الطوائف اليهودية في سوريا وفلسطين في فترة الحكم العثماني
لقرون طويلة ظلت سوريا وفلسطين واقعتين تحت حكم المماليك قبل أن يقوم الأتراك بغزو مناطق الشرق الأوسط. كانت علاقة المماليك بيهود فلسطين متعددة الدلالة وكانت دائمًا ما تتغير تبعًا لأحوال السوق الخارجية والداخلية. وعلى الرغم من الظروف السيئة إجمالًا فإن تدفق اليهود من أوروبا شكَّل أهمية كبرى في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. كانت زيادة اليهود بدرجة ما، وإن كانت محدودة، سببًا في زيادة المزاج العدواني تجاه اليهود بين المسلمين المتطرفين. كان بناء سيناجوجات جديدة أمرًا محظورًا، كما لم يكن باستطاعة اليهودي، دون تصريح خاص؛ أي دون دفع رشوة، أن يبني أو يرمم بيتًا. وكانت الاتهامات توجه إلى اليهود، من حين لآخر، لإهانتهم الإسلام، وكانوا يُرغَمون على دفع فدية تجنبهم التهديد بالتنكيل والاضطهاد.
كان الجزء الأكبر من اليهود يعاني من الظلم والفقر المدقع، ويُعد انتقال يهود إسبانيا والبرتغال إلى الشرق الأوسط، وفلسطين على وجه الخصوص، حدثًا مهمًّا بالنسبة لسكان هذه البلاد، الذين كانوا يعيشون آنذاك تحت حكم المماليك. استقر هؤلاء اليهود بصفة أساسية في شمال فلسطين، فضلًا عن حلب أيضًا ودمشق. وبعد إنزاله الهزيمة بالجيوش المصرية، ومن بعدها هزيمة مماليك شمال سوريا في أغسطس عام ١٥١٦م، قام السلطان العثماني سليم الأول باحتلال جميع مدن المنطقة ومن بينها دمشق، أما أمراء جنوب لبنان، الذين انتقلوا إلى جانب المنتصر، فقد تُركوا ليظلوا حكامًا على أراضيهم.
حكام شمال لبنان، الذين ظلوا على ولائهم لحكام مصر، كانوا مضطرين للفرار. سوريا وفلسطين سقطتا تحت حكم الباشاوات الأتراك، الذين كانت لهم السلطة أساسًا على بعض المدن. لكن الجزء الأكبر من سوريا، وخاصة في المناطق الجبلية، ظل خاضعًا لورثة الأمراء والمشايخ، الذين كانوا يمتلكون فرقهم العسكرية الخاصة. هؤلاء، مثلما كان الأمر من قبل، كانوا يعقدون فيما بينهم تحالفات، أو يدخلون في صراعات ضد بعضهم البعض، دون أن يطلبوا إذنًا من الباشاوات، بل كانوا يعلنون التمرد عليهم من وقت إلى آخر.
لم تكن فلسطين من حيث المساحة أو تعداد السكان أو الموارد الطبيعية من الأقاليم المتميزة بالنسبة للسلاطين العثمانيين ولم يكن من الممكن أن تصبح مصدرًا لأية إيرادات ضخمة أو قوة عسكرية لدولة في حالة قتال مستمر، على النحو الذي كانت عليه الإمبراطورية العثمانية آنذاك. ومع ذلك فإن العدد الكبير نسبيًّا للفرمانات الخاصة بفلسطين يشير إلى أن هذه المحافظة (الولاية) كانت تمثل أهمية خاصة للحكومة، وكانت أهميتها تتمثل في كونها مكانًا للمقدسات التي يحترمها المشايعون للأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام.
وفضلًا عن ذلك، فإن فلسطين تقع بالقرب من الطرق التي يقطعها الحجيج في رحلتهم إلى مكة، وكانت حماية هذه الطرق تدخل ضمن الواجبات المقدسة للسلطان. كان الحجاج المتوجهون إلى مكة يدفعون دائمًا مقابل زيارة أورشليم والخليل والنبي موسى وغيرها من الأماكن المقدسة في فلسطين. ملأ اليهود والمسيحيون الذين كانوا يزورون الأماكن المقدسة في فلسطين خزانة السلطان، وقد ازدادت إيرادات الخزانة نظرًا لتطور علاقات الباب العالي مع الدول الأوروبية.
وفي هذه الفترة دخل جزء كبير من فلسطين ضمن أيَّالة دمشق (الشام)، التي خضعت لإدارة البايلرباي بدءًا من عام ١٥٤٨م. ضمت أيَّالة دمشق خمسة سناجق: غزة وأورشليم ونابلس، وشخيم وصفد. فيما بعد تغير تشكيل الولاية عدة مرات.
كان دعم النظام هو الوظيفة الأهم للإدارة العثمانية: جمع الضرائب، تعبئة المسلمين وقت الحرب. كان تنوع سكان فلسطين من الناحية الإثنودينية والاجتماعية والثقافية سببًا في خلق صعوبات كبيرة أمام الإدارة العثمانية. السكان المحليون من وقت لآخر كانوا يعلنون تمردهم ضد الأتراك، القبائل البدوية ضد الفلاحين، المسلمون ضد غير المسلمين (المسيحيون من جميع الطوائف، اليهود، الحامديون) السُّنَّة السلفيون ضد الدروز، أصحاب المذهب الحنفي ضد الشافعيين، وأنصار المذاهب الإسلامية الأخرى. وأخيرًا كانت هناك النزاعات القبلية والامتناع على نحو دوري عن دفع الضرائب.
كان تقدير تعداد سكان مدن الشرق الأوسط إبان الحكم العثماني أمرًا بالغ الصعوبة بسبب غياب إحصاءات موثوقة. جرى أول تعداد للسكان بالمعنى الحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. كانت المدونات التاريخية العثمانية في الفترة من القرن السادس عشر حتى القرن الثامن عشر، وصفية بالأساس، وكانت تتضمن قليلًا جدًّا من التوصيف الكمي، كما كانت الوثائق العثمانية تفتقر تمامًا أيضًا إلى المعلومات الديموجرافية الدقيقة، ونادرًا ما كان ممثلو الدول الأوروبية يتوصلون إلى الوثائق العثمانية. وبالنسبة لتعدادات السكان العثمانية، فإنها لم تكن تجري بانتظام أو على نحو تام. في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أجرت السلطات العثمانية تعدادًا (تحرير) بهدف تحصيل الضرائب، لكنها لم تأخذ بعين الاعتبار عدد السكان جميعهم، ولو فئات محددة، وإنما اكتفت بتعداد البيوت (هان)، التي يتم تحصيل الضرائب منها. كان التعداد يتم عدة مرات على مدى القرن.
ترك الرحَّالة والعملاء الأوروبيون وصفًا للأقاليم العثمانية، ويتضمن هذا الوصف بعض المعلومات عن تعداد السكان في تلك الأماكن التي زاروها. على أن هؤلاء أيضًا لم تكن لديهم معلومات وثيقة، وإنما كانوا ينقلونها أحيانًا من مصادر أقدم. لم يكن مؤرخو المصادر الإسلامية يولون اهتمامهم لهذه المعلومات الأجنبية أو تلك. كانت المعلومات عن فلسطين في المصادر اليهودية غير مكتملة أيضًا، وهي موجودة في خطابات اليهود المحليين ومذكرات الحجاج اليهود القادمين من أوروبا.
على امتداد القرن السادس عشر ازداد عدد غير المسلمين، وإنما على نحو أكثر بطئًا من المسلمين، الذين تضاعف عددهم في هذا القرن. أما اليهود فقد ازداد عددهم بفضل تدفق اليهود الأوروبيين. بلغ عدد اليهود في أورشليم حوالي ١٢٪ من إجمالي السكان. في البداية وبعد الغزوات التركية تراجع عددهم، كما تراجع عدد سكان هذه المدينة، نتيجة للإفلاس والتدهور. على أن الجماعات الأخرى تعرضت لمعاناة أخف وطأة. شكَّل نقصان المسلمين ٢٪ والمسيحيين ٧٪، أما اليهود فوصل إلى ٢٥٪. ولهذا فقد أصبحت أورشليم مدينة إسلامية أكثر من ناحية تعدادها. وفقًا لتعداد ١٥٦٢/١٥٦٣م (٩٧٠ هجرية) كان هناك ٢٣٧ عائلة يهودية و١٢ عازبًا.
وفقًا للمصادر العثمانية كان سكان أورشليم في القرن السادس عشر على النحو التالي:
تواريخ التعداد | اليهود | المسيحيون | المسلمون | إجمالي السكان | ||||||
---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|---|
١ | ٢ | ٣ | ١ | ٢ | ٣ | ١ | ٢ | ٣ | ||
١٥٢٥/١٥٢٦م (٩٣٢ ﻫ) | ١٩٩ | ١١٩٤ | — | ١١٩ | ٧١٤ | — | ٦١٦ | ٣٦٩٦ | ٣ | ٥٦٠٧ |
١٥٣٨/١٥٣٩م (٩٤٥ ﻫ) | ٢٢٤ | ١٣٤٤ | ١٩ | ١٣٦ | ٨١٦ | ٦٨ | ١١٦٨ | ٧٠٠٨ | ١٠٩ | ٩٣٦٤ |
١٥٥٣/١٥٥٤م (٩٦١ﻫ) | ٣٢٤ | ١٩٤٤ | ١٤ | ٣٠٣ | ١٨١٨ | ١٣٨ | ١٩٨٧ | ١١٩٢٢ | ١٥٦ | ١٥٩٩٢ |
١٥٦٢/١٥٦٣م (٩٧٠ﻫ) | ٢٣٧ | ١٤٢٢ | ١٢ | ٢٨١ | ١٦٦٨ | ١٤٤ | ١٩٣٣ | ١١٥٩٨ | ٢٠٤ | ١٥٠٦٦ |
العمود رقم ١ يشير إلى تعداد العائلات، رقم٢ يشير إلى عدد العائلات، رقم ٣ يشير إلى عدد الذين يعيشون بمفردهم دون عائلات.
في المتوسط عدد أعضاء العائلات اليهودية كان أقل من العائلات المسلمة، على أن اليهود الذين كانوا يتوافدون بشكل مستمر على أورشليم كانوا يرغبون في الموت في الأراضي المقدسة.
