اليهود في البلاط العثماني
في القرن السادس عشر كانت التجارة العثمانية الضخمة وتحصيل الرسوم الجُمركية في يد اليهود بدرجة كبيرة. كان اليهود يعملون أيضًا بالملاحة البحرية التجارية وقد حقَّقوا فيها نجاحًا باهرًا على منافسيهم من أبناء البندقية، الذين كانوا يَملكون أسطولًا قويًّا وتقاليد تجارية عريقة.
كان ملوك أوروبا المسيحيون، الذين كانوا يَسعون للحصول على مكاسب ما داخل البلاط العثماني، مُضطرِّين للجوء إلى يوسف ناسي.
كان يوسف يشعر بالثِّقة والاستقلال داخل البلاط، إلى حدِّ أنه عزم على مقاضاة الملوك الفرنسيين بسبب الديون التي له لديهم، والتي قرَّر هنري الثاني، ومن بعده كارل الرابع، بعد تتويجه، ألَّا يرداها. وقد تذرَّعا في قرارهما بزعم أن القانون والدين يحظران على ملك فرنسا أن يُعيد الديون إلى الدائن اليهودي؛ حيث إنَّ اليهود ليس مسموحًا لهم بأن يعملوا في فرنسا، وإنَّ أملاكهم تخضع للمُصادَرة.
وعندما اقتنع يوسف ناسي بأنه لن يَنجح في تسوية أموره بالحسنى، حصل من السلطان على تصريح بمُصادَرة كل سفن الأسطول الفرنسي التي تبين أنها موجودة في الموانئ التركية. وقد بدأت مطاردة السفن الفرنسية في جميع السواحل حتى في الجزائر نفسها، كما تم الاستيلاء على عدد من السفن الفرنسية في الإسكندرية وبيعت البضائع المصادرة لتذهب الأموال المحصلة لسداد الديون. حدث ذلك في عام ١٥٦٩م، وعندها احتجَّ البلاط الفرنسي، ولكن غضبه لم يُؤدِّ إلى أية نتائج، الأمر الذي أسفر عن فتور العلاقات بين البلاطين الفرنسي والتركي، وهو ما زاد من كراهية الفرنسيِّين تجاه يوسف.
لقد تمَّ تكليف السفير الفرنسي لدى البلاط العثماني، دي جرانشان، على نحوٍ سرِّي، للعمل على التشهير بهذا اليهودي وإقصائه عن البلاط، وكما كان يحدث للأسف في أغلب الأحوال؛ فقد فوَّض الفرنسيون يهوديًّا للتعامل مع يهودي، وهو واحد من اليهود الذين كان يوسف يشملهم برعايته، وكان يعمل طبيبًا في البلاط العثماني في خدمة صاحب المقام الكبير. كان حكيم باشي، ويُدعى دافيد أو داود، وقد شارك، بتفويض من يوسف، في عملية احتجاز السفن الفرنسية في الإسكندرية، لكن داود أحسَّ أنه قد غرر به (جرى تجاوزه)، وعندئذ ساءت العلاقة بينهما. وما لبث السفير الفرنسي أن استغلَّ هذا الأمر لصالحه؛ فوعد داود بمبلغ مالي ضخم مقابل تخليه عن ولي نعمته، إلى جانب تعيين داود في وظيفة مترجم في السفارة الفرنسية مقابل راتب سنوي ضخم. استغلَّ داود الفرصة ليتخلص من ناسي، وفي سَورة غضب أذاع ضده عددًا من التُّهم الملفَّقة، وبعدها قطع ﻟ «دي جرانشان» وعدًا بأن يُقدِّم له ما يثبت أن الديون التي طالب ناسي الحكومة الفرنسية بسدادها تُعدُّ تزييفًا، وأن يوسف خدع كلًّا من السلطان سليمان الأول والسلطان سليمان الثاني، ناهيك عن أنه كان يمارس الجاسوسية لصالح أعدائهما. اعتزم داود أن يبلغ الفرنسيين معلومات تفيد أن يوسف ناسي كان يقوم بصفة مُستمرَّة بإبلاغ البابا وملك إسبانيا ودوق فلورنسا وجمهورية جنوة بكل ما يجري داخل البلاط العثماني.
