اليهود في العقود الأولى للجمهورية التركية
على مدى عدة قرون كانت الشريعة هي النظام الديني والقانوني للدولة العثمانية. كان الأتراك المسلمون إبان حكم السلاطين يشكلون الطبقة المهيمنة من السكان – الشعب الفاتح. هؤلاء لم يكونوا جنودًا فقط وموظفين، وإنما كانوا يعملون بالزراعة أيضًا. كان الدين، وليس الانتماء الإثني، هو مفتاح الدخول إلى الطبقة المتميزة، أما الوزراء والولاة ومن يشغلون منصب القائمقام، والعاملون في مصلحة الضرائب، فكان من الممكن ألا يكونوا أتراكًا من الناحية الإثنية، كذلك لم يكن منصب الصدر الأعظم حكرًا على الأتراك وحدهم، وإنما كان متاحًا أمام المسلمين من إثنيات أخرى: ألبان، سوريين، أكراد. وقد شغل اليونانيون والأرمن، الذين اعتنقوا الإسلام، أهم المناصب العليا في الدولة.
لم تنجح الإصلاحات التي جرت في القرن التاسع عشر في توحيد السكان ودمجهم على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم في دولة واحدة، كما لم تساعد على ذلك الأيديولوجيا العثمانية – وطن مشترك للشعوب الإسلامية وغير الإسلامية. وقد ظلت الإمبراطورية حتى الأيام الأخيرة من وجودها خليطًا من شعوب من الأتراك واليونانيين والألبان والكرد والأرمن واللاز واليهود والدروز والعرب والتتر والسلاف وغيرهم، وهؤلاء كانت لهم لغاتهم ودياناتهم وتقاليدهم الثقافية. كان للطوائف المختلفة مؤسساتها الاجتماعية الخاصة، وعلى الرغم من أنهم كانوا مضطرين للانصياع لمعايير الشريعة التي كانت هي السائدة في الإمبراطورية، إلا أن هذه الطوائف كان لها أيضًا نظمها القضائية الخاصة، التي كانت تنظم حياتها الداخلية. كانت العلاقات بين الطوائف ضعيفة للغاية. لقد عاش الجميع قرونًا عديدة داخل دولة واحدة، لكنهم لم يكونوا يشعرون أو يعترفون بأنهم مع بعضهم بعضًا مواطنون في بلد واحد. لم يكن هذا المفهوم موجودًا ببساطة في دولة تسترشد بالمعايير الإسلامية.
ومن بين غير المسلمين كان هناك الكثير من الناس من ذوي الهمة العالية والمفعمين بالحماس، الذين وجدوا أنفسهم في منافسة شرسة مع بعضهم البعض. كانت العلاقات داخل كل طائفة قوية للغاية، وهي علاقات لم يكن من السهل الحياة بدونها في ظل ظروف مثل هذا التنافس. أصبح غير المسلمين يعملون تجارًا وأصحاب حوانيت ورجال مال وأطباء ووسطاء في تجارة الأتراك مع الشعوب الأخرى. يومًا بعد الآخر استطاعوا أن يراكموا رءوس أموال، بينما كان الأتراك يدخلون في الحروب العديدة التي كانت تشنها الإمبراطورية.
مع بداية القرن العشرين كانت الطوائف غير المسلمة تحتل المواقع الحاكمة في العديد من مجالات الاقتصاد التي أصابها الانهيار. أصبح الموظفون والضباط، الذين كانت غالبيتهم من الأتراك، يحصلون على رواتب تزداد تدنيًا يومًا بعد الآخر من دولتهم التي لحق بها الفقر. وفي الإمبراطورية جرت صياغة أيديولوجيا الجامعة التركية، التي تحولت فيما بعد إلى القومية التركية. وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى واحتلال إسطنبول من جانب دول التحالف، أصبحت الطائفة اليهودية مفلسة، مثلها مثل جميع سكان تركيا. إبان سنوات الاحتلال حاول الحاخام الأكبر للطائفة المدعو ناحوم أن يدفع أبناء عقيدته للتوحد مع الأرمن واليونانيين ضد الأتراك، ولكنه لم يحقق نجاحًا يذكر، وقد حاول خَلَفَه إسحاق آريل وحاييم بيجوورانو المشاركة في التدابير التي تتخذها السلطات التركية في الوقت الذي قطع فيه البطاركة الأرمن واليونانيون كل علاقاتهم بالأتراك.
كان اليهود يشاركون في الانتخابات البرلمانية، بينما لم يشارك فيها اليونانيون والأرمن. وفي فترة احتلال التحالف أجزاءً من الأراضي التركية ألغى اليونانيون والأرمن دراسة اللغة التركية من المناهج الدراسية، بينما استمر اليهود في تدريسها.
بعد نجاح الكماليين في حرب التحرير القومية في الأعوام ١٩١٨–١٩٢٣م أصبحت الأيديولوجية الجديدة هي السائدة في الجمهورية التركية لعدة عقود.