يهود أوروبيون | ١٠١ | عائلة |
يهود صقليون | ٢٨ | عائلة |
يهود محليون (مستعربون) | ٢٥٥ | عائلة |
قرَّاءون | ٣٦ | عائلة |
سامريون | ٦٠ | عائلة |
وتبعًا للشريعة الإسلامية كان غير المسلمين في الدول الإسلامية يدفعون جزية على كل نفس. وقد كانت مطبقة قبل ذلك في عهد الخليفة عمر. كان يتم تحصيل هذه الضريبة من كل شخص حر بالغ صحيح البدن. وتبعًا للشريعة فقد كانت النساء والأطفال والشيوخ والمعاقون والمجانين والعبيد والمعوزون، الذين يعيشون على الصدقات يُعفَون من الضريبة (الجزية)، كما يعفى منها أيضًا الأجانب الموجودون على الأراضي العثمانية بشكل مؤقت.
كانت الجزية تُحصَّل إما من جميع الطوائف غير المسلمة دفعة واحدة، وإما على نحو فردي من كل دافع. وعلى الرغم من أن تحصيل الجزية من اليهود والمسيحيين في أورشليم كان يتم على نحو فردي، فإن الطائفة هي التي كانت تقوم بجمعه وسداده وفقًا لثلاث فئات من الدافعين تبعًا لقدرة كل منهم المادية.
الجزية المتحصلة من أيَّالة دمشق لم تتغير تقريبًا لمدة طويلة وكان المبلغ الداخل إلى خزانة الإمبراطورية هو نفس المبلغ المعتاد. لكن هذا لم يكن يعني أن الباشاوات كانوا يجمعونها بنفس المقدار. كانت المبالغ المدفوعة تتغير تبعًا لظروف محددة، وأحيانًا كانت تدفع قسرًا. كانت هناك أيضًا أخطاء وخلل في قوائم دافعي الجزية. في عام ١٥٦٨م وما بعدها اشتكى يهود أورشليم من دفتردار سوريا، لكونه أدرج الحجاج الذين كانوا يقيمون بصفة مؤقتة في المدينة وكذلك أدرج الموتى إلى هذه القوائم. وقد قام الدفتردار حسن أفندي بزيارة أورشليم نتيجة لهذه الشكوى وشرح للقاضي ضرورة التمييز بين السكان المقيمين بصفة دائمة وبين القادمين بصفة مؤقتة. وفي النهاية اضطرت إدارة المدينة إلى تخفيض قيمة الضريبة (الجزية). على أنه، على ما يبدو، فإن تعداد اليهود دافعي الضرائب كان يشكل مشكلة للسلطات المحلية. ووفقًا لترتيبات السلطان، فقد قام والي دمشق بإحاطة السلطة في أورشليم بعدم وجود معلومات دقيقة بشأن عدد اليهود الذين كانوا يعيشون في الإقليم. ومن أجل ضبط التعداد وعمل قوائم فقد وصل من إسطنبول أحد الموظفين الكبار. وقد قام هذا المفوض بنفسه ببحث الأوضاع في أورشليم ونابلس وغزة. وقد خصصت وثيقة خاصة لكل دافع، أشير فيها إلى اسمه وسِنه وتاريخ مجيئه إلى المدينة، وكذلك إلى صفاته البدنية وخواصه الظاهرية.
ونتيجة لهذا التعداد الدقيق تبين أنه على مدى السنوات العشر من ١٥٦٢/١٥٦٣م وحتى ١٥٧٢/١٥٧٣م، انخفض تعداد الطائفة اليهودية في أورشليم إلى الثلث، ومن ثم فقد كان هناك ستون شخصًا ملتزمين بدفع الجزية، وليس تسعون كما ورد في القوائم. كان لانخفاض تعداد يهود أورشليم بعد عام ١٥٦٠م أسباب مختلفة: سفر الحجاج، حالات الوفاة بين أفراد الطائفة، وخاصة بين الفقراء، الذين كانوا يعيشون على الصدقات.
ظهر سخط السكان المحليين تجاه حكم الأتراك سريعًا للغاية بعد ظهور الأتراك في المدينة. في بداية حكم السلطان سليمان الأول العظيم (١٥٢٠–١٥٦٦م)، الحاكم المحلي للإقليم الذي كان قد تم غزوه غير بعيد، أعلن تمرده. وسرعان ما تم قتله ليتم تغيير جميع الحكام المحليين إلى حكام أتراك. انقسمت أيَّالة دمشق إلى سناجق كانت وحدات إدارية وعسكرية واقتصادية وقضائية، كانت تنقسم بدورها إلى مناطق أصغر.
وضعت الحكومة العثمانية في أيَّالة دمشق وحدات عسكرية، كانت تتسم بالفساد وسوء النظام. وقد شاركت هذه الوحدات نفسها في أعمال الفوضى والنهب التي جرت هنا. لم يُجْد التغيير المتكرر لحكام الأيَّالة نفعًا في إشاعة الاستقرار. كان الباب العالي يقوم بتغيير بعض الباشاوات لضعفهم، عندما يعجزون عن سداد المبلغ المطلوب من الضرائب، ويُغير البعض الآخر عندما ينجحون في كسب نفوذ كبير للغاية، وخاصة في بعض الأماكن، التي تنذر بالتمرد. عندئذ كان الباب العالي يرسل قواته لإخمادها. وقد حدث أن قام الباب العالي بتسليح أحد الحكام المحليين سرًّا ضد حاكم آخر.
في نهاية القرن السادس عشر الميلادي تم تعيين عدد من العرب، من رؤساء القبائل البدوية أساسًا، في منصب السنجق-باي. على أن أعمال التمرد في منطقتي سوريا وفلسطين لم تتراجع. كان المشاركون في قمع التمردات وحملات الغزو يحصلون على أراضٍ على سبيل المكافأة. تدريجيًّا بدأ الفساد يمس وحدات الإنكشارية التي كانت في السابق منظمة تنظيمًا جيدًا. وقد حدث ذلك عندما بدأ السماح للمواطنين المحليين، الذين لديهم مصالح في المنطقة، بالالتحاق بتشكيلات الإنكشارية. استمر التجار يشتكون إلى الحكومة المركزية من ظلم السلطات المحلية ومن السرقة والنهب، وقد حاول الباب العالي أن يفعل شيئًا ما فأصدر أوامره بإنشاء أسواق مسقوفة محاطة بالحراس.
ومن المعروف أن يهود صفد كانوا يشتكون من أن السلطات المحلية كانت تجبرهم على العمل أيام السبت، وهو الأمر الذي تُحرِّمه شريعتهم، وكذلك من التعسف والابتزاز.
مع مطلع القرن السابع عشر الميلادي أصبح وضع بايات السناجق وغيرهم من الشخصيات الرسمية الرفيعة، الذين أرسلتهم إسطنبول، أقل استقرارًا، الأمر الذي كان مرتبطًا ببداية انهيار آليات الإدارة المركزية.
هناك وثائق أيضًا تتضمن معلومات عن الصدامات التي وقعت بين اليهود والسامريين، الذين كانوا يخدمون سلطات أيَّالة دمشق، وخاصة في الإدارة المالية. وقد وصلت إلى إسطنبول شكاوى تتعلق بإساءة استخدام مناصبهم.
كان اليهود يتمتعون بقدر من الاستقلال الذاتي في إدارة وتنظيم شئونهم الخاصة.
كانت الطائفة تختار مفوضًا لها بهدف إجراء الاتصالات مع السلطات يعرف باسم «شيخ طائفة اليهود»، ويسمى اختصارًا «شيخ اليهود» أي رئيس الطائفة، وكان يمثل طائفة أورشليم، ولكن كان أيضًا يطمح إلى السلطة في الخليل، على الرغم من أن اليهود فيها لم يكونوا يخضعون له.
كان قاضي أورشليم يقوم باعتماد منصب شيخ اليهود وذلك في اجتماع المحكمة الشرعية. يسبق ذلك النظر في العريضة التي تقدم بها اليهود لتأكيد اقتراحهم بشأن الترشيح. كان رئيس الطائفة المعتمد يُعين أمين الخزانة ثم يقوم بالإشراف على تقسيم الضرائب وفقًا للوضع المالي لكل عضو في الطائفة. وفي حالة ما إذا تلقى القاضي شكاوى بشأن تقسيم الضرائب، فإنه لم يكن يحاول أن يقوم بنفسه بحل الخلافات المتعلقة بذلك، وإنما كان يتصرف في الأمر من خلال شيخ اليهود. كان رئيس الطائفة يشترك في مراسم الزواج والدفن. وفي جميع الأحوال لم يكن يمتلك سلطات استثنائية. وكثيرًا ما كان يُضطر للجوء لتلقي المساعدة من القاضي، الذي كان معنيًّا أيضًا بشكل رسمي بعملية دفع الضرائب. كان على القاضي أن يُصدِّق على كل عقد للزواج، كما تقع على كاهله مسئولية أن تئول أملاك اليهودي، الذي يفارق الحياة، دون أن يكون له ورثة، إلى «بيت المال»، الذي يقوم الموظف المسئول عنه باستخراج تصريح الدفن.
وإذا لم يستطع شيخ اليهود أن يجمع الجزية بأكملها في الموعد المحدد، فإنه يدفع المال المستحق من جيبه الخاص، وغالبًا ما كان يحصله بعد ذلك قسرًا من دافعي الضرائب بمساعدة القاضي، بعد أن يلجأ، كما كان يحدث، إلى العنف. وبدوره فقد كان يتم تعويض أعضاء الطائفة عن الأموال التي جمعها من الطائفة دون وجه حق وذلك بمساعدة شيخ اليهود، الذي كان منوطًا أيضًا باستئجار ودفع رواتب الحراسة الليلية لحماية الحي اليهودي من اللصوص ومتابعة بيع وشراء الحبوب وغيرها من السلع الغذائية وخَبْز العيش وذبح الماشية وبيع لحم الكاشير. كان شيخ اليهود مسئولًا عن نشاط خدمات الطائفة وعن عمل سيناجوجات الولاية بأكملها والعمل على إنزال العقاب بالمذنبين، بمعنى أن رئيس الطائفة كان مسئولًا عن جميع الشئون الإدارية والاقتصادية، وعن دعم النظام الاجتماعي والقانوني، وعن توفير الأمن والرخاء للطائفة.
كانت المسائل القانونية تدخل في نطاق نشاط القاضي الشرعي، الذي كان يتولى أيضًا مسئولية إجراءات الزواج والدفن. كان القاضي هو الذي يعتمد ترشيح القاضي الشرعي (ديَّان) بناء على توصية كبار رجال الطائفة.
