الطوائف اليهودية في شمال أفريقيا
كان وجود اليهود في ضواحي طرابلس أمرًا معروفًا منذ هيمنَت روما على هذه المناطق؛ ففي القرن الخامس الميلادي عاش اليهود في واحدة من مناطق طرابلس، أما في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، عندما كانت طرابلس خاضعة للحكم العربي، فقد استمرَّ السكان اليهود في حفاظهم على عاداتهم الخاصة، فكانت المؤسَّسات اليهودية تمارس نشاطها بين أبناء الطائفة، وكان من بين هذه المؤسسات بيت-دين. وفي عام ١٥١٠ ميلادية تعرضت المدينة لهجوم القوات الإسبانية، واضطرت ٨٠٠ عائلة يهودية إلى الفرار إلى مدينة تاجيرا القريبة، وكذلك إلى المناطق الجبلية في البلاد.
فيما بعد استولى فرسان مالطة على المدينة، وقد علَّلوا اضطهادهم لليهود بالجمود العقائدي واعتبروه جرأة.
أصبح إقليم طرابلس منذ القرن السادس عشر رأس جسر في صراع الأتراك ضد إسبانيا من أجل السيطرة على الطرق البحرية التجارية في غرب البحر المتوسط والتحكم في القوافل التجارية العابرة للصحراء الكبرى.
كانت الأحجار الكريمة والتوابل تَرِد إلى أوروبا قادمة من أفريقيا الوسطى إلى نقاط الْتقاء الطرق البحرية وطرق القوافل القادمة من الشرق والمتَّجهة إلى أوروبا.
في عام ١٥١٠ ميلادية استولى الإسبان على مدينة طرابلس، مثلما تم الاستيلاء على عدد من مدن شمال أفريقيا الأخرى. كان بدرو نافارا، الذي أرسله الملك فرديناند الثاني هو قائد الأسطول. جزء كبير من الطائفة اليهودية، وقد كانت طائفة كبيرة العدد في طرابلس، وقع في أسر الإسبان، ليتحوَّلوا تحت تأثير محاكم التفتيش إلى عصابات من اللصوص.
وفي عام ١٥٢٠ ميلادية استطاعت الإمبراطورية العثمانية أن تتحصَّن على الساحل الجزائري للبحر المتوسط. وقد برَّر السلاطين غزواتهم الجديدة بضرورة الدفاع عن المسلمين ضد العبيد غير المسلمين وضد الحملات الصليبية، وقاموا بتحويل الجزائر إلى قلعة لينطلقوا منها لاحقًا إلى شمال أفريقيا.
وفي عام ١٥٥١ ميلادية استولى الأتراك على إقليم طرابلس. قبل ذلك كان الإسبان يُديرون المدينة، ومن بعدهم بفترة قصيرة جاء فرسان مالطة، ثم أُعلنت المدينة وضواحيها أيَّالة طرابلس التابعة للإمبراطورية العثمانية. وقد أسهمَت الصراعات المستمرَّة بين الدول الأوروبية في النجاحات التي حقَّقها الأتراك. كانت إسبانيا مشغولة بالحرب مع فرنسا، إلا أنها لم تَقبل بخسارة المدن الواقعة على ساحل شمال أفريقيا، وخاصة بخسارتها لطرابلس، وكذلك أسهم نهب السكان المحليِّين على يد فرسان مالطة في النجاحات التي أحرزها الأتراك. وقد جهز الأتراك أسطولًا أنزل هزيمة ثقيلة بالسفن الأوروبية؛ وذلك دفاعًا عن طرابلس. وقد أدَّت محاولة السلطان للاستيلاء على مالطة إلى إلحاق خسائر فادحة بكلا الجانبَين، ومع ذلك فقد استمر الهجوم على المالطيين حتى عام ١٧٨٩ ميلادية.
على مدى سنوات الهيمنة الإسبانية والهجوم المتكرر لفرسان مالطة فقدت طرابلس هيمنتها في عمليات الوساطة التجارية. وقد بدأ السكان في العودة إلى هذه المدينة إبان حكم الولاة العثمانيِّين. هنا بدأت نهضة العمل الزراعي، دُقَّت الآبار وأُنشئت مشروعات الري، جرى إحياء الإنتاج الحرفي وانتعشَت التجارة بما فيها نقل العبيد والدعم الحكومي للقرصنة.
وكما ذكرنا من قبل فقد شكَّل اليهود جزءًا من سكان إقليم طرابلس. كانوا يتحدَّثون العامية العربية، الشبيهة بلغة المهاجرين القادمين من المناطق الداخلية للمغرب. كان اليهود يسكنون عادة في الجزء الشرقي من المدينة بالقرب من المراكز التجارية والمقار الحكومية. أصبحت عودة الحياة اليهودية في القرن السادس عشر الميلادي، بعد استيلاء العثمانيين على المدينة من أيدي فرسان مالطة، أمرًا ممكنًا إلى حدٍّ كبير بفضل جهود الحاخام شيمون ليفي، الذي تمَّ طرده من إسبانيا. عاش ليفي لفترة من الزمن في مدينة فاس المغربية، ثم أراد بعد ذلك أن يستقرَّ في فلسطين، لكنه استقر في طرابلس.
في مُنتصف القرن السادس عشر بدأ يهود بعض الطوائف الصغيرة في إقليم طرابلس العيش في المدينة، وقد تبعَهم أحفاد السفارديم، المطرودين سابقًا من مدينة ليفورنو.
ارتبطت قوة الحكومة وصمودها في تصور الناس، سواء في إقليم طرابلس أو في شمال أفريقيا عمومًا، بقُدرة هذه الحكومة على الدفاع عن أكثر فئات السكان مُعاناة، هؤلاء الذين كانوا مُطالبين في المقابل بالطاعة وعدم الاعتراض.
كان اليهود جميعهم، الذين يعيشون خارج مدينة طرابلس، مرتبطين غالبًا بزعماء القبائل المحلية أو بأي شخصية أخرى تتميز بالقوة، أكثر من ارتباطهم بحاكم المدينة. نفس الوضع كان موجودًا في المناطق الجبلية عند جبل جارديان وجبل نفوسة الواقعين جنوب مدينة طرابلس. وقد جاء وصفه في المَرجع اليهودي الأساسي الذي وضعه موردخاي خا-كوهين عن حياة الطائفة اليهودية في طرابلس.
من أهمِّ الأفكار الإسلامية، شروط وجود الذمي في بلد إسلامي؛ أي المعاهدة، التي يسمح للأقلية الدينية غير المسلمة بموجبها بالعيش تحت الحكم الإسلامي، ولكنَّهم في مقابل الدفاع عن حياتهم وأملاكهم يعاملون معاملة أدنى ويتعرَّضون لعدد من القيود في الحقوق.