كان للتقارب الذي بدأ في القرن التاسع عشر في سنوات الإصلاحات التي قام بها محمود الثاني، ثم في أعوام التنظيمات بين المعايير العثمانية في السياسة والاقتصاد والثقافة والمعايير الأوروبية، أثره في تغيير بنية الدولة الإسلامية تغييرًا جذريًّا.
على أن هدم البنى القديمة والتجديد الحقيقي للمجتمع وللدولة بدآ في فترة نهوض الجمهورية التركية. مثل هذا القدر من التجديد الراديكالي أسهم في هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى. كان ذلك انهيارًا لم يسبق له مثيل لإمبراطورية جبارة. وقد ظهر آنذاك مجتمع أكثر تجانسًا، شكَّل فيه المسلمون الأغلبية الساحقة بدلًا من مجتمع متعدد الإثنيات والمذاهب.
لقد بلغ تعداد السكان في السنوات الأولى من وجود الجمهورية التركية ١٧٠٠٤٠٤٣ نسمة (باستثناء محافظة كارس التي انضمت للجمهورية فيما بعد) من بينهم.
مسلمون | ١٣٧٢١٨٥٤ | ٨٠٫٧٪ |
يونانيون | ١٥٥٥٩٣٦ | ٩٫٢٪ |
أرمن | ١٤٤٩٤٣١ | ٨٫٥٪ |
مسيحيون آخرون | ١٣٩٢٧٣ | ٠٫٨٪ |
يهود | ١٣٠٥٩٢ | ٠٫٨٪ |
يزيديون | ٩٦٥٧ |
بعد انتصار الكماليين في حرب الاستقلال، تم إلغاء نظام الحكم الإمبراطوري الثيوقراطي السابق. قضت السلطة الجديدة على مؤسسة شيخ الإسلام والشريعة باعتبارها مصدرًا قانونيًّا.
في عام ١٩٢٣م أُعلنت الجمهورية التركية دولة مدنية، وفي هذه الظروف كان على العلاقات بين الأغلبية التركية والأقلية غير المسلمة أن تصبح علاقات مختلفة عن تلك التي كانت قائمة إبان الإمبراطورية العثمانية.
في نفس العام ١٩٢٣م وقَّعت تركيا على معاهدة لوزان للسلام مع الدول الأوروبية. وقد حددت المواد من ٣٧ إلى ٤٥ من المعاهدة الوضع الشخصي والعائلي وكذلك حقوق الأقليات. وجاء في المادة ٤٢ أن الحكومة التركية ملتزمة بالأخذ في الاعتبار خصوصية الوضع الشخصي والعائلي لغير المسلمين، والذي يتضمن العادات الخاصة.
في هذا السياق كان من الضروري ترتيب الأوضاع القانونية من جانب لجان متخصصة مشكَّلة من عدد متساوٍ من ممثلي السلطات التركية ومن ممثل عن كل أقلية من الأقليات، وفي حالة ظهور خلافات حادة بين الحكومة التركية والمجالس القومية في التوصل إلى اتفاق مشترك كان من الممكن للأطراف المعنية تعيين مُحكِّمين من عدد محدد من المستشارين القانونيين الأوروبيين. هناك فصل في معاهدة لوزان لعام ١٩٢٣م يحمل عنوان «حماية الأقليات القومية»، يضمن لها الحماية الدولية. كانت هناك أيضًا بنود لم ترغب حكومة الكماليين في الموافقة عليها، وهي البنود التي رأى مصطفى كمال أول رئيس تركي أن دول التحالف تحاول أن تُقيِّد بها تركيا:
-
(أ)
إعادة كل غير الأتراك، الذين تركوا بيوتهم في أثناء فترة الأعمال العسكرية، إلى أماكن معيشتهم السابقة. ضرورة إنشاء لجنة تحكيم يُعين رئيسها من جانب عصبة الأمم بهدف إعمال الرقابة على إعادة حقوق غير الأتراك.
ورد في المعاهدة أيضًا ما يفيد ضرورة عودة أملاك المهاجرين والأشخاص، الذين تم نقلهم على نحو تعسفي، وكذلك عقاب المتهمين في تهجير جماعات السكان.
-
(ب)
كان على الحكومة التركية أن تقدم خلال عامين لحكومات دول التحالف مشروع قانون الانتخابات، يضمن التمثيل النسبي للأقليات في البرلمان.
-
(جـ)
ضرورة إعادة وتوسيع جميع ميزات بطريركية القسطنطينية وغيرها من الهيئات الدينية المشابهة. زد على ذلك ضرورة إلغاء حق رقابة السلطات التركية على المدارس والمستشفيات والمؤسسات الاجتماعية الأخرى التابعة للأقليات القومية.