وفي واقع الأمر فقد كان القاضي هو الذي يقوم بوظيفة حاخام الطائفة. وعلى الرغم من أن السلطات العثمانية لم تكن تتدخل في أداء مراسم الزواج أو الدفن، فإنها كانت تطلب مع ذلك دفع مبالغ مالية. كان القاضي يمثل أعضاء الطائفة في المحكمة الشرعية إذا ما اقتضت الضرورة ذلك، وكان هو المسئول عن النواحي الأخلاقية لشركائه في العقيدة، وكان أحيانًا ما يقوم بتعليم الأطفال في المدرسة وممارسة الأعمال الاجتماعية وخاصة إدارة الأوقاف اليهودية.
كان السفارديم والأشكيناز طائفتين منفصلتين لكل منهما قاضيها، كما كانت طائفة القرَّائين منفصلة بذاتها وكانت لها أيضًا إدارتها الخاصة. كان القاضي مسلمًا على المذهب الحنفي، وكان يعتبر أن قاضي اليهود السفارديم شخصًا أكثر أهمية من نظيره الأشكينازي. وأخيرًا فقد كان لكل طائفة يهودية المغني الأول وجزار الماشية الذي يعمل وفقًا لطقوس الذبح. كان القاضي مسئولًا عن الخلافات التي تحدث في الطائفة ككل، وخلافًا له كان رئيس الطائفة مسئولًا أيضًا عن كل عضو فيها. كان عليه أن يكون هو المفوض والضامن للصفقات عندما يكون اليهودي هو الدائن، على سبيل المثال، بينما يكون المسلمون أو المسيحيون هم المستدينين. وفي بعض الأحوال كان شيخ اليهود هو الذي يقدم بعض أعضاء الطائفة للمثول أمام القاضي.
في المجتمع الإسلامي كانت المسئولية تُمارس على نحو جماعي. وقد كانت، بطبيعة الحال، تتمثل في أشخاص بعينهم؛ فكبير العائلة مسئول عن كل أعضائها، والشخص المعين رئيسًا للحي مسئول عن سكانه، وشيخ اليهود مسئول أمام السلطة العليا عن جميع أعضاء الطائفة. أما ذوو الشأن والميسورون فهؤلاء لم يكن يزيد عددهم في الطائفة على ١٠ إلى ١٥ شخصًا وكانوا مسئولين عن جيرانهم الأقل ثروة.
هناك حالات شهيرة عن شكاوى تقدم بها اليهود ضد جيرانهم المسلمين؛ ففي عام ١٥٥٦م قدَّم اليهود إلى القاضي التماسًا لحمايتهم من شيخ الحي الإسلامي المجاور (محلي) المدعو الريشة، والذي كان يضطهدهم. سبق أن ذكرنا أن الأتراك كانوا يعتبرون القرَّائين يهودًا، ومن ثم فقد ألزموهم بدفع الجزية مع الطائفة اليهودية وليس بمفردهم، الأمر الذي كان معمولًا به مع مختلف المذاهب المسيحية. كان القرَّاءون ملزمين بالخضوع لإدارة الطائفة اليهودية وعلى رأسها شيخ اليهود. كان عدد القرَّائين قليلًا بالنسبة لعدد حاخاماتهم، ولكنهم كانوا جميعًا مع ذلك مُمثلين في إدارة الطائفة اليهودية.
استمر الخلاف والانفصال بين السفارديم والأشكيناز زمنًا طويلًا. وفي مطلع التسعينيات من القرن السادس عشر أصبح الحاخام بيتساليل أشكينازي شيخًا لليهود، وقد حاول أن يجمع بين الأشكيناز والسفارديم. وقد أخذت الاختلافات بينهما في الزوال على نحو بطيء. أخذت طائفة السفارديم الأكبر بين الطوائف في التكامل تدريجيًّا مع اليهود المنحدرين من المغرب واليمن، الذين ظلوا محتفظين طويلًا بخصائصهم، كما ظلت طائفة الأشكيناز في مطلع القرن السابع عشر منعزلة وترفض دفع الضرائب بالاشتراك مع السفارديم.
في سوريا، التي وقعت تحت الحكم العثماني في القرن السادس عشر الميلادي، وفي تلك الفترة كانت هناك طوائف يهودية صغيرة. بعد طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال وصقلية وغيرها من الأراضي الأوروبية ازداد عددهم في كل من حلب ودمشق. كان حكام الولاية، مثلهم مثل جميع الصفوة العثمانية، يتبعون مذهب الإسلام السُّنِّي، وعلى الرغم من أن جميع سكان سوريا، سواء المسلمون أو المسيحيون واليهود، كانوا رعايا عثمانيين، إلا أن الحكام المحليين كانوا يتمتعون في فترة ما باستقلال كبير.
على أنه وبغض النظر عما إذا كانت الولاية كان يحكمها باشا من المحليين أو من الذين أرسلتهم إسطنبول فقد كان الظلم والجور سوطًا مسلطًا على السكان، وخاصة الذميين (المسيحيون واليهود). أصبحت حلب في الفترة من القرن السادس عشر وحتى القرن الثامن عشر أحد مراكز التجارة في المشرق العربي، وفي شمال سوريا أقيمت قنصليات ومصانع لكل من فرنسا وهولندا وإنجلترا وفينيسيا.
ازدادت أعداد الطوائف اليهودية المحلية نتيجة تدفق أبناء عقيدتهم من الأوروبيين، الذين كانوا يقومون بأعمال الوساطة في التجارة الأوروبية في الشرق الأوسط. كانت هناك اختلافات في اللغة (كان المحليون يتحدثون بالعربية بشكل أساسي)، وكذلك في أسلوب قراءة النصوص المقدسة وفي مراسيم الزواج وغيرها من العادات.
كان اليهود الأوروبيون، الذين عاشوا في حلب، يمتلكون جوازات سفر إنجليزية وهولندية وفينيسية ونمساوية وفرنسية. وقد تركت علاقاتهم بأبناء عقيدتهم المحليين مجالًا لتمني الأفضل. هؤلاء كانوا يعيشون في رغد وفي بيوت جميلة، لكنهم لم يكونوا يملكون سيناجوج خاصًّا بهم، رغم أنهم كانوا يؤدون صلواتهم بمفردهم، كما أنهم لم يكونوا يدفعون اشتراكات إلى الطائفة اليهودية المحلية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نزاع صريح في منتصف القرن الثامن عشر. وقد حاول الحاخام الأكبر للسفارديم المدعو سولومون لانيادو أن يرغم اليهود الإفرنج على الانضمام إلى الطائفة اليهودية المحلية وأن يقوموا بالوفاء بكل التزاماتهم، بما في ذلك دفع الضرائب للباب العالي. ومع ذلك فقد كان اليهود الإفرنج ينفقون أموالهم على بعض بنود نفقات الطائفة، على مصروفات السيناجوجات، على سبيل المثال. كان اليهود الإفرنج، الذين عاشوا في مدن تجارة المشرق، يتمسكون ببعض العادات الأوروبية. وخلافًا للنساء الشرقيات، كانت زوجاتهن يظهرن على الناس سافرات. كان اليهود الإفرنج يستأجرون يهودًا محليين للعمل كوكلاء وكتبة وعمال في شتى المجالات وكان أطفالهم يتعلمون في المدرسة مع أطفال اليهود المحليين.
كان عبء الضرائب أمرًا ملموسًا حتى لدى الطوائف الموسرة نسبيًّا، حتى إن الطائفة اليهودية قامت في نهاية القرن الثامن عشر ببحث مسألة بيع زخارف السيناجوجات من أجل دفع الضرائب. وفي هذا السياق كان اليهود مشاركين في منظومة جمع الضرائب. كان الباشاوات يدفعون للسلطات الرسمية بهدف الحصول على المناصب، أما جامعو الضرائب، مثلهم في ذلك مثل أمناء الخزانة، فكانوا يعملون باعتبارهم ضامنين لسداد الأموال إلى الخزينة، ولهذا كانوا يحصلون على عمولات مرتفعة كانت تزيد من عبء الضرائب الباهظة أساسًا. كانت الضرائب في تلك الفترة مرهقة إلى حد أن الغالبية الساحقة من اليهود كانت تحيا حياة خاملة بسبب الفقر، أما الذين كانوا يعملون بالعمليات المالية، فكانوا يُعدون على الأصابع، وهؤلاء كان ثراؤهم يرتبط ارتباطًا تامًّا بالسلطات المحلية، وكان اهتمامهم مُنصبًا بالأساس على الحفاظ على وضعهم.
كان اليهود والمسيحيون يعملون بجمع الرسوم الجمركية إلى جانب الضرائب. وفي هذا المجال كانت الطلبات من التجار الأجانب أكثر منها من السكان المحليين.
ومنذ عام ١٨٣١م وحتى عام ١٨٤٠م فقد الأتراك السيطرة على فلسطين وسوريا، فقد استولى عليهما محمد علي والي مصر، الذي أعلن استقلاله تقريبًا عن الباب العالي.
أثار ظهور القوات المصرية وهي تسير بمصاحبة الموسيقى، التي كانت تُعزف على آلات موسيقية أوروبية، غضبًا شديدًا لدى المسلمين المحليين. وقد وافق محمد علي في عام ١٨٣٤م، بعد أن دعم سلطته في سوريا وفلسطين، على دفع مبلغ محدد من الضرائب إلى السلطان محمود الثاني، وكذلك أعطى محمد علي السلطة على الأقاليم التي تم غزوها إلى إبراهيم باشا، الذي اتخذ من دمشق مقرًّا لإقامته. وأصبحت فلسطين التي وصلت حدودها الشمالية إلى صيدا ولاية مُوحَّدة.
استطاع المصريون، الذين حكموا هذه الأقاليم حوالي ثمانية أعوام، أن يُدخلوا إليها عددًا من الإصلاحات على الطريقة الأوروبية، وهو ما أثار مقاومة العرب المحليين. وقد تم إخماد التمرد في عدد من المدن بالقوة.
سمح إبراهيم باشا بنشاط المبشرين المسيحيين وكذلك فتح الباب أمام النشاط العلمي والبحثي والتربوي للأوروبيين. وفي عام ١٨٣٨م سمحت السلطات المصرية لإنجلترا بفتح قنصلية لها في أورشليم (كانت القنصليات الأوروبية قبل ذلك موجودة فقط في موانئ عكا وحيفا ويافا وبعض المدن السورية). كان مسموحًا للطوائف غير المسلمة ببناء وإصلاح مبانيها الدينية دون قيود مسبقة، كما كان مسموحًا أيضًا لممثليها الدخول إلى مجلس النواب إلى جانب النواب المسلمين.