وبناءً على الخطط التي وضعها داود، قام دي جرانشان على الفور بإرسال رسالتَين مُشفرتين، إحداهما إلى الملك والأخرى إلى الملكة كاترينا ميديتشي التي ترمَّلت، تتضمنان تأكيدات بسرعة القضاء على ناسي الكريه، وخاصة مع وجود عدو جبار ليوسف في البلاط هو الصدر الأعظم محمد صوكولو.
لم تُغيِّر هذه الأحداث على الإطلاق من مشاعر يوسف تجاه فرنسا، الأمر الذي كانت له نتائجه المناسبة. على أيِّ حال، فمن البديهي أن الحكومة الفرنسية قد وصلت إلى استنتاجاتٍ ما تخصها.
لا يُمكننا، إذا ما عدنا إلى تاريخ يوسف ناسي، إلا أن نطرح سؤالًا عما إذا كان من الممكن أن يكون الرجل متورطًا في واقع الأمر في واحد من الاتهامات التي حاول داود أن يُلصقها به. هيهات أن يكون الأمر كذلك. لقد ظل يوسف زمنًا طويلًا للغاية يشغل مكانة بارزة في البلاط على امتداد عهود ثلاثة سلاطين، ولو أنه كان قد مارس عملًا كالجاسوسية لاكتُشف ولو بفضل أعداء آخرين، لكن ذلك لم يحدث، وإنه لمن المستبعد أن يكون لناسي أثر كبير في تحديد السياسة الخارجية للسلاطين، كما يُؤكد ذلك عدد من المؤرِّخين اليهود. لقد أنزلت الغزوات التركية للبَلقان في القرنين الرابع عشر والخامس عشر خسائر فادحة بالدول الأوروبية. إن التقدم الكاسح للأتراك قد هدد أوروبا بأكملها، ولذلك فقد قامت أساطيل كل من فرنسا وإسبانيا وغيرهما من الدول بدعم البندقية في حروبها مع الإمبراطورية العثمانية. لم يكن ليوسف ناسي ولا لطموحاته دور كبير في ظل منطق التوسع العثماني. بداهة فقد قدَّر العثمانيون له معلوماته عن القضايا الأوروبية، التي لم تكن مطلقًا محلَّ شك، وشكروا له قدرته على إدارة الأمور المالية. ومن البديهي أيضًا أن عمله الطويل في البلاط كان مُتوقفًا على التزامه بالعمل في حدود الأطر التي رسمت له. وهناك معلومات تفيد أن يوسف ناسي كان يعتزم إعادة إعمار طبرية باعتبارها مركزًا يهوديًّا رغم المقاومة الشَّرِسة من جانب المسلمين والمسيحيين المحليين. وتمت إحاطة المدينة بأسوار عام ١٥٦٤م.
غير معروف ما إذا كان يوسف ناسي قد عزم على إقامة منطقة حكم ذاتي ذات طابع ديني قومي في فلسطين، أم أنه أراد أن يجعل منها ملجأً للمَنفيِّين الإسبان. لقد أصبحت طبرية، بعد إعمارها، بناءً على مُبادرة من ناسي، مركزًا لإنتاج المنسوجات الحريرية والصوفية، وتحوَّلت إلى مدينة مزدهرة جاذبة لليهود من مختلف الأماكن، كما توفَّرت فيها الظروف الملائمة لدراسة التوراة. على أنه، وكما ذكرنا من قبل، كان كل شيء في الدول الآسيوية يَرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعلاقات الشخصية لزعماء الجاليات بالسُّلطة العليا. وقد جاءت وفاة السلطان سليم الثاني، راعي يوسف ناسي، لتضع نهاية لنفوذه ونشاطه الكبير في طبرية.
باءت كل المحاولات التي بُذلت لإسقاط اليهودي صاحب النفوذ بالفشل. ومن المعروف أن أحد أمناء الخزانة السلطانية حاول أن يُقنع مرادًا الثالث مرارًا بأن يَنزع من يوسف ولو ضريبة الخمور. على أن السلطان سليم الثاني، الذي وافته المنية في هذا الوقت، كان قد ترك في وصيته أمرًا بعدم المساس بجميع موارد يوسف ما دام على قيد الحياة، وجاء خليفة سليم الثاني، ببُخله وجشعه، ليُقرِّر ألا يخالف إرادة والده. وقد جرت المحاولة الثانية للعدوان على يوسف بعد وفاته في الثاني من أغسطس عام ١٥٧٩ ميلادية، عندما اعتزم المشاركون في جرد ممتلكات يوسف، وهم محمد أوتشكي زاده كبير الدفتردار، ومُحيي أفندي (من ألبانيا) دفتردار الأناضول، وأرناءوط سنان أفندي دفتردار من الطبقة الثانية، اعتزموا جميعًا استغلال الوضع والخروج بشيء ما، فسرقوا خاتمًا ذهبيًّا ثمينًا وعددًا من الحليِّ القيِّمة. على أنَّ السرقة اكتُشفت، فتم القبض عليهم وتفتيش منازلهم وإعفاؤهم من الخدمة وصودرت أملاكهم.
استردت زوجة يوسف — راينا ناسي — بعد ترمُّلها، صداقها البالغ تسعين ألف دوكاتية بشقِّ الأنفس، وسعت لطبع التلمود، ولكن مساعيها فشلت.
كان الحديث يدور عن سولومون في التقارير السرية والرسائل العاجلة لسفارات البندقية في القرن السادس عشر، وكانت هذه التقارير والرسائل تُطلق عليه في مراسلاتها أحيانًا اسم الحاخام ناتان. كان سولومون أشكينازي (وهو من اليهود الألمان) يتمتَّع بنفوذ كبير في بلاط السلطان سليم الثاني. وقد كتب السفير تيوبولو، سفير البندقية، يقول: «لقد سيطرَ الطبيب على عقل الصدر الأعظم محمد صوكولو، وهو مطَّلع على كل أسرار الديوان.»
كان أشكينازي قد نال أيضًا شهرة واسعة بوصفة طبيبًا ناجحًا في ديوان ملك بولندا، بعد أن أصبح كبير أطبائه (حكيم باشي). وبعد أن انتقل ليُقيم في إسطنبول بوصفه مواطنًا من جمهورية البندقية، ظل إلى حين تحت حمايتها؛ إذ إن السلطان سليم الأول قدَّم في عام ١٤٥٤م للبندقية التسهيلات التجارية الضرورية للمواطنين غير المسلمين في دولة مُسلمة، وقد عرفت هذه التسهيلات بالامتيازات، وتمثَّلت في منح الحصانة للمواطنين الأجانب، وكذلك حق الإقامة داخل الحدود العثمانية، فضلًا عن حصانتهم هم وممتلكاتهم وعدم خضوعهم للمحاكم المحلية (القضاء القنصلي) ومنحهم التسهيلات الضريبية والجمركية.
من المعروف أن سولومون أشكينازي كان عليمًا بالتلمود، لكنه نال شهرة واسعة لكفاءته في إدارة المفاوضات الدبلوماسية شديدة الحساسية، وفي حل أصعب المشاكل، وفي أعمال الوساطة والتصالح والتسويات. كان الأتراك يُقدرونه تقديرًا كبيرًا وكذلك عملاء البندقية: براجادين وسورانزو وباربارو، الذين تولوا العمل تباعًا في إسطنبول. وفي أثناء الحرب التي دارت رحاها بين الإمبراطورية العثمانية والحلف المقدس (إسبانيا، البندقية، جنوة، مالطة) عندما نجح الأتراك في الاستيلاء على قبرص من البندقية، خاطر سولومون بحياته سرًّا ليقدم خدماته لباربارو. وهؤلاء استطاعوا على أفضل نحو أن يُوصوا به لدى الصدر الأعظم محمد صوكولو باشا باعتباره طبيبًا ودبلوماسيًّا أيضًا. لم يَخذل أشكينازي راعيه الجديد العظيم، على الرغم من أن مهمته بدت عويصة: أن يخدم طرفين متصارعين. وعندما أرسله الصدر الأعظم إلى مقر إقامة السلطان في أدرنة، حامت الشكوك حوله، برغم الحجَّة المناسبة التي استخدمها، واتُّهم بالتجسُّس وتعرض للاستجواب، لكنه استطاع بصعوبة بالغة أن يتخلَّص من هذا الموقف الخطير.
تصاعدت الأحداث فيما بعد على نحو مختلف، حتى إن الباب العالي فوَّض سولومون أشكينازي في عقد اتفاقية سلام مع البندقية كان قد قام على إعدادها منذ زمن بعيد. وقد أُرسل أشكينازي إلى البندقية بوصفه ممثلًا تُركيًّا رسميًّا. لقد أدهش وصول هذا اليهودي، باعتباره سفيرًا لدولة عُظمى، العالم المسيحي، الذي اعتاد على طرد وإهانة ونهب اليهود وإبادتهم بشكل جماعي. وفي مجلس الشيوخ في البندقية حميَ وطيس النقاش دون طائل حول مسألة قبول هذا السفير أو رفضه، الأمر الذي لم تكن الحكومة راغبة في التصالح بشأنه.
لقد بدا المَوقف شديد الحساسية، ومع ذلك فقد كان هناك اعتباران مالا بالقضية لصالح سولومون؛ الأول: قرار المسئولين في البندقية ألَّا يُغضبوا الصدر الأعظم برفضهم استقبال سفيره. الثاني: استطاع القنصل مارك أنطوني باربارو بعد عودته من إسطنبول أن يقنع مجلس الشيوخ أنَّ الحاخام سولومون أشكينازي مفيد لجمهورية البندقية، وفي نهاية الأمر اضطر الدوق والشيوخ، الذين وافقوا على قبول السفير أن يُقيموا له جميع المراسم والاحتفالات الرسمية التي كان البلاط العثماني شديد الحساسية تجاهها. آنذاك وفي عام ١٥٧٣م، وقَّع الطرفان معاهدة السلام. وقد تمَّ تكليف سولومون أيضًا بعقد تحالف دفاعي وهجومي ضد إسبانيا، لكنَّ جهوده في هذا المجال لم تكلل بالنجاح.
الآن جاء الوقت الذي يعمل فيه الملوك الأوربيون الكارهون لليهود الأتراك ألف حساب لهم، واضطرَّ الملك المتطرف فيليب الثاني، الذي دأب على قمع اليهود والمجدفين كلما استطاع، اضطر في مفاوضاته مع الباب العالي إلى عقد الهدنة إلى أن يُوافق على وساطة اليهودي.
تسنى لسولومون أيضًا أن يقدم خدمات إلى علية القوم من العثمانيِّين، وعندما اتُّهم الصدر الأعظم فرحات باشا بزعم أنه أثار التمرد في صفوف قوات الجيش. كثيرًا ما كانت التمردات تقع في الجيش العثماني مهدِّدة الصدر الأعظم بالإعدام، حتى اضطر للهرب. وهنا نجح سولومون في استمالة السلطان نحو فرحات باشا بفضل هدية ثمينة قدمها له (عبارة عن خنجر مرصَّع بالجواهر) وأقنعه ببراءته من الوشاية التي لُفِّقت له. وهكذا حصل الوزير المغضوب عليه على نعمتي الحياة والعيش الآمن.
يُمكن أن يتولَّد لدينا، استنادًا إلى أمثلة أخرى، انطباع عن ازدهار اليهود في الدولة العثمانية، الأمر الذي أورده بعض من المُراقبين اليهود، الذين كانوا على علم بالأمور بصورة شديدة السطحية. في الحقيقة فإنَّ اليهود الذين حقَّقوا قدرًا نسبيًّا من الثروات المادية كان عددهم قليلًا. وإلى جانب صفوة الجالية الثرية عاش أناس كان وضعهم المادي لا يختلف تقريبًا عن وضع الأغلبية الساحقة الفقيرة من المسلمين. كانوا جميعًا يعانون من شظف العيش وصعوبة الحياة. وبطبيعة الحال فإنه وفي ظل الاضطرابات والظروف التي لا يُمكن التنبؤ بها للتشتت، فقد كان للتماسك وتبادل المساعدة أهمية كبرى في ضمان بقاء الناس على قيد الحياة.
تشير بعض المصادر إلى دفاع أصحاب العقيدة الواحدة من ذوي النفوذ في إسطنبول عن مدينة صفد.
في عام ١٥١٦م غزا الأتراك منطقة الشرق الأوسط. آنذاك كانت جالية يهودية كبيرة تتمتَّع بالثراء تعيش في صفد. وهؤلاء بلغ عددهم في مُنتصَف القرن السادس عشر عشرة آلاف نسمة. وفي عام ١٥٧١م، استولى الأتراك على قبرص من البنادقة، وكعادتهم قاموا بترحيل الجزء الأكبر من السكان الأصليين وإحلال سكان جدد قسرًا من أجزاء أخرى من الإمبراطورية. هكذا كان من الأسهل إدارة المناطق التي تم ضمها حديثًا، دون خوف من قيام انتفاضات في الأراضي التي تم غزوها. وبالإضافة إلى ذلك، لم ينسَ الأتراك الموارد التي تُدرُّها هذه البلاد. ولكي يُعيدوا التجارة التي كانت مُزدهرة من قبل في هذه الجزيرة، قرَّر الأتراك نقل اليهود من صفد إلى قبرص، بدلًا من البنادقة الذين جرى طردهم. وقد أصدر السلطان أمرًا بنقل المسلمين والأرمن أيضًا إلى هناك بهدف خلق توازن سكاني فيها.
تحتفظ الأراشيف في هذا المجال بأوامر مكتوبة مؤرَّخة ١٥٧٦-١٥٧٧م. وهناك فرمان سلطاني مؤرخ الخامس عشر من رجب عام ٩٨٤ هجرية (٨ أكتوبر ١٥٧٦ ميلادية) موجَّه إلى سنجق بك (رئيس وحدة السنجاقية) وقاضي صفد يقضي بجمع ألف من يهود المدينة وضواحيها الأغنياء وإرسالهم مع عائلاتهم وأموالهم إلى ميناء فاما جوستا القبرصي، كما يقضي بإرسال اليهود الأغنياء تحديدًا ضمانًا لازدهار الجزيرة. وتحتوي هذه الوثيقة على وعيد عنيف لسلطات صفد لضبط النفس أمام أي إغراء أو رغبة في الاستيلاء على أي ربح يعود عليها، بأن يأخذوا رشوة من الأغنياء اليهود ويضعوا الفقراء مكانهم. تُوفي السلطان سليم الثاني في عام ١٥٧٤م، ونتيجة لذلك فقد يوسف ناسي نفوذه السابق كما ذكرنا من قبل.
بعد مرور بعض الوقت، وفي عام ١٥٧٧م، وللهدف نفسه، تم إرسال أمرين آخرين، يتعلقان بتوفير الحراسة للمنقولين بالدرجة الأولى. وفي العام نفسه كتب الشاعر اليهودي من دمشق إسرائيل نجارا إلى الحاخام الأكبر لإسطنبول شكوى مما يحدث في صفد. وقد ذكر الشاعر أن كثيرًا من سكان المدينة اضطرُّوا للفرار إلى دمشق تجنُّبًا للتهجير القسري.
إنَّ اليهود، الذين حصلوا على ثقة السلطان والصدر الأعظم والسلطانات الأمهات، قد استطاعوا بالفعل تحقيق نفوذ كبير. تذكر المؤلَّفات التاريخية وقائع تفيد أن أتراكًا بعدما فقدوا مناصبهم في البلاط، عادوا من جديد ليحتلوها بعد أن تمكَّنوا من رشوة شخص ما من اليهود من أصحاب النفوذ. لكن هذه المؤلَّفات ذاتها تتضمن وصفًا لا يخلو من الشماتة في اليهود، الذين تعرَّضوا للتنكيل القاسي لجسارتهم وميلهم إلى المخاطرة.
وفي هذا السياق فإننا نجد أن المصادر التركية والغربية تورد أخبارًا عن تاريخ كيرا اليهودية (واسمها إستر في المصادر اليهودية). إنَّ الشهادة التي أنعم بها السلطان عثمان الثاني على أبنائها وأحفادها (١٦١٨–١٦٢٢م)، تمت ترجمتها في نهاية القرن التاسع عشر إلى اللغة الروسية ونَشَرها ف. د. سميرنوف. كانت هذه الشهادة موجودة آنذاك في متحف جمعية أوديسا للتاريخ والآثار. وقد اكتسب تاريخ هذه اللقية في حد ذاته أهمية كبيرة.
فيما يتعلَّق بحكم السلطان عثمان الثاني، الذي صدرت الشهادة باسمه، فقد استمرَّ ما لا يزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة ليتم خلعه بعدها وخنقه.
يُمكننا أن نعرف استنادًا إلى نص الشهادة المؤرَّخة عام ١٦١٨ ميلادية (١٠٢٧ هجرية)، أن اليهودية كيرا قدَّمت خدمات جليلة للسطانة أم سليمان الأول. في عام ١٥٤٨ ميلادية (مُنتصَف شهر رمضان من عام ٩٥٥ هجرية) حصلت اليهودية كيرا، التي ورَد ذكرها في موضوع آخر باسم فاطمة هانم (لا توجد، رغم هذه التسمية، أية معلومات تُشير إلى اعتناقها الإسلام)، حصلت على الشهادة هي وسلالتها (اليهود للمرة الأولى). وقد ورَد فيها أنها معفاة هي وسلالتها من الإتاوات الحكومية والابتزازات المالية، وكذلك من أي شكل من أشكال الاضطهاد والتعسف من جانب السلطات العثمانية أيًّا كانت صورة هذا الاضطهاد والتعسف. وعلى أساس هذه الوثيقة الأصلية أعطيت شهادات اعتماد أخرى إبان حكم السلاطين سليم الثاني ومراد الثالث ومحمد الثالث (١٥٩٥–١٦٠٣م) وأحمد الأول (١٦٠٣–١٦١٧م) حيث إن التسهيلات، كما ذكرنا من قبل، كانت سارية في فترة حكم السلطان الذي أنعم بها فقط.
«لن تكون هناك أي حُجَّة من الحجج أو ذريعة من الذرائع لدى أيٍّ من أبنائي الأمجاد أو أحفادي أو أحد من الوزراء والأمراء والقائمين على خزائن المال ومن خدم الباب العالي وغيرهم من الناس في وضع العقبات أو حرمان الناس والتعنت دون سبب أو التطاول أو أن يكونوا سببًا للإزعاج أو إثارة القلاقل أو ما يؤدي إلى اليأس … وإذا ما قام أحد ما مع ذلك بإثارة أمر من هذه الأمور، أو إذا ما رغب في إثارتها، فإنَّ لعنة الله وملائكته والناس أجمعين عليه وعلى ما ارتكبه!»
وكما ذكرنا آنفًا فقد تمَّ إحصاء ثروة كيرا ومصادرتها لصالح الخزانة، أما أحفادُها فقد اضطرُّوا مرات عديدة لتقديم التماسات من أجل إعادة الامتيازات التي كانت السلطانة قد وهبتها لجدتهم ولجدة جدتهم من قبل. كان كلُّ مَن كانت له هذه أو تلك من الحقوق أو الامتيازات أو الوظائف مُضطرًّا لأن يفعل ذلك عند ارتقاء سلطانٍ جديد لسدَّة الحكم. كان اعتماد شهادات الامتيازات أو الحصول على المناصب عملًا يُدرُّ عائدًا ماديًّا كبيرًا على الباب العالي؛ حيث إن تجديد الشهادات يستند إلى إدخال مبالغ ضخمة في أغلب الأحوال. كان هناك مبلغ محدَّد يُطلب دَفعُه لاعتماد الشهادات من أجل الحصول على منصب الحاخام أو الأسقف أو أيِّ منصب ديني آخر.
قرَّر أحفاد كيرا أن يَطلُبوا تجديد الشهادة أيضًا؛ لأن رعاتهم الكبار كانوا ما يزالون أحياءً في البلاط، وعلى رأسهم بالطبع السلطانة العجوز من البندقية، بافا، التي كانت فيما مضى تَستخدم كيرا وسيطًا في علاقاتها السرية مع العملاء الأوروبيين. توفيت بافا في ١٦١٩م، أما الشهادة التي مُنحت لأحفاد كيرا فكانت موقعة بتاريخ ١٦١٨م؛ ومن ثم فقد كان ما يزال باستطاعتها أن تقدم لهم المساعدة.
على أنه جدير بالملاحَظة أنَّ المصادر لا تتَّفق مع بعضها البعض في كل شيء عند إلقائها الضوء على الأحداث المذكورة. وهنا يُطرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية حول ما إذا كان الحديث يدور في جميع هذه المصادر حول الشخص نفسِه. يُمكن أن نبدأ ولو بسنِّ كيرا، منذ تلك الفترة التي حصلت فيها للمرة الأولى على الامتيازات في عهد السلطان سليم الأول القانوني في سنة ١٥٤٨ ميلادية (٩٥٥ هجرية)، بينما تُشير سنة وفاتها إلى ١٦٠٠ ميلادية (١٠٠٨ هجرية). مرَّت اثنتان وخمسون سنة، ومن ثمَّ فإن هذه المرأة، بداهة، كانت طاعنة في السن. عندئذ يُمكن أن نَفترض أن نشاطها في البلاط يدلُّ على أنها كانت في ذروة شبابها، إن لم تكن في مُقتبَل العمر.
في الشهادة الأخيرة التي أصدرها السلطان عثمان الثاني ورَد اسمها تارة كيرا وتارة فاطمة خاتون، وهو ما يعني أنها حصلت على الامتيازات قبل اعتناقها للإسلام، إذا كان هذا قد حدث فعلًا. على أنَّ عددًا من المصادر لا يَحتوي على مجرَّد إشارة إلى اعتناقها للإسلام، مع غياب اسم فاطمة، فضلًا عن ذلك فإنَّ أحفادها في شهادة عثمان الثاني يحملون جميعًا أسماءً يهودية.
هناك أيضًا خلاف بين المصادر اليهودية وشهادة السلطان؛ فالأولى تُشير إلى أنَّ كيرا (إستر) كانت أرملة إيليا كاندالي، بينما ورد اسمه في شهادة أبنائها إيليا بن موسى وياساف بن موسى. ربما يكون هناك خطأ قد وقع في الأسماء نتيجة سهو من جانب ديوان السلطان. لا تُوجد إجابات عن كل الأسئلة. وعلى أيِّ حال عند مقارنة مختلف المصادر نجد هناك أمرًا واحدًا مؤكدًا: أنَّ المرأة التي تكرر ذكرها على صفحاتها كانت شخصية واقعية، أما مصيرها فيبدو أنه كان مصيرًا مأساويًّا.
امتدَّت المنافسة الشرسة بين اليهود والإثنيات المسيحية (اليونانيُّون والأرمن) بضعة قرون من أجل الاستيلاء على مجال التجارة والمال. كان صراعًا حتى الموت من أجل الحياة. في القرن التاسع عشر في عهد السلطان الإصلاحي محمد الثاني (١٨٠٨–١٨٣٨م) تصارعت على النفوذ المالي في البلاط مع الأرمن أكثر ثلاث عائلات يهودية ثراءً: جاباي وأجيمان وكارمونا. وقد انتهَت حياة رؤساء هذه العائلات نهاية مؤسفة.
عاش يخزيكل جاباي، رجل الأعمال القادم من بغداد في عهد محمد الثاني. استقر في إسطنبول وحصل على حصانة خالد أفندي المقرب من السلطان. أصبح جاباي هو المسئول عن خزانة البلاط (صرَّاف باشا). وقد أدَّت المنافسة بينه وبين رجال المال والأعمال الأرمن في المرحلة الأولى إلى نفْي الأرمن كزاز أريتون (كازا أرتين في الوثائق الروسية)، وكان يَشغل منصبًا رفيعًا بوصفه مديرًا لدار سك العملة. وسرعان ما فقد خالد أفندي الحظوة، وهو ما كان يحدث كثيرًا، عندئذ عاد كازا أرتين من المنفى، واستطاع بواسطة مؤامرات البلاط المعتادة أن يَنفي جاباي، الذي سرعان ما وافته المنية والأرجح أنه قُتل. وبعد مذبحة الإنكشارية في عام ١٨٢٨م تم خنق إيساي أجيمان بأمرٍ سامٍ.
في القرن التاسع عشر حقَّقت الإمبراطورية العثمانية عددًا من الإصلاحات استهدفت تحديث المؤسَّسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. كان الإصلاحيون يأمُلون بهذه الطريقة في تلافي الانهيار المنتظَر للدولة. لكن بؤر الإنتاج الرأسمالي التي دخلت إلى البِنية الآسيوية التقليدية على يد رأس المال الأجنبي أو القومي (المحلي)، ظلَّت لمدة طويلة للنظام كله عوامل عزل غريبة، وابتلعت هذه البؤر فائض إنتاج البِنية المحلية غير الرأسمالية، على أنها لم تُؤثِّر عليها بشكل إصلاحي. الأمر الرئيسي أنه لم تكن هناك معايير قانونية، أو أفراد مُستعدُّون ومؤهلون للعمل في ظروف اقتصادية مختلفة تمامًا. كانت البنى الإسلامية المحلية ترفض الأشكال الأجنبية للنشاط الاقتصادي. وهذه الخبرة، بعد مرور العديد من العقود، عندما كانت الظروف أكثر ملاءمة في ظل الجمهورية التركية، كانت ما تزال تتأقَلم بصعوبة بالغة مع الظروف المحلية، وكذلك مع المؤسسات السياسية المستعارة من أوروبا. لم يستطع اليهود، بالرغم من كل نشاطهم الاقتصادي، أن يُصبحوا بأي شكل من الأشكال أصحاب المبادرة أو شركاء فاعلين في هذه العمليات. نظام الدولة لم يسمح لهم بذلك.
قَدَّم الصدر الأعظم للسلطان محمد الثاني، وهو مصطفى باشا بيراقدار (حامل اللواء)، الذي جاء به إلى العرش، قَدَّم مبادرة للإصلاح المالي والنظام العسكري من أجل وقف انهيار الدولة وسقوطها. كان اليهودي ديلي تشليبون يعمل آنذاك لدى السلطان بوصفه مستشارًا ماليًّا. كان أيضًا صاحب بنك الأغا الإنكشاري، وكانت هذه الإصلاحات يمكن أن تمس بالدرجة الأولى هذه المؤسسة الضخمة التي تُقاوم جميع هذه المحاولات. ولهذا فعندما تلقى تشليبون أمرًا بمناقشة مشروع الإصلاحات وأن يدلي برأيه، أعطى ردًّا مراوغًا. هنا أمر البيراقدار الغاضب من هذا التأدُّب المُخاتل، الذي هو رفضٌ للإصلاحات في الحقيقة، أمر بشَنق تشليبون في فناء بيت المفتي الأكبر (شيخ الإسلام). وبعد ذلك، وبناءً على أمر السلطان، تمَّ إلغاء فرقة الإنكشارية وجرى ذبح الآلاف منهم.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يجد فيها المستشار اليهودي نفسه بين المطرقة والسندان، فإذا ما قبل اقتراح الصدر الأعظم قتله الإنكشاريون. لم يكن باستطاعة اليهود، ولم يكونوا يريدون، تحمل مسئولية الإصلاحات الاقتصادية أيًّا كانت. في جميع الأحوال كانت جماعة ما من الجماعات الحاكمة ستُوجِّه لهم حتمًا الاتهامات.
عشية الانهيار التام للإمبراطورية العثمانية، عندما أصبحت سنوات وجود السلطان التركي معدودة، وأصبحت الأقلية الإثنودينية التي كانت تعيش على أراضيها مَوضعًا للشبهة، ظلَّ الجزء الأكبر من اليهود العثمانيين على ولائهم للسلطة العليا. وكما كان الأمر في الماضي، ظلَّ السلاطين يُولون ثقتهم للأطباء اليهود للعناية بصحتهم وحياتهم.
في عام ١٩١٥م، إبان الحرب العالمية الأولى، مرض السلطان محمد رشاد الخامس مرضًا عضالًا، فقد اكتشف الأطباء أن لديه ورمًا في المثانة، وأصبح إجراء جراحة له أمرًا لا مفر منه. عندئذ طلب السلطان من حليفه الإمبراطور الألماني أن يجد له جراحًا ماهرًا. وقد اختير البروفيسور إسرائيل للقيام بهذا العمل المعقَّد. وفي الثالث والعشرين من يونيو من العام نفسه قام الطبيب بإجراء الجراحة لمريضه صاحب المقام الرفيع. كان السلطان راضيًا عن النتيجة، أما البروفيسور فقد نال الوسام المجيدي من الرتبة (الطبقة) الأولى وصورة لمحمد رشاد عليها توقيعه، علاوة، بطبيعة الحال، على المكافأة المالية التي حصل عليها.