كان الزعيم في مجتمَعات القبائل البربرية يَستعرِض قدرته في الاستحواذ على أكثر الناس ضعفًا ومذلةً تحت قيادته. يقول خا-كوهين: «البربر، أصحاب الأراضي لم يكشفوا عن كراهية كبيرة تجاه اليهود التابعين، الذين طُلب منهم أن يظهروا إمارات الخضوع أيًّا كان وضعهم: حرفيِّين كانوا أم تجارًا.» وحتى قبيل غزو إقليم طرابلس على يد الأتراك، وقبل أن يوجد على كل هذه الأرض ولاة عثمانيون أو قضاة، كان اليهود يعيشون في خضوع تام؛ إذ كان كل واحد منهم يخدم زعيمًا، وهذا الزعيم يقوم بالدفاع عن مصالحه عند نشوب أيِّ نزاع. وإذا ما تعرَّض اليهودي للإهانة وصَمَتَ سيدُه عن ذلك، فإن ذلك كان يعد من علامات فقدان حظوة الخادم لدى سيده. وقد وقعت أحداث قامت فيها القبيلة بأكملها بأعمال عنف دفاعًا عن مصالح «يهودييها».
يورد خا-كوهين معلومات عن «تحرير» يهوديي الجبال إبان حكم الأتراك، الذين كانوا يُطالبون بإصرار بالتغيير الكامل للوضع القائم. غير أنَّ العلاقات العشائرية للزعماء البربر مع السكان اليهود استمرَّت، كما هو واضح، لزمن طويل باعتبارها عنصرًا من عناصر البناء القبَلي العشائري الذي ظل هو المسيطر لدى البربر.
وقد صَرَّح الكاتب نفسه بقوله إنه عندما جرى غزو إقليم طرابلس على يد الأتراك، أصدر السلطان قانونًا أصبح جميع الخدم-اليهود بموجبه أحرارًا، وليس الحرفيون فحسب. لقد سُمح لليهود بأن يعتمروا العمامة الإسلامية ذات اللون الأحمر، وفي عهد الأتراك نالت العائلات، التي لم تكن تملك القدرة على دفع المال، حريتها. زد على ذلك أن الزعيم اقترح على نحو جديد على من كانوا خدمًا بالأمس القريب وتابعين له التعاون في الأعمال وحمايتهم من إيذاء البربر.
لقد وفَّرت المكانة الاقتصادية الخاصة لطرابلس إمكانات إضافية لليهود، وقد ساعد ما يتميَّزون به من مرونة ومهارة في إدارة العلاقات وتنظيمها على اتِّساع نفوذهم في مختلف أوجه الحياة في المدينة.
كان للطائفة اليهودية قائد تَعترف به سلطات المدينة بشكل رسمي. وقد سمح وجود هذا المنصب للسلطات بتكليف شخص واحد بتحمل أعباء جباية الضرائب، وكان هذا الشخص منوطًا بتوزيع قيمة الضرائب المستحقَّة على كل من هم داخل الطائفة. ويتم داخل الطائفة جمع أرصدة خاصة لدفع الضرائب وتغطية الاحتياجات الداخلية لها (من أعمال خيرية وأجور العاملين وغيرهما).
والقائد، باعتباره مُمثلًا للطائفة، هو المنفذ للتواصُل مع ديوان الحاكم. وتُشير بعض المعلومات إلى أن أحد القادة غادَرَ المدينة هربًا من مرض الطاعون، ومثل هذا السلوك كان مُدانًا من جانب أبناء العقيدة. وعمومًا فإنَّ استبدال رئيس الطائفة كان أمرًا كثير الحدوث، ويعود ذلك إلى نقص الأموال؛ حيث إنَّ المنصب الرفيع، كما ذكرنا من قبل، أمر محاط بالمخاطر. كان بإمكان اليهودي الذي يحظى براعٍ من ذوي النفوذ لدى البلاط أن يُخفِّف من أعباء الضرائب المفروضة عليه شخصيًّا. ومن النادر جدًّا أن يُحاول أحد أعضاء الطائفة التأثير في أبناء عقيدته من أجل مصالحه مُلوِّحًا على سبيل المثال باعتناقه الإسلام.
في الأزمنة التي سبقت الغزو العثماني جَرَّ ذكر كلمة قيلت دون حرص تمس اسم الرسول محمد من واحد من غير المسلمين عواقب وخيمة عليه. لقد أخذ عليه الإسماعيليُّون الكلمة، كما يوقعون طائرًا في أحبولة. أصبح الرجل مسلمًا، ولم يستطع العودة إلى عقيدة آبائه، إلى أن تسنَّى له الهروب والاختفاء في مدينة أخرى؛ حيث استطاع أن يعود إلى شعبه وإلى دينه.
كان المنضمون الجدد إلى الإسلام من عقائد أخرى يُحاطون بالعناية والتكريم، وكانت مباركتهم تعدُّ أمرًا مهمًّا، وكان كل واحد من الأصدقاء الجدد يُحاول أن يهبه نقودًا قدر استطاعته.
أما الأتراك فكانوا ينظرون إلى هذا الأمر نظرة مختلفة. كانوا يعتبرون المؤمنين الجدد أناسًا غير مخلصين لا يستحقون الثقة، مفترضين أنهم لم يُبدِّلوا دينهم على الإطلاق لأنهم يحبون الإسلام، وإنما لغرض في نفوسهم، وأنهم يتحيَّنون الفرصة للارتداد إلى عقيدة آبائهم.
كانت السلطات التركية تتعامل بريبة تامة تجاه المؤمنين الجدد إلى أن يثبتوا بعد مرور زمن طويل إخلاصهم.
كان الناس في إقليم طرابلس المسلم لا يُكنُّون كراهية خاصة نحو اليهود على الرغم من أن السكان المحليِّين كانوا يتصرَّفون، بطبيعة الحال، بكل صلف باعتبارهم أصحاب الأرض، مُعتبرين أن اليهود أقل منزلة منهم. كان محظورًا على اليهود حمل السلاح، أو أن يمروا بالقرب من مسلم وقد امتطوا ظهور الدواب. كان اليهود يتعرضون للعسف والجور مرارًا وإلى السرقة؛ إذ إنَّ ممتلكات اليهودي تعتبر ممتلكات لا صاحب لها؛ لأنه لا يؤمن بالله ولا يمتلك سلاحًا للدفاع.
بالإضافة إلى كل ذلك فإن المسلمين الريفيين كانوا يحافظون بصرامة على عادات الضيافة الخاصة؛ فالضيف أيًّا كان، جنديًّا أو من سكان الجبال، أو حتَّى يهوديًّا جوَّالًا، تُعد له المائدة ويقدم له بكل سخاء كل ما يطلبه من أجل إرضاء الغريب؛ فإكرام الضيف على هذا النحو إنما يُضفي على أهل البيت شرفًا كبيرًا.
في سعيهم اليومي من أجل توفير وسائل العيش كان اليهود يضطرون للتعامل المنتظم والصعب مع السكان المسلمين؛ فكانوا يعملون في الأماكن الريفية في توريد وتجارة المنتَجات الزراعية؛ ومن ثَمَّ كانوا أحيانًا ما يَقعون في مواقف لا تخضع دائمًا للقواعد الدينية النوعية، الأمر الذي كان من المُمكن أن يتسبَّب في صدامٍ على أساس ديني. كان هذا الأمر يَنطبِق بصورة تامَّة أيضًا على يهود المدن، الذين كانوا يعملون بالحرف والتجارة، سواء في طرابلس أو في العديد من المدن الأخرى. وفي بعض الأحيان كان اليهود يُقدمون خدماتهم للقصر. هؤلاء كان انتشارهم في كلِّ مكانٍ يُساعد على حضورهم بقوة في المشهد الاجتماعي. لم يكن بمقدورهم النفاذ إلى السلطة الرسمية، لكنَّهم كانوا يُشاركون بصورة غير رسمية في الحياة السياسية للبلاد.
أصبحت التجارة زمنًا طويلًا مِهنة تُحيطها المخاطر، لكنَّها استطاعت بسرعة بالغة أن تحقق الثروة والنفوذ. في طرابلس كان الاشتغال بالتجارة يُعدُّ بالنسبة للأوروبيين والعديد من المسلمين عملًا شائنًا أكثر من القرصنة، التي كانت مُنتشِرة على نطاق واسع في شمال أفريقيا وطرابلس.
ظلَّ مستوى النمو الاقتصادي للبلاد مُتدنيًا. كان العمل الرئيسي للغالبية العُظمى من السكان هو تربية المواشي في أراضي الطائفة والزراعة في الواحات والمناطق المتاخمة للساحل.
ارتبط ازدهار طرابلس بدرجة كبيرة نتيجة للاشتغال بالتجارة والقَرصنة. كانت سفن قراصنة إقليم طرابلس تقوم أحيانًا بالتعاون مع الأسطول التركي بنَهب الشواطئ الشَّرقية لإسبانيا والمناطق الساحلية للدولة الإيطالية. كانا معًا يُهاجمان سفن الأوروبيِّين فيأسرون أطقمها ويستولون على بضائعها.
كثيرًا ما تبيَّن أن من بين أسرى قراصنة إقليم طرابلس يهودًا كانوا يعملون بالتجارة. وكان من بين المهام المُلقاة على عاتق رؤساء الطوائف جمع الأموال من أجل افتداء الأسرى اليهود أيًّا كانت أصولهم. من الضروري أن نلاحظ أن اليهود لم يكونوا يقعون في براثن القَراصنة باعتبارهم ضحايا فحسب، وإنما كانوا في بعض الأحيان يَنجذبون إلى هذه المهنة. يصف خا-كوهين قصة شبيهة تعود أحداثها إلى الثلث الأول من القرن التاسع عشر.
وُلد إسحاق جوفيتا في إقليم طرابلس، وكان تاجرًا ناجحًا. بدا أنه قد انجذب إلى التجارة المرتبطة بأعمال القرصنة. كان جوفيتا يمتلك سفينة تَنقل خمورًا، وكان مُؤمَّنًا عليها من قبل قراصنة إقليم طرابلس. مثل هذه التجارة كانت تدر عائدًا ضخمًا على خزينة باشا طرابلس. على أن جوفيتا قام ذات مرة ببيع السفينة ولم تصل الحمولة أو الأموال إلى طرابلس، واختار التاجر جوفيتا مدينة ترييست مقرًّا له؛ حيث واصل تجارته بنجاح.
يُمثل انجذاب اليهود إلى مهنة القرصنة واحدًا من أكثر صفحات التاريخ دراماتيكية فيما يتعلَّق بالمشاركة اليهودية في شئون المجتمع المحلِّي. كان اليهود على المستوى الرسمي بعيدين عن هذا المجتمع، ولكنَّهم كانوا في الوقت نفسه مُنجذبين، حتى وإن بدا ذلك أمرًا مفارقًا، إلى الحياة المدنية في كل مَظاهرها.
منذ عام ١٧١١م وحتى عام ١٨٣٥ ميلادية حكمت أسرة كارامانلي المحلية إقليم طرابلس، وكانت تَتبع الباب العالي اسميًّا فقط. كان حكام هذه الأسرة يبدءون الحرب بمُبادرة شخصية منهم ويعقدون أيضًا اتِّفاقات السلام.
كان الوضع في طرابلس شبيهًا بالأوضاع الموجودة في مدن شمال أفريقيا الأخرى؛ أي تسودُه «التناقضات الأصولية» بين الحكومة المركزية للمدينة والبنَى القبلية، التي كانت تُشكل أساس الحياة الاجتماعية والسياسية داخل البلاد. كان شكل الحكم مشابهًا للحكم العثماني، على الرغم من أنَّ الحكام الكارامانليين كانوا مع ذلك بعيدين عنهم. في هذه الفترة عاش اليهود في حي منعزل في القطاع الغربي غير بعيد عن سور المدينة بجوار بعض القناصل الأوروبيِّين، وإلى الغرب من سور المدينة كانت هناك أيضًا جبانة اليهود. لعل السبب في وجود الحي اليهودي في هذا القطاع يرجع إلى المحرَّمات الإسلامية التي تقضي بعدم جواز سُكنى غير المؤمنين ما بين المؤمنين ومكة المقدَّسة.
كان هذا الحي يفنى إبان تفشِّي وباء الطاعون، الذي كان يحدث بين الحين والآخر. بطبيعة الحال كان سكان المدينة الآخرون يتعرَّضون لنفس المصير فالمرض لا يُفرق بين الناس.
تميَّزت العقود الأخيرة من حكم أسرة كارامانلي بعدم الاستقرار السياسي والكوارث الطبيعية والجفاف والطاعون. وقد بذلت الدول الأوروبية جهودًا كبيرة لكي تحدُّ من نشاط القرصنة على ساحل شمال أفريقيا، وأنزل انتصار الأوروبيِّين خسارة فادحة بخزانة إقليم طرابلس؛ ومن ثم فقد اضطر الباشاوات إلى زيادة الضرائب على السكان (وفرضوا أيضًا ضرائب باهظة على اليهود)، وهو ما أثار سخطًا عامًّا سواء في المدينة أو في المناطق الداخلية للبلاد.
وقد استغلَّ هذه المشاعر منافسو حاكم هذه الأسرة، الذين كانوا يطمحون إلى السلطة.
وكذلك اندلع إبان حياة علي باشا كارامانلي، الذي تولى الحكم عام ١٧٥٤ ميلادية، صراع طاحن بين أبنائه الثلاثة؛ ففي عام ١٧٩٠ ميلادية قتل الابن الأصغر يوسف شقيقه الأكبر، الباي، وكان قائدًا للجيش، قتله في غرفة أمهما أمام عينيها، وعندئذ اشتعلت الحرب الأهلية. أقام يوسف في ضاحية المدينة، وقد دعمه جزء من سكان الريف وبعض القبائل، أما علي باشا فقد وقف إلى جانب ابنه الأوسط، الذي لم يكن مُتمسكًا كثيرًا بفكرة الزعامة.
أدَّى التنازع على قمة السلطة إلى قيام كل مجموعة بالامتناع عن دفع ما عليها من ضرائب، ولجأ جزء كبير من كبار الشخصيات في إقليم طرابلس إلى السلطان العثماني بطلب إقامة الحكم المباشر من جانب إسطنبول. وقد أصدر السلطان فرمانًا خاصًّا يسمح لعلي الجزايرلي (المشهور بعلي بورجول)، وهو قرصان مغامر، بحكم المدينة، بشرط أن تتولى قواته الخاصة ضمان السلطة.
وصلت قوات بورجول إلى طرابلس في عام ١٧٩٣ ميلادية، واستطاع أن يعقد اتِّفاقًا مع الزعماء المحليِّين، وأصبح هو الباشا، والي السلطان. بدأ الحاكم الجديد في القضاء على كبار الشخصيات، الذين ساوره الشك في ولائهم لكارامانلي، وكانت الضرائب الجديدة باهظة أيضًا وخاصَّة بالنسبة لليهود، وبعضهم وجد نفسه متورطًا في مؤامرة ضد بورجول، وكان دافيد ابن قائد الحاخام أفرام كالفون من بين الذين عُذِّبوا وأحرقوا وهم أحياء.
سرعان ما اعتلى يوسف السلطة، بعد أن نفى أخاه أحمد خارج البلاد. حاول يوسف المُفعَم بالحيوية أن ينهض بالاقتصاد المنهار باستخدام القوة، وهو الأمر الذي كان معتادًا، بمساعدة دعم الحكومة بالدرجة الأولى، فبدأ في إحياء القرصنة، على أن المقاومة القوية من جانب الدول الأوروبية، وانتصاراتهم في المعارك البحرية قضت على هذا المصدر للدخل. لقد أراد يوسف أن يُحيي حركة القوافل التجارية مع السودان ليدخل هذه التجارة المربحة، ولكن حتى هذه المحاولة فشلت نتيجة للضغوط التي مارسها قنصلا كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، اللذان هدداه بالتدخل العسكري.
في السنوات الأخيرة من حُكمِ يوسف انتفضت ضده القبائل، التي قطعت طريق القوافل المتجهة نحو الجنوب، وهنا تطلع ابن أخيه إلى السلطة باعتباره الوريث الشرعي لها. تُوفي يوسف باشا في عام ١٨٣٣ ميلادية، وكانت أوضاع اليهود إبان حكمه غير مُستقرة؛ كانت أوضاعًا دائمة التغير بتغير الظروف.
كان حكام كارامانلي يعتبرون اليهود مصدرًا محتملًا لدخل الخزانة، لكن سياستهم كانت متباينة؛ فعلي بورجول، الذي تسلم السلطة، فرض ضرائب باهظة على الطائفة اليهودية. وبعد مرور عدة سنوات أدرك الحاكم يوسف أن اليهود يساعدون في ازدهار الحكومة، ولهذا ينبغي تشجيع حرية نشاطهم. ألغى يوسف الارتداء القسري للملابس السوداء السابقة، وترك لهم فقط ارتداء غطاء الرأس الأسود والحذاء. وعلى الرغم من معارضة السلطة المحلية فقد سُمح لليهود ببناء سيناجوج في واحدة من المدن الواقعة غرب طرابلس.
استغلَّ يوسف أيضًا خدمات اليهود في المسائل الإدارية؛ ففي أثناء الصدام الذي وقع مع الأمريكيين، أرسل الباشا أحد اليهود لإجراء مفاوضات مع قائد أسطول الولايات المتحدة الأمريكية. جرى أيضًا تفويض اليهود في سكِّ العُملة. وفي عام ١٨١٠ ميلادية كان سكرتير يوسف يهوديًّا. وقد شاع أن اليهود إبان حكمه عملوا جامعين للعشور في إقليم جاريان.
ينبغي، بطبيعة الحال، أن نضع في اعتبارنا أن ارتقاء غير المسلمين إلى المناصب العليا كان أمرًا مفيدًا للحكومة؛ إذ إنهم لم يستطيعوا التطلُّع إلى السلطة.
يذكر خا-كوهين أن يوسف في الأعوام الأخيرة من حياته كان بحاجة ماسة إلى المال، فعاد إلى ممارسة ابتزاز الطائفة اليهودية بشدة. وحتى يتجنَّب اليهود هذه الممارسات راحوا يبذلون شتى المحاولات بما فيها استغلال علاقاتهم مع حريم الباشا من خلال نساء الطائفة.
كان اليهود والأجانب يُشكِّلون طبقة الحرفيين، وهو أمر له عديد من العواقب المختلفة؛ فمن ناحية كان الحكام يُقدِّرون إمكانات هؤلاء اليهود الفريدة ولا يستطيعون العمل بدونهم. ومن ناحية أخرى، كانوا يُحذِّرونهم؛ فاليهود صُنَّاع مهرة للسلاح، والسلاح يمكن أن يقع في يد أيِّ شخص. من هنا انتابت الشكوك علي بورجول حول خيانة أحد اليهود التوانسة وتمَّ إعدامه. كان هذا اليهودي هو الذي يقوم بإمداده بقنابل المَدافع والرصاص. يذكر خا-كوهين أن موردخاي مزراحي، من رعايا الإنجليز، كان يعمل بتدريس علوم المدفعية للتشكيلات العسكرية للباشا.
من المعروف أنَّ الحكام كانوا يَدعمون النشاط التجاري لليهود، وبعد ذلك يقومون بنَهبهم وإقصائهم واضطهادهم. كانوا يَستغلُّونهم لأن ذلك كان يصبُّ في مصلحتهم في هذا العصر أو ذاك، لكنهم كانوا يضعون في اعتبارهم دائمًا الخرافات والأساطير التي كان رعاياهم يؤمنون بها. ودائمًا ما نجد في كل العصور وفي كل المجتمعات أشخاصًا باستطاعتهم إثارة الجماهير، وهؤلاء كانوا يُوجِّهون الخرافات التي تؤمن بها الجماهير لصالحهم.
يَصِف خا-كوهين مشهدًا وقع إبان حكم يوسف باشا؛ ففي عام ١٨٠٠ ميلادية وصل أحد المرابطين إلى طرابلس قادمًا من فاداي، ووفقًا للعادة فقد استُقبل بترحاب شديد؛ إذ إنهم في بلاد المغرب يَحترمون المرابطين باعتبارهم ذوي صلة بالقداسة. أدرك الرجل على الفور أن بإمكانه أن يصدر الأوامر لمن حوله. وقد أثارت المكانة التي يَحظى بها اليهود المحليُّون والملابس الجديدة الجميلة التي يرتدونها، أثارت غضبه فقال ليوسف باشا: «ألا تَخشى روحك يوم الحساب، عندما يكون عليك أن تقف بين يدي العلي القدير لتُجيب عليه في حضور النبي محمد؟ لقد أعطيت اليهود الحرية، وهم يَحتقرُون ديننا، وقد أصبح من المستحيل أن تُفرِّق بين المؤمنين واليهود غير المؤمنين.»
لم يولِ يوسف باشا محاولة فضحه اهتمامًا ورد قائلًا: «لقد خلقهم العلي القدير، فلماذا ينبغي أن يكون مصيرهم أدنى؟! طالما أنهم يعملون فإنهم مجتهدون ويكسبون ليشتروا ملابس جميلة. إن من الغباء ملاحقتهم لأنهم ينفقون أموالهم.»
واحد من هؤلاء المراقبين كان شاهدًا على حادثٍ تعرَّض فيه طفل يهودي للضرب حتى الموت، عندما ألقَت به الصدفة بالقرب من الموكب.
اليهود، من ناحية المبدأ، هم بالنِّسبة للمسلمين أناس «غير مؤمنين». لم ينجح بعض ممثلي الطائفة اليهودية بكل ما لديهم من نفوذ أن يغيروا من وضع طائفتهم لصالح أصحابهم في العقيدة.
إبان حكم يوسف باشا عاش اليهود، الذين جرى افتداؤهم من القَراصنة، في اثنين من أحياء المدينة؛ «الكبير» و«الصغير». هؤلاء يجتمعون كل سبت بعد طعام الإفطار عند الحائط المُتاخم للحي اليهودي. أعضاء فريق «الحي الكبير» يَنتظمون ومعهم راية حمراء باتجاه الشمال، بينما يَنتظم فريق «الحي الصغير» ومعهم راية بيضاء باتجاه الجنوب. يَتصارع الفريقان دون أسلحة. يُؤدُّون الأمر بقبضات أيديهم ورءوسهم وأقدامهم. على أنه عندما يتبيَّن أن الخصم قد أُصيب، فإنهم يَرأفون به، مُحاولين ألا يُصيبه أذًى كبير. في أثناء القتال يمكن أخذ أسرى ثم إطلاق سراحهم بأساليب تتَّسم باللباقة. وبين المُشاهدين يصطفُّ عدد كبير من النساء والأطفال، من بينهم أيضًا مسلمون جاءوا للفرجة.
كان اليهود يسعون جاهدين، وكانوا قادِرين على الدفاع عن أنفسهم في أصعب الظروف في بيئة معادية لهم. وكثيرًا ما كان الباشا هو المُدافع الوحيد عن الطائفة؛ إذ كان لديه اهتمام بطبيعة الحال بهم، مع أنَّ البلاط كان دائمًا مسرحًا للمُؤامرات والدسائس والصراعات.
أشار القنصل الأمريكي لدى تونس المدعو نوح، وهو من أصول يهودية، إلى أن «اليهود في طرابلس يتمتَّعون بجميع الإمكانات، أكثر من أي أجزاء أخرى في مناطق البربر.» هذا نفسه ما رآه تقريبًا أيضًا مُراقبون آخرون ممَّن عقدوا، ربما، مقارنة بين وضع اليهود في طرابلس، مع الظروف الأكثر سوءًا بالنسبة لليهود في المناطق الأخرى من شمال أفريقيا، وعلى الرغم من أنهم كانوا سكانًا جذورهم ضاربة في القدم في بلاد المغرب؛ فقد كانوا معزولين سواء عن المسلمين أو المسيحيِّين، بالرغم من أن هاتين الجماعتين كانتا كثيرًا ما تدخلان في مشاحنات فيما بينهما.
في عام ١٨٣٥ ميلادية انتقلت طرابلس لتُصبح تحت الإشراف المباشر لسلطات إسطنبول، وانتهى حكم أسرة كارامانلي. ومنذ عام ١٥٥١ ميلادية، عندما غزا الأتراك البلاد، استمرَّت السلطة العثمانية في طرابلس لعقدين من الزمان، وبعدها تم الاستيلاء عليها من قبل اتحاد القبائل المحلية. وبداية من منتصف القرن التاسع عشر جرت عمليات التحديث وفقًا للنموذج الغربي وذلك بمبادرة من الباب العالي. وإذا كانت الإصلاحات الغربوية التي حسَّنت بالتدريج من حياة اليهود في المناطق الأخرى في شمال أفريقيا مُرتبطة بالتمدد الأوروبي وسيادة أوروبا، فإنَّ الوضع في إقليم طرابلس كان على نحو مُختلف وأكثر تعقيدًا؛ فالأتراك الذين كانوا يَدينون هم أيضًا بالإسلام، مثلهم مثل العرب والبربر، كانوا يَدعمون اليهود في أحيان كثيرة باعتبارهم شركاء لهم في تطوير الإقليم. في الوقت نفسه لم يكن أمام الأتراك إلا أن يضعوا في اعتبارهم التوتر الكبير فيما يمس علاقات السكان المحليِّين تجاه اليهود في عالم إسلامي يُحكم بالقرآن.
تزامنت نهضة الحكم العثماني في طرابلس بدرجة ما مع إصلاحات التنظيمات، التي كانت قد بدأت لتوها. كان زمنًا تم فيه سن قوانين جديدة تستند إلى النماذج الأوروبية؛ زمنًا لإعادة التنظيم الإداري من أجل تجاوز الأزمة الاقتصادية. وقد بدأت الإصلاحات في العاصمة وفي الأقاليم المركزية للبلاد، ولكنها سرعان ما وصلت إلى طرابلس.
بعد احتلال إيطاليا لليبيا — أي إلى جانب احتلال إقليم طرابلس وغيره من المحافظات — حاول بعض المؤرخين الإيطاليين في عام ١٩١١م التقليل من شأن هذه الإصلاحات، إلا أنها كانت عنصرًا مهمًّا في المرحلة الأولى لتحديث إقليم طرابلس. وفيما بعد؛ أي في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انخفضت أهمية هذا العنصر. إبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني سافر إلى طرابلس – «المنفى الشرفي»، أولئك الذين فقدوا الحظوة لدى السلطان؛ ليعودوا إلى المركز، إذا ما حالفهم الحظ مرة أخرى. بعض الحكام، الذين تم تعيينهم في المحافظات النائية، التي كان من بينها طرابلس آنذاك، كانوا يعملون بموجب القوانين الجديدة، التي كانت سارية في باقي أنحاء الإمبراطورية العثمانية. وقد انتقلت مقاليد الأمور إلى ولاة طبقوا بحماس بالغ سياسة جديدة أخذت في اعتبارها بصفة خاصة الأقليات الدينية.
شجعت الإصلاحات على التمدن وعلى إعادة تشكيل العلاقات الإدارية الخاصة بالأراضي الزراعية، وكذلك على تطوير التجارة ودعم التعليم، وانعكس العديد من هذه البرامج بشكل إيجابي على السكان اليهود.
تضمَّن برنامج الإصلاحات (التنظيمات) مادة تختص بتساوي جميع العقائد والملل في الحقوق داخل الإمبراطورية، وقد تعاملت السلطات المحلية، بطبيعة الحال، ولو بقدر قليل من الجدية مع هذه المادة؛ حيث تصاعد تأثير الدول الأوروبية، التي راحت «تقتطع» تدريجيًّا بعض الأقاليم من الدولة العثمانية.
ظل اليهود لمدة طويلة يُعاملون باعتبارهم جزءًا من المجتمع المحلي، وحتى الذين كانوا يحملون منهم جنسية أجنبية أو تشملهم دولة من الدول الأوروبية بالحماية فكانوا مخلصين للإمبراطورية العثمانية.
وفي العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وفقًا لما لاحظه عدد من المؤرخين، فقد تطورت علاقات التعاون بين عدد من الحكام العثمانيين والطائفة اليهودية في طرابلس. لم يكن باستطاعة اليهود إلا أن يحتفوا، بطبيعة الحال، بأي محاولة يبذلها الوالي لضمان القانون والنظام في هذه المحافظة. على أن هذا الموقف من جانب السلطات التركية لم يكن على هوى الموظفين، الذين كان يتم تجنيدهم من بين السكان المحليين. لم يكن الأتراك يتعاملون مع اليهود على هذا النحو من العدوانية مثل العرب. لم يكن السكان المحليون يؤيدون الإصلاحات، وكان هذا الموقف من جانبهم يمثل مصدرًا للتوتر مع الحكومة المركزية.
كذلك لم تحظ إقامة التنظيمات بتأييد من الطوائف اليهودية نفسها؛ فكثير من هذه التنظيمات كان يتعارض مع التقاليد اليهودية الغابرة.
هذا الموقف الذي اتخذه الحاكم المحلي كان يتسق تمامًا وفكرة التراث الاجتماعي؛ حيث على الحاكم أن يحل بنفسه جميع المشاكل وأن يدافع عن الضعفاء. أصبح ذلك ضرورة مُلحَّة؛ حيث إن تمردات القبائل المحلية ضد السلطة العثمانية رافقتها مذابح وعمليات نهب للعائلات اليهودية. ما يزال هناك عدد كبير من الأدلة التاريخية تعود للقرن التاسع عشر تؤكد على وقوع عدد كبير من الهجمات بل وقتل يهود من سكان المناطق النائية في البلاد. كان اليهود في المدن الصغيرة، الواقعة في تلك المناطق، يُعدُّون بالمئات في أفضل الأحوال. كانوا خاضعين للسكان المحليين، الذين كانوا يحاولون أن يقيموا معهم علاقات.
في هذه الفترة التي تميزت بالاضطرابات السياسية المتكررة أصبح اليهود لعبة في يد العشائر المحلية المتصارعة، فضلًا عن الحكام الذين دخلوا في صراعات مع معارضيهم.
ووفقًا للقانون العثماني للإصلاحات تم إبان حكم محمد نديم باشا (١٨٦٠–١٨٦٧م) إعادة تنظيم المحكمة المحلية نظرًا لظهور القانونين الجنائي والتجاري. كان القضاة اليهود، الذين كانوا يجتمعون في المحاكم الجديدة، يتلقون رواتب من الحكومة، مثلهم مثل القضاة المسلمين. في سياق ذلك فقد الباشا، كما أشار خا-كوهين، الحق في الجلوس في المحكمة والنظر في جميع القضايا بنفسه، كما كان عليه الأمر في السابق في عهد أسرة كارامانلي. جرت محاولة الفصل بين السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية، نتيجة للأفكار الجديدة للتنظيمات، فضلًا عن الضغط المتزايد والملحوظ على الباب العالي من جانب الدول الأوروبية. وعلاوة على ذلك فقد مارس الاتحاد اليهودي العام، الذي تأسس في باريس عام ١٨٦٠ ميلادية، نشاطه في طرابلس على نحو حيوي للغاية. ومن المعروف أن الطائفة اليهودية في طرابلس قدمت في عام ١٨٦٠ ميلادية شكوى ضد رئيس المدينة (شيخ البلد) المدعو علي كيركيني، وطالبت الاتحاد بتقديم المساعدة. وهذا الرجل كان يظلم السكان جميعهم، سواء اليهود أو غير اليهود. وقد نجح الاتحاد في استدعاء علي كيركيني لسؤاله في مقتل اليهودي شاؤل راكاح، المستخدم لدى كيركيني، الذي فقد لسبب غير معلوم حظوة سيده. وقد تبين أن كيركيني كان على علم بنية القتل الذي تم الإعداد له، وأنه لم يتخذ أي إجراء لحماية الرجل، بل إن جيران القتيل رأوا آثار دمه أمام بيت القاتل. كانت هناك أدلة أخرى أيضًا، لكن المحكمة اعتبرتها غير كافية، ولهذا توجه أبناء ملة راكاح إلى مكتب الاتحاد في باريس وإلى فرعه في إسطنبول. وفي عام ١٨٦١ ميلادية افتتحت خلية للاتحاد في طرابلس. ونتيجة لضغوط الاتحاد تم استدعاء كيركيني إلى إسطنبول وتم منعه من العودة إلى طرابلس. ووفقًا لمعلومات خا-كوهين فقد باءت محاولات كيركيني برشوة السلطات العثمانية بالفشل. وبعد عدة سنوات مات كيركيني في المنفى. هذا التطور للأحداث كان من الممكن أن يبدو مستحيلًا منذ نصف قرن مضى.
إجمالًا فإن الطائفة اليهودية كانت، كما ذكرنا من قبل، مخلصة للسلطات العثمانية، وقد أيدت التجديدات العديدة التي جاءت بها. في عام ١٨٦٠ ميلادية افتتحت خدمة البريد المنتظمة بين طرابلس والبلاد الأوروبية، وكانت تقوم بها شركة ملاحة وحيدة، وقد عمل بها يهود طرابلس.
في عام ١٨٧٤ ميلادية أنشأ السلطان وظيفة كانت واسعة الشهرة في الأقاليم العثمانية الأخرى وهي حاخام باشا، وهذا الحاخام كان يقوم على تنفيذ واجبات الممثل الرسمي لجميع يهود طرابلس.
وبتأثير من الإصلاحات العثمانية التي جرت في القرن التاسع عشر، ونتيجة أيضًا للتدخل المتزايد من جانب الإيطاليين في شئون طرابلس، تغير طابع الاحتفال بالمولد النبوي الذي كان يجري كل عام في الثاني عشر من شهر ربيع الأول الهجري، والذي تحدثنا عنه آنفًا، تغيرًا كبيرًا. وكما ذكرنا فإن موكب الجماعات الصوفية التي كانت تشارك في «الذِكر» كان يصاحبه حشد كبير من الناس. لقد توقف كل عمل من شأنه إزعاج غير المسلمين إبان ممارستهم لحياتهم اليومية.
يقول خا-كوهين إن أحد المسيحيين قام في عام ١٨٨٣ ميلادية بخرق الحظر على القيود التقليدية في العمل والتنقل في المدينة، وكذلك فعل أحد اليهود في عام ١٩٠٤ ميلادية. لقد تصرف كلاهما بتأييد من القنصل الإيطالي، الذي كان يدافع علنًا عن المبدأ الأوروبي، فضلًا عن المبدأ الذي أُعلن في برنامج التنظيمات وهو مبدأ «حرية العقائد».
في عام ١٩٠٥م أَلَحَّ هذا القنصل في طلب قيام الوالي رجب باشا بمنع أكثر ظواهر هذا الاحتفال التقليدي كراهة، من وجهة نظره، الأمر الذي أثار استياء المسلمين. على أن المعركة ظلت مستمرة. ظهر أناس غير مسلمين أيدوا طلب القنصل. هؤلاء اجتمعوا وراحوا يطلقون صيحات تستحسن مبدأ الحرية. رُفعت راية ترمز لحرية ممارسة أعمالهم حتى في أوقات الاحتفال بأي عيد من الأعياد.
على أن الإسهام المؤكد للإيطاليين في قضية «حرية العقائد»، لم يكن يعني أن اليهود كانوا متفقين في كل شيء مع حكام البلاد الجدد. يصف خا-كوهين حادثة وقعت في عام ١٨٦٢م في بنغازي، عندما أهمل كل من نائب القنصل الفرنسي ونائب القنصل البريطاني طلبًا تقدم به إليهما يهودٌ زُج بهم في السجن دون وجه حق. من الواضح أن هذا الأمر كان على الأرجح استثناءً أكثر منه قاعدة؛ فالأمر المعتاد هو أن تقوم القنصليات الأجنبية على وجه السرعة بالالتفات إلى مثل هذه الشكاوى. كانت السلطات المحلية مضطرة تحت الضغط الأجنبي الشديد للقيام بالإشراف الدائم على أعمال مختلف المصالح، الأمر الذي كان يسير، بطبيعة الحال، لصالح جميع السكان، واليهود بصفة خاصة.
كان اليهود، الذين كانوا يخدمون لدى تركيا الفتاة في التشكيلات العسكرية العثمانية، يتسلمون طعام الكاشير، وكان يُسمح لهم أن يغادروا الثكنات في أوقات الأعياد اليهودية. لقد تغير كل شيء حتى اليهود أنفسهم.
عندما أُرغِم الموظفون اليهود في أحد أقسام بنك روما على العمل يوم السبت في عام ١٩٠٧م دعوا طائفتهم لمقاطعة هذا البنك.
اضطر يهود طرابلس في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين للتواؤم مع ثلاث قوى مختلفة في وقت واحد: إيطاليا والسلطات العثمانية والمسلمين المحليين، الذين وقفوا بعد ذلك في مواجهة أنصار تركيا الفتاة.
وإلى جانب هذه الظروف الخارجية المعقدة أضيفت تناقضات أخرى داخل الطائفة اليهودية ذاتها بسبب توسع الثقافة الأوروبية وتأثيرها على نمط الحياة التقليدي، الذي ظل قائمًا على مدى ألف عام. جزء من الطائفة رأى أنه لا ينبغي على اليهود أن يتجاهلوا الأفكار المعاصرة، حتى ولو ظهرت في مجتمع غريب. وقد تبنى هذا الاتجاه موردخاي خا-كوهين، الذي ترك شهادات مهمة على عصره، والذي ذكره سابقًا إلياهو بيخور خزان، حاخام طرابلس الأكبر في الفترة من ١٨٧٤ وحتى ١٨٨٨ ميلادية، والذي أصبح بعد ذلك الحاخام الأكبر للإسكندرية، وقد ظل في هذا المنصب حتى وفاته في عام ١٩٠٦ ميلادية. وقد وجدت أفكار الحاخام خزان الإصلاحية صدًى لها في عدد من القرارات القانونية (خالاكيس). وفي طرابلس حاول هذا الحاخام إصلاح التعليم اليهودي، وقد اعتبر أن من الضروري إدراج دراسة اللغات الأوروبية في منهج المدارس اليهودية. وعلى الرغم من أنه كان هناك من اعترض على هذا التجديد من داخل الطائفة، ممن تصوروا أنه «يضع بذورًا للكفر»، ويُقوِّض أسس التربية الدينية التقليدية، إلا أن الغالبية قد أيدت جهوده. وقد حسم الوجود الإيطالي والإشراف في البلاد هذه القضية بشكل نهائي لصالح التعليم الأوروبي.
وقد وقعت هناك أحداث، وإن لم تكن كثيرة، وقف منها اليهود والمسلمون معًا ضد هذه المبادرة أو تلك من جانب السلطات، التي كانت تخالف التقاليد القديمة والمصالح الملحة للطائفة.
أصدرت السلطات التركية قانونًا، تأخذ الحكومة فيه على عاتقها أمر الوصاية على ممتلكات الأشخاص بعد وفاتهم، بمن في ذلك من لديهم أطفال دون سن العشرين. وقد رأى المسلمون المحليون في هذا القانون، ولهم الحق في ذلك، إلغاءً للتصرف التقليدي القبلي لميراث الموتى، وقد اعتبروا أن الحكومة تريد أن تنزع ملكية أرض الموتى الذين لم يتركوا ذرية، وألا تسمح بانتقالها إلى الإخوة أو إلى أي أقارب آخرين. وعلى الرغم من احتجاج السكان فقد بدأ موظفو الحكومة في إحصاء ممتلكات الموتى.
كان لإصلاحات التنظيمات نتائج متباينة بالنسبة للسكان اليهود. كانت بعض محاولات المساواة في حقوق جميع الرعايا العثمانيين وثيقة الصلة بدمجهم في الحياة الاجتماعية العامة؛ أي بالواجبات التي تفرضها الدولة. في سياق ذلك فإن غالبية السكان استمرت في اعتبار اليهود ذميين من طبقة أدنى، وذلك وفقًا لمعايير الإسلام. في الماضي كانوا ينظرون إليهم لا باعتبارهم مواطنين، وإنما جماعة معزولة وأدنى منزلة. لم تر جماهير المسلمين في حريات العقائد التي منحها الإصلاحيون حقًّا ثابتًا للفرد. لقد اصطدمت سمات الثقافة الدينية التقليدية في مجتمعات المغرب في القرن التاسع عشر بالأفكار الجديدة وبالمراسيم التي أصدرها الباب العالي، ثم بالسلطة الأوروبية بعد ذلك، ومن ثَمَّ فإن المحاولات الفعلية لتغيير وضع المجتمع اليهودي قد سُدَّت أمامها الطرق من جانب المسلمين المحليين برغم جهود إصلاحيي إسطنبول؛ فالمسلمون كانوا يرون في إعلاء وضع اليهود إقلالًا من وضعهم الشخصي. هذا التفسير تحديدًا هو الذي ألَّفَ بين أكثر فئات المسلمين اختلافًا حول هؤلاء الذين وقفوا ضد التجديدات العثمانية إجمالًا.
أحد الاختبارات على أمانة وإخلاص الباشاوات الأتراك الذين عينتهم السلطة المركزية في طرابلس تمَثَّل في تمسكهم بالدفاع عن الحقوق الجديدة التي اكتسبتها الطائفة اليهودية. وقد حاول حافظ باشا والي طرابلس في الفترة من ١٩٠٠ إلى ١٩٠٢م أن يفرض خراجًا جديدًا على الأراضي في المناطق الزراعية. وقد وقف المزارعون ضد هذا القرار، فتمردوا وخرجوا إلى الميدان التجاري في عمروس على أطراف طرابلس، وفي الطريق نهبوا التجار اليهود بما قيمته ٣٣ ألف فرنك. تصرف الباشا على وجه السرعة. وَضَعَ المحرضين على السرقة في السجن وطلب منهم أن يعيدوا إلى اليهود أموالهم. في الماضي كان من الأمور النادرة أن يتجاسر الباشاوات على الدفاع على هذا النحو عن اليهود المنكوبين، وإنما كانوا يفعلون ذلك لا استنادًا إلى القانون، الذي لم يكن موجودًا، وإنما لدوافع أخرى. لم يكن باستطاعة اليهود في حوادث ابتزاز الأموال والسرقة وجميع أشكال الاغتصاب الأخرى أن يعوِّلوا حتى على المعاهدات والالتزامات التي كان المسلمون يأخذونها على أنفسهم أحيانًا.
كان اليهود ملتزمين دائمًا بتنفيذ التزاماتهم، الأمر الذي لا يمكن الحديث عنه بالنسبة لجيرانهم، عن مواطنيهم في جوهر الأمر.
في معمعة هذه الأحداث تم استدعاء حافظ باشا إلى إسطنبول، وجاء خليفته إحسان حسني باشا ليواصل ضغوطه على اليهود؛ فبعد أن وصل إلى طرابلس في نهاية شهر فبراير عام ١٩٠٣م سارع بتجديد الطلب بشأن دفع مبلغ وقدره ٤٠٥٠٠ فرنك مع بداية شهر يونيو من العام نفسه. ومن جديد يتم استدعاء كبار الطائفة، لكنهم أعلنوا أن المبلغ المطلوب باهظ وأنه ليس بمقدورهم دفعه. أمر الباشا بالزج بهم في السجن، الأمر الذي تسبب في انفجار الغضب في الطائفة.
وفي اليوم التالي اقترح موردخاي خا-كوهين، الذي قام بجمع أبناء الملة لهذا الغرض، إرسال مفوضين إلى جميع السيناجوجات يحملون الرسالة التالية: «إخواننا في العقيدة! لتعلموا أننا في مصيبة كبرى وأنه لم يبق أمامنا إلا أن نعتمد على الرب أبينا، ولهذا فإننا نطلب من الجميع أن يجتمعوا صباحًا في السيناجوج الرئيسي وأن يُصلوا إلى خالقنا.» في حقيقة الأمر فقد كان ذلك دعوة للاحتجاج العام، حيث إنه جذب أيضًا اهتمام اليهود، الذين كانوا مواطنين أو رعايا لدول أخرى. ترك اليهود الذين اجتمعوا في السيناجوج الرئيسي في هذا اليوم جميع شئونهم اليومية. أُغلقت المحال والورش وتوقفت التجارة. لم تستطع الشرطة القبض على أحد. وقد استحسن المسلمون أيضًا هذا الانقلاب للأحداث. وخلافًا لهم، لم يكن اليهود ليجرءوا، بطبيعة الحال، على الدخول في جدل مع الحاكم، على أنهم حذروه من أن المسلمين لا يريدون، وبالأحرى لن يدفعوا الضريبة. وقد فكَّر المسلمون دون أن يخفوا موقفهم: «إن عددهم (اليهود) لا يتجاوز ١٥ ألف نسمة، لكنهم، كعادتهم، قادرون على تنظيم أنفسهم وعلى الاتحاد، فإذا ما استطعنا نحن جميعًا أن نتحد أيضًا فلن يستطيع أي حاكم أن يجرؤ على إصدار قوانين جديدة ضد إرادتنا.»
لم يتم التوصل بشكل نهائي لحل لقضية التجنيد الإجباري لسكان إقليم طرابلس حتى عام ١٩١١م. فقط في ظل تركيا الفتاة تم تكليف اليهود والمسلمين أيضًا على أية حال بالخدمة في القوات العثمانية. كان على الطائفة اليهودية أن ترسل ٥٩ شخصًا من بين ١٤٢ مجندًا من طرابلس وضواحيها. على أن هذا الأمر سرعان ما انتهى؛ فنتيجة للحرب الإيطالية التركية (١٩١١-١٩١٢م) انتقل إقليم طرابلس ليصبح خاضعًا للسلطة الإيطالية.
في عام ١٩٢٩ ميلادية توحدت مستعمرات إقليم طرابلس، كيرينايكا (برقة) وفزان، التي كانت تحمل اسم ليبيا، تحت سلطة جنرال – محافظ واحد.