شاركت التشكيلات العسكرية المسيحية من لبنان في تسوية النزاعات المحلية، وبدأ المسلمون يفقدون الإحساس بالتفوق، الذي استمر لقرون طويلة، وهو ما أثار حفيظتهم ضد المسيحيين، فضلًا عن النظام المصري أيضًا.
صَبَّ النظام الجديد لجمع الضرائب وكذلك إجراءات مركزية الإدارة ومحاولات إعطاء غير المسلمين بعض الحقوق، صَبَّ الزيت على النار. وللمرة الأولى بعد مرور عدة قرون أصبحت أراضي الشرق الأوسط مفتوحة أمام النفوذ الأوروبي. وقد حددت إصلاحات محمد علي الإصلاحات التي أدخلها محمود الثاني إلى حد ما، وهيأت المناخ للإصلاحات التالية لعصر التنظيمات.
لم يكن إعلان وثيقة جولخان في عهد السلطان عبد المجيد في عام ١٨٣٩م هي الأخيرة من نوعها التي ارتبطت بالأمل في تلقي المساعدة العسكرية من جانب الدول الغربية في الصراع على مصر وسوريا وفلسطين، إلى سيطرة الباب العالي. لم ينجح الباشاوات السابقون أن يفرضوا سلطتهم؛ فقد كانت الإدارة الجديدة مركزية على نحو صارم، على الرغم من أن نظام الباشاليك ظل كما هو.
محل الإقامة | مسيحيون | مسلمون | يهود |
---|---|---|---|
أورشليم | ١٠٠٠٠ | ٢٥٠٠٠ | ١٠٠٠٠ |
نابلس | ١٥٠٠ | ١٠٠٠٠٠ | ١٠٠ |
غزة | ٥٠٠ | ٤٠٠٠٠ | — |
الخليل | ١٠٠٠ | ٢٥٠٠٠ | ٢٥٠٠ |
يافا | ٣٠٠٠ | ١٥٠٠٠ | ١٠٠٠ |
رام الله | ١٠٠٠ | ٧٥٠٠ | — |
اللد | ٨٠٠ | ٦٢٠٠ | — |
الإجمالي ٢٥٠١٠٠ | ١٧٨٠٠ | ٢١٨٧٠٠ | ١٣٦٠٠ |
أدى الحكم المصري لسوريا وفلسطين في ثلاثينيات القرن التاسع عشر إلى تحسن وضع غالبية السكان فيهما وتم إقرار نظام لجمع الضرائب أكثر عدالة، أُدخلت وظائف اجتماعية جديدة، اتخذت إجراءات لتأمين حياة وأملاك سكان هذه الأراضي. وكانت النتيجة هي تحسن المؤشرات الاقتصادية. لكن كل ذلك تم بيد من حديد. وبوصول الأتراك كان من الضروري الاهتمام بدعم النظام بالدرجة الأولى، فقد استمر البدو والجبليون في العيش وفقًا لقوانينهم. كان وجود النساء في أوساط أعضاء مجلس النواب والعلماء المحليين والشخصيات البارزة يعتبر من الأمور المعتادة.
الغالبية الساحقة من السكان في سوريا كان لديها سلاح. كان من الضروري وجود تشكيلات بوليسية وعسكرية قوية من أجل جمع الضرائب على نحو فعَّال وكذلك أخذ مجندين جدد. كانت مسألة إنشاء تشكيلات عسكرية مضمونة من بين السكان المحليين، الذين كانوا يتكونون من جماعات يعادي بعضها بعضًا، أمرًا بالغ الصعوبة. ومن ثم جرى استبدال القوات القديمة غير النظامية بقوات نظامية وبالسباهية وما إلى ذلك.
على أن الأتراك لم ينجحوا في إخضاع القبائل البدوية ودروز فيدون. وسرعان ما اضطروا مرة أخرى أن يملئوا التشكيلات العسكرية على حساب السكان المحليين، حيث إن الحكومة كانت منهمكة في الحرب وكانت مضطرة لاستدعاء وحدات من القوات الموجودة في الأقاليم، التي كانوا مرابطين فيها.
واحد من أكثر إعلانات التنظيمات أهمية تمثَّل في البند الخاص بتغيير وضع السكان غير المسلمين. وكان محمود الثاني قد قام ببعض الجهد في هذا الاتجاه من قبل. على أن أول حاكم نجح بالفعل في تحسين وضع غير المسلمين في سوريا وفلسطين كان إبراهيم باشا. إبان ولايته تم التوصل إلى عدد من النتائج، وخاصة ما كان منها مناسبًا للمسيحيين ولليهود أيضًا وإن بدرجة أقل عندما سمح لهم بالدخول في الخدمة المدنية، وقد شغل بعض المسيحيين مناصب رفيعة في الجهاز الإداري في سوريا. كما شغلوا أماكن في مجالس النواب، ومن أجلهم تم إلغاء حظر ركوب الدواب والقيود المفروضة على ارتداء ملابس معينة. وقد أثارت هذه الإجراءات، بطبيعة الحال، غضب المسلمين. إصلاحات التنظيمات، التي أعلنت في الإقليم السوري، أكدت على نحو رسمي وضع غير المسلمين هنا، الذي كان موجودًا إبان الحكم المصري لها، على أنه وحيث انحسرت قسوة اليد الحديدية لإبراهيم باشا، فقد اصطدمت السلطة بمقاومة أكثر فعالية من جانب المسلمين المحليين.
تجدد العنف وازدادت وتيرته ضد الأجانب، كما تضاعف عدد الهجمات والمعاملة المهينة والنهب بل والقتل أيضًا. كان العداء موجهًا بشكل أساسي ضد المسيحيين، الذين لعبوا دورًا أكبر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للإقليم. كان هؤلاء قد نجحوا في الاستفادة على نحو أفضل من الوضع الجديد، بالإضافة إلى أنهم كانوا يتمتعون بحماية شديدة من جانب الدول الأجنبية، الأمر الذي أثار غضب المسلمين الشديد نحوهم، على نحو أكثر من الغضب الذي ناله جميع اليهود المحليين المُذلِّين المظلومين.
بظهور قدر ما من الحرية كان الأجانب أكثر قدرة على المنافسة من المسلمين. كانوا أكثر تعليمًا، بقدر نمو عدد المدارس الإرسالية، التي فتحت أمامهم الفرصة للوصول إلى المناصب الاجتماعية والخدمة المدنية. الشخصيات الرسمية من المسيحيين كانت تحمل ألقاب «البيك» و«الأفندي»، وهي ألقاب تعني عند الأتراك وضعًا رفيعًا. وعلى الرغم من أن عددًا كبيرًا من الصيارفة السابقين الذين كانوا من اليهود والمسيحيين فقدوا وظائفهم، فإن أعضاءً آخرين من هذه الطوائف شغلوا مناصب رفيعة في مجال المال والأعمال وخاصة في تلك المدن مثل دمشق وحلب. كان المسيحيون واليهود يشغلون مواقع حساسة في التجارتين الداخلية والخارجية. الموظفون المسلمون والوجهاء، الذين فقدوا مكاناتهم السابقة، أصبحوا مدينين لأصحاب البنوك من المسيحيين واليهود.
ألغيت الجزية في مايو من عام ١٨٥٥م، على أن الأجانب كانوا يدفعون ضريبة «بدل العسكرية»، مقابل عدم خدمتهم في الجيش العثماني. كانت هناك قيود مفروضة على شراء غير المسلمين للأراضي، كما حظر على المسلمين بيع الأراضي والعقارات لهم. استمرت المحاكم الإسلامية في التدخل في شئون ميراث ملكية عقارات المسيحيين واليهود، على الرغم من أن قوانين التنظيمات كانت تمنع ذلك.
في عام ١٨٤٧م تم الاعتراف بشهادة غير المسلمين ضد المسلمين في المحاكم. وفي عام ١٨٥١م بدأ في بيروت نشاط المحاكم الجنائية والتجارية المختلطة، وقد طبق ذلك الأمر في دمشق وحلب في عام ١٨٥٤م. كانت هناك وقائع قامت فيها المجالس النيابية المحلية بالتمييز في المعاملة الدينية والاقتصادية وغيرها للمسيحيين واليهود، وعندئذ كان هؤلاء يضطرون للجوء إلى القنصليات الأوروبية بالتماسات لحمايتهم.
بحلول القرن التاسع عشر أصبح مجلس النواب في أورشليم يضم من سبعة إلى عشرة نواب مسلمين وأربعة خمسة من غير المسلمين، آنذاك كان تعداد السكان غير المسلمين يفوق عدد المسلمين على نحو ملحوظ. وإذا لم يكن في حلب في عام ١٨٤٠م نائب واحد غير مسلم، في مجلس النواب المحلي، خلافًا للنظام الحكومي؛ فقد سُمح بعد ذلك لاثنين من المسيحيين، ولم يسمح ليهودي واحد بالانضمام إلى هذا المجلس. أما مجلس النواب في دمشق فكان مكونًا من ثلاثة عشر مسلمًا واثنين من المسيحيين ويهودي واحد. ولم يكن المجلس في اجتماعاته يولي اهتمامًا كبيرًا لرأي غير المسلمين، ومع ذلك فقد كان حضورهم ذاته في مؤسسات السلطة في بلد إسلامي طفرة كبيرة.
كان الفقر المدقع سائدًا في المدن المزدحمة بالسكان؛ حيث كانت تعيش أكبر الطوائف اليهودية عددًا. في مقالة «إعلان الحرب: مدخل إلى تاريخ ظهور المسألة الشرقية» كتب كارل ماركس يقول:
إن ما يُقدم من إحسان من يهود الشتات إلى يهود فلسطين (حلوقة) ونشاط هؤلاء المحبين للإنسانية، مثل موسى مونتيفيوري، كان يخفف جزئيًّا من الوضع المزري ليهود فلسطين؛ فبعد أن زار فلسطين مرتين، في عامي ١٨٢٧م و١٨٤٠م، أنفق مونتيفيوري بسخاء على مختلف الأغراض الخيرية، بما فيها تعليم الأطفال اليهود، كما أنه قدم الدعم لخطط إسكان اليهود في المناطق الزراعية، وتعليم اليهود الحرف، فضلًا عن الزراعة. وفي عام ١٨٥٤م افتتحت في أورشليم أول مدرسة أوروبية، ثم افتتحت في عام ١٨٥٦م أول مدرسة مدنية، ثم افتتحت بعدها مدارس أخرى، وقد موَّل م. مونتيفيوري أيضًا بناء مساكن لليهود خارج حدود المدينة القديمة المحاطة بالأسوار.
