الصليب الأحمر الدولي، زفاف يهود تونسيِّين شاهَدَه في عام ١٨٥٨م. مثل هذا الوصف الدقيق يقترب في أسلوبه من أسلوب علماء الحشرات؛ فهو يتأمل طقوس الزفاف وكأنه يراها من خلال عدسة مُكبِّرة.

«قبل الاحتفال بعقد القران بخمسة عشر يومًا يرسل الخطيب إلى خطيبته حذاءً مُطرزًا وعطرًا وصابونًا وحناءً وغيرها من الهدايا، وبعد أسبوع من ذلك تذهب العروس مع صديقاتها وإحدى القريبات المُسنَّات إلى الحمَّام. تُرافق الموسيقى هذا الطقس الاحتفالي، وبعد الانتهاء من الحمَّام يبدأ طقس آخر. تقف العروس صامتة دون حراك؛ حيث يُلبسونها ويدهنون شعرها بكميات كبيرة من الدهون ليُعطيَه لمعانًا، ثم يُغطُّون الوجه بخليط من العجين، وبعد أن يجف يُنزع الخليط فيزيل الزغب من الخدود وحول الشفاه. يُزجِّجون الجفون ويُلوِّنون الرموش، ويطلون الأظافر بدهان ذي ألوان حمراء وبنية داكنة تَدخُل الحناء في تركيبته. يُلبسون العروس ملابس ثمينة. تنشغل الأسرة بهذا الأمر فقط على مدى ثمانية أيام. يمر أسبوع آخر يصل بعده العريس صباح يوم السبت بصُحبة أصدقائه إلى بيت العروس. في أثناء ذلك تقوم العروس بإعداد دجاجة وتخفيها في مكان خفي في منزلها وعلى العريس وأصدقائه أن يَعثُروا عليها. يقال إن من يجدها سوف يبتسم له الحظ ويتزوَّج حتمًا خلال العام.

يوما الأحد والإثنين يجري تجهيز ملابس العروس من أقمشةٍ ألوانها فاتحة، ويتمُّ إعداد أكبر قاعة في المنزل لتقام بها الاحتفالات التالية: يتم إعداد وليمة لأقارب وأصدقاء العروس، الذين أرسلت إليهم الدعوات، والعروس لا تُشارك بنفسها في إعداد احتفالات الزواج.

مساء الثلاثاء تجلس العروس على كرسي وقد تزيَّن رأسها بتَسريحة كبيرة عليها إكليل، أما صديقاتها اللاتي يَرتدين فاخر الثياب فيَرُحن يُقلِّدنها الأساور الفضية والذهبية ثم يُغطِّينها بملاءة، ومن جديد يعدن لطلاء أظافر يَدَيها وقدمَيها بالحناء.

يَصِل العريس بصحبة أقاربه وأصدقائه. ووفقًا للطقوس المتبعة تقوم امرأة عجوز من أقارب العروس بتعداد مناقب العروس ومواهبها ومدح جمالها وروعتها ويستمر هذا الأمر زمنًا طويلًا قد يَزيد على الساعة في بعض الأحيان: «انظروا إلى يدَيها، كم هي جميلة أناملها! تأمَّلوا جبهتها الرائعة، عينَيها الجميلتين. كم هو رائع أنفها! أما ثغرها فيا له من فاتن! لكن كل هذا لا يُقارَن بصوتها وحكمتها ومواهبها وعفَّتها.» مع كلمات المديح الأخيرة هذه يُنهِضن العروس عن كرسيها ويَكشفن عنها الملاءة. يُعانق العريس عروسه ويدسُّ في يدها عملة ذهبية، ثم يقوم أقارب العروسين أيضًا بوضع العملات الذهبية والفضِّية على جبهة العروس وعلى خدَّيها وأنفها وذقنها، وهنا تقوم واحدة من صديقات العروس بجمع «النقوط» التي تتساقط من رأسها في طستٍ كبير.

تجلس العروس نفسها في كرسيِّها دون أن تأتي بأيِّ حركة. يقترب العريس منها مرةً أخرى مع أقاربه وأصدقائه.