-
(د)
بعد إجراء استشارات مع مجلس عصبة الأمم كانت دول التحالف تعتزم تحديد تلك التدابير، التي ينبغي اتخاذها لتنفيذ كل هذه القرارات.٢
جدير بالذكر أن الأحكام الواردة في معاهدة لوزان للسلام عام ١٩٢٣م كان قد تم إعدادها من جانب الدول الأوروبية قبل اتخاذ التشريع التركي الجديد، استنادًا إلى القانون المدني السويسري. دفع الفصل الخاص ﺑ «حماية الأقليات القومية» من معاهدة لوزان، الذين أصبحوا جزءًا من السكان الأتراك، الذين يعيشون تحت الحماية الدولية، دفع الحكومة التركية لاتخاذ قوانين مُوحَّدة لجميع المواطنين الأتراك. وإلى جانب إعلان قوانين المساواة بين جميع المواطنين، أنهت السلطات الاستقلال الذاتي للطوائف غير المسلمة والامتيازات الممنوحة للرعايا الأجانب، التي استمرت لعدة قرون.
تعامل اليهود بحرص تجاه الحقوق الواردة في معاهدة لوزان، وكانوا يفضلون تجنب أقل مواجهة مع السلطات التركية، وقد قاموا بصياغة رفض للقوانين الجديدة، الواردة في معاهدة لوزان. فيما يلي ما ورد في هذا الرفض:
«نظرًا لأنه قد تم في الجمهورية التركية تبني إعلان مبدأ الفصل بين مؤسسات الدولة الدينية والمدنية، وهو المبدأ المعمول به منذ زمن بعيد في الدول المتمدينة الأخرى؛ فقد جرى إعداد قوانين جديدة على أساس مدني. وقد قمنا بدعوة مجلس الطائفة اليهودية إلى اجتماع غير عادي تحت رئاسة الحاخام الأكبر، وقد حضر هذا الاجتماع أعضاء المجالس المدنية والدينية، فضلًا عن أعيان الطوائف في تركيا، الذين تمت دعوتهم بصورة أساسية من جانب الحاخامية الكبرى، وذلك للنظر في حقوق العائلات والوضع الشخصي لأعضاء الطائفة فيما يخص المعايير الجديدة للقانون. وفي هذا الاجتماع تم اتخاذ القرارات التالية التي اعتبرنا أن من واجبنا أن نقدمها لحكومة جمهوريتنا.»
ولمَّا كان من الضروري استكمال أحكام المادة ٤٢، المتعلقة بتقاليد وعادات الأقليات القومية من جانب لجنة خاصة، فإن من الأمور المهمة أن نلاحظ الظرف الآتي:
«لقد اتخذت حكومتنا القومية، في سياق توقيعها على هذه المعاهدة، الوضع الشخصي والحقوق العائلية، مستندة في ذلك إلى مبادئ الدين الإسلامي، وهي المبادئ التي لا يمكن تطبيقها على الأقليات غير المسلمة، وهذه ينبغي أن تُعد من أجل كل منها أحكام خاصة.
وحيث إنه قد تم اتخاذ قانون مدني جديد وفصل تام بين المجالين الديني والمدني، فإن القوانين الجديدة لم تتضمن الخاصية الدينية، ومن ثم فإنه بناء على وجود تطور في القانون الحديث في تركيا، تنعدم الحاجة إلى إعداد قوانين خاصة لليهود. على أنه وحتى في حالة وجود أي تناقض (بين تقاليدنا والتشريعات الجديدة) فإن القيام بإعداد موازٍ لأحكام استثنائية قد يعني فقدان اليهود لوضعهم الشخصي القائم على المبادئ المدنية.
على أية حال، فإن اليهود، كما تشهد بذلك المصادر والخبرة التاريخية، ليسوا مهتمين بالحركات الثورية السياسية والاجتماعية لهذه البلاد التي يعيشون فيها فحسب، بل إنهم، على العكس من ذلك، يشاركون في هذه الحركات ويضيفون إليها إدراكهم للأمور.
على أنه وحيث إن النظام السياسي والاجتماعي في الجمهورية التركية مؤسس الآن بأكمله على تقسيم المبدأين المدني والديني، وإن اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم دائمًا أبناء هذه البلاد، فإنهم لا يستطيعون أن يفهموا لماذا ينبغي أن تطبق عليهم أحكام تتناقض والوضع المعمول به في العالم المتمدين.
أما فيما يخص مطالبنا المدنية، فإن هذه المطالب سوف تؤخذ في الاعتبار، بكل تأكيد، بنفس القدر، باعتبارها أيضًا مطالب جميع المواطنين، الذين يعيشون في حدود تركيا المعاصرة.
وأما فيما يتعلق بقضايا الزواج والطلاق فإن اليهود يمكنهم حلها على نفس النحو، الذي تُحل به في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية طبقًا لمبدأ حرية الضمير المُعلن والمُعتمد في القانون الدستوري للجمهورية من قبل الحاخام الأكبر لجميع المراكز الدينية اليهودية في تركيا. وتُجرى هذه المراسم وفقًا لقانوننا الديني، الذي لا توجد موانع أمام اتباعه.
قدَّرت سلطات الجمهورية موقف الطائفة اليهودية في الوقت الصعب، الذي وقع فيه جزء من البلاد تحت وطأة الاحتلال، وكذلك إبان حرب التحرير الوطنية في الأعوام ١٩١٨–١٩٢٣م.
وبنفس الطريقة أدلى أول رئيس للجمهورية التركية عن آرائه عدة مرات ولأسباب مختلفة.