في عام ١٨٦٧م أكَّد الباب العالي على حق الرعايا الأجانب في اتباع المعايير المعمول بها في دولهم، على أنهم أرغموا على دفع بعض الضرائب العثمانية بعد إلغاء الجزية، وطبقت الرقابة من قبل المحاكم العثمانية. أدى إصدار قانون التأميم في عام ١٨٦٩م إلى صعوبة تجنس الرعايا العثمانيين غير المسلمين بجنسية أخرى.
من بين يهود سوريا وفلسطين كان الأشكيناز على وجه الخصوص يحصلون بشكل حيوي على الجنسية الأجنبية. كانت السلطات العثمانية تأخذ أكثر بعين الاعتبار السفارديم، الذين كانت لهم السيادة على طوائف هذه البلاد. كان الحاخام الأكبر للسفارديم يتمتع بسلطة كبيرة داخل الطائفة وكانت له حراسة خاصة.
أخذ تعداد اليهود الأشكيناز في التصاعد، وبدءوا في الجدل حول أولوية السفارديم داخل الطائفة، وأبدوا رفضهم للحياة تحت مظلة التشريعات الحاخامية السفارديمية. كذلك لم تكن تناسبهم القوانين العثمانية وأسلوب الحياة الشرقي. كانت الغالبية الساحقة منهم ترغب في أن تظل أوروبية وأن تعيش في الأراضي المقدسة. كانت السلطات العثمانية تدفع لهم نفس العملة، معتبرة إياهم «عنصرًا غريبًا»، الأمر الذي أدى إلى تعقيدات كبيرة؛ حيث إن الحكومة العثمانية كانت تعتبر السفارديم هم فقط «يهودًا بمعنى الكلمة»، ولم تكن تعترف بطائفة الأشكيناز مطلقًا باعتبارهم شيئًا ما منعزلًا.
كان السامريون والأقباط أيضًا يطلبون الدعم من القناصل، لكن الأشكيناز كانوا هم أصحاب المبادرة بصفة خاصة. وفي نهاية الخمسينيات من القرن التاسع عشر أعلن الباب العالي أن الدفاع الأجنبي عن الأشكيناز يلحق الضرر بالمصالح العثمانية.
الذين دافعوا عن نظام الحماية، وهو النظام الذي ظهر في فترة العظمة العثمانية وازدهار الإمبراطورية، كانوا آنذاك قلة من الأجانب الذين لم يكن قانون الدولة الإسلامية يطبق عليهم. هذا النظام رفع من الإحساس بالأمان لدى غير المسلمين، الذين وفدوا إلى الإمبراطورية، كما شجع على ممارسة التجارة وتطوير العلاقات مع الدول الأوروبية. على أنه ومع ضعف الإمبراطورية العثمانية، عندما بدت علامات انهيارها واضحة جلية، أصبح هذا النظام يمثل خسارة أكبر للدولة.
في عصر الهيمنة التركية على الأراضي العثمانية كانت هناك أشكال من التمييز الإثني والتعاون الاقتصادي، وفي الوقت نفسه كان هناك أيضًا تنافس شرس ومزاحمة شديدة بين الجماعات الإثنودينية المختلفة، الأمر الذي كان يؤدي في بعض الأحيان إلى نشوب صراعات بين الإثنيات. كان المسيحيون يبعدون الصيارفة اليهود والملتزمين ويوجهون الاتهامات إلى اليهود في جرائم القتل الطقوسية، وكان المسلمون يشعرون بالإهانة نتيجة لسياسة التوسع التي تنتهجها الدول الأوروبية، وادعائها حماية الأقليات، وخاصة المسيحيين. لم يستطع المسلمون التصالح مع هؤلاء الذين كانوا يمتهنون إصلاحاتهم، ولم يستطيعوا أن يفهموا ذلك وأحسوا بالسخط جرَّاء المساواة في الحقوق بينهم وبين «الكُفَّار».
كان المسيحيون السوريون، خلافًا لليهود، يشكلون الغالبية العظمى من السكان، وكانوا يأخذون على محمل الجد مسألة تحقيق المساواة مع المسلمين، التي أُعلن عنها في المراسيم السلطانية السامية الصادرة عامي ١٨٣٩م و١٨٥٦م.
في عام ١٨٤٣م ارتفع العلم الفرنسي بألوانه الثلاثة في مبنى القنصلية الفرنسية، الأمر الذي أثار تمرد المسلمين. عندئذ اضطرت القنصلية إلى إنزاله. لكن الأعلام الأوروبية ارتفعت بعد حرب القرم في جميع المدن السورية وفي عدد من مدن فلسطين، وهنا اندلع التمرد في كل من غزة وأورشليم وحلب ودمشق واللاذقية.
أشعل الدراويش غضب المسلمين ودعوا إلى ارتكاب المذابح. في منتصف يوليو عام ١٨٦٠م اندلعت في أنحاء دمشق مذابح عديدة، راح ضحيتها آلاف المسيحيين، وجرى هدم وإحراق بيوت المسيحيين وكنائسهم وأديرتهم. تعرضت القنصليات الأجنبية للهجوم وكانت القنصلية الروسية على رأسها، وقد اشترك البوليس والقوات العربية والكردية غير النظامية في المذبحة. ومن المعروف أن بعضًا من أعيان المسلمين وفروا مأوًى للعديد من المسيحيين. هؤلاء حاولوا الوقوف ضد كارثة المذبحة ولكن محاولاتهم ذهبت سدًى.
لم يمس المخربون اليهود بسوء، لكن هؤلاء أصبحوا في موقف ملتبس؛ فمن جانب كانوا، مثلهم مثل المسيحيين، مهددين بالعنف، وكانوا مضطرين للجوء للاحتماء بالقناصل الأوروبيين، ومن جانب آخر كانت علاقاتهم بالمسلمين، برغم جميع التعقيدات والاختلافات، أفضل في أحوال كثيرة من علاقاتهم بالمسيحيين، الذين كانوا يبادرون بملاحقة منافسيهم. أضف إلى ذلك أن اليهود لم يكن باستطاعتهم أن ينسوا «قضية دمشق» المعروفة ﺑ «فرية الدم» التي وقعت عام ١٨٤٠م.
وعلى الرغم من أن انهيار الدولة العثمانية ازداد تفاقمًا مع نهاية القرن التاسع عشر فقد تجشمت الحكومة السلطانية جهودًا كبيرة لكي تواصل الوقوف في وجه الضغوط السياسية والاقتصادية من جانب الدول الأوروبية، مُستغلة في ذلك التناقضات القائمة بين هذه الدول.
دفعت المذابح التي وقعت لليهود في روسيا عامي ١٨٨١ و١٨٨٢م، دفعتهم إلى مغادرة البلاد، فسافروا إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط.
كانت غالبية المسلمين تشتغل بالزراعة وتعيش في أماكن ريفية، أما السكان الرُّحَّل (البدو) فكانوا يسكنون في ضواحي بير سبع، بينما عمل سكان المدن من مختلف الديانات بالحرف والتجارة، نسبة صغيرة منهم اشتغلت بإنتاج المحاصيل الزراعية. في نهاية القرن العشرين تركز السكان اليهود بصفة أساسية، كما حدث منذ عدة قرون مضت، في أربع مدن مقدسة بالنسبة لهم: أورشليم وطبرية وصفد والخليل. كان العديد منهم يعيشون منذ زمن بعيد على التبرعات التي كان يتم جمعها في الشتات (نظام شالياخ). وعلى التبرعات أيضًا استمر وجود المدارس الدينية. بين الحرفيين اليهود ساد صناع الزجاج والحدادون والساعاتية والترزية والإسكافية ومجلدو الكتب، وبالإضافة إلى ذلك كانوا يعملون بتغيير العملة وشئون البنوك.
كان لممثلي العائلات العربية ذات الشأن السيادة في إدارة الأقاليم، وذلك إلى جانب الموظفين المُعيَّنين من قبل إسطنبول. وقد جاء إنشاء حركة «خيبات تسيون» (العودة إلى فلسطين) بمثابة رد فعل على المذابح التي وقعت في روسيا. لقد حطمت موجة المذابح المعادية للسامية في روسيا أحلام قطاعات من الأنتليجينسيا اليهودية والشباب في الاندماج والتعليم في هذه البلاد، ومن ثم لجأ العديد منهم إلى البحث عن جذورهم القومية وإلى تأكيد هويتهم الإثنودينية، لتصبح فلسطين هي الموضوع الأساسي في الأيديولوجيا الجديدة. كان بعث اللغة العبرية القديمة والتقاليد الثقافية القومية، اللتين من شأنهما أن يوحدا الشعب، من أكثر المهام القومية لهذه الحركة. اتجه جزء من الشباب من الجامعات الروسية من جماعة «بيلو» إلى فلسطين؛ حيث قاموا في الفترة من ١٨٨٢م إلى ١٨٨٤م بالتعاون في وضع أساس المستوطنات اليهودية. وقد سعى هؤلاء الشباب لأن يؤسسوا نموذجًا للحياة الاجتماعية وفقًا لمُثُلهم العليا للعدالة الاجتماعية. وفي نفس العام ١٨٨٢م جدَّد القادمون من روسيا أيضًا مستوطنة بتاح-تيكفا، التي كانت قد تأسست في عام ١٨٧٨م، والتي هجرها سكانها بعد ذلك بسبب انتشار مرض الملاريا. وقد ظهرت أشكال جديدة من المستوطنات، التي قامت بشكل استثنائي على جهود المستوطنين أنفسهم – الكيبوتز وبعدها الموشان.
في عام ١٨٨٢م قامت جماعة قادمة من رومانيا بتأسيس مستعمرتين: زامارين (سُميت فيما بعد زيكرون ياكوف) وتقع على الطريق المؤدي إلى حيفا وروش-بينا بالقرب من صفد. وقد أقام المهاجرون البولنديون مستوطنة يسود خا مالا في الجليل الأعلى. وفي يهودا (الضفة الغربية) أقيمت مستوطنة نيس زيونا بأموال من كارل نيتير وبدعم مالي من الاتحاد اليهودي العام. وفي ١٨٧٠م أنشئت مزرعة ميكف-إسرائيل في المدرسة الزراعية بالقرب من يافا ومستوطنة صغيرة تحمل اسم موتز بالقرب من أورشليم. وبحلول عام ١٨٨٩م أقيمت في فلسطين وعلى مساحة تبلغ ٧٦٠٠٠ أكر (الأكر ٤٠٤٧ مترًا مربعًا) اثنتان وعشرون مستوطنة يهودية زراعية، كانت منتشرة على نحو واسع على أراضي البلاد، وكانت تعتبر نقاطًا لمستعمرات أخرى تقام في المستقبل.
بلغ عدد المستوطنين هنا خمسة آلاف نسمة. كان المتحمسون الأوائل معدين إعدادًا سيئًا، أما ما لديهم من أدوات فلم تكن لتصلح لمثل هذه المهمة الخطيرة. أولئك لم يستطيعوا أن يستشرفوا جميع المصاعب والمخاطر التي كانت بانتظارهم: المناخ الصعب للمكان، المستنقعات، الرمال المحيطة بهم من كل جانب، الملاريا، عادات البدو، الذين كانوا يسرقون الجميع واحدًا وراء الآخر، الخبرة المتواضعة في الزراعة. كان المستوطنون في أغلبهم غير معتادين على العمل اليدوي الشاق. كانوا يعانون من قلة الموارد، ولولا أنهم كانوا يحصلون على دعم مالي من البارون إدموند روتشيلد وغيره من المحسنين، لما قامت المستوطنات الأولى في هذا المحيط العدواني من المسلمين المحليين.
كان السكان الأوائل لفلسطين من الجزء الأصغر لليهود المحليين من طائفة السفارديم، الذين انضم إليهم مهاجرون من شمال أفريقيا وبخارى وإيران وغيرها من البلاد، بينما تشكلت غالبية طائفة الأشكيناز من اليهود القادمين من أوروبا الشرقية. وقد عاش أغلبية يهود فلسطين على حساب تبرعات الشتات اليهودي (حلوقة)، والتي بلغت ١٠٠٠٠٠ جنيه إسترليني في العام. كانت الأموال توزع على السفارديم بواسطة رئاسة الطائفة. كان أهم المتلقين لهذه الأموال هم علماء التلمود والأرامل والأيتام، أما طائفة الأشكيناز فكانت الأموال توزع بينهم بواسطة الجمعيات الخيرية، التي كانت تعمل بمبدأ كلنا أبناء وطن واحد.
كلما ازداد وصول اليهود إلى الأرض المقدسة، كانوا مضطرين للاصطدام بمعوقات أكبر. تحدثنا آنفًا عن أن العرب المحليين عارضوا مجيء اليهود. لقد وضع الباب العالي وحتى قبل ذلك جميع العراقيل أمام امتلاكهم لأملاك خاصة وبناء أية منشآت. في يونيو عام ١٨٨٢م ازداد موقف الحكومة تشددًا. تم منع اليهود من دخول البلاد والإقامة فيها بصفة دائمة، كما مُنعوا من شراء أي ممتلكات وبناء أية منشآت. كانت المباني التي تقام دون تصريح من السلطة يتم هدمها.
على أن ذلك لم يكن يعني أن الإمبراطورية العثمانية قد تخلت تمامًا عن السماح التقليدي للمهاجرين بالدخول إلى أراضيها. في الشهر التالي أعلن الباب العالي السماح لليهود من البلاد الأخرى بالاستيطان في أي جزء من أجزاء الإمبراطورية ما عدا فلسطين، على ألا يزيد عدد المهاجرين في مجموعة واحدة على ١٠٠ إلى ١٥٠ أسرة. وعلاوة على ذلك يجب أن يصبح المهاجرون رعايا عثمانيين وأن يقسموا على الولاء للسلطان والقوانين العثمانية. في المقابل فقد تم تقديم عدد من التسهيلات للمهاجرين: أراضٍ معفاة من الأعباء، وإعفاؤهم لفترة محددة من الضرائب ومن الخدمة العسكرية. كان اليهود يتمتعون بحرياتهم الدينية وفقًا للقانون، مثلهم في ذلك مثل بقية المواطنين، أي أن كل الوافدين الجدد منهم كانوا ينتشرون في الإمبراطورية، بشرط أن يكون ذلك خارج إطار فلسطين. وقد وقع موقف عجيب مفاده أن السفير الروسي في إسطنبول أ. نيليدوف كان أول من عبَّر عن احتجاجه ضد منع هجرة اليهود إلى فلسطين، وقد نُشر احتجاجه في صحيفة «نوفوي فريميا» (العصر الحديث) الروسية. وبالإضافة إلى ذلك فقد أبلغ وزير الخارجية جريس رؤساء حركة «خوفيفوي زيون» عن دعمه للحركة.
على أن نتيجة هذه الخطوات السياسية جاءت على عكس المنتظر. أثارت روسيا مع تكرار المذابح اليهودية على أرضها شكوك السلطات العثمانية بشأن ضرورة توفير ملجأ لليهود في فلسطين، الأمر الذي كان الدبلوماسيون الروس يسعون لتحقيقه، وكذلك بشأن الدوافع الحقيقية لهذه الوساطة. كان الباب العالي يخشى أن يكون الهدف من الحملة المعادية للسامية في أوروبا هو طرد اليهود إلى فلسطين، حتى يجدوا حجة لتوسعها في المستقبل، وهو ما يدل عليه عدد من الحقائق.
في فبراير عام ١٨٨٤م توجه المدعو م. فرنانديز رئيس الطائفة اليهودية في إسطنبول ورئيس المكتب الشرقي للاتحاد اليهودي العام إلى وزير الخارجية العثماني بطلب الموافقة على قبول الدعم المالي المقدم من آل روتشيلد إلى اليهود في فلسطين. وقد أشير في الرد وعلى نحو مباشر إلى أن الباب العالي يخشى ظهور «المسألة البلغارية الثانية» في فلسطين. تفسير مشابه تلقاه في هذا الصدد أيضًا إيمانويل فينيتسياني، موضع ثقة البارون جيرش.
على أن جوهر المشكلة كان يتلخص في وجود فجوة كبيرة دائمًا في الإمبراطورية العثمانية بين القانون وتطبيقه.
كان المهاجرون اليهود يتسربون إلى فلسطين عبر سوريا أو مصر، بينما كان الآخرون يحصلون على جوازات سفر مزيفة كان يبيعها بسهولة موظفون عثمانيون رسميون أو عن طريق وسطاء على السفن. وفي حالة حصول شخص ما من المهاجرين على جواز أمريكي أو نمساوي، بريطاني أو ألماني، فإنه يكون قد حصل على حماية مضمونة.
في عام ١٨٨٢م وقعت حادثة بالغة الدلالة؛ ففي مستوطنة بتاح-تيكفا كان هناك جزء من هذه الأرض مسجلًا باسم يوليا موسى سولومون وكانت تتمتع بالحماية الألمانية. وقد خاطر المستوطنون ببناء بيوت عليها دون تصريح رسمي. وعلى الفور توجه رءوف باشا إلى المحكمة بطلب هدم هذه البيوت وعقاب سولومون. عندئذ لجأت الأخيرة إلى القنصل الألماني في أورشليم لتلقي الدعم منه. أسرع القنصل الألماني في أورشليم بتقديم احتجاج شديد اللهجة، وبدوره اعترض رءوف باشا بأن بتاح-تيكفا ليست «حيًّا ألمانيًّا» على الإطلاق، وأن الاتفاقات المعقودة مع الباب العالي لا تعطي الحق للدول الأجنبية في التدخل في شئون تمس الأملاك العثمانية. وهنا أعلن القنصل رايتس أنه سوف يضطر، إذا اقتضى الأمر، إلى استدعاء المستوطنين الألمان من مستوطنة شارون المجاورة للدفاع عن بتاح-تيكفا بالقوة. لم تكن لدى رءوف باشا أدنى رغبة في أن يشعل صراعًا دوليًّا فاضطر إلى التراجع.
فيما يتعلق بالمستوطنين اليهود فقد أدركوا أن الحياة دون حماية أجنبية أمر مستحيل.
كان الجزء الأكبر من الأراضي في فلسطين في يد أكثر العشائر العربية نفوذًا. ولكن من بين ملاك الأراضي كانت هناك إرساليات مسيحية ومستوطنون ألمان، فيما بعد حصل المستوطنون اليهود على قطع من الأراضي عن حق أو بدون وجه حق.
بعض المسلمين مُلَّاك الأراضي لم يكونوا يمانعون في بيع أراضيهم للمهاجرين الجدد بأسعار باهظة، على أن هذه الأراضي كانت مشغولة بمستأجرين فلاحين كان من الصعب طردهم منها، فلم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق. في بعض الأحيان كانت السلطات المحلية على استعداد لبيع أراضٍ لليهود؛ حيث إن الفلاحين لم يكن بمقدورهم دفع الضرائب. وفي أحوال أخرى أصبح العرب المحليون الفلاحون ضحايا للمرابين، الذين كانوا يبيعون أراضيهم للمستوطنين. في مطلع عام ١٨٨٦م هاجم الفلاحون العرب، الذين فقدوا أراضيهم، المستوطنات اليهودية الجديدة، محتجين على أن هذا الأمر، حسب إدراكهم، أمر غير عادل. وقد أيدهم في ذلك جزء من المسيحيين من ذوي النفوذ، من بينهم حرفيون وتجار، كانوا يخشون أن يشتد أوار المنافسة الاقتصادية بسبب المهاجرين الجدد.
شجع الصراع بين المستوطنين وغيرهم من جماعات السكان السلطات على إصدار الحظر الدوري على دخول اليهود حدود فلسطين وخاصة إسكانهم في أورشليم. هذا ما صرح به القنصل البريطاني في أورشليم في مارس عام ١٨٨٧م، وفي عام ١٨٩٠م أرسل الأعيان العرب في أورشليم شكوى إلى إسطنبول ضد رشيد باشا متصرف أورشليم لعلاقته الموالية لليهود، وتلت الشكوى عريضة احتجاج مؤرخة الرابع والعشرين من يونيو عام ١٨٩١م إلى الصدر الأعظم ضد وصول اليهود الروس إلى فلسطين، وكذلك ضد بيع أراضٍ لهم، ومع ذلك فقد استمر بيع الأراضي حتى العقد الأخير من القرن العشرين.
على أن نقص الخبرة في التواصل مع السلطات المحلية والحياة غير المؤمنة والحاجة إلى الأملاك سرعان ما أحبطت من جديد المهاجرين الجدد في العدالة العثمانية. كانت الحماية القنصلية أكثر جاذبية على نحو لا يقارن، على الرغم من أن وزير خارجية الباب العالي أصدر بجهد فائق تعليمات للسلطات المحلية أن تولي اهتمامًا أكبر للحاصلين على الجنسية العثمانية. لقد قامت السلطات بتقديم تنازلات حقيقية، فقد سمح لليهود، الذين حصلوا على الجنسية العثمانية، ببناء البيوت وزراعة حدائق الكروم والفاكهة. وأعلن قائمقام صفد أنه لن يتدخل في شئون المستوطنين من رعايا الدولة العثمانية. وفي الوقت نفسه لم تتوقف الحكومة عن اتخاذ إجراءات تعسفية، عندما لم تجد حججًا لإقناع جزء كبير من المستوطنين لقبول الجنسية العثمانية. وفي نهاية عام ١٨٨٥م تم تأسيس مكتب للتجنيس كانت مهمته اكتشاف الناس، الذين ليس لديهم مبررات كافية للجوء لطلب الحماية القنصلية، ورأت أن هؤلاء كانوا يستحقون النفي خارج حدود الإمبراطورية. وقد أدان سفير الولايات المتحدة الأمريكية لدى إسطنبول آنذاك أوسكار ستراوس، أدان رءوف باشا لإصداره أمرًا بنفي ٤٠٠ مهاجر معتقل.
في مطلع عام ١٨٨٧م أصدر الباب العالي مراسيم جديدة تقضي بحظر إقامة اليهود الأجانب في أورشليم أو في أية أجزاء أخرى لفترة طويلة. وقد سُمح للحجاج بالإقامة على هذه الأراضي لفترة لا تزيد على ثلاثة شهور. اعتمدت الحكومة حظر بيع الأملاك هنا. كانت هذه الإجراءات تفسر رسميًّا بأنها اتخذت للاهتمام بصحة ورفاهية السكان المحليين الاقتصادية، ولكن الصدر الأعظم كامل باشا صرَّح في حديث شخصي لأوسكار ستراوس بأن الانتفاضات المتكررة للتطرف الديني بين المسلمين والمسيحيين تضع العراقيل أمام السلطات للدفاع عن الأقلية اليهودية، كما أعلن السفير أيضًا أن شائعات وصلت إلى الباب العالي تدَّعي أن يهود العالم بأجمعه قد عقدوا عزمهم على إقامة مملكتهم القديمة في أورشليم. وقد رفض ستراوس بحزم هذه الحجج وأشار إلى أنه مهما كانت المخالفات القانونية في حق اليهود، فإنها ينبغي ألا تمر دون عقاب؛ لأنها سوف تضر قبل كل شيء بحقوق وسيادة المواطنين العثمانيين.
انهالت على صحيفة «راسسفيت» أعداد هائلة من الاستفسارات تسأل عن شروط تملك الأرض في الجليل، وعن إمكانية الحصول على قرض ودعم من أجل التملك. وقد قدمت الصحيفة الشروح التالية: «بالرغم من إنشاء مستوطنات جديدة، إلا أن حركة الاستيطان اصطدمت بصعوبات كبيرة. إدارة لجنة الأراضي، التي تمتلك قطعًا في المستوطنات، وتبيعها كُرهًا إلى الذين يرغبون في العمل بالزراعة بالدرجة الأولى. هؤلاء كان عليهم التعرف مقدمًا على شروط النشاط الزراعي في فلسطين فقط، وبعد أن يتم الاقتناع بصلاحيتهم لهذا العمل، يمكنهم أن يتوجهوا إلى الإدارة. أما الذين يريدون شراء قطعة أرض من أشخاص، فكانوا يصطدمون أيضًا بصعوبات؛ فمن الصعب امتلاك أراضٍ صغيرة بعيدًا عن المستوطنات اليهودية.» تشرح الصحيفة الموقف قائلة: «يتلخص الأمر في أن العرب، كما هو معروف، يمتلكون الأراضي على المشاع، وليس لأي عضو من أعضاء الطائفة الحق في بيع أرضه دون موافقة الطائفة كلها. هذه الطوائف بشكل معتاد توافق على بيع الأراضي المتميزة فقط. إلى جانب هذه المصاعب فإن الإقامة بعيدًا عن المستوطنات اليهودية أمر غير مناسب ومحفوف بالمخاطر …»
أدى اليهود اليمنيون نصيبهم في تطوير المستوطنات الزراعية اليهودية. كان مجيئهم إلى فلسطين قد بدأ في الثمانينيات من القرن التاسع عشر، فبعدما احتلت إنجلترا عدن استطاع اليهود مغادرة اليمن، وأصبح الطريق مفتوحًا هناك أمام الصهيونية. استقر اليهود اليمنيون في جماعات كبيرة بالقرب من المستوطنات الزراعية اليهودية، التي حولتهم إلى قوة عاملة كانت دائمًا بحاجة إليها. تدريجيًّا أنشئت أسواق مالية، ومطاعم للعمال، وأقيم صندوق التأمين الصحي (كوبات – خوليم).
على أن تقاليد اليهود الشرقيين وعاداتهم المعيشية والتركيب الأسري دخلت بصعوبة في نظام مختلف تمامًا عن قيم اليهود الأوروبيين، الذين كانوا يشكلون الغالبية في المستوطنات الزراعية في فلسطين. عن ذلك الأمر وعن المصاعب المادية الصرفة لحياة المستوطنين القادمين من مختلف البلاد تحدث مراسلو الصحيفة:
«آنذاك بُذلت جهود كبيرة في عدد من المستعمرات لاستخدام اليهود المحليين السفارديم واليمنيين كعمال زراعيين. ولولا أن هؤلاء اليهود كانوا قادرين بشكل خاص، بفضل احتياجاتهم الزهيدة، على الدخول في منافسة مع العرب، ولولا أنه كانت لديهم، إضافةً إلى ذلك، ميزة أكيدة أخرى أمام النازحين اليهود الجدد، ألا وهي قدرتهم على التأقلم، ومن جانب آخر، لولا أن قدمت خدمة لا تقدر بثمن لهؤلاء المساكين، الذين كانوا يعيشون حياة شاقة في الأحياء اليهودية الخانقة في مدن فلسطين، لما تم فتح حرفة لعمل جيد لهم!»
من المثير للانتباه هذه الأنباء الخاصة بنتائج الانتخابات في الهيئات المحلية للسلطة في عدد من المدن الفلسطينية، والتي جرت في أكتوبر عام ١٩٠٨م:
«في الثالث من أكتوبر أذيعت في يافا المعلومات التالية عن سير الحملة الانتخابية في فلسطين. في أورشليم تم انتخاب أربعة مسلمين واثنين من اليهود. الناخبون اليهود الباقون كانوا بحاجة إلى عدد قليل للغاية من الأصوات. في بتاح-تيكفا وضواحيها نجح المرشح المسلم بمائة وخمسة وخمسين صوتًا … وقد أدار اليهود، الذين كان لديهم مائة وعشرون ناخبًا ضد ألفين وستمائة مسيحي ومسلم، حملة دعاية نشطة في الرملة والمستوطنات القريبة. الأمل معقود على نجاح اثنين من خمسة ناخبين (أيزنبرج وزيجير).
شكلت الإدارة في يافا الدوائر الانتخابية وفقًا لديانة الناخبين، وليس وفقًا للدوائر الإدارية للمدينة، وهو أمر مخالف للقانون. وهكذا فاليهود والمسيحيون، الذين لم يصل الأولون منهم إلى مائة ناخب، بينما وصل عدد الآخرين (المسيحيين) ثمانمائة، أُدرجوا في دائرة انتخابية واحدة، الأمر الذي أضاع فرص اليهود في تسجيل ناخبهم.
وفي الوقت نفسه ازدادت مقاومة العرب للهجرة اليهودية. وفي عام ١٩٠٩م اكتسبت هذه المقاومة أشكالًا أكثر تنظيمًا. وقد نشر الصحفيون العرب في المطبوعات الدورية قائمة بجميع المستوطنات اليهودية ومعلومات عن المستوطنين، وكذلك أسماء الذين باعوا أراضيهم لليهود، وقد قسموهم إلى ثلاث فئات:
-
(١)
ملاك الأراضي، وكثير منهم من أصول لبنانية، وهؤلاء لم يكونوا يقومون على فلاحة الأرض بأنفسهم.
-
(٢)
السلطات العثمانية، التي كانت تصادر أراضي الملاك العرب لعدم سدادهم للضرائب.
-
(٣)
ملاك الأراضي العرب وغالبيتهم من المسيحيين.
اتُّهم اليهود بتقديم الرشاوى إلى الباشاوات بهدف الحصول على السماح لهم بشراء قطع من الأراضي في فلسطين، وقد حذر ممثلو المنظمات القومية العربية الخلايا لزعماء حزب «الاتحاد والترقي» من خطورة الهجرة اليهودية على الأتراك، وقد حاولوا أن يجذبوا إلى نضالهم المشترك العرب المسيحيين أيضًا ونظموا حملات احتجاجية في الصحف.
كان النواب العرب في البرلمان العثماني الجديد، الذي تشكل إبان حكم تركيا الفتاة، يطرحون دائمًا قضية هجرة اليهود. وفي أول يونيو عام ١٩٠٩م قدَّم النائب حافظ بك السيد مذكرة تفيد بأن الصهيونية والحركة القومية لليهود لا تتفقان ومصالح الدولة العثمانية، وطالب بإغلاق ميناء يافا أمام المهاجرين اليهود. وقد قيل وكتب الكثير عن نيات الصهاينة إنشاء دولة يهودية في فلسطين. وقد تحدث النواب العرب عن تلقي السلطات العثمانية الرشاوى، التي تحايل اليهود بفضلها على التهرب من أداء الخدمة العسكرية، التي كانت وقتها إجبارية على الجميع، بينما اضطر المسلمون والمسيحيون لتحمل الخدمة العسكرية، عندما لم يجدوا أمامهم بدائل أخرى. وإلى جانب المقالات المنشورة في الصحف وبرقيات الاحتجاج على الحكومة وإرسال الوفود إلى إسطنبول، دعا العرب في عام ١٩١٠م إلى مقاطعة الأعمال والبضائع اليهودية. زد على ذلك أن المقاطعة كانت متبادلة. وفي مايو عام ١٩١٠م انهالت الصحافة العربية على عائلة سرسق لعزمها بيع أراضي قريتي فولاخ وأفلوك. وقد أرسل السكان العرب في الناصرة وحيفا برقيات إلى إسطنبول يحتجون فيها على احتكار الأراضي واتهموا الصهاينة بتجريد السكان العرب المحليين من أراضيهم، كما تظاهروا ضد نشاط الشركة الإنجليزية الفلسطينية، التي أعطت للمستوطنين رهونًا عقارية للحصول على الأراضي، وطالبوا من أحد الفائزين في حكومة تركيا الفتاة، وهو طلعت بك، بفرض الحظر التام على هجرة اليهود إلى فلسطين وعلى استيلاء النازحين على الأراضي فيها. كل هذه الحملة لم تكن ذات جدوى. عندما تحدث أحد موظفي السفارة البريطانية في إسطنبول إلى طلعت باشا نفسه عن أن الحكومة تفرض قيودًا على إمكانية استصلاح الأراضي المهجورة والقفر بشكل حقيقي، أجاب الأخير أن الحكومة لا يمكن أن تتجاهل الشكاوى العديدة للسكان المحليين، الذين أصروا على وضع تشريعات أكثر حزمًا ضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. من البديهي على أية حال أن هذه الاحتجاجات لم تعط النتائج المطلوبة؛ إذ إن برقيات احتجاج أخرى ظلت تصل من جديد إلى ممثل مجلس النواب، الصدر الأعظم، وكذلك إلى العديد من الصحف. وعندما وصل الإحباط إلى درجة كبيرة تم اتخاذ إجراءات لإنشاء صندوق يهدف إلى احتكار الأرض العربية من جانب العرب بشكل استثنائي. وقد فرضت السلطات المحلية قيودًا على بيع قطع من الأرض في حيفا، ونظمت هذا البيع بشكل صارم. تشكَّلت لجان من العرب المحليين للرقابة على عدد اليهود الذين كانوا يصلون إلى حيفا عبر البحر. وقد طُلِبَ من المتصرف أيضًا أن يقوم بمهمة الرقابة. إبان حروب القرم عامي ١٩١٢ و١٩١٣م ازداد التوتر بين طوائف العرب المسلمين والعرب المسيحيين، على أن فلسطين كانت تمثل استثناءً؛ فهاتان الطائفتان توحدتا هنا ضد «الخطر الصهيوني».
في يونيو عام ١٩١٣م انعقد في باريس المؤتمر العربي الأول، والذي شارك فيه أبرز شخصيات حركة القومية العربية. وفي هذا المؤتمر بُذلت محاولة لوضع برنامج على أساس المشاركة والمساواة الكاملة بين العرب والأتراك في الإمبراطورية العثمانية. وبناء على اللامركزية الفعلية وانهيار الإمبراطورية الذي بدأ طالب الأعضاء أن تعترف الحكومة بالحكم الذاتي لفلسطين مع التفويض الكامل والواسع، وكذلك تمثيلها في جميع الهيئات التشريعية والتنفيذية للدولة. وقد أصر الأعضاء على الاستقلال الثقافي والاعتراف باللغة العربية باعتبارها لغة رسمية. وكان من بين من حضر المؤتمر من أعلن تحقيق الاستقلال التام للأقاليم العربية عن إسطنبول هو هدف حركة القومية العربية. ينبغي أن نلاحظ أنه كانت هناك في تلك الفترة محاولات من بعض السياسيين العرب للدخول في اتحاد مؤقت مع الصهاينة ضد الأتراك. ولكن سرعان ما أصبح من البديهي أن هذا الاتحاد، حتى ولو كان مؤقتًا، لم يكن مقبولًا من الجانبين. كانت المنظمات العربية المعادية للصهيونية تعمل على نحو أكثر نجاحًا.
في فبراير عام ١٩١٤م كانت المنظمات العربية المعادية للصهيونية تمارس نشاطها في إسطنبول وأورشليم ويافا، وكان زعماء هذه المنظمات يخططون لافتتاح فروع لها في جميع مدن فلسطين. وقد أعلنوا عن المهام التالية:
-
(١)
مقاومة الصهاينة بكلِّ الطرق الممكنة، تنشيط الرأي العام، وتوحيد جميع القوى العربية، الدعاية لبرنامج الجمعيات بين جميع فئات السكان العرب في سوريا وفلسطين.
-
(٢)
تفعيل النشاط الاقتصادي، القيام بعمل مشروعات تجارية وزراعية، تعليم السكان الزراعيين من أجل رفع قدرتهم التنافسية.
-
(٣)
مقاومة الهجرة اليهودية.٤٤
في يوليو عام ١٩١٤م انضمت المنظمات النسائية العربية إلى النضال المعادي للهجرة.
استمرت الحملة المكثفة المعادية للصهيونية حتى بداية الحرب العالمية الأولى، وفي ظروف انهيارها كان العديد من مؤسسات الإمبراطورية العثمانية تعمل بلا فعالية. لم يكن بمقدور السلطة أن تسيطر على النظام وأن توفر الأمن لسكانها. تكررت هجمات العرب على المستوطنات اليهودية، كما ازداد القتل والنهب والسرقة. اضطر المستوطنون لحراسة المستوطنات، وقد قامت بهذه المهمة منظمة «هاشومير».
كانت صحيفة «راسسفيت» تتحدث سواء عن إنجازات اليهود الفلسطينيين، أو عن مشكلاتهم العديدة أيضًا. وفي عام ١٩١٣م تأسس معهد العلوم الطبيعية، الذي أصبح من أول مشروعاته دعوة الأطباء اليهود في كل أنحاء العالم، وقد جاء في الدعوة، أن الوضع الصحي في المدن الفلسطينية والمناطق الريفية، على الرغم من إحراز بعض التقدم فيها، يتطلع إلى تحقيق الأفضل. وقد رأت قيادة المعهد ضرورة التعاون مع المؤسسات الطبية الأخرى داخل البلاد وخارجها. وتضمن برنامج المعهد مكافحة الملاريا والتراكوما والاهتمام بالعناية اللازمة للأطفال الرضع والصحة العامة لطلاب المدارس وتوزيع كتيبات خاصة بالوقاية والصحة العامة والعناية بالمساعدة الطبية الفعالة مع استغلال الظروف الطبيعية للبلاد ودعم المؤسسات الطبية والأعمال العلمية القائمة بالفعل.
كشفت الحرب العالمية الأولى عن التناقضات الفجة بين الدول الأوروبية في الشرق الأوسط. كانت فلسطين وحتى في القرن التاسع عشر هدفًا للتنافس بين هذه الدول، الأمر الذي أدى في النهاية إلى حرب القرم. كل دولة من هذه الدول حاولت في صراعها مع الأتراك، وفي صراعها مع بعضها البعض، استغلال الصراعات الداخلية في فلسطين.
نشب الصراع بين الأتراك والأمير حسين شريف مكة، قبل الحرب العالمية بفترة طويلة، وقد حبسه الأتراك في إسطنبول، لكنه استطاع العودة إلى الحجاز في عام ١٩٠٨م، وقد وعد ابنه عبد الله الإنجليز بدعم أنصارهم حتى قبيل دخول الإمبراطورية العثمانية الحرب، وقد أصر على قطع علاقته بالأتراك. آنذاك كان الإنجليز يرفضون قيام هذا الاتحاد.
إبان العامين ١٩١٤—١٩١٥م جرت اتصالات بين الحجاز وبريطانيا. كان العرب يأملون في إقامة مملكة عربية مستقلة قد تمتد شمالًا حتى حدود إيران، وإلى الشرق حتى خليج البصرة، وإلى الجنوب حتى المحيط الهندي، باستثناء عدن، وإلى الغرب حتى البحرين الأحمر والمتوسط إلى مرسين. كان العرب يفترضون أن يضموا أيضًا إلى هذه المملكة الواسعة ولايتي حلب وبيروت. لكن هذه المناطق كانت تدخل في نطاق مصالح فرنسا ويتطلب الأمر بشأنها الدخول في مباحثات إضافية. لم يرد في مراسلات حسين مع المعتمد البريطاني في مصر هنري ماكماهون أي ذكر لفلسطين. لقد استبعد الإنجليز فلسطين من المباحثات التي جرت آنذاك حول حدود المملكة العربية، وفي عام ١٩١٧م أصروا على إدراج فلسطين في المباحثات. آنذاك لم يكن هناك داخل بريطانيا نفسها رأي واحد حول هذه القضية. كان الإنجليز يشيرون إلى المصالح الحيوية لمسيحيي العالم كله في هذا البلد.
في عام ١٩١٦م تم عقد اتفاق بين بريطانيا وفرنسا أعده كل من الدبلوماسي الإنجليزي م. سايكس والفرنسي ف. ج. بيكو تنتقل بموجبه الأراضي الفلسطينية من الخليل وبحيرة طبرية (كينيريت الآن)، وبين شاطئ البحر المتوسط ونهر الأردن لتصبح تحت الحكم الإنجليزي الفرنسي الروسي، الذي وفر الحقوق على هذه الأراضي للأديان كافة. كان من المفترض أن تدخل الأراضي ما وراء الأردن وصحراء النقب في قوام الدولة العربية تحت الحماية البريطانية، بينما كان من الضروري أن تصبح سوريا دولة عربية تحت الحماية الفرنسية. أسرعت دول التحالف، حيث كان لألمانيا خططها في فلسطين، والتي من أجلها أنشأت الجمعية الألمانية اليهودية، أسرعت ببدء المباحثات مع الصدر الأعظم طلعت باشا، الذي أجاب بغموض تام أنه لا يمكن تجاهل آمال اليهود. وفي فبراير ١٩١٧م التقى م. سايكس لبحث آفاق حركة الاستيطان في فلسطين مع زعماء الصهاينة، مدركًا أنه لا يمكن إطلاقًا إهمالهم إبان المباحثات الصعبة التي دارت مع الدول الأوروبية.
بعثر خطاب اللورد بلفور إلى لايونيل والتر روتشيلد المؤرخ ٢نوفمبر ١٩١٧م، والذي أصبح معروفًا باسم وعد بلفور، حول خطط إنشاء وطن يهودي في فلسطين، أوهام جزء كبير من العرب في ضم هذا الإقليم العثماني إلى قوام الدولة العربية. وكان بلفور قد أعرب عن رأيه لجزء صغير من الصفوة البريطانية، التي كانت تعول على دعم يهود الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب. وفي الحادي عشر من ديسمبر عام ١٩١٧م دخل الفيلق البريطاني إلى أورشليم بالرغم من الاحتجاج الحاد للعرب؛ المسلمين منهم والمسيحيين. وقد ظل سكان الجزء الشمالي من البلاد تحت السلطة التركية حتى سبتمبر عام ١٩١٨م.
في المؤتمر الدولي الذي عقد في سان ريمو في الرابع والعشرين من أبريل عام ١٩٢٠م تقرر نقل حكم فلسطين إلى بريطانيا وإلقاء مسئولية تنفيذ مبادئ وعد بلفور على عاتقها، الأمر الذي رفضته إنجلترا فعليًّا فيما بعد.