صباح الأربعاء تجري أهم الطقوس. يُقصُّ جزء من شعر العريس ويُغطَّس رأسه في مياه باردة وفقًا للتقاليد. وبعد الانتهاء من هذا الطقس يُمشِّط العريس شعره ويرتدي أفخر ثيابه، ثم يتَّجه هو وعائلته كلها وأصدقاؤه واثنان من الحاخامات إلى بيت حما العريس. يَجلس العريس والعروس معًا على شيء أشبه بالعرش ثم يُغطيان بملاءة كبيرة. يأخُذ أحد الحاخامَين يد أحد كبار السن من الأقارب ويضع فيها كوبًا من النبيذ، ثم يتلو تبعًا للتقاليد بعضًا من الكلمات المقدَّسة: «ليتقدَّس اسم الله القادر، الذي خلق فاكهة هذا النبيذ! ليتقدَّس اسم الله الذي خلق الإنسان منذ بدايته الأولى، والذي أعطاه صديقةً بعد أن رآه طيبًا، ومنَّ علينا أن نقبل المرأة»!»

يتذوَّق الحاخام النبيذ ثم يُناول العريس الكوب فيتذوَّق هذا بدوره منه ثم يُناوله للعروس وبعدها يقذفون بالكأس في مرآة فيتحطَّم، وفي هذه اللحظة يقرءون صيغة مقدسة تقول: «لترفضني يدي اليمنى إذا نسيتك يا أورشليم.»

يضع العريس خاتمًا ذهبيًّا في إصبع عروسه ثم يأخذ يدها اليمنى قائلًا: «أنت الآن زوجتي على شريعة موسى وإسرائيل.»

وعلى أنغام الموسيقى يجلس أقارب وأصدقاء العروسين إلى مائدة مفروشة دون أن يجلس معهم العريس، الذي يعود وحيدًا إلى المنزل. إلباس الخاتم هو المرحلة الأخيرة من مراحل طقوس الزواج، وهي التي تُحدِّد نهائيًّا مصير الإنسان، وقد يحدث أن تُخطب العروس ضد إرادتها، أو أن تكون مُغرمة بشخص آخر يبادلها هذا الشعور، وأنهما يَستطيعان أن يقسما على الولاء لبعضهما البعض. عند تلك اللحظة تحديدًا، والتي يتم فيها تحطيم الكوب في المرآة يوم الأربعاء، يأتي خصم العريس، الذي يجيء إلى منزل العروس بصُحبة أصدقائه، وقد أعد مقدمًا خاتمًا ذهبيًّا، فيسارع بإلباسه في إصبع العروس مُتخطيًا العريس. منذ هذه اللحظة يُعتبر العاشقان زوجًا وزوجة بلا رجعة. أما العريس سيئ الحظ، الذي أنفق أموالًا طائلة على هذا الاحتفال، فيعود إلى بيته خاوي الوفاض، وهو لا يجرؤ على التعبير عن استيائه خوفًا من أن يُصبح عرضة للسخرية.

في حالة إذا ما سارت الأمور على نحو طبيعي ولم تَقبل العروس مثل هذا العريس وأقاربه، يُجلسونها على كرسي ويُغادر العريس الحفل ليعود في التاسعة أو العاشرة مساءً بصُحبة مُغنِّين دينيِّين يحملون المشاعل، ويأخُذ القريب العجوز للعريس العروس من يدها، حيث تكون جالسة دون حركة وسط القريبين منها؛ يُنهضونها عن كرسيها.

يقوم الضيوف بتحية العروسين بالصياح، ويأخذ الأقارب العروسين من يدَيهما إلى بيت الزوج. تسعى العروس لتعبر بكل طريقة عن ألمها لفراق بيتها وأسرتها، فتَسير ثلاث خطوات إلى الأمام وخطوتين إلى الخلف. وعلى هذا النحو يستلزم الأمر ساعةً وأحيانًا ساعتين لمجرَّد عبور شارع واحد. يغني الحضور ثناءً للعروس إذا ما أمضت ثلاثًا أو أربع ساعات في الطريق، وينظر إلى ذلك باعتباره نموذجًا للحكمة.

في أثناء هذه الجولة الطويلة للغاية يحمل أصدقاء العريس المشاعل مُتراجعين للخلف لكي يقفوا في مواجهة العروس. بعد ذلك يقوم الموسيقيون بالعزف والغناء، بينما يروح الأقارب والأصدقاء يتسامرون ويشربون المرطبات، أما النظارة، الذين يَنتشرون دائمًا وفي كل مكان بكثرة، فتتعالى ضحكاتهم ويَبحثون في أمر هذه المسرحية الغريبة عليهم والتي تجري أحداثها في الشارع.

وأخيرًا يقترب الموكب من بيت العريس، حيث يقام حفل العرس. تتخطى العروس عتبة البيت وهناك يكون العريس باستقبالها، وأخيرًا ها هي تخرج من حالة الإنهاك وعدم الحركة لتقترب بنفسها من العريس.

