حركة شابتاي تسفي الدينية١
لم تكن الحركات الدينية، التي ظهرت في أوساط السكان الذين يُعانون الإذلال وعدم الحرية بسبب الانتماء العرقي أو الديني في العصور الوسطى، أمرًا استثنائيًّا.
من الصعب فهم أيِّ شيء في حركة شابتاي تسفي الدينية، التي ادعت الانتماء إلى المسيحانية، دون مراعاة ظروفها التاريخية والحركات السابقة لها.
كان قادة المدارس الدينية الذين يقومون بدراسة وتطوير أسرار مذهب الكابالا، يَجمعون حولهم التلاميذ والأتباع قبل ظهور شابتاي تسفي بفترة طويلة. وفي زمن يطمع في المعجزات ويتُوق إلى معجزة، كان هؤلاء القادة يُلاقون صدًى مدهشًا. وكان الأتباع الذين يتجمَّعون حولهم يُشكِّلون جماعات مغلقة منعزلة إلى حدٍّ كبير عن غالبية اليهود الأرثوذوكس.
في الثلث الأخير للقرن السادس عشر ظهر في مدينة صفد «المصلح» إسحاق لوريا، وكان أساس نشاطه الديني وإلهامه هو الإيمان بأنه هو السابق على المسيح من بيت داود، رغم أنه كان يُشير إلى ذلك بغموض لتلاميذه، وكان كثيرون من مُعاصريه — أتباع نفس العقيدة — مقتنعين باقتراب تحقيق المملكة المسيحانية.
كان الوضع في الطوائف اليهودية المُغلَقة في الشرق يكاد لا يتغير من قرن لآخر. ومع ذلك فإن الحركة الدينية، التي ظهرت في أراضي الإمبراطورية العثمانية في القرن السابع عشر، كان لها بعض السمات المُميزة. فقد مسَّت بعُمق جزءًا كبيرًا من الشعب الذي انتظر قرونًا عديدة التخلُّص من الرعب المُستمر والإذلال؛ لذلك فإن ظهور المخلص المنتظر قوبل بحماس وأمل من جانب عدد كبير من الناس، رغم مجافاة هذا للمنطق السليم ورغم مقاومة بعض الحاخامات لذلك.
ولد شابتاي تسفي، الذي قام بدور كبير في تاريخ الطوائف اليهودية، في تركيا، في إزمير في التاسع من شهر آب سنة ٥٣٨٦ من خَلق العالم (٧ يوليو ١٦٢٦م)، في أسرة من اليهود المهاجرين من إسبانيا. وجاء أبوه موردخاي تسفي من موريلا، وبدأ العمل في إزمير بائعًا متجولًا، ثم أصبح فيما بعد وسيطًا في شركة تجارية إنجليزية، وكان شابتاي يَميل في صغره إلى قراءة الكتب. وبدأ في دراسة التوراة والتلمود تحت إشراف إسحاق دي آلبا، واستوعب حكمة مذهب الكابالا. وفي سن الخامسة عشرة أصبح الفتى على دراية تامة بالكثير ممَّا علموه إياه. وفي الثامنة عشرة أصبح لديه هو نفسه مجموعة من التلاميذ. وعمَّقت دراسة الكابالا لديه بعض ما يبدو أنه إحساس متأصل فيه بالسمو. كان يصوم ويغتسل من أجل طهارة الجسم والقداسة الداخلية. وقرَّر والداه الإسراع بتزويجه. حقَّق شابتاي رغبتهما، لكنه لم يلامس زوجته. وتلا ذلك فضيحة ثم طلاق. قرر الوالدان أنَّ هذا الزواج كان غير موفَّق، وأن ولدهما لا يميل إلى هذه المرأة التي اختاراها بالذات. قاما بتزويجه مرةً أخرى وبنفس القدر من النجاح. وفي نهاية الأمر أقرا بغرابة تصرفات ولدهما، مُرجعين ذلك إلى كثرة الصيام المرهق والاغتسال وأخيرًا دراسة الكابالا.
من المعروف أنه قبل أن يُنزل الرب الوصايا العشر لليهود أوصى الله موسى: «اذهب إلى الشعب وباركه اليوم وغدًا وليغسلوا ثيابهم … فانحدر موسى من الجبل إلى الشعب وبارك الشعب وغسلوا ثيابهم. وقال للشعب: كونوا مُستعدِّين لليوم الثالث، ولا تقربوا امرأة» (الخروج ١٩، ١٠–١٥).
وكان هذا الاسم ينطق به الكاهن الأكبر في ذلك الزمن الذي كان ما زال فيه هيكل سليمان موجودًا. ولما كان الهيكل غير موجود، فقد كان من المحظور النُّطق به حتى مجيء المسيح؛ أي حتى إعادة بناء الهيكل وإقامة الدولة اليهودية. بالطبع كان هذا كله معروفًا لشابتاي ولكنه كان يَعتبر أن الأهم هو مجيء المسيح. ومن الصعب القول كم كان في تصرفاته من وهمٍ صادقٍ وكم كان فيها من خداعٍ واعٍ.
كانت جرأة شابتاي صادمة بالنِّسبة لكبار رجال الدين في إزمير والحاخام الأكبر للطائفة يوسف إسكابا، فأرسلوا إليه اثنين من أعضاء محكمة الحاخامات (بيت – دين) لإقناعه بالتعقُّل. ولكن هذا الجهد كان بلا طائل. وفي حُضورهما أكَّد شابتاي أنه هو المسيح، كما أنه كرَّر اسم يهوه. ونتيجة لهذا تمَّ طردُه هو وأتباعه من الطائفة، وأكَّد كبار رجال الدين أنه يستحقُّ الموت. وفي عام ١٦٥٠م غادر شابتاي إزمير متَّجهًا إلى إسطنبول، تاركًا معجبيه في أسف شديد. وفي إسطنبول جمع القدر بينه وبين الحاخام أبراهام ياشني الذي اتضح أنه كان مزيفًا، وأعطى شابتاي وثيقة مزورة أعلن فيها باسمه أن شابتاي هو المسيح. وجاء في هذه الوثيقة ما يلي: «أنا أبراهام، عشت أربعين عاما ناسكًا في كهف وكنت أنتظر المعجزات غير أنها لم تأت. ولكن ها أنا قد سمعت صوتًا يُبشرني: «في عام ٥٣٨٦ من خلق العالم سيولد ابني وسيُسمُّونه شابتاي. وسيكون هو المسيح الحقيقي، وسيَنتصِر على التنين ويسحق الأعداء دون سلاح.» وكان لهذه الوثيقة دور كبير في تاريخ شابتاي. وبعد مرور سنوات عديدة اعترف لحاخامات أدرنة (أدريانوبول) أن الذي زوَّر الوثيقة لم يكن ياشني بل المدعو ناتان جازا، الذي كان يمتلك مخطوطة قديمة محوا منها بضع كلمات ووضعوا بدلًا منها اسم شابتاي. والاسم الحقيقي للمُزيف محفور على قبره: أبراهام بنجامين ناتان.
عانت طائفة إزمير من قلق شديد بسبب ظهور هذا المدَّعي. وكتب الحاخام يوسف إسكابا خطابًا إلى طائفة إسطنبول يُحذرهم فيه ويَكشف عن حقيقة تسفي وأتباعه. وسرعان ما توجه شابتاي والأتباع الذين يَتزايدون حوله إلى سالونيك، وبدا أنَّ تلك اللحظة كانت مواتية للغاية. ففي الطائفة اليهودية كان نفوذ أتباع مذهب الكابالا في نمو متزايد؛ أي هؤلاء الذين يَرون كل أحداث الحياة الجارية حولهم من خلال منظار الكابالا. وسرعان ما أدرك شابتاي المزاج العام السائد هناك، وقام بدعوة بعض حاخامات سالونيك إلى مائدة الطعام، وأمر بإحضار التَّوراة وعند المكان الذي ذُكرت فيه الصلوات المخصصة لمراسم عقد الزواج أعلن أنه يتزوج الشريعة. ولم يَكتفِ بهذا بل كرر اسم يهوه كما فعل في إزمير. ولم يَفهم الحاخامات هذه التصرُّفات الغريبة التي يقوم بها الشخص الذي دعاهم إلى الطعام. أما شابتاي، فبدون أدنى تردُّد أو شك، أوضح لهم ما لم يَفهموه، وهو أنه هو المسيح، وكان الرد هو الغضب والاستياء. وتحت ضغط التهديد اضطر تسفي إلى مغادرة المدينة عام ١٦٥٨م، ورحل إلى أثينا التي استقبلوه فيها بنفس القدر من العداء. وبعد تجوال طويل لم يجد أمامه سوى العودة إلى إزمير، التي سرعان ما اضطرَّ إلى مُغادرتها أيضًا. وفي إسطنبول؛ حيث حاول شابتاي أن يجد أتباعًا عن طريق الحديث عن الإلهام المسيحياني والنبوءات، وكان يؤكِّد أن تحرير إسرائيل سيحدث تحت برج الحوت. ونتيجة لملاحَقة حاخامات العاصمة العثمانية له وذمِّهم إياه، سافر شابتاي عام ١٦٥٩م إلى والده في إزمير، وعاش هناك ثلاثة أعوام في هدوء نِسبي، ولكن فكرة إحساسه بعظَمَتِه وغايته كانت تستهويه رغم كل شيء. هكذا كانت المرحلة الأولى لدعواته «المسيحيانية».
في أثناء ذلك كانت الأقاويل بشأن حركة شابتاي تخرج عن نطاق الطوائف اليهودية ووجدت صدًى لها في بعض أوساط المسيحيين والمسلمين. وفي أوساط المسلمين شاعت أقاويل عن قرب ظهور المهدي (الإمام الغائب). بعث هذا الحماس في شابتاي فقرر الخروج إلى النور. وفي عام ١٦٦٢ أو ١٦٦٣م سافر عن طريق البحر متَّجهًا إلى فلسطين التي اختارها لتكون هي الميدان الجديد لنشاطه؛ حيث لم يتمكن من تحقيق النجاح في سالونيك وإسطنبول. توقفت السفينة التي كان على متنها في طرابلس، وغيَّرَ شابتاي خططه؛ قرر السفر إلى الإسكندرية ثم إلى القاهرة. وفي هذا الوقت كان يعيش في القاهرة رافائيل جوزيف شلبي وهو صاحب مكتب صرافة ومُلتزم، وكان ساذجًا ويميل إلى الأفكار الصوفية. وفي منزله الثري كان يجتمع العاملون بالتلمود والكابالا، الذين كان يرعاهم ويغدق عليهم الهدايا. واستطاع شابتاي أن يحظى بمكانة لدى الصراف الغني بمظهره الجذاب وصوته الجميل. وبعد نجاحه في القاهرة وصل إلى القدس على أمل أن يستعرض هناك شيئًا ما يمكن أن يقنع الجميع بمسيحيانيته.
كانت الطائفة اليهودية في القدس آنَذاك في حالة يُرثى لها. وكان السبب في ذلك تدفُّق أعداد كبيرة من المهاجرين الذين فرُّوا من الاضطهاد في بولندا، وتوجَّه مبعوثون (شلوخيم) إلى بلدان أوروبا؛ هولندا وإيطاليا وغيرهما، لجَمع الأموال لصالح المحتاجين. وكان من بين هؤلاء المبعوثين المدعو سولومون نافارو الذي وقع في غرام إيطالية مسيحية واعتنق ديانتها وأنفق عليها كل الأموال التي جمعها للمُهاجرين.
من المعروف أنها تيتَّمت وعمرها عشر سنوات وقد قتل والدها في مذبحة قامت بها فصائل بوجدان خميلنيسكي. أخذ المسيحيون الفتاة ووضعوها في دير؛ حيث ربوها طبقًا للتعاليم الكاثوليكية، ولكنها عندما كبرت قرَّرت الهروب من الدير. وبطريقة ما لاحظها يهود ما من مكان مجاور كانوا يدفنون واحدًا منهم في المقبرة. كانت الفتاة لا تَرتدي سوى قميص فقط وتبدو غريبة جدًّا. وسألوها من هي ومن أين أتت، وأجابت بأنَّ أباها الحاخام ماير وأضافت أنها كانت تتربَّى في الدير وفي الليلة الماضية أرسلتها رُوح أبيها إلى المقبرة. ولتأكيد ما قالته أرتهم أظافر على جسمها. أخذ اليهود الفتاة معهم وسرعان ما أرسلوها إلى أمستردام، حيث كان يعيش، طبقًا لكلامها، أخوها صمويل. وهنا كانت تتصرَّف بغرابة شديدة وتؤكِّد للجميع أنها ستكون زوجة المسيح. وكان لديها ميل واضح للتجوال، وذهبت إلى فرانكفورت وإلى ليفورنو. ومن أجل جمالها أسموها سارة.
وعندما سمع شابتاي عن سارة لم يدع الفرصة تفلت منه وأعلن أنه رأى رؤيا تُفيد بأنه سيتزوَّج من فتاة من بولندا. كان عمر سارة حينئذ ٢٢ عامًا. وأرسل شابتاي خطابًا إلى ليفورنو يطلب فيه العثور على الفتاة وإرسالها إلى القاهرة حيث كان موجودًا آنذاك.
حضر مراسم عقد القِران عدد كبير من أتباع شابتاي. وبعد ذلك مباشرة رحل هو وزوجته إلى القدس عن طريق العريش وغزة. وفي غزة التقى بشابٍّ تحدَّثنا عنه فيما سبق، وهو أبراهام ناتان بنجامين ليفي أشكينازي وهو المعروف باسم ناتان الغَزي، الذي ساعد شابتاي في تأكيد ادِّعاءاته وتضليل كثير من الناس. ومن المعروف أن ناتان عاش في الفترة من عام ١٦٤٤م حتى عام ١٦٨٠م. وكان ابن اليشع ليفي الذي هجر ابنه وسنه ستة عشر عامًا ورحل عن القدس لجمع النقود لصالح المحتاجين في فلسطين. وفي غياب الأب قامت الطائفة برعاية الصبي. وقام بتربيته الحاخام يعقوب حاجيس الذي استدعى انتباهه ذكاء الصبي ومواهبه. وتلقى الحاخام حاجيس ذات مرة خطابًا من أحد سكان غزة الأثرياء وهو صمويل ليسبون. وجاء في الخطاب طلب أن يُوصى بأحد أفضل تلاميذه ليكون زوجًا لابنته. كانت الابنة عوراء ولكنها كانت تملك دوطة كبيرة. واقترح الحاخام حاجيس على ناتان ليفي الزواج بالفتاة ووافق ناتان على هذا، وتحوَّل في لحظة من رجل فقير إلى رجل ثري.
وهكذا التقى شابتاي في غزة بهذا الشخص الذي رغم قلَّة تعليمه كان يَمتلك بعض جوانب سلوك الحاخامات. كان ناتان قد سمع عنه الكثير وخاصَّة فيما يتعلَّق بزعمه وجود رؤيا عن صدق مسيحي بذاته، وكذلك عن كيف أن المسيح شابتاي سيَظهر بكل مجده وبدون أي سلاح سيأسر السلطان حاكم فلسطين.
وقدم ناتان لشابتاي وثيقة عمرها، حسب تأكيده، ٥٠٠ سنة. وجاء فيها أن شابتاي ابن موردخاي تسفي هو المسيح الحقيقي. ازداد شابتاي ثقة في غايته بتأكيد ناتان وبمضمون الوثيقة بالإضافة إلى رؤيا سارة؛ إذ إنه حسب تقاليد أنبياء إسرائيل فإن «النبي» ناتان قد شهد على مجيء المسيح ومهد بذلك الأرض لاستقباله. شجعت الظروف المواتية شابتاي فاتَّجه إلى القدس فأعلن على الملأ أنه هو المسيح. وكما حدث في الطوائف الأخرى استقبل الحاخامات هذه الادِّعاءات بعداوة شديدة؛ فقد أهان مشاعرهم الدينية هذا بالإضافة إلى أنه بدَّد النقود التي حصل عليها في القاهرة من رافائيل جوزيف شلبي من أجل فقراء فلسطين. في هذا الوقت لم تكن عداوة الحاخامات تُزعج شابتاي كثيرًا، فرغم كل شيء كان عدد أنصاره يزداد بسرعة. أما ناتان الذي صحب شابتاي إلى القدس فأعلن نفسه النبي إيليا؛ فحسب ادعائه أنه سمع صوتًا من السماء يُعلن أنه بعد «عام وبضعة أشهر ستقام مملكة المسيح من بيت داود»، وجاءه أمر بأن يُعلن هذا الخبر لكلِّ الطوائف اليهودية في العالم. أما شابتاي فكان مع هذا يخشى غضب الحاخامات وقرر العودة إلى إزمير ومن هناك السفر إلى إسطنبول حيث كان يأمُل في تحقيق أعماله المجيدة. ومن القدس تمكَّن من إرسال مبعوثين إلى مصر وإلى الدول الأوروبية لإعلان قُدومه بصفته المسيح. وكان من بين مبعوثيه أسماء معروفة مثل شابتاي رافائيل من موري وماتايتا بلوخ من ألمانيا. وعيَّن شورين صمويل بريمو سكرتيرًا له.
وصل شابتاي إلى حلب بصُحبة زوجته وسكرتيره وأتباعه، وهناك استقبلته الطائفة اليهودية بحماس، حتى إنَّ أربعة حاخامات من بينهم دانييل بينتو وموشى جالانتي توجهوا إلى إزمير ليعلنوا قرب قدوم المسيح ويعدُّوا الاستقبال اللائق به.
أما ناتان فعاد إلى غزة، مكان إقامة النبي؛ إذ إنه هو بالذات الذي «حظيَ بشرف» إعلان قرب ظهور المسيح. ظهر شابتاي في موطنه في مدينة إزمير في سبتمبر ١٦٦٥م، واستقبله الحاخامات بنفس العداوة التي كانوا يستقبلونه بها في الماضي. وفي بيت الحاخام اليهودي مورتيرو اجتمعوا من أجل تكوين مَوقف موحَّد وطريقة للعمل ضد من كانوا مُقتنعين بأنه مدَّعٍ ومشيح كاذب. وقام كبير حاخامات إزمير حاييم بن فينيستي بقراءة الخطاب الذي أرسله كبير حاخامات طائفة إسطنبول إيوستوب بن ياكار، وكان مُوقَّعًا عليه أيضًا من قبل ٢٥ من حاخامات العاصمة، وجاء في الخطاب الموجَّه إلى حاخامات إزمير اقتراح بقتل شابتاي بمجرد ظهوره في المدينة، وكانوا يَعِدون الشخص الذي يقوم بهذا العمل بالعفو والخير في المستقبل. كان حاخامات إزمير يتفقون تمامًا مع رأي زملائهم في إسطنبول، ولكن الاقتراح كان صعب التنفيذ؛ فقد كان الحاخامات يخشون غضب الجماهير المؤيِّدة لشابتاي. على أيِّ حال فقد فهم شابتاي الوضع واعتبر أنه من الحكمة أن يخرج إلى ضواحي إزمير بعيدًا عن المدينة.
لكن سرعان ما ظهر في المدينة عيد الحانوكا. أثَّر العدد المتزايد بسرعة لأنصاره على بعض أعيان الطائفة بل وحتى على بعض الحاخامات. وهكذا فإنَّ الحاخام موشى جالانتي قام، بعد الصلاة في المعبد المقام على نفقتِه ويَحمل اسمه، وأعلن فجأةً أنه يؤمن بصدق مسيحيانية شابتاي تسفي. أدَّى هذا التصرُّف إلى إحباط شديد لخصوم تسفي، ومن بينهم أحد أعيان المدينة حاييم بينيا. وتعرَّض الحاخامان سولومون الغَزي وبن فينيستي للإهانة في السيناجوج الذي كانوا يُطلقون عليه عادة اسم «برتغاليا» وكان يجتمع فيه كثير من أنصار شابتاي. أصبحت الطائفة على حافة الانشقاق. يومًا بعد يوم كان عدد أنصار شابتاي يَتزايد بينما يقلُّ عدد خصومه. وأعلن تسفي دون خوف من أحد أنه هو المسيح. وسرعان ما انضمَّ إليه أحد خصومه وهو الحاخام بن فينيستي ومقابل ذلك تم تعيينه ممثلًا لشابتاي في إزمير.
وخوفًا من غضب شابتاي، اضطر الحاخام هارون ليبابا رئيس المحكمة الدينية بيت-دين، إلى الهرب من المدينة واختفى في ماجنيسيا (مقاطعة في شرق فيساليا). وللسبب نفسه غادَر إزمير الحاخام الغَزي. ابتهج كثير من يهود إزمير فرحًا بقدوم المسيح. وكان شابتاي واثقًا من قوته لدرجة أنه تجرَّأ، بصحبة أخيه إيليا، على زيارة القاضي. لم يكن شابتاي يتحدَّث التركية فقام أخوه بالترجمة وصاحبتهما جماهير الفضوليِّين الذين لم يُطيقوا الصبر لمعرفة ما ستنتهي إليه هذه الزيارة غير العادية. وسأل القاضي زواره عن الهدف من زيارتهم وعن سبب هذا الضجيج الذي يقوم به اليهود في المدينة. كان شابتاي يأمل أن يأتيه إلهام ويتمكَّن في حضور القاضي من القيام بشيء غير عادي. ولكنه لم يستطيع القيام بشيء من ذلك، وفي خجلٍ وارتباك شديد تمتم بوشاية ضد ثلاثة من اليهود، من الواضح أنهم من الذين لم يؤمنوا به، وأبلغ القاضي أن هؤلاء الثلاثة، على حدِّ قوله، قد اغتابوا السلطان. وأمر القاضي بعقابهم. عاد شابتاي إلى منزله منشدًا المزامير وقد شجَّعته أعداد الجماهير المتزايدة. وفي الماضي كانت النساء هنَّ اللاتي يَنحنين أمامه بمن فيهن زوجته سارة، أما أمام الرجال فكان هو يَنحني. والآن فإن شابتاي يستعرض أمام الجميع دون استثناء عظمتَه وقوته المتناهية.
هبَّت رياح الجنون على يهود هذه المدينة، واستولت على ضواحي إزمير، وانتشرت في الطوائف اليهودية في جزر هيوس ورودس وجذبت يهود إسطنبول وسالونيك وأدريانوبول وصوفيا وبلجراد وبودابست وموريا وألمانيا وبولندا وبعض البلدان «الهمجية». لم يكن أنصار «المسيح» الجديد يُبدون أدنى شك في حقيقة معبودهم، وكانوا يستعرضون أمام العالم تلك الشارات التي كان يتحدث عنها النبي إيويل، فكانوا يتمرَّغون بالأرض، كما لو كانوا في نوبة صرع، وعيونهم تلف ولعابهم يسيل.
وقام المسيح الكاذب بإلغاء بعض أيام الصيام التي كانت تُمارس فيما سبق، وكذلك الاحتفال بيوم ١٧ تموز بمناسبة استيلاء الأعداء على القدس، الأمر الذي يتَّفق مع نبوءات الزوهار بالكتاب المقدس. وتمَّ تغيير أو إضافة بعض الطقوس الدينية التقليدية. وهكذا على سبيل المثال، فإن دعاء يوم السبت للسلطان محمد الرابع (١٦٤٨–١٦٨٧م)، الذي كان اسمُه يذكر في أنوتي يشوع، تمَّ استبداله بنص شابتاي تسفي.
وعند وصول شابتاي إلى إزمير أصبح مَحلًّا للعبادة من قبل الناس من مختلف أرجاء العالم، الذين كانوا يُسرعون لإبداء مشاعر الإيمان والدعاء لملك إسرائيل. وكان يتمُّ استقبالهم جميعًا طبقًا لمراسم مُعدَّة خصيصًا لذلك. لم يكن من المُمكن ألا تلفت هذه الحركة الجماهيرية، التي أثارها شابتاي تسفي، انتباه المسلمين والمسيحيين في تركيا والبلدان الأوروبية، وكانوا يتابعون بدهشة التصرُّفات الغريبة لأولئك الناس الذين يُقلِّدون نوبات الصرع. وانضم إلى حركة المسيح الكاذب بعض المسيحيين الذين كانوا يقولون لليهود «سنَذهب معكم إلى الأراضي المقدسة»، كما آمَن بعقيدة شابتاي مجموعة من المسلمين يُمثلهم بعض الدراويش. وأخيرًا توجه بعض أرمن إسطنبول، الذين استغربوا التصرفات غير المفهومة التي يقوم بها الناس، توجهوا إلى الحاخامات سائلين: «لماذا يُمكنكم أن تقولوا؟ هل هو نبي؟ أم أنه المسيح الحقيقي وربما كان هو المسيح نفسه؟» وأجاب حاخامات إسطنبول الأنقياء: «هذا الشخص ليس المسيح. إنه كاذب ومُصاب بالصرع، وتصرفاته تَتناقض مع ديننا.» لاقت حركة شابتاي تسفي نجاحًا خارج حدود الإمبراطورية العثمانية، وكانوا يتحدَّثون في إنجلترا عن أنه قد اقتربت من الشَّواطئ الشمالية لاسكتلندا سفينة غريبة؛ كانت حبالها وأشرعتها من الحرير وطاقمها يتحدث باللغة العبرية القديمة. وبنفس هذه اللغة كتبت على لافتات كلمات تشير إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر.
بل حتى إن الإنجليز كانوا يتراهنون على النجاحات القادمة لشابتاي. وكان بعضهم واثقًا من أنه سيكون، بعد سنتين على أقصى تقدير، ملكًا على القدس. وفي هامبورج توجه البروتستانت إلى الواعظ أسدراسي أيدزارد طلبًا للنصيحة. كانوا يقولون وهم في حيرة من أمرهم: «لقد عرفنا، وليس من اليهود فقط، بل ومن معارفنا المسيحيين في إزمير وحلب والقسطنطينية وغيرها من مدن تركيا، أن نربط بين هذا الحدث وبين العقيدة المسيحية؛ إذ إنه طبقًا لها فإن المسيح قد جاء هناك فعلًا إلى عالمنا.»
نتيجة لهذا النجاح الهائل توهم شابتاي أنه أصبح حاكمًا عظيمًا يستطيع أن يُنصِّب ملوكًا خاضعين له، وقسَّم الأرض الواسعة المعروفة له إلى ٣٨ مملكة وعيَّن على كلٍّ منها حاكمًا، وهو الأمر الخارج عن حدود كل ما يمكن تصوُّره. في هذا الوقت كانت تركيا تحارب البندقية ولم يكن من الممكن للحكومة العثمانية ألا تقلق من وجود اضطرابات داخل البلاد. وتلقى قاضي إزمير أمرًا بإرسال شابتاي إلى إسطنبول فورًا لاستجوابه. وكان القاضي قد أبلغ قبل ذلك الصدر الأعظم أحمد باشا كيوبريول عن الموقف الناشئ بسبب شابتاي. أما شابتاي فقد أعلن ليهود إزمير أنه سيذهب بإرادة الرب إلى إسطنبول حتى يُحقِّق ما هو مكتوب له.
في الأيام الأولى من شهر يناير عام ١٦٦٦م، تم وضع شابتاي وعدد من أتباعه في سفينة، وتبعه كثير من أنصاره على البر. كانت الرحلة طويلة ومُرهِقة فقد أبحرت السفينة ٣٩ يومًا. واحتاجت السفينة إلى إصلاح وتم إنزال الركاب على شاطئ الدردنيل وتحت حراسة مسلحة وصل شابتاي إلى كيوتشيوك-تشيكمبدج ومن هناك إلى إسطنبول. وفي أثناء الاستجواب في إسطنبول قام الشوباشي (ضابط الشرطة) بإهانة وتحقير شابتاي، وأودعوه مُصفَّدًا بالأغلال في السجن حيث مكث في انتظار الحكم. ولكن حتى هذه المعاملة السيئة لمعبودهم لم تُوهن عزم أنصاره الصامدين، فقد ظلوا متمسكين بوهمهم، وