الطوائف اليهودية في مصر
مصر، هي البلد الذي ورد ذكره في الكتاب المقدس، أكثر من أي بلد آخر، وهي التي يرتبط تاريخ الشعب اليهودي بها ارتباطًا وثيقًا منذ أقدم العهود. إن الخلاص من العبودية المصرية هو المرحلة الأهم في قيام الوعي الذاتي للشعب اليهودي بأكمله، كتوحيد للقبائل المتعددة (كولين) لبني إسرائيل.
إن اليهود، الذين عاشوا في مصر في العصر الهلينيستي، تبين أكثر من مرة أنهم سكان إمبراطوريتين عظيمتين؛ اليونانية أولًا ثم الرومانية بعد ذلك، واللتين ضمتا في أراضيهما أرض إسرائيل.
في عام ٦٤٠م فتح العرب مصر، وأصبح اليهود، مثلهم مثل غيرهم من «غير المسلمين»، ذميين خاضعين لهم.
إبان الدولة الفاطمية في مصر في عام ٩٦٩م، ثم الدولة الأيوبية بعدها (١١٧١–١٢٥٠م) كان وضع اليهود لا بأس به نسبيًّا. ومع بعض الاستثناءات النادرة، كان حكام هاتين الدولتين يتميزون بالتسامح. كان بمقدور اليهود أن يمدوا يد العون لشركائهم في العقيدة في أرض إسرائيل. في تلك الفترة استقر في مصر علماء جاءوا من بلاد أخرى، كان من بينهم ابن ميمون.
بوصول المماليك إلى السلطة في منتصف القرن الثامن الميلادي ساءت أحوال اليهود بصورة حادة. كان المماليك حريصين على تطبيق تلك القيود الإسلامية، التي تتعلق بأهل الذمة، وهي قيود لم يكن أسلافهم يصرون عليها. أُغلقت كثير من الكنائس والسيناجوجات. وفي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي تكررت حوادث الاعتداء على غير المسلمين في شوارع القاهرة. انهار الاقتصاد، الأمر الذي انعكس على نحو بالغ الضرر على الطائفة اليهودية، بالدرجة الأولى.
في بداية حكم الفاطميين تم إنشاء منصب النجيد، وهو الرئيس الرسمي للطائفة اليهودية. وقد ظل هذا المنصب قائمًا في عصر المماليك أيضًا. وكان للنجيد نائب يسمى ميشولام. كان بيت – دين يعمل تحت رئاسة النجيد، ويضم من ثلاثة إلى سبعة أعضاء يعملون في أوقات مختلفة. كان النجيد يتمتع بالاستقلال في حل القضايا المدنية والجنائية للطائفة، كما كان باستطاعته معاقبة وسجن المذنبين، وهو نفسه الذي يُعين الحاخامات، والمسئول عن جمع الإتاوات وهو الذي يتلقى الرواتب بنفسه. وفي أيام السبت كانت جموع اليهود ترافقه على نحو احتفالي كبير إلى السيناجوج ثم العودة. وفي عيد سيخمات توراة كان يقرأ مقاطع من الكتب الخمسة مترجمًا إياها إلى اللغتين الآرامية والعربية.
في عام ١٥٦٠ ميلادية ألغت السلطات التركية منصب النجيد واعتبر اليهودي، أمين الصندوق لدى المحافظ العثماني، هو رئيس الطائفة اليهودية، وأنعم عليه بلقب جلبي، الذي كان موجودًا حتى نهاية القرن السابع عشر.
في مطلع القرن السادس عشر الميلادي غزا الجيش العثماني مناطق واسعة من الشرق الأوسط، وانتهى التنافس الطويل بين إيران وتركيا على الهيمنة على البلدان العربية بانتصار الأخيرة. كان للحروب بين هاتين الدولتين خلفية دينية، ناهيك عن المصالح المادية. كانت إيران الشيعية تقف في مواجَهة الدولة العثمانية السُّنِّية.
كان المذهب الشيعي يُمثل أيضًا تهديدًا داخليًّا بالنسبة للسلاطين، فقد كان سكان الأراضي المُجاورة لإيران يدينون بهذا المذهب. وقد اتخذ هذا الصراع شكل الأعمال العسكرية إبان السلطان سليم الأول، الذي كان كارهًا للشيعة. وقد قُتل إبان حكمه في الإمبراطورية العثمانية من ٤٠ ألفًا إلى ٤٥ ألف شيعي. وفي عام ١٥١٤ ميلادية أنزلت القوات السلطانية الهزيمة بجيش الشاه إسماعيل، واحتلَّت تبريز واستولت على الخزينة. أتاح النجاح العسكري للسلطان أن يشن حملة على حاكم مصر حليف الشاه، وقد بدأ السلطان حملته بغزو سوريا الخاضعة لحاكم مصر؛ حيث هزم الجيش المصري عند حلب وسرعان ما دخل دمشق، وبعد أن استولوا على فلسطين اتجه الأتراك نحو القاهرة، وبعد مقاومة قصيرة من جانب المماليك احتل الأتراك المدينة. يعود هذا النجاح العسكري السريع بدرجة كبيرة إلى الدعم الذي قدمه للأتراك جزء من السكان المسلمين، والمسيحيون الشرقيون من الأرمن الجريجوريانيِّين وأقباط الكنائس الأرثوذوكسية وكذلك إلى الطائفة اليهودية. من البديهي أن هؤلاء كانوا يُعوِّلون جميعًا على أن السلطة الجديدة سوف تحدُّ من تعسف المماليك وجورهم. بعد أن دخل سليم الأول إلى مصر، اكتسب بعض الشعبية وراح يُوزِّع اللحم على الناس، وكذلك أعفى الفلاحين وفقراء المدن من أعمال السخرة لصالح الجيش بعد أن وضَع مسئوليته على كاهل طبقة الميسورين. وقد أعلن الموظَّفون العثمانيون أنفسهم مدافعين عن المزارعين.
كان أبرز نتيجة لدخول مصر تحت الحكم العثماني هو إعادة توزيع الملكية في البلاد وعلى رأسها الأراضي الزراعية.
عيَّن سليم الأول مستأجرًا لدار سك العملة، التي قامت بسك عملات تركية جديدة، وهو يهودي من أصل إسباني يدعى إفرام دي كاسترو، ثري ذو نفوذ، ذائع الصيت ليس فقط بين أبناء الطائفة اليهودية، وإنما أيضًا في أوساط البيروقراطية العثمانية.
في عصر الأتراك حدثت تغييرات في البِنية الإدارية للطوائف اليهودية. أُلغيت السلطة الفردية للحاخام الأكبر (النجيد) وحصلت كل طائفة على استقلالها في اختيار الحاخام وفي إدارة شئونها الداخلية دون أي وصاية من الخارج.
كان محكومًا على يهود مصر أن يُعانوا من كل هذه المصائب، التي نكبت بها مصر أيضًا في القرن الذي سيطر فيه العثمانيون عليها، وهو ما تطلب من رؤساء الطوائف اليهودية شجاعة خاصة وقدرًا كبيرًا من الحنكة.
كان من بين الرهائن الحاخام دافيد بن آفي زيمري وغيره من زعماء الطائفة. ردًّا على توسُّل الناس لتخفيض هذا المبلغ أو حتى تأجيل موعد السداد، كانت التهديدات تزداد قسوة، فراحوا يُصلُّون ليلًا ونهارًا، كما راحت الطائفة كلها تُصلي من أجلهم. قام الشيخ صمويل ساديلو بجمع الأطفال دون الثانية عشرة من العمر، الذين صدَر بحقِّهم حكم الباشا في السيناجوج، كما قام جامعو الأموال بجمع كل ما يُمكن جمعه لدى الطائفة وقدموا كل هذه الأموال والأشياء القيِّمة كفدية. لكن المبلغ الذي تمَّ تحصيله لم يكن ليشكل سوى عُشر المبلغ المطلوب. أمر الباشا أن يُقيد الجميع، بمَن فيهم جامعو التبرُّعات، بالسلاسل. كان الموت أيضًا يتهدَّدهم، كما تقول الحكاية، فور خروج الحاكم من الحمَّام. على أن الأحداث اتخذت لها مسارًا آخر مفاجئًا؛ فقد باغت الباشا بالهجوم في الحمَّام واحد من وزراء السلطان المخلصين، وهو محمد بك، الذي كان يتظاهر بأنه من أنصار أحمد باشا، الذي كان اليهود يُطلقون عليه اسم الشيطان. على أيِّ حال فقد استطاع الباشا الإفلات والهروب إلى قصره الحصين. هناك رواية تقول إن أهالي القاهرة استولوا على القصر بعد الهجوم عليه، وكان محمد بك قد وعدهم بتسليمه لهم ليَنهبوه. نجح أحمد باشا أن يُغادر القصر سرًّا قبل الهجوم، لكن المقربين منه سلموه، وتمَّ تقييده بالسلاسل وقطع رأسه.
وقد استمر الصراع الداخلي بين جماعات المماليك وكذلك وقوفهم ضد إسطنبول بضعة قرون. وفي مطلع القرن الثامن عشر استقر نظام حكم المماليك في مصر، والذي ظل قائمًا حتى الاحتلال الفرنسي لها في عام ١٧٩٨م.
في عام ١٨٠١م استسلم الفيلق الفرنسي أمام قوات إنجلترا وروسيا والإمبراطورية العثمانية، لتعود مصر رسميًّا إلى سلطة الإمبراطورية العثمانية، بناء على اتفاقية أميان للسلام التي عقدت في عام ١٨٠٢م.
إلى جانب النتائج السلبية للتدخل العسكري الفرنسي، أعطت حملة نابليون دفعة قوية لتطوير العديد من مجالات الحياة في مصر، بما فيها المجال العسكري: ظهرت أشكال جديدة من التسليح، تغير تكتيك إدارة المعارك … وهلم جرًّا. وجهت الحملة أيضًا ضربة لهيمنة المماليك العسكرية التي امتدت لقرون عديدة، وفي خضم هذه التغيرات ظهر القائد الجديد محمد علي (١٨٠٥–١٨٤٨م). جاء محمد علي إلى مصر باعتباره ضابطًا ألبانيًّا في الفرقة الألبانية، التي كانت تحارب في صفوف القوات العثمانية ضد الفرنسيين. أصبح محمد علي هو الحاكم الفعلي في عام ١٨٠٣ ميلادية، بعد أن جمع في يديه السلطة باعتباره قائدًا ناجحًا، وقد تلقى الاعتماد الرسمي من السلطان لهذا المنصب في عام ١٨٠٨م.
يمكن أن نَصِفَ وضع السكان اليهود إبان حكم المماليك بأنه كان وضعًا مضطربًا، ارتبط بتعسف السلطات الحاكمة كما ذكرنا من قبل. في عهد محمد علي وخلفائه بدأ هذا الوضع في التغير إلى الأفضل، الأمر الذي ارتبط بالإصلاحات وتحديث العديد من جوانب حياة المصريين إجمالًا. لقد سقط النظام القديم في مصر على يد الاحتلال الفرنسي، وأصبح محمد علي أمام ضرورة إعادة تنظيم الجيش ونظام الضرائب والاقتصاد بصفة عامة، كما قام محمد علي بدعم تطوير بعض أشكال الإنتاج الصناعي الموجهة بصفة أساسية إلى تجهيز الجيش والأسطول، ومن أجل ذلك تم تأسيس مصانع حكومية ومعامل، وجرى تحويل نظام الإتاوات ليحل محله نظام التحصيل المباشر للضرائب. وفي عام ١٨٢٢م بدأ تطبيق نظام التجنيد العسكري بالقرعة. لم يتم حل مشكلة تمويل الجيش والأسطول الجديدين بالكامل، لكن الحاكم المصري تعامل مع هذه المشكلة على نحو أكثر نجاحًا من السلطان العثماني، الذي تمكن محمد علي من الاستقلال عنه.
إن التغير الجزئي لظروف حياة اليهود إلى الأفضل، لم يكن يعني أن وضعهم قد ارتقى بشكل جوهري بطبيعة الحال. لقد استمر اضطهادهم، لكن القانون الآن أصبح يحمي حياتهم وممتلكاتهم. لم يعد اليهود خاضعين بشكل مطلق للمعايير الدينية الإسلامية طبقًا لتفسير السلطات الحاكمة، وهو ما أدى، في المقام الأول، إلى الزيادة العددية للطوائف في مصر. لم يكن التعداد الصحيح لليهود المصريين معروفًا بدقة حتى نهاية القرن التاسع عشر. مع نهاية القرن فقط بدأت السلطات البريطانية التي اعتُمدت بصورة فعلية في مصر، في إحصاء السكان بشكل منتظم. وقد احتفظت الأراشيف المحلية على أية حال ببعض المعلومات عن بعض الجماعات الإثنودينية المختلفة وعن الفترة الأكثر تقدمًا، من بينهم الكثير ممن كانوا يُعدَّون من الأجانب، وفقًا لمختلف المصادر، وهي معلومات ليست موثوقة للغاية؛ لأنها أسست على الوثائق السابقة والافتراضات التي يناقض بعضها بعضًا.
عاش المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين عدة سنوات في مصر، وقد قدَّر عدد الطوائف اليهودية في عام ١٨٣٤م بما يقرب من ٥٠٠٠ نسمة، عندما كان إجمالي عدد السكان في البلاد مليوني نسمة. ومن المحتمل أن يكون عدد السكان اليهود في الفترة ما بين عامي ١٨٣٤ و١٨٤٠م قد ازداد على نحو ملحوظ. لكن هناك افتراض يقول إن كلوت بك قد أضاف إلى بياناته ١٢٠٠ من اليهود القرَّائين، ربما يكون لين قد أسقطهم من حساباته.
الديانة | ١٨٩٧ | ١٩٠٧ | نسبة النمو | ١٩١٧ | نسبة النمو |
---|---|---|---|---|---|
مسلمون | ٨٩٧٧٧٠٢ | ١٠٢٦٩٤٤٥ | ١٤٫٣ | ١١٦٢٣٧٤٥ | ١٣٫١ |
أقباط مسيحيون | ٦٠٩٥١١ | ٧٠٦٣٢٢ | ١٥٫٨ | ٨٣٤٤٧٤ | ١٨٫١ |
طوائف مسيحية أخرى | ١٢١٧٢٤ | ١٧٥٣٧٠ | ٤٤٫٠ | ١٢٧٠٩٤٤١ | ٩٫٢ |
يهود | ٢٥٢٠٠ | ٣٨٦٣٥ | ٥٣٫٣ | ٥٩٥٨١ | ٥٤٫٢ |
الإجمالي | ٩٧٣٤١٣٧ | ١١١٨٩٧٧٢ | ١٢٧٠٩٤٤١ |
يرجع هذا النمو لليهود في مصر في تلك الفترة في المقام الأول إلى زيادة الهجرة نتيجة اضطهادهم في أوروبا الشرقية والمغرب. في عام ١٨٥٨ ميلادية سُمح للأجانب بامتلاك الأراضي، وكذلك وفرت الحكومة الظروف الملائمة للاستثمار الأجنبي في مصر. وفي عهد إسماعيل باشا (١٨٦٣–١٨٧٩م) ضخَّ المستثمرون الأجانب أموالًا طائلة في اقتصاد البلاد، وكان من بينهم يهود كثيرون.
اشتغل اليهود المصريون بالأعمال التقليدية: التجارة والأنشطة المالية وصياغة الحلي والحرف، وفي وقت أسبق بكثير كانت أعمال الربا والصرافة تعد من الأعمال الناجحة بالنسبة لهم. في هذا الوقت كان الجزء الأكبر من اليهود في بلدان الشرق، وفي مصر بصفة خاصة، يعانون الفقر الشديد، الكثير منهم كانوا يعيشون على حساب التبرعات الاجتماعية، وكانوا يتاجرون في الفاكهة الرخيصة والخمور وغيرهما من السلع واسعة الانتشار.
اعتبر كلوت بك، سابق الذكر، أن نشاط اليهود كان يستلزم جهودًا مضنية لا يتحقق النجاح فيها إلا مقابل عمل كبير ومخاطرة استثنائية، وقد رأى بنفسه عدة مرات كيف تعرض الباعة الجائلون من اليهود للهجوم والسرقة، بل كانت هناك حالات قتل للتجار اليهود على الطريق من القاهرة إلى المدن الأخرى.
في السنوات الأخيرة من حكم الخديوي سعيد (١٨٥٤–١٨٦٣م) تم تعيين الثري اليهودي يعقوب قطاوي ناظرًا للخزانة؛ حيث كان يشغل من قبل ملتزمًا لجمع الضرائب. لم يكن تعيينه الجديد يتفق بشكل تام ومهنة الصرافة التقليدية، لكنه سرعان ما أصبح رجل البنوك الأهم.
تتحدث وثائق القنصلية البريطانية عن صبَّاغي الحرير اليهود في القاهرة، وعن الذين يغزلون الحرير في الإسكندرية. كان اليهود يعملون أيضًا بحياكة الملابس وصناعة السجائر وذبح الماشية وفقًا للطقوس الدينية، كما كانوا يتاجرون في اللحوم لاحتياجات الطائفة بشكل أساسي.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان للتوسع في تحسين تعليم اليهود أثر كبير في زيادة إمكاناتهم في اختيار مهنهم، وقد أصبحوا بعد ذلك يعملون كتبة لدى الشركات التجارية، سواء المحلية أو الأجنبية، كما راحوا يعملون لدى القنصليات الأجنبية وفي المؤسسات المدنية المصرية، وقد شغل اليهود مناصب رفيعة في نظارة المالية، وكان من بينهم موظفون ذوو نفوذ أيضًا في نظارات أخرى (يوليوس بلوم، سليجمان، فيكتور هراري، إفرايم أديخ، مارك حاييم بيالوس). ولسنوات عديدة شغلت عائلتا قطاوي ودي منسي، وغيرهما، مكانة رفيعة.
عدد محدود من اليهود شارك في العمل في هيئات المشروعات الصناعية الأولى، ولكنهم ساعدوا فيما بعد في افتتاح غيرها من المشروعات. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما استجمعت حركة القومية العربية المصرية قوتها، استغل بعض رجال البنوك اليهود الحماية الأجنبية وقاموا بدعم القوميين بالمال، وقد انضم إليهم الصحفي والكاتب والمؤلف المسرحي يعقوب صنوع.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر ازداد تدريجيًّا عدد المستثمرين اليهود، الذين أسهمت رءوس أموالهم وجهدهم وعلاقاتهم إسهامًا كبيرًا في اقتصاد مصر. هنا ظهرت الأنتليجينسيا ذات التوجه الغربي: حقوقيون، مهندسون، زراعيون، فنانون، موظفون. كانت التجارة المدنية، وخاصة في مجال النسيج والملابس، في يد اليهود، بينما عمل اليونانيون في المقام الأول في الريف المصري بالتجارة الزراعية وفي عمليات التسليف.
تحدثنا فيما سبق عن مشاركة رأس المال اليهودي في الاستثمارات الصناعية، وقد قام اليهود أيضًا بتمويل مشروعات بناء السكك الحديدية. امتلكت عائلتا قطاوي ودي منسي الغنيتان صناعة إنتاج السكر في حلوان، بينما امتلكت عائلتا ماندلباوم وخوروفيتس مصانع السجائر بالقرب من الإسكندرية.
في مطلع القرن العشرين عمل المنحدرون من عائلات قطاوي وهراوي ورولو وعدس وموصيري وسوارس اليهودية واسعة الثراء في إدارة الشركات المصرية الكبرى وثيقة الصلة بالزراعة في الأراضي الشاسعة.
في مصر، كما في غيرها من البلاد الأخرى، عاش اليهود لا بفضل الظروف المحلية، وإنما، بالأحرى، على الرغم منها، وعلى الرغم أيضًا من عدوانية واحتقار السكان المحليين، الذين كانوا يتعاملون معهم باعتبارهم أدنى منزلة، وكثيرًا ما تعرض اليهود للاضطهاد والسرقة من جانب هؤلاء السكان. إبان الاحتلال البريطاني (بدءًا من عام ١٨٨٢م) حصل اليهود رسميًّا على المساواة القانونية مع باقي السكان. على أن ذلك لم ينعكس تقريبًا على وضعهم الاجتماعي الواقعي؛ لأن المسلمين لم يغيروا إطلاقًا معاملتهم تجاه اليهود باعتبارهم أناسًا أدنى منهم.
وإلى جانب التمييز الديني، الذي كان له تقاليد ممتدة سواء لدى المسيحية أو الإسلام، كان اليهود يُعاملون بازدراء باعتبارهم أناسًا ليس لهم دولة خاصة بهم؛ أي أنهم لاجئون لا مأوى لهم يستطيعون اللجوء إليه عند الحاجة، أو يحتمون به إذا لزم الأمر. لم يكن اليهود يؤدون الخدمة العسكرية في الجيش المصري، وإنما كانوا يدفعون ضريبة مقابل الإعفاء من هذه الخدمة (البدلية)، الأمر الذي كان المجتمع المحلي يدينه.
أما الأقباط، الذين كانوا يُشكِّلون أقلية مسيحية لها وزنها في مصر، فكانوا يطمحون أيضًا إلى إذلال اليهود، الذين كان مُحرَّمًا عليهم الاقتراب من الكنائس القبطية حتى ولو كانت هناك ضرورة للسير بالقرب منها. وبالإضافة إلى ذلك كان هناك تنافس اقتصادي بين هاتين الجماعتين الإثنودينيتين في المدن التي يعيشون فيها، وكانت الجماعتان تتنافسان في المجال المالي وكذلك التجاري.
كان المسلمون، الذين يشكلون الأغلبية الساحقة للمصريين على امتداد بضعة قرون، يعاملون اليهود بعدوانية. على أن الاحتلال الفرنسي لمصر كان بالنسبة لهم أمرًا بالغ القسوة أيضًا. لقد فرض الفرنسيون على السكان، بمن فيهم اليهود، ضرائب باهظة، وفي عهد محمد علي كان اليهود والمسيحيون يدفعون ضريبة موحدة باهظة تعرف بالجزية، وقد أعفاهما سعيد باشا من هذه الضريبة. على أنه ما أن أصبح هو نفسه بحاجة ماسة إلى المال، إذا به يروح يجمعه من جميع السكان بمن فيهم اليهود أيضًا.
عندما يتشاجر العرب بعضهم مع بعض ويرغبون في لمز الآخر بشكل أكثر إيلامًا، فإن الواحد منهم يصف الآخر بأنه «ابن يهودي»، وهو ما يحمل نبرة ازدراء واحتقار حادة. كان اليهود يضطرون أحيانًا نتيجة للتهديد أو الاضطهاد الحقيقي إلى مغادرة القاهرة والإسكندرية أيضًا، وقد لجأ اليهود، على سبيل المثال، في عام ١٨٤٤م بطلب إلى مجلس اليهود البريطانيين في لندن. وهناك طلب مماثل تقدم به اليهود إلى أبناء عقيدتهم الأجانب في عام ١٨٨٢م، عندما اضطر حوالي ألفين من فقراء اليهود في الإسكندرية إلى الفرار إلى مالطا طلبًا للنجاة بأنفسهم من التمرد الذي اندلع ضد الأجانب.
كان اليهود يتبعون خبرة الأقلية المتبعة في جميع بلدان الشرق، سواء أكانوا أقلية دينية أم إثنية، وهي أن يحاولوا بكل ما أوتوا من قوة أن يظهروا أفقر مما هم عليه بقدر الإمكان وألا يشعر بهم أحد. يصف الأجانب، الذين زاروا مصر، زيادة السكان والزحام والقذارة والفقر الشديد الذي تعيشه الأحياء اليهودية، وحتى بيوت الأغنياء منهم كان لها نوافذ صغيرة وأحيانًا ما تكون هذه البيوت خالية من الجمال، وجميعها تتشابه من ناحية بنائها الفقير. بالطبع فإن الملكية في ظروف العالم الإسلامي، مهما كان صاحبها، وخاصة الغرباء، لم تكن محمية من القانون والتقاليد؛ فقد أصبح فقر أغلبية السكان، بمن فيهم اليهود، أمرًا حتميًّا. وحتى من كانوا من بين هؤلاء يملكون شيئًا ما، كانوا يحاولون أن يظهروا فقراءً في محيط المسلمين.
في مطلع القرن العشرين حدث هجوم على اليهود تمثَّل في انتهاك المقابر اليهودية، التي لم يكن هناك من يحميها سواء من السكان المحليين أو من السلطات البريطانية.
كانت الحماية الأجنبية واحدة من الوسائل التي يمكن على نحو ما أن يأمن بها المرء على حياته وأملاكه. كثير من اليهود كانوا يسعون للحصول على جنسية بلد أوروبي ما؛ إذ إنهم في هذه الحالة سوف يستفيدون من الحصانة وفقًا لشروط نظام الامتياز الأجنبي. كان الامتياز الأجنبي يعطي لهم ميزات مهمة؛ فقد كانوا لا يحاكمون أمام السلطات المحلية، التي لم يكن بإمكانها أن تسبب لهم سواء خسائر شخصية أو خسائر في ممتلكاتهم، كما أنه لا يمكنها أن تلقي القبض عليهم أو تصادر أملاكهم أو تفرض عليهم أعمال السخرة.
كانت الدولة، التي يحصل اليهودي المصري على جنسيتها، تدافع عن مصالحه، وتقدم له أحيانًا المساعدة في أعماله، وتطلب له التعويض عن الخسارة التي تلحق به، إذا ما حدث ذلك، وقد أنشأت لذلك إدارات في السفارات والقنصليات تقدم هذه الخدمات.
لم يكن الحصول على الجنسية الأجنبية أمرًا سهلًا، لكن جميع العائلات اليهودية الغنية في مصر حصلت عليها. حاولت السلطات المصرية، وكذلك السلطات في إسطنبول، أن تضع جميع العراقيل أمام حصول سكان أراضيها على الجنسية الأجنبية. لم تكن لديهم الرغبة في انتشار المعايير الأجنبية للتشريع والمزايا على رعاياها، الأمر الذي أدى حتمًا إلى وقوع الصدامات، ولهذا السبب دخل محمد علي في أواخر حكمه، وكذلك ابنه ووريثه إبراهيم باشا، في جدل مع القناصل الأجانب. ومع ذلك وخلافًا لهذا الموقف راح عدد الرعايا الأجانب في مصر يزداد تدريجيًّا، وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد أعطت الحماية الأجنبية أيضًا مميزات اقتصادية كبيرة.
أكثر من ذلك أن اليهود حاولوا أن يحصلوا على حماية تلك البلاد مثل النمسا – المجر، إيطاليا، فرنسا وبريطانيا. بالنسبة لهم كانت جنسية النمسا – المجر أسهل مثلًا من الحصول على جنسية البلاد الأخرى. وقد استفادت الطائفة الأشكينازية بشكل كبير من هذه الإمكانية، علمًا أنه قد تبين أن الأمر كان بمثابة سلاح ذي حدين؛ إذ فرض قنصل النمسا – المجر على جميع رعايا المملكة الانضمام إلى جيش النمسا إبان الحملة الإيطالية.
وحتى في الفترة التي ساد فيها الاستقرار نسبيًّا بالنسبة للحكم البريطاني (مع الاحتفاظ الرسمي للسلطة العليا للسلطان العثماني) لم يستطع اليهود إلا أن يفكروا فيما سيحدث لهم مستقبلًا، عندما تحين نهاية الحكم البريطاني. بعض اليهود احتال على استخدام الحماية الأجنبية من أجل الدفاع عن محكمتهم الحاخامية الخاصة (بيت – دين). فيما بعد تقلص عدد الذين حصلوا على حماية النمسا – المجر، بشكل كبير. حضر قنصل هذه المملكة مراسم افتتاح ومباركة مدرسة يهودية جديدة في الإسكندرية. وقد تلقى أعضاء طائفة الإسكندرية من ذوي النفوذ دعوة لحضور الاحتفال بيوبيل الإمبراطور فرانتس يوسف.
قرَّبت الإصلاحات، التي أجرتها السلطات في كل من مصر وإسطنبول على امتداد القرن التاسع عشر، على نحو تدريجي، هذين البلدين من أنماط الحياة الأوروبية. كان اقتراب هذين البلدين أمرًا حتميًّا على أية حال.
لم تقف السلطات المركزية أمام انتقال اليهود إلى الإمبراطورية العثمانية وتنقلهم داخل حدود الإمبراطورية، أما اليهود فقد اضطروا لتغيير المدن والبلاد بحثًا عن ظروف معيشية أقل قسوة. والذين فروا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر حتى يتخلصوا من الاضطهاد، من إيطاليا، من جزيرة كورفا، وغيرهما من الأراضي الأوروبية إلى الإمبراطورية العثمانية، أرادوا أن يستعيدوا مرة أخرى بعد عدة أجيال الجنسية الأجنبية.
في منتصف القرن التاسع عشر بلغ عدد اليهود في مدينة الإسكندرية ١٥٠ عائلة يحملون الجنسية الإيطالية، أما القاهرة فكان بها ٢٠٠ عائلة يهودية. وفي الإسكندرية نفسها كان هناك ٥٠٠ عائلة يهودية لا تشملها الحماية الأجنبية.
أثارت المشكلات الداخلية لليهود المصريين، المنشقين إلى شرقيين وإيطاليين وغيرهم من الجنسيات الأجنبية، من الأشكيناز بصفة أساسية، الذين لم يكونوا دائمًا على وفاق، أثارت الصدام بين الطوائف. كان هناك خلاف بسبب زيادة الضرائب على اللحوم وغيرها من السلع.
المفوضون الإيطاليون في مصر شعروا بالقلق، عندما أصبحت إيطاليا دولة موحدة؛ إذ إن اليهود من حملة الجنسية الإيطالية بدءوا في البحث عن حماية النمسا؛ العدو القديم للإيطاليين، ونتيجة لذلك ضعف نفوذ إيطاليا في مصر.
تصاعدت حدة الخلافات والتوتر في العلاقات بين طائفتي السفارديم والأشكيناز المتعاديتين في القاهرة والإسكندرية أيضًا في مطلع القرن العشرين. ازداد عدد الطوائف الأشكينازية في كلتا المدينتين بوصول عدد كبير من المهاجرين من رومانيا، الذين كانت عادات الطوائف اليهودية الشرقية أكثر غرابة من العادات المحلية التي اعتاد عليها اليهود الأشكيناز. اليهود الرومانيون في عامي ١٩٠٠ و١٩٠١م أرسلوا خطابات من القاهرة والإسكندرية إلى باريس يشتكون فيها من «السفارديم» الذين لم يكن لديهم أمور مشتركة كثيرة، بينما اتهم السفارديم الأشكيناز بسبب الغياب التام لأي سعي من جانبهم للتضامن.
ظل العداء المتبادل والتنافس قائمًا حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، بعدها تراجع هذا الاتجاه لعدد من الظروف؛ أولها أن الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود في ذلك الوقت كان نادرًا للغاية، على أنه مع بداية القرن العشرين ازداد بالتدريج عدد الزيجات بين الأشكيناز والسفارديم نظرًا للتناقص الملحوظ لليهود في مصر بعد الحرب العالمية الأولى. ثانيها: في هذه الفترة فإن الطوائف اليهودية في البلاد اضطرت للتضامن من أجل الدفاع عن مصالحها.
كانت الإسكندرية بسبب تنوع سكانها، أكثر كوزموبوليتانية من مصر كلها. كانت المدينة تُعد هي «الباب» المؤدي إلى أوروبا. كان تأثير الثقافة الأوروبية على الطائفة اليهودية أكثر وضوحًا هنا. كان أعضاء الطائفة يتواصلون مع المنظمات اليهودية الشهيرة، مثل الاتحاد اليهودي العام ومنظمة «بِنيّ-بريت» وغيرهما.
في منتصف القرن التاسع عشر عاش يهود الإسكندرية في حي منعزل، زد على ذلك أن اليهود الشرقيين والأوروبيين كانوا يعيشون كسابق عهدهم في عزلة؛ غالبيتهم كانوا يعملون بالتجارة الصغيرة.
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ازداد عدد الطوائف اليهودية. الآن استقر اليهود في الأحياء الأخرى للمدينة، بما فيها أكثر الأحياء فخامة. أصبحت أعمالهم أكثر تنوعًا. وقد ظهر منهم قانونيون وأطباء وأصحاب الأعمال الحرة، ورجال الأعمال. كان الأغنياء واليهود من ذوي النفوذ ممثلين في الدوائر المالية والدبلوماسية والسياسية في البلاد. عمل اليهود أيضًا بالعمليات المالية وجمع الضرائب ودفع الجمارك. وقد تجاوزت رواتب بعض الموظفين اليهود ٢٠ ألف جنيه مصري في الشهر، وهو مبلغ كبير للغاية بمقاييس ذلك الزمان! على أنه كان هناك أيضًا الكثير من اليهود الفقراء، شأن المدن الأخرى، الذين كانوا يتلقون مساعدات من التبرعات التي يدفعها أكثر أبناء ملتهم ثراءً.
حدث بعض الارتقاء العام لوضعية يهود الإسكندرية، وكذلك لازدياد أهميتهم في مجال المال والاقتصاد. جرى ذلك على حساب وصول يهود أغنياء ومثقفين من أوروبا إلى المدينة. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تطور، بشكل نشيط للغاية، في الإسكندرية التعليم في المدارس. وفي عام ١٨٥٤م افتتحت مدارس التلمود والتوراة. في البداية كانت هناك مدرستان، وكان عدد التلاميذ بهما قليلًا، ثم اندمجا في مدرسة واحدة. من المعروف أنه في شهر مايو من عام ١٨٥٧م بلغ عدد التلاميذ، الذين كانوا يترددون على مدرسة تلمو د– توراة ٧٨ تلميذًا.
في عام ١٨٦٢م افتتحت أول مدرسة للفتيات في أبنية صغيرة. هذه المدرسة كان بإمكانها استقبال عدد قليل فقط من الدارسات؛ لأن التعليم فيها كان مدفوع الأجر. وفي عام ١٨٦٥م دفع الأثرياء من أعضاء الطائفة اليهودية في الإسكندرية مبالغ طائلة من أجل بناء وصيانة المدرسة الجديدة. تبرع أعضاء عائلتي بيخور وإسحاق أجيون لشراء الملابس للتلاميذ من العائلات الفقيرة، وكذلك للوازم المدرسية. قامت المدارس اليهودية الأولى على تبرعات الأغنياء من أعضاء الجالية. على هذا النحو تم تأسيس التعليم المدرسي بأجر زهيد، أما بالنسبة لأشد التلاميذ فقرًا فقد كان مجانيًّا بالكامل.
بنيت مدرسة التلمود – التوراة على شاطئ البحر وذلك بتبرعات من عائلة أجيون. وقد أكَّد الزوار على نظافة وأناقة ملابس التلاميذ. على أن بعضًا من هؤلاء التلاميذ اشتكوا من التحريف في برنامج المدرسة. كان هناك اهتمام كبير للغاية بدراسة اللغات على حساب المواد الأخرى. وفي نفس الوقت روعي دراسة عدد من اللغات الأجنبية في برنامج مدرسة التلمود – التوراة: اللغة العبرية القديمة باعتبارها لغة النصوص المقدسة، العربية؛ اللغة العامية لبلد الإقامة، الفرنسية باعتبارها وسيلة التواصل في عالم الأعمال والثقافة، الإيطالية؛ اللغة التي يتحدث بها في مصر العديد من الأوروبيين. وعلى الرغم من النقد الموجه إلى النقص الذي أصاب برنامج المدرسة، فقد استمر العمل بهذا البرنامج حتى نشوب الحرب العالمية الأولى.
في مدرسة الفتيات، التي أقيمت أيضًا على تبرعات عائلة أجيون، كان هناك ١٣٠ تلميذة يتعلمن اللغة الإيطالية، في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلى جانب الخياطة وغيرها من الأعمال اليدوية.
في فبراير عام ١٨٩٧م جرى افتتاح مدارس متخصصة للفتيات، كن يتعلمن فيها أعمال الخياطة، وأخرى للفتيان، كانوا يتعلمون فيها خبرات التجارة وحرفة النجارة.
كان الاتحاد اليهودي العام يقدم المساعدة المالية للمدارس. وبدعم من الاتحاد بدأت المدارس في تعليم الأطفال حرفة الحدادة والنقش على الرخام، كما كان الأطفال في هذه المدارس يتعلمون اللغة العربية.
مكان النشأة | فتيان | فتيات | الإجمالي |
---|---|---|---|
مصر | ٥٧ | ٥٩ | ١١٦ |
سوريا | ١٩ | ٢٠ | ٣٩ |
إزمير | ٦ | ١٠ | ١٦ |
إسطنبول | ٦ | ٧ | ١٣ |
كريت | ١ | ١ | ٢ |
يانينا | ٥ | ١ | ٦ |
المغرب | ٢١ | ١٩ | ٤٠ |
تونس | ٣ | ٩ | ١٢ |
اليونان (كورفو) | ٦ | ٢ | ٨ |
إيطاليا | ١ | ١ | ٢ |
روسيا | — | ٢ | ٢ |
النمسا | — | ١ | ١ |
يتضح لنا من الجدول السابق أن معظم التلاميذ كانوا يعيشون في الإمبراطورية العثمانية، وأن نصفهم تقريبًا وُلدوا في مصر وأن عددًا كبيرًا منهم جاءوا من المغرب وسوريا وأن عدد الأشكيناز بينهم كان قليلًا، وهؤلاء جاءوا من روسيا والنمسا وإيطاليا. وقد تغيرت هذه الأرقام بمرور الوقت؛ ازدادت هجرة اليهود الأشكيناز من أوروبا الشرقية. افتتحت مدارس جديدة. في عام ١٨٨٥م أسس البارون يعقوب دي ميناس مدرسة خاصة في الإسكندرية. شغلت هذه المدرسة مبنًى ضخمًا في الضاحية ملحق به حديقة ومنشآت رياضية. بلغ عدد التلاميذ الذين كانوا يترددون على المدرسة ١٣٩ تلميذًا.
كانت مدرسة دي ميناس مدرسة مدنية، وذلك خلافًا للمدارس الدينية للطائفة. كان معظم المدرسين من الكاثوليك، ظلت المواد اليهودية قليلة. كانت الدروس العلمانية منقطعة الصلة بالواقع وعن احتياجات الحياة في مصر. لم يكن التلاميذ يدرسون في هذه المدرسة تاريخ مصر أو جغرافيتها، وبدلًا من ذلك فقد وُضع في أساس البرنامج تاريخ فرنسا وبنيتها الإدارية مع ذكر العديد من الأسماء والتواريخ.
كانت الفتيات في المدرسة التي أسستها عائلة دي ميناس في عام ١٨٩٢م يتعلمن الأعمال اليدوية، إلى جانب دراسة اللغات العبرية القديمة والعربية والإيطالية والفرنسية. وقد ازداد عدد الدارسين، حتى وصل في عام ١٩١٦م إلى ٣٦٥ دارسًا.
شهدت القاهرة أيضًا عددًا من المدارس التي افتتحت بفضل التبرعات؛ فوفقًا لتقدير وزارة الداخلية المصرية بلغ عدد المدارس اليهودية في القاهرة أربع مدارس من إجمالي ثماني عشرة مدرسة، كان يتردد عليها في عام ١٨٧٢م ١٥٥ تلميذًا، بينما وصل هذا العدد في عام ١٨٧٥م إلى ٢٢٥ تلميذًا.
في عامي ١٨٨٤ و١٨٨٥م بلغ عدد التلاميذ الدارسين في مدارس التلمود – التوراة في القاهرة ١٥٥ تلميذًا وهو نفس عدد التلميذات الدارسات فيها. وقد روعي في البرنامج تعليم اللغات العبرية القديمة والعربية والإيطالية والفرنسية، وكانت اللغة الأخيرة هي لغة الدراسة. كان مستوى التعليم في هذه المدارس رفيعًا، على أن كلًّا من مفتش الاتحاد المدعو بينيدكت، الذي زار المدارس في نهاية القرن التاسع عشر، ثم رئيس الجمعية الإنجليزية اليهودية المدعو كلود مولتيفيوري الذي زارها في عام ١٩٠٤م، أشارا إلى انخفاض مستوى التعليم فيها. من المحتمل أن يكون مستوى التعليم قد انخفض، أو تكون مطالب المفتشين هي التي ارتفعت.
كانت هناك مدارس مهنية في القاهرة كانت تعلم الخياطة وصناعة الأحذية والنجارة. في عام ١٨٩٢م وبدعم من القسم المحلي ﻟ «بنيّ-بريت» تم افتتاح مدرسة ميمون وكانت تضم خمسة فصول يتلقى التعليم فيها ١٣٠ تلميذًا باللغة الفرنسية. كانت المدرسة تعلم أيضًا اللغات العبرية القديمة والعربية والإنجليزية.
في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ظهرت في القاهرة منظمات صهيونية افتتحت لها مدارس خاصة بها. في البداية كان يتردد عليها مائة طالب، بلغ عددهم فيما بعد ٢٩٠ دارسًا من الجنسين، كانت غالبيتهم من اليهود الأشكيناز، وكانوا يتعلمون أيضًا اللغة العبرية القديمة.
وبسبب غياب التمويل الضروري بدأت المدرسة في الانهيار التدريجي. مع بداية عام ١٩٠٣م لم يتبق في المدرسة سوى ٤٠ تلميذًا، بينما انتقل الآخرون إلى مدرسة الاتحاد وإلى المؤسسة التعليمية التبشيرية. ولسبب ما آخر، بداهة، فقد التحق ابن الحاخام الأكبر للإسكندرية إلياهو خزان بمدرسة غير يهودية، على الرغم من أنها مدرسة غير تبشيرية. عمومًا فإن تعليم الأطفال من أبناء العائلات الغنية في مدارس غير يهودية كان ظاهرة واسعة الانتشار، الأمر الذي كان مستهجنًا من جانب أعضاء الطائفة أصحاب النزعة الأرثوذوكسية.
في القرن التاسع عشر حاول المبشرون المسيحيون بشدة جذب السكان اليهود إلى دينهم. في عام ١٨٤٧م أعلن المجلس الراعي لإحدى المدارس البروتستانتية، مستغلًّا في ذلك أحد اليهود المتحولين يُدعى لوري، أعلن عن تسهيلات في قبول التلاميذ اليهود في المدرسة، لكنه لم ينجح سوى في تحويل عدد قليل للغاية إلى المسيحية.
أعلن ممثلو الجمعية الإنجليزية اليهودية في الإسكندرية أن ثلث الأطفال اليهود في سن المدرسة لم يكونوا يترددون على المدرسة على نحو منتظم، بينما انتظم في الدراسة في عشر مدارس يهودية في المدينة ٤٥٣ تلميذًا و٤٤ تلميذة، أما المدارس اليهودية العلمانية فقد انتظم فيها ٤٢ تلميذًا يهوديًّا و٥٨ تلميذة. يفسر لنا هذا الوضع المقال الذي ظهر في صحيفة «خا-ماجيد» الصادرة في الإسكندرية في عام ١٨٨٨م، والذي جاء فيه أن مدرسي المدارس اليهودية في مصر لا يتحدثون اللغة الألمانية أو اليديش، بينما لا يعرف الأطفال المهاجرون الأشكيناز سوى هاتين اللغتين. هذا هو السبب الذي من أجله كان الأشكيناز يفضلون إرسال أبنائهم إلى المدارس التبشيرية، حيث كان الأطفال المتحولون إلى المسيحية يتعلمون اليديش أيضًا.
في عام ١٨٩٣م قام القسم السكندري ﻟﻠ «بنيّ-بريت»، بافتتاح مدارس مهنية يومية صباحية ومسائية، للحيلولة دون التحول الملحوظ للأطفال اليهود إلى المسيحية. وبعد مرور أربعة أعوام قام هذا القسم بافتتاح مدرسة أخرى في بورسعيد. وإلى جانب مدرسة التلمود – التوراة تم افتتاح دورات لتعليم اللغة العبرية القديمة. لكن ذلك لم يحل المشكلة؛ حيث إن المبشرين كانوا يعملون بحماس فائق، إلى حد أنهم كانوا يذهبون إلى المدارس اليهودية وكانوا يحاولون جذب التلاميذ بتقديم جميع التسهيلات لهم. وقد استسلم بعض أولياء الأمور لهذه الوعود.
المدارس التبشيرية | عدد اليهود الدارسين بها |
---|---|
كلية الجمعيات | ٢٥٠ |
المدرسة الإيطالية | ٢٥٠ |
المدرسة السويدية | ١٥٠ |
المدرسة الإسكتلندية | ١٠٠ |
الإجمالي | ٧٥٠ |
كان القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين زمنًا للتحولات الكبرى في تاريخ مصر. لقد أصبحت مصر ساحة لصراع مصالح الدول الأوروبية. تسارعت وتيرة عمليات تحديث البلاد، والتي شارك فيها السكان المسلمون، فضلًا عن الأقليات الإثنودينية، على الرغم من أن كلتيهما كانتا منعزلتين بعضهما عن بعض، ولكل منهما مؤسساتها الدينية الخاصة ومنظمتها الطائفية الخاصة، ومدارسها وأنظمتها القانونية، وقد أصبحت هذه الحدود أقل صرامة تدريجيًّا، وازدادت الاتصالات بين الجماعات المختلفة. إن التنافس بين اليهود والمسيحيين السوريين واليونانيين، وبين الإيطاليين أيضًا في التجارة والأعمال وفي مجال البنوك ظل أواره مشتعلًا، لكنه لم يعد يتخذ أشكالًا متطرفة كما كان يحدث من قبل.
أدى ازدياد حركة الهجرة اليهودية في تلك الفترة إلى أن الأقلية اليهودية أصبحت تشغل المرتبة الثالثة بعد المسلمين والأقباط. وقد وفرت الإدارة البريطانية لليهود أمانًا نسبيًّا، الأمر الذي انعكس على نحو جيد على وضع الطائفة. لكن كل ذلك زال بزوال الإنجليز.
حاولت المنظمات الصهيونية أن تجذب اليهود المحليين إلى أنشطتها، وذلك منذ نهاية القرن التاسع عشر تقريبًا وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ولكنها لم تحقق نجاحًا ملحوظًا في هذا الصدد. ويعود هذا الفشل في الأغلب إلى استقرار اليهود والازدهار النسبي لأحوالهم في ظل الإدارة البريطانية.
كانت مصر تدخل رسميًّا في نطاق الإمبراطورية العثمانية حتى الحرب العالمية الأولى، وقد ظلت منذ عام ١٨٨٢م ولاية عثمانية، موجودة تحت «الاحتلال البريطاني المؤقت»، ومن الناحية العملية فقد كانت جميع السلطات في البلاد في يد القنصل العام البريطاني.
وفي بداية الحرب العالمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م) وعلى الرغم من أن مصر كانت ما تزال تعد جزءًا من الإمبراطورية العثمانية، فإن الحكومة المصرية، بناءً على طلب من السلطات البريطانية في الخامس من أغسطس ١٩١٤م، قطعت علاقاتها مع حكومات التحالفات المعادية لبريطانيا ودعت المواطنين المصريين لتقديم جميع أشكال المساعدة لإنجلترا. وفي الثاني من نوفمبر عام ١٩١٤م وبعد دخول تركيا الحرب إلى جانب ألمانيا أُعلنت في مصر حالة الحرب. وفي الثامن عشر من ديسمبر عام ١٩١٤م أعلنت إنجلترا عن انفصال مصر عن الإمبراطورية العثمانية وعن انتقال هذا البلد ليصبح تحت الحماية البريطانية.