الخميس صباحًا، يتوجَّه العريس وحده إلى السيناجوج، وفي تونس لا يُسمح للنساء بالذهاب إلى هناك.

بعد أسبوع يبدأ العروسان الشابان في استقبال الضيوف. تخلع العروس ملابس الزفاف وترتدي الملابس العادية وفوقها مريلة لكي تؤكِّد للجميع إلى أي حد هي ربة منزل ممتازة. يُقدم لها الضيوف سمكة نيئة وقد وضعوا في فمها مسمارًا أو قطعة صغيرة من الحديد، ثم يُعطون المرأة سكينًا حادة، أما الزوج فيعطونه سكينًا رديئة، وعليها أن تقطع ذيل السمكة، أما هو فعليه أن يقطع رأسها. تقوم المرأة بسهولة بعملها وهي تسخر من زوجها ثم تُغادر المكان مع صديقاتها. تعوق قطعة الحديد الموضوعة في رأس السمكة والسكين المثلومة عمل الزوج فيَستغرِق إنجاز المهمة وقتًا طويلًا.

منذ هذا اليوم تبدأ المرأة في ستر شعرها. أحيانًا ما يحدث أن تُخطَب الأخت الصغرى قبل الكبرى، وفي هذه الحالة يحاول والدا الأختين بطريقة لا تخلو من الاحتيال استبدال الأخت الكبرى بالأخت الصغرى؛ فهما يَريان أنه لا يجوز أن تتخطى الصغرى أختها الكبرى في الزواج. على هذا النحو يمكن أن نتذكر حكاية راشيل وليسا التي وردت في الإنجيل.

يتمثَّل الجمال النسائي لدى السكان الأصليِّين، وخاصة لدى اليهوديات، في بدانتهنَّ المُفرطة؛ فهناك ما يُشبه العرف، الذي يشترط أن تصل بدانة الخطيبة في فترة الخطوبة بشكلٍ خاص، خلال الأربعين يومًا السابقة على الزفاف، إلى المستوى المتعارف عليه. هنا يَحتجزون الفتاة في غرفة معتمة باردة، ويُقدم لها مقدار وفير من الطعام ويُرغمونها على النوم أطول فترة ممكنة. توقظها الأم في منتصف الليل لتُطعمَها شيئًا شبيهًا بالكسكسي، كما يقدمون لها أيضًا كرات كبيرة مصنوعة من الحبوب الزيتية، وهو شيء يُذكرنا بطريقة تغذية الطيور في أوروبا.

إذا ما ظلَّت الخطيبة حتى نهاية الأربعين يومًا المحددة على نحافتها، يستمرُّ الوالدان في اتباع نفس النظام الغذائي لمدة خمسة عشر يومًا أخرى، وإلا تعرَّض الزفاف للفشل. البدانة التي تم تحقيقها بهذه الطريقة تستمرُّ طوال العمر.

تُمثل الأساور الذهبية والفضية السميكة في اليدين والقدمين الحُلي النسائية الأساسية، وكذلك خاتم الزواج. وإذا ما تزوَّجت الفتاة من أرمل أو مطلق تئول إليها الحليِّ التي كانت تَمتلكها الزوجة الأولى، وعادةً ما تُلائم هذه الحلي مقاس الخطيبة البدينة.

على أنَّ عملية التغذية المؤثِّرة للخطيبة لا تكلل دائمًا بالنجاح، وإذ إن هناك نساء يتميَّزن بالنحافة بطبيعتهنَّ ولا يملن إلى السمنة مهما قُدم إليهن من طعام، تبدو هذه الخاصية الطبيعية في عيون المحيطين عيبًا كبيرًا يُمكن أن يُثير الشك في صحة الخطيبة.

(٣) التعليم اليهودي في تونس في عام ١٨٧٨م٣٥

عشية افتتاح أول مدرسة للاتحاد اليهودي العام في تونس، أرسل دافيد كازيس، الذي أصبح أول مُدير لهذه المدرسة، إلى لجنة الاتحاد في باريس تقريرًا وصف فيه ظروف التعليم في مدارس التلمود-التوراة في تونس على يد اليهود المُنحدِرين من ليفورنو.