وعلى مدى قرون من وجود الإمبراطورية العثمانية، ثم بعد ذلك في العقود الأولى من الجمهورية التركية، لم يتسبب اليهود الأتراك بالفعل، والسفارديم منهم بصورة أساسية، في أية اضطرابات على نحو خاص لحكومات هذه الدولة. لم يطمعوا في الاستيلاء على أراضٍ أو في الحصول على وضع حكومي مستقل، كما كان يفعل اليونانيون والأرمن. أما الصهاينة، الذين ازداد نشاطهم في فلسطين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر والذين حصلوا على حقوقهم في أراضيها، فكانت غالبيتهم من الأشكيناز، الذين جاءوا من الإمبراطورية الروسية، وكانت تضم في قوامها آنذاك كلًّا من أوكرانيا وبولندا، وذلك فضلًا عن القادمين من بلدان أوروبا الأخرى. أجيال عديدة من اليهود الأتراك ظلت على مدى قرون طويلة تحتفظ في ذاكرتها بهذا الملجأ الذي أتيح لها إبان سنوات النفي والاضطهاد في أوروبا.
كان الأوروبيون هم شهود العيان على سكرة الموت التي عاشتها الدولة العثمانية ثم قيام تركيا الجديدة بعد ذلك، وأخص بالذكر هنا الفرنسي بول جانتيزون، وقد أولى الأوروبيون اهتمامهم بالجمهورية منذ سنوات تكونها الأولى وخاصة بالظروف الحسنة التي عاشتها الطوائف اليهودية، التي كان عددها قد تناقص بشدة. ويمكن القول، إذا ما أخذنا في الاعتبار ظروف الدمار الذي حل بالبلاد من جراء الحروب التي اندلعت في مطلع القرن العشرين وفقر الطوائف اليهودية، إن اليهود عاشوا في ظروف جيدة نسبيًّا للغاية.
جاء الدستور التركي لعام ١٩٢٤م مدنيًّا تمامًا ومُلبيًا لحاجات السلطة الجديدة، كما كان موجهًا للمواطن الفرد، وليس للأجانب و«الكفار». وقد كان مضمون هذا الدستور أوروبيًّا فيما يتعلق بالأمة السياسية. لم يكن التركي تركيًّا من الناحية الإثنية فقط، ولكن يُعد تركيًّا أيضًا كل من له أصول عرقية، كالفرنسي والبولندي والعربي الجزائري والروسي واليهودي.
سبق الدستور بشكل كبير الوعي الذاتي للناس، كما سبق عملية تشكيل المجتمع الجديد. وفي وجود جميع إنجازات تركيا الجديدة ظلت التقاليد الثقافية السابقة وأنماط الوعي لبعض الجماعات الإثنية وتصوراتها عن مكانتها الخاصة في الدولة التركية الجديدة وعلى أي نحو ينبغي أن تكون مكانة الآخرين.
من المستحيل ألَّا نشير إلى أن الأتراك هم وحدهم الذين قاتلوا من أجل استقلال الأناضول وتذكروا وضع الطوائف غير المسلمة فيها، والذين وقفت غالبيتهم إلى جانب دول التحالف ضد الأتراك. هؤلاء لم يكونوا يثقون بدرجة كبيرة في تأكيدات رؤساء الطوائف على الإخلاص للنظام الجديد، وفضلًا عن ذلك تذكر الأتراك أيضًا وضعهم الحاكم السابق في الإمبراطورية.
وعلى هذا النحو لم يكن اتخاذ قوانين عامة للبلاد يعني حل جميع الخلافات القائمة على أساس ديني ومدني. ومع تمكن المؤسسات الجديدة ومعها أوضاع السلطات المسيطرة على جميع المستويات ساد بالتدريج الشعار القومي الشامل والمعتاد «تركيا للأتراك». لم يُخف القوميون الأتراك هدفهم المتمثل في إقامة كيان متجانس تمامًا من السكان في إطار خطة إثنية مذهبية داخل الحدود القومية، وراحوا يدعون الأتراك للعمل في البنوك وفي الصناعة والتجارة.
بعد إعلان الجمهورية التركية دولة قومية للأتراك أوقف الاتحاد اليهودي العام نشاطه فيها. الآن لم يعد بمقدوره التدخل في عملية تعليم الأطفال؛ مواطني تركيا. وأصبحت المدارس السابقة للاتحاد مدارس عمومية، يتم فيها التدريس باللغة التركية، وأصبحت المواد الإجبارية في المدارس اليهودية هي التاريخ التركي والجغرافيا والأدب التركي.
ومع ذلك ورغم جميع الجهود المبذولة من أجل التكامل مع المجتمع التركي الجديد فقد انفصل اليهود الأتراك بشكل حاد بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبلغتهم، وكذلك ظلوا في الفترات الأولى هم المسيطرين في جميع مجالات الاقتصاد، الأمر الذي أثار غضب القوميين.
لم تتمكن تركيا الجديدة بسهولة وسرعة من تجاوز خاصية الفصل التقليدي للعمل، على الرغم من أن الشباب التركي راح ينجذب أكثر فأكثر نحو مجال العمل التقني ونحو العمل بالتجارة ونشاط الأعمال.
كلما ازدادت الثقة في المستقبل من جانب النخبة التركية، بصفتها الوجه الآخر المؤمن بالقومية التركية، ازداد تشبعها بروح الكراهية للأجانب لتصبح معاداة السامية بالنسبة لها من قبيل الموضة. كانت هذه النخبة توجه اللوم لليهود لكونهم ظلوا غرباء على القيم القومية التركية ولم يندمجوا بالقدر الكافي في المجتمع التركي، وأنهم وضعوا مصالحهم الشخصية فوق المصالح التركية المشتركة.
وقد صبت جماعة من يهود إسطنبول الزيت على النار، عندما بعثت برسالة تهنئة إلى مدريد بمناسبة الذكرى السنوية لاكتشاف كولومبوس لأمريكا. لقد بدا وكأن هذه الرسالة جاءت تعبيرًا عن مشاعر اليهود الحميمة تجاه الوطن الذي غادروه لتوهم. أدان آلاف اليهود هذا السلوك وأسرعوا للتعبير عن إخلاصهم للسلطات في أنقرة، وسرعان ما راحت الصحافة التركية تهول من هذه الفضيحة. فيما بعد تم تكذيب شائعة الرسالة، وسرعان ما صعد إلى منصة الجمعية الوطنية الكبرى اثنان من النواب هما باسم أطالاي بك ومحمد وصفي بك ليعلنا عن «التهديد اليهودي»، حتى إن الأخير طالب ﺑ «تأميم البورصة» ودعا إلى «اتخاذ سياسة حازمة معادية لليهود». على أن وزير المالية تحدث باسم الحكومة منددًا بمثل هذه الإجراءات العدوانية وأعلن قائلًا أنه: «إذا كانت الطائفة اليهودية طائفة تتمتع بالحيوية والكفاءة في العمل وبالفعالية، فإن ذلك يبرز خصالها الداخلية الموروثة، والأمر الوحيد الذي يمكن أن نتخذه هو أن نحذو حذوها وأن نعمل كما تعمل … ليس لدينا أية أسباب للشكوى من العنصر اليهودي في تركيا. من بين جميع دافعي الضرائب فإن اليهود، بطبيعة الحال، هم أكثرهم إخلاصًا في سداد ما عليهم من التزامات لخزانة الدولة … إن القضاء التركي نادرًا ما يجد لديه ما يمكنه أن يتهمهم به على أي نحو بمخالفة القوانين. إنهم لا يتدخلون في السياسة ويمارسون أعمالهم في هدوء … والجزء الأكبر من رءوس أموالهم يستثمرونه في العقارات التي تزين وجه المدينة.»
أرغمت الظروف المحلية الأقلية اليهودية على التأقلم سريعًا مع مطالب النظام الجديد، وكما ذكرنا آنفًا ففي جميع المدارس اليهودية أصبح التعليم يتم باللغة التركية بدءًا من الفصول الدراسية الابتدائية، وذلك على حساب لغة اللادينو؛ اللغة الأم بالنسبة للسفارديم، وكذلك الفرنسية التي كانت واسعة الانتشار بينهم قبل ذلك. وهكذا بدأ الشباب اليهودي تدريجيًّا يتحدث ويكتب بالتركية بطلاقة، وباتت اللادينو هي اللغة الدارجة المستخدمة في أوساط الطوائف اليهودية في إسطنبول وإزمير وفي غيرهما من المدن، على الرغم من أن بعض العائلات بدأت في التحدث بالتركية. لقد ساعد امتلاك غير الأتراك ناصية اللغة التركية بصورة كبيرة على نقلها من الخط العربي إلى الخط اللاتيني.
لقد مسَّ الإصلاح القائم على مبدأ فصل مجالي الحياة المدنية والروحية جميع الطوائف دون استثناء بما في ذلك المسلمون. وتعرضت مؤسسة الحاخام الأكبر أيضًا لإعادة التنظيم، إذ لم تعد متوافقة الآن كليةً مع معايير النظام العلماني الثابت في الدستور التركي.
أصبح نشاط الحاخامية الكبرى مقتصرًا على ممارسة العبادات: الطهور، الذبح وفقًا للطقوس، مباركة الزواج، الرقابة على إنتاج فطير الفصح، وهلم جرًّا.
أصبحت المدارس والمستشفيات والمؤسسات الخيرية مستقلة وتخضع ماليًّا للطائفة مباشرة. أما فيما يتعلق بالحاخام الأكبر نفسه فلم تعد له، مثله في ذلك مثل بطريرك القسطنطينية وشيخ الإسلام، أية امتيازات. وقد وافق الحاخام الأكبر على استبدال ملابسه التقليدية وبدأ في ارتداء الملابس الأوروبية المدنية.
إجمالًا فإننا إذا أردنا تقييم وضع اليهود الأتراك مقارنة بما كان عليه وضع اليهود في روسيا وبولندا ورومانيا وغيرها من بلدان أوروبا، فسنجد أن وضعهم كان جيدًا نسبيًّا. لم تكن هناك في تركيا مظاهر لتحديد إقامة أو مذابح أو اضطهاد قائم على أسس إثنية ودينية. لم يتعرض اليهود، خلافًا لليونانيين والأرمن، للنفي. لم يكن هناك تقيد بنسبة محددة منهم في المؤسسات التعليمية التركية، على الرغم من أن هذه النسبة كانت موجودة في المؤسسات الحكومية. لم يتعرض اليهود في تركيا للملاحقة القضائية وللإعدام رميًا بالرصاص، كما حدث في الاتحاد السوفييتي إبان «اللجنة اليهودية المعادية للفاشية»، كما لم يكن هناك اضطهاد لمن «ليس لهم هوية».
على أنه لا يمكن أن نصف وضع هؤلاء بطبيعة الحال، بأنه كان وضعًا خاليًا من الكدر؛ ففي سبتمبر عام ١٩٢٧م ألقت الأحداث الدامية بظلالها على علاقات سلطات إسطنبول بالطائفة اليهودية.
على مدى عدة أشهر تعرضت فتاة يهودية شابة تدعى إلزا نيجو لملاحقات رجل في الخامسة والأربعين من العمر يُدعى عثمان بك، وهو ابن لعضو سابق في مكتب السلطان راتب باشا. كان هذا الرجل مشهورًا بانغماسه في الملذات، وكان يعمل قبل ذلك ملحقًا بحريًّا في لندن، حيث تزوج من امرأة إنجليزية، ودون أن يطلق زوجته الأولى تزوج في تركيا، على الرغم من أن القوانين التركية الجديدة لم تكن تشجع تعدد الزوجات. وبعد أن رأى بالصدفة إلزا على متن السفينة، والتي كانت تعمل بين إسطنبول وجزر الأمراء، راح يلاحقها بإلحاح. ومع ذلك رفضت إلزا منذ البداية إطراء هذا التركي سليل العائلة ذات الجاه والنفوذ لها؛ إذ إنها كانت مخطوبة لشاب من أترابها وعلى دينها. حذر عثمان بك خطيب الفتاة وهدده بالتنكيل به بدنيًّا. تقدمت عائلة نيجو بشكوى إلى البوليس وتم اعتقال المتهم عدة أيام، ولكنه ما إن أطلق سراحه حتى عاد إلى ملاحقاته السابقة ثم قرر أن يختطف الفتاة. استأجر الرجل شخصين انتظرا الفتاة في سيارة تقف بالقرب من مكان عملها. على أنه تم اكتشاف سوء نيته فأعاد البوليس التحقيق في شكوى عائلة نيجو. احتدم عثمان بك غضبًا من احتمال اعتقاله مرة أخرى فتناول جرعة كبيرة من الخمر واشترى خنجرًا واختبأ في الشارع الذي تقطعه إلزا في طريق عودتها من العمل إلى البيت. ما إن ظهرت الفتاة بصحبة شقيقتها وابنتها، حتى سدد إليها عثمان بك طعنة من الخلف في الشريان السباتي، ودون أن يلقي اهتمامًا لصراخ النساء اللائي كن برفقتها راح القاتل يجذب الفتاة من شعرها ليسدد إليها عدة طعنات أخرى في بطنها.
حدث ذلك في الساعة السادسة مساءً في حي دوجريول اليهودي في إسطنبول بالقرب من حيي بيرا وجلاطة. سرعان ما تجمع الجمهور وراح يضرب القاتل بقبضات الأيدي وبالعصي، ويقال إن أحد الإسكافيين حطم أريكة على رأسه. وصل البوليس بسرعة بالغة ليحول دون قصاص الناس منه بأيديهم.
لا شك أن مثل هذه القصص كان لها مكان أيضًا في الماضي في عصر الإنكشارية، لكن التعامل مع هذه الجرائم تغير، ليس فقط من جانب السلطات، وإنما من جانب اليهود أنفسهم. لقد وجد احتجاجهم استجابة، على الرغم من أن الصحافة التركية كانت تتناول ما يحدث من زوايا متعددة. من جديد تظهر مقالات تدين اليهود لمحاولاتهم الاحتفاظ بهويتهم الخاصة، وغياب تكاملهم مع المجتمع التركي، على النحو الذي يراه كُتَّاب هذه المقالات، الذين كانوا يستندون في آرائهم إلى نتائج عمليات التكامل الطويلة في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا وغيرها من البلاد الأوروبية.
بوصول النازيين إلى سدة الحكم في ألمانيا في عام ١٩٣٣م انتعش المزاج المدافع عن النازيين في العديد من الدول الأوروبية، كما أصيب أيضًا جزء من النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية بعدوى الأفكار النازية، وهو ما أعاق منذ البداية الرئيس روزفلت أن يُفعِّل الحرب ضد النظام الألماني.
كانت معاداة السامية هي المكون الرئيسي العام لهذه الأيديولوجيا. وها هم مواطنو الأمس في العديد من الدول الأوروبية يتحولون إلى لاجئين، بينما راح جيرانهم يشاركون مرارًا في قتل ونهب أملاك مواطني الأمس. لم تسارع حكومة واحدة، حتى تلك التي كانت على علم بحقيقة نظرية وتطبيق النازية، بالدفاع عن هذا الشعب الذي تم تدميره، وبدا أن حدود الدول الأوروبية، التي كانت بعيدة عن الاحتلال الألماني، مثل حدود الولايات المتحدة الأمريكية، كانت مغلقة أمام اللاجئين اليهود.
قلة من هؤلاء هم الذين تمكنوا من النجاة، وكان على السلطات التركية أن تحل مشكلة اللاجئين أيضًا.
في يناير من عام ١٩٣٨م أدخل صبري طوبراك، وزير الزراعة الأسبق والذي أصبح نائبًا في مجلس النواب، أدخل إلى جدول أعمال المجلس مشروعي قانونين؛ اقترح في الأول الحد، بشكل جوهري، من الهجرة إلى البلاد، وخصوصًا هجرة اليهود، والآخر يرى ضرورة إلزام جميع المواطنين بالتحدث بالتركية مهددًا بدفع مخالفات. كان هذا القانون موجهًا ضد كل من هم من غير الأتراك. وقد رفضت اللجنة، التي كان يرأسها شيوكريو كاي، المشروعين، ويرجع السبب في ذلك إلى وجود قرارين حكوميين، الأول خاص بالهجرة والآخر خاص بضرورة استخدام اللغة التركية في كل مكان.
إن القوانين التركية تعرضت في درجة تطبيقها، سواء في سنوات ما قبل الحرب أو ما بعدها، لاختبارات جادة، فبعد ضم النمسا (إلى ألمانيا – المترجم) أسقطت الجنسية عن عدد من يهود إسطنبول من أصحاب الجنسية النمساوية في يناير عام ١٩٣٩م؛ حيث إن القنصلية الألمانية، التي انتقلت إليها جميع شئون المواطنين النمساويين، لم تعترف بهم باعتبارهم مواطنين ألمانًا في الوقت الراهن. ووفقًا للقانون التركي، فإن الأشخاص غير القادرين على إثبات جنسيتهم عليهم أن يغادروا البلاد، وعلى هذا الأساس اتخذ البوليس إجراءات إبعاد أولئك الذين أصبحوا بلا حول ولا قوة، وهنا لجأ المواطنون النمساويون سابقًا إلى السلطات المركزية في أنقرة، حيث وجدوا هناك تفهمًا لقضيتهم.
لقد رأت الحكومة أن من الممكن، في هذه الظروف الاستثنائية، إلغاء القرار الذي أصدرته من قبل مصلحة البوليس ضد المواطنين اليهود النمساويين سابقًا، والذين يقيمون في تركيا. وحتى تفسر هذا القرار قامت الحكومة، التي كان يرأس مجلس وزرائها آنذاك الدكتور رفيق صيدام، بعقد مؤتمر صحفي صرح فيه رئيس الوزراء بأن «تركيا لا تشعر بالحرج من جراء المسألة اليهودية، وإذا كان هناك خطأ قد وقع بالنسبة لأشخاص محددين، فسوف نقوم بتصحيحه. إن كل من يقيم في الوقت الحالي على أرضنا يمكنه البقاء، ولكننا لا نستطيع أن نسمح بالهجرة الجماعية لليهود المضطرين في بلاد أخرى. إن المختصين الأجانب، العاملين في تركيا، يمكنهم أن يحضروا عائلاتهم إلى هنا، أما فيما يخص اليهود الأتراك، فإنهم بالنسبة لنا على قدم المساواة وفقًا لدستورنا. إن ديانتهم لا يمكن أن تكون مبررًا لتقييد حقوقهم المدنية. إن لدستورنا أساسًا مدنيًّا لا يفرق بين الناس على أساس عرقي أو ديني.»
يستطيع المواطنون اليهود الأتراك الذهاب بحرية إلى المدارس الحكومية، والالتحاق بجميع الوظائف، والتنقل دون قيود في جميع أنحاء البلاد، وإصدار صحفهم. باختصار فإن الإمكانات المتاحة أمامهم لا تختلف في شيء عن الإمكانات المتاحة أمام مواطنينا المسلمين.
في سبتمبر عام ١٩٣٣م أرسلت منظمة «اتحاذ الطوائف من أجل الدفاع عن رخاء المواطنين اليهود»، وهي منظمة يهودية، أرسلت خطابًا إلى الحكومة التركية بطلب السماح للعلماء البارزين بالانتقال إلى تركيا وإنقاذهم من الاضطهاد النازي. وقَّع على الخطاب ألبرت أينشتاين، وكان يشغل آنذاك منصب الرئيس الفخري لهذه الجمعية. كان الأمر يتعلق هنا بأربعين أستاذًا جامعيًّا وعدد ممن يحملون درجة الدكتوراه موجودين في ألمانيا ويرغبون في مواصلة جهودهم العلمية في تركيا.
كانت هناك قيود كبيرة معادية للسامية عند قبول اليهود للعمل في الجامعات الأمريكية والمستشفيات، وقد تضاعفت هذه المشكلة بسبب سياسة وزارة الخارجية الأمريكية التي كانت تتباطأ في منح التأشيرات لليهود الأوروبيين وحتى للمتخصصين الأكفاء منهم.
كانت تركيا بحاجة إلى تدفق العقول إليها من أجل تحديث جميع مجالات الحياة.
أعطى رئيس تركيا مصطفى كمال أتاتورك التصريح؛ فجاء العلماء اليهود من ألمانيا إلى تركيا وأسهموا إسهامًا بارزًا في تحديث نظم التعليم والبحوث العلمية وتحقيق الإصلاحات الاجتماعية، وبنهاية الحرب العالمية الثانية انتقلت غالبيتهم من تركيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
ولكن، وكما ذكرنا من قبل، فقد كان مسموحًا للأجانب اللاجئين بالدخول إلى البلاد بشرط أن يكونوا من العلماء والمتخصصين من ذوي الكفاءة العالية. «على أن تركيا، كما أعلن ذلك رسميًّا، لا يمكنها أن تفتح موانيها الكبرى لاستقبال عدد كبير من اللاجئين اليهود، الذين تم طردهم، أو الذين سرعان ما سيطردون من بعض الدول الأوروبية. هؤلاء لن نستطيع أن نقدم لهم المساعدة، على الرغم من تعاطفنا معهم بسبب تلك المعاملة التي يتعرضون لها في أوروبا، لكن تعاطفنا لا يمكن أن يسمح لنا باستقبال كل اللاجئين.»
من اللافت للنظر هذا العرض الذي أوردته الشخصيات الرسمية التركية لأسباب معاداة أوروبا للسامية.
«لماذا لا تريدهم (أي اليهود-إ.ف) بعض البلاد الأوروبية؟ يتم تفسير ذلك الخطاب المعادي للسامية في العديد من الكتابات التاريخية بحجج تتعلق، بطبيعة الحال، بالنظام الاقتصادي، وكثيرًا ما يورد أصحاب هذا الخطاب إحصاءات وأرقامًا كنوع من الإثبات. ليس هناك من شك أن التطرف الذي يبلغ من العمر ألفي عام يلعب الدور الأكبر في مثل هذه الحسابات التي خلقها العداء.
يسترشد الذين يحكمون بعض البلاد في سياستهم بالكاد بالعداء الشخصي لبناء تلك الأمة، ولكنهم على الأرجح يتمتعون بأمزجة معادية للسامية ويقومون بإبعاد اليهود إرضاء لجشع الجماهير المتعطشة للضحايا. إنهم يريدون الحصول على نظريات علمية زائفة وذرائع للتبرير الأخلاقي لوحشيتهم الخاصة، ويمكن أن نعتبر ذلك مثالًا على الجنون المؤهل، الذي يستبيح كل منجزات البشرية الروحية والأخلاقية.
إنهم لا يخفون في سياق ذلك أن أعمالهم، من وجهة النظر الاقتصادية، مربحة للغاية؛ لأنه نتيجة لطرد اليهود سوف يكون باستطاعة مواطنين آخرين أن يشغلوا الأماكن التي تركوها.»
في الواقع فإن روح المعاداة للسامية في المجتمع التركي إبان الحرب العالمية الثانية لم تبلغ هذه الدرجة، التي بلغتها في أوروبا، لكن هذه الروح كانت موجودة، بلا شك، على الرغم من البيانات الرسمية التي كانت تطلقها الشخصيات الرفيعة. ربما كانت هذه الشخصية متسامحة وعادلة، ولكن الأمور لم تكن في يدهم تمامًا، على الرغم من أنهم كانوا يستطيعون، بطبيعة الحال، وقف هذه الشهوات الخسيسة وعدم السماح لها بالعربدة والتسلط.
بدأ والي إسطنبول الدكتور لطفي كيردار خطابه متحدثًا إلى يهود المدينة بقوله: «إنكم تقدمون العون كل يوم للمصابين. لم يأت الوقت بعد الذي تستطيع البلاد فيه أن تقدره حق قدره؛ لأن التبرعات في صورتها العينية والمالية ما تزال تصل إلينا. أستطيع أن أذكر بشكل أو آخر على وجه الدقة المبلغ الذي وصل إلينا حتى مساء أمس وهو ٥٨٦٩٨٦ ليرة، وسوف يرسل هذا المبلغ اليوم إلى اللجنة المركزية للمساعدات في أنقرة؛ حيث يتم تجميع كل التبرعات.
في هذه الظروف الحزينة أظهر سكان إسطنبول والمواطنون من جميع الملل دون استثناء مشاعر الإيثار والتضامن والاتحاد أمام الكارثة التي حلت بنا. جميعهم يستحقون الإعجاب ومشاعر الفخر من مجتمعنا.
لمساعدة ضحايا الكارثة الطبيعية شارك مواطنونا اليهود بشكل كامل، وهنا أجد أن من واجبي أن أوفيهم حقهم.»