(٣-١) المدرسة المحلية للتلمود والتوراة

قُدِّمت لي صورة كئيبة لهذه المؤسَّسة ولم أكن أتوقَّع أن أرى شيئًا جيدًا، لكن خيالي لم يكن ليَصِل إلى تصوُّر مكان على هذا النحو من البشاعة. لا أفهم ما الذي يُجبر أولياء الأمور على الموافَقة على إفساد صحة أطفالهم، لماذا يوافقون على المخاطرة بهم بالإصابة بتلك الأمراض، التي تظهر نتيجة وجودهم يوميًّا لمدة تسع ساعات في مثل هذا المكان الرطب المعتم؟ هل يُمكن أن تكون هذه التضحية المقبضة للنفس بسبب حبِّ التعليم؟ عندئذ يجب أن نلاحظ أنها تضحية لا مُبرِّر لها. هل يدرك أولياء الأمور كل تلك المخاطر التي يتعرَّض لها أبناؤهم؟ أقترح أن تكون مهمتنا الأولى هي انتشال هؤلاء المساكين من بؤرة الأمراض هذه.

اسمحوا لي أيها السادة أن أصفَ لكم بدقة هذه المؤسسة، أي المبنى، الوضع الصحي، نوعية التربية والتعليم.

المبنى

بعد أن تجتازوا متاهة من الطرق القَذِرة الضيقة (التي لا يزيد عرضها على نصف متر) تجدون أنفسكم فيما يُشبه الممر، الذي يَستحِق أن يُطلَق عليه اسم «البِركة». هنا لا يمكن السير، وإنَّما عليكم أن تخوضوا في الوحل. إلى اليمين فضاء صغير، مرصوف ببلاد أسود. إنه المرحاض، وقد بُني دون احترام للمارة، فلا يَفصله شيء عن الأرض. هنا يَقضي بعض الأطفال حاجتهم الطبيعية كما كان يحدث في أكثر العصور بدائية.

يُمكن الوصول إلى غُرَف صغيرة ذات أسقف مُنخفِضة عبر فناء صغير. هنا يَجلس الأطفال ومُعلمهم وقد رَبَّع بعضهم أرجلهم على الأرض مباشرة، ومنهم من يجلس على أرائك مخلخلة، وهي غرف ليس بها نوافذ. أما الضوء والهواء فيَدخُلان إلى هنا من خلال الباب فقط، وهو ليس حتى بباب، وإنما هو فتحة في الحائط.

يُمكن الوصول إلى الفناء الثاني عبر الفناء الأول، وهو أقل رطوبة وقذارة، وهناك تجد مبنًى صغيرًا يحتوي على غرفة وحيدة، تستخدم كمَدرسة لتعليم التلمود والتوراة، أما الجزء الآخر منه فتَسكنُه عائلات لا علاقة لها على الإطلاق بالمدرسة. الشيء الوحيد الذي يَربط بين المدرسة والمسكن هو مدخل مشترك. وحتى أنتهي من وصف هذا المبنى، يجب أن نأتي على ذكر غرفة صغيرة لها سقف مُرتفِع ونافذة، أو نافذتان، ويُمكن الوصول إليها عبر سلم ضيق.

يوجد في الفناء الخارجي بئر مكشوفة، يحصلون منها على الماء بواسطة دلو وحبل. وهناك دلو أخرى موضوعة على بسطة مرصوفة، يَغرف الأطفال الماء بأيديهم منها، فيغسلون به أقدامهم. ومِن البديهي أنهم يغرفونه أيضًا ليشربوه؛ إذ إنني لم أرَ هنا أكوابًا أو كيزان.

وفي وسط الفناء تقوم النساء في هدوء بغسل ملاءاتهن، ويقذفن على الأرض بالماء القَذر المخلوط بالصابون. وفي هذه البِركة القَذرة يخوض الأطفال.

الصحة العامة

في هذا المكان السيِّئ المُنَفِّر، فإن صحة التلاميذ لا تسوء بطبيعة الحال فحسب. هنا يصل عدد المرضى من ٥٠ إلى ٦٠ تلميذًا من بين ٥٠٠ تلميذ يتردَّدون يوميًّا على هذه المؤسسة. هذا هو التقدير التقريبي الذي رآه المعلمون أنفسهم، والذين لا يَملكون قائمة أسماء بالتلاميذ ولا يقومون بتفقُّد أحوالهم يوميًّا.

يتَّسم غالبية هؤلاء الأطفال الفقراء بالضعف والهزال والمرض. يَبدُون مثل أشباح لولا عيونهم، التي تَشي بمثقف رائع، يستحقُّ مصيرًا أفضل. يرتدون أثمالًا ويمشون شُعْثًا غُبْرًا؛ الكثير منهم لا يمتلك غطاءً للرأس، فيُغطون رءوسهم بجزء من ملابسهم. كلهم حفاة تقريبًا، أما من لديه حذاء منهم فيخلعه عندما يجلس تاركًا إياه عند مدخل الغرفة.

لا يُمكنك أن تميِّز بين صبي وآخر، إلا فيما ندر، من ناحية الملابس أو الأحذية، التي يتلقَّونها هدية من حين لآخر من بعض أصحاب القلوب الرحيمة. عرضوا عليَّ بضعة أزواج من أحذية الأطفال، وهي أفضل ما رأينا في هذه المدرسة، كما لاحظ ذلك عضو لجنة الاتحاد الذي كان برفقتي.

يُقدم للصغار يوميًّا عند الظهر الخبز الجاف، وفي كل بيت يأكُلون قطعة من هذا الخبز يوم السبت، وهم يَحتفظون به في دولاب مُغلَق جافٍّ لا يصل إليه الهواء.

الخبز، الذي ما يزال من المُمكن تناوله يوم الأحد، يأخذ في التعفُّن يوم الإثنين، ويُستحسَن ألا يعطوه للأطفال يوم الثلاثاء، حتى ولو تبقَّى منه شيءٌ.

عندما تدخل إلى المدرسة تصدمك على الفور رائحة كريهة مُثيرة للغثيان بمقدورها أن تفتك بأي صحة. لا توجد أية تهوية، كما لا يؤخذ في الاعتبار أي ترويح. هنا يَسعون لبقاء كل شيء على ما هو عليه.

ذكرنا سابقًا أن الأطفال يجلسون إما على الأرائك، أو على الأرض؛ حيث تُفرش حُصرٌ قديمة. بعض الأطفال يدفئون أيديهم على مَدافئ صغيرة يحضرونها معهم من بيوتهم في أوانٍ خاصة. وعلى نفس المدافئ ينال المعلم قسطًا من الدفء.

جميع الأطفال تقريبًا آذانهم مكشوفة، يَرتدون ملابس رثة. لم أشاهد صبيًّا واحدًا مُصفَّفَ الشعر.

التربية

الذين يتردَّدون على مدرسة التلمود والتوراة هم في الأساس من الأطفال الصغار جدًّا. لقد شاهدت طفلًا لا يتعدى من العمر على الأرجح الثلاث سنوات، أما الأطفال الأكبر سنًّا فيبلغون من العمر اثني عشر عامًا. يحضر الأطفال إلى المدرسة في الثامنة صباحًا، ويعودون إلى بيوتهم في الخامسة. ليس هناك أحد يقوم بمراجعة حضورهم أو غيابهم عن المدرسة. يحفل الفصل بالضجيج الشديد. يجلس الأطفال أو يظلُّون واقفين، كما يتراءى لهم، كما يمكنهم الخروج أو العودة إلى المكان دون مضايقة وأمام أعين المعلمين. الفوضى تعمُّ الفصل. توزيع الخبز يتم بنفس الإهمال: يحصل الواحد منهم، إذا ما ألحَّ، على جزء زائد من الخبز، بينما يحصل الآخرون على مقدار أقل.

الأداة الوحيدة للعقاب هي العصا، بواسطتها فقط يتم فرض النظام. يُضرب الصغار على أيديهم، أما الكبار فعلى أرجلهم أما المعلم المحتدم غيظًا فقد يضرب طفلًا دونما سبب. لا يُطبَّق هنا أي منهج من مناهج التربية.

التعليم

يَنحصِر في دراسة التوراة. وقد حضرت درسًا من دروسها. يبدأ الأطفال بدراسة الحروف. يتعلم التلاميذ الحروف ثم يَقرءون النص، الذي يفهمونه قليلًا. يتلون الصلوات بشكل جماعي، ثم، وبنفس النبرة، يتلونه بالعربية. بعض الأطفال ينجحون أكثر من غيرهم في الأداء، أما الباقون فيحاولون أن يعيدوا وراءهم ولكن بأداء سيئ. فيما بعد ينتقل الأطفال إلى دراسة التلمود. يقرأ المعلم مقطعًا من النص، فيكرره التلاميذ وراءه عدة مرات. بهذه الطريقة يتم تجاهل قدرات التلاميذ تمامًا، وبدلًا من تنمية القُدرة الفردية لديهم يَصنعون منهم ببغاوات. في سياق هذه العملية لا يتعلَّم التلاميذ الكتابة بالعبرية أو العربية.

يَبلُغ عدد المعلِّمين في المدرسة الآن ثلاثة عشر معلمًا، وقد أخبروني أن عددهم كان أربعة عشر؛ واحد منهم وافته المنية، وقد فشَلوا في العثور على بديل له. تُرى ما المصير الذي ينتظر هؤلاء الأطفال؟ أحد لن يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال.

(٣-٢) مدرسة التلمود والتوراة التي أسَّسها اليهود المنحدرون من ليفورنو

في هذه المدرسة يتلقى مائة وسبعون تلميذًا تعليمهم، من بينهم مائة وعشرون يتلقَّون تعليمهم مجانًا، وخمسون يدفعون أجرًا. ويقوم بالتدريس أربعة مُعلِّمين. المبنى يترك انطباعًا أفضل مما رأيته من قبل. مستوى التعليم المدرسي ملحوظ حتى على وجوه الأطفال، على الرغم من وجود أوجه نقص في عمليتَي التربية والتعليم تعاني منها أيضًا مدارس أخرى في تونس؛ وذلك لأسباب عديدة. نفس الجلبة والفوضى إبان الدروس، نفس غياب الرقابة على الحضور، نفس الأسلوب القديم في التعليم. ويحتوي المنهج على دراسة الكتابة العبرية والعربية ومبادئ علم الحساب.

يتسلَّم التلاميذ في هذه المدرسة زوجين من الأحذية وملابس مرتين في العام، والأخيرة تتكون من رداء يشبه الجلباب، سراويل قصيرة ورداء للمطر، كما يتسلَّم التلاميذ — ليس كل التلاميذ — سواء الصغار منهم أو الكبار، قطعة خبز يوميًّا. يتردَّد على هذه المدرسة ستة تلاميذ من أكثر العائلات فقرًا. هؤلاء لا يتسلَّمون قطعة الخبز اليومي، ما دام أحد لا يدفع لهم. ولعلَّ الذنب في هذه الحالة يقع على الإدارة، لكن من الواضح أيضًا أن أولياء أمور هؤلاء الأطفال الفقراء يفضلون تعليمًا أكثر جودة ولو على حساب صحتهم.

هذا هو الوضع بالنسبة لمدارس التلمود والتوراة في تونس. ينبغي مساعدة هذه المدارس على وجه السرعة. المصيبة فادحة. وحتى يتسنَّى إصلاحها فمن الضروري عليكم أن تبذلوا جهودكم. أنتم فقط الذين باستطاعتهم أن يهبَ الحياة والصحة والازدهار لآلاف الأطفال هنا.

(٣-٣) جي دي موباسان «حياة رحَّال»٣٦ (باريس، ١٩٠٩م)٣٧

في السنوات الأخيرة من حياة جي دي موباسان ازدادت ثروته فقام برحلة على يخته الخاص طاف به العديد من مدن البحر المتوسِّط. وقد وصَف انطباعاته في دراسات حملت عنوان «حياة رحَّال» أولى فيها اهتمامًا كبيرًا لحياة اليهود في تونس:

«هبَطنا من التلِّ ودخلنا إلى المدينة، وهي تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: فرنسي وعربي ويهودي. هنا واحد من الأماكن النادرة في العالم، التي يشعر فيها اليهود أنهم في وطنهم تقريبًا؛ حيث يكونون كما لو كانوا أصحاب البيت، حيث يشعرون بالأمان تقريبًا، على الرغم من أنهم يظلُّون يشعرون بالتوجُّس تجاه شيء ما.

من الشيق أن تراقب السكان اليهود في هذه المتاهة المكونة من عدد من الشوارع المتعرِّجة الضيقة. زحام من الناس يَرتدون ملابس حريرية بمختلف الألوان موشاة بالزخارف العديدة الرائعة لن تجد لها مثيلًا على امتداد الساحل الشرقي كله.

هذه الممرات الضيقة للشوارع مكتظة بأكملها تقريبًا بمخلوقات بدينة تحتط أكتافها وبطونها في كل خطوة بحوائط الأزقة على الجانبَين، بينما تكلل رءوسهن أغطية رأس ذات حواف مدببة، عادة ما تكون موشاة بزخارف فضية أو ذهبية، وهي نوع من القلانس الحفيفة مثل تلك التي يَرتديها السحرة يتدلَّى منها شريط ينسدل على الظهر وفوق أجسامهنَّ الضخمة الرجراجة المُكتنزة يرفرف قميص فضفاض ذو ألوان داكنة، الأفخاذ ملفوفة بسراويل بيضاء مُلتصقة بالجسم والسيقان ممتلئة بالشحم ومغطاة بالجوارب، يَمشين الهوينى، يحظين بتثاقل في أخفاف لينة يلزم سحبها؛ إذ إنها تكاد تُغطي نصف القدم، بينما الأكعاب تخفق على الرصيف. هذه المخلوقات المُنتفِخة هن اليهوديات الرائعات!

مع اقتراب سن الزواج فإن الراغبات في إقامة حياة أفضل، يَسعين للإسراع في زيادة وزنهن؛ فكلما ازدادت المرأة بدانة، ازدادت فرصتها في أن يتم اختيارها.

اليهوديات في سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة هن فتيات رشيقات، لعوبات، رائعات الجمال، ممشوقات القوام، ذوات وجوه ناعمة شاحبة. قسمات وجوههن المكشوفة هي وجوه مميزة لجنس غابر أضناه التعب، لم يتجدَّد مطلقًا. لهن شعر أسود، كثيف، ثقيل، أشعث أحيانًا، يحيط عيونًا سوداء تعلوها جبهة فاتحة، أما حركتهن اللينة، عندما يركضن من باب إلى باب في الحي الذي يَسْكُنَّ فيه، فتبعث أمامك بشبح سالومي الصغيرة المثيرة.

ولكنَّهن عندما يبدأن في التفكير في الزواج، يروح أهلهنَّ في إطعامهن على نحو لا يصدق، لتتحول هذه الكائنات الرشيقة إلى وحوش بطيئة الحركة. الآن يتناولن كل صباح مشروبات نباتية فاتحة للشهية ويلتهمن ولأيام بأكملها أطعمة تحتوي على كثير من النشويات، وهو ما يزيدهنَّ بدانة بالتأكيد. يمتلئ الصدر وتكبر البطن وتستدير وتسمن الأفخاذ وتتضخم المؤخرة، ويصبح المعصم والرسغ غائرين، وهنا يظهر هواة هذا النوع من الجمال، وهم الذين يحكمون على أهلية أولئك النسوة ويُقدِّرونهن ويُقارنون بينهن من وجهة نظر الخصائص التي للحيوانات السمينة. يمكن أن نرى كيف تتحرك هذه الكائنات الضخمة وقد ارتدت كوفية مخروطة على الرأس ومنديلًا ينسدل على الظهر في سراويل من حرير فاخر يَلتصق بالجسم وشباشب (سابا) يلزم جرُّها على الأرض. هذه الكائنات العجيبة تحتفظ في أغلب الأحيان بوجوه جميلة على أجسام تشبه أفراس النهر.

تقوم الصديقات بزيارتهن يوم السبت بوجوه مكشوفة في بيوتهن المفتوحة. يجلسن مثل أصنام في غرف مطلية باللون الأبيض وقد تغطَّين بالحرير والزخرف اللامع من الذهب والفضة. آلهة من اللحم والمعادن، وجوارب مذهبة في الأقدام، وقرن مذهب على الرأس.

مصير تونس الآن في يدها، في أيدي رجالها إن شئنا الدقة، المبتسمين، الودودين، الذين لديهم الاستعداد لأن يقدموا خدماتهم، أما النساء فسوف يتحولن، دون أدنى شك، إلى نساء أوروبيات، يرتدين وفق الموضة الفرنسية ويتبعن الحمية الغذائية لكي يتمتعن بالنحافة. سوف يكون ذلك أفضل لهم ولنا، نحن الذين نشاهد صورة المستقبل السعيد.»

١  يدور الحديث هنا عن البلدَين اللذَين دخَلا في قوام الدولة العثمانية في القرن السادس عشر؛ الجزائر وتونس.
٢  سترابون (٦٣/٦٤ قبل الميلاد–٢٣/٢٤ ميلادية): جغرافي ومؤرخ يوناني. قام بالعديد من الرحلات. مُؤلِّف كتاب «الجغرافيا» (في سبعة عشر مجلدًا). يُعدُّ حصيلة المعارف الجغرافية للعالِم اليوناني القديم وكتاب «المذكرات التاريخية» (لم يصل إلينا). (المترجم)
٣  تيتوس (Titus) (٣٩–٨١م): إمبراطور روماني منذ عام ٧٩م إبان حكم فلافييف بن فيسباسيان. دمر أورشليم واستولى عليها عام ٧٠م في الحرب اليهودية. (المترجم)
٤  قورينيا: موقع تاريخي في ليبيا (كيرينا في القرن السابع قبل الميلاد) من القرن السادس قبل الميلاد وحتى السابع الميلادي (على التوالي)، جزء من بلاد الشرق القديم؛ روما وبيزنطة. في القرن السابع الميلادي تحت الحكم العربي. منذ القرن السادس عشر الميلادي وحتى عام ١٩١١م تحت سلطة الإمبراطورية العثمانية. منذ مُنتصَف القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين القاعدة الأساسية لحركة السنوسيِّين. منذ عام ١٩١٢م وحتى عام ١٩٤٣م تحت الاحتلال الإيطالي. احتلَّها الإنجليز في نهاية الحرب العالمَية الثانية وظلت قاعدة عسكرية إنجليزية حتى عام ١٩٦٩م. تُسمَّى الآن برقة. (المترجم)
٥  ترايان (Trajanus) (٥٣–١١٧م)، إمبراطور روماني منذ عام ٩٨م. (المترجم)
٦  Ansky M. Les juifs d’Algérie du décret Crémieux a la liberation. P., 1950. p. 16.
٧  الوندال Vandal: قبيلة جرمانية اجتاحت فرنسا وإسبانيا وشمال أفريقيا في القرن الخامس الميلادي. (المترجم)
٨  جوليان ش.-أ.، تاريخ شمال أفريقيا: تونس، الجزائر، المغرب … من الفتح العربي حتى عام ١٨٣٠م، ترجمة عن الفرنسية، أ. ي. أنيتشيكوفا، موسكو، ١٩٦١م، ص٢٦–٢٨.
٩  Chouraqui A. La saga des juifs en Afrique du Mord. P., 1972. pp. 79-80.
١٠  Djait H. and others Histoire de la Tunisie de mouen age. Tunisie, s.d. p. 382.
١١  Maverdi. Les Statuts gouvernementaux, traduit et annoté par E. Fagnan. Alger, 1915. pp. 53-54.
١٢  الدوقية أو الدوكاتية (من الكلمة الإيطالية ducato): عملة فضية قديمة ثمَّ ذهبية (من ثلاثة إلى أربعة جرامات) ظهرت في فينيسيا (١١٤٠م) ثم سُمِّيَتْ في معظم دول غرب أوروبا بعد ذلك باسم التسيخين أو الفلورين. (المترجم)
١٣  جريتس ج.، تاريخ اليهود، المجلد ١٠، ص١٢-١٣.
١٤  بايلرباي: كلمة تركية تعني «باي البايات» وهو لقب ومركز إقطاعي. كان البايلرباي إبان الإمبراطورية العثمانية يحكم إقليمًا. (المترجم)
١٥  الموريسكيون: المسلمون الذين طردوا من إسبانيا. (المترجم)
١٦  الداي: كلمة تركية تُطلق على حاكم الجزائر الذي يختاره مجلس ضباط الإنكشارية مدى الحياة. (المترجم)
١٧  Ansky M. Les juifs d’Algérie … p. 23.
١٨  جمع رَيِّس، وهو قبطان السفينة. (المترجم)
١٩  Desjobert A. La question d’Alger. Politique, colonization, commerce. P., 1837. pp. 22-23.
٢٠  جوليان ش. أ.، تاريخ شمال أفريقيا، ص٣٣٥.
٢١  Attal R. A Sitbon C. Régards sur les juifs de Tunisie. Textes choisis, préfaces et presents par Robert Attal et Claude Sitbon. P., 1979. pp. 12.
٢٢  Idem, p. 14.
٢٣  تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، موسكو، ١٩٩٢م، ص١٥.
٢٤  مجلس من خمسة أعضاء في فرنسا خلال الفترة من عام ١٧٩٥م وحتى عام ١٧٩٩م مسئول عن السُّلطة التنفيذية. (المترجم)
٢٥  الاستشهاد من: Ansky M. Les juifs d’Algerie … pp. 23-24.
٢٦  Attal R. A Sitbon C. Régards sur les juifs de Tunisie. p. 15.
٢٧  Idem, pp. 16-17.
٢٨  Idem, pp. 17-18.
٢٩  الترجمة عن الفرنسية إلى الروسية لإيرما فادييفا.
٣٠  أرارات: جبل في تركيا بالقرب من الحدود الأرمينية. يقال إنه الجبل الذي رسَت عليه سفينة نوح. (المترجم)
٣١  Mordechay Manuel Noah. Travels in England … and the Barbary States … N.Y., 1819.
٣٢  Frank L. Les juifs de Tunis en 1816, P., 1862.
٣٣  ملحق صحيفة: “Journal de J. Greaves”: Researches in Syria and the Holy Land. L. 1826.
٣٤  Dunant J.-H. Notice sur la Régence de Tunis. Génève. 1858.
٣٥  Cazès D. Bulletin mensuel de l’Alliance israélite universelle. Février, 1878.
٣٦  زار موباسان تونس فور إعلانها تحت الحماية الفرنسية.
٣٧  Maupassant Guy de. La Vie errante P., 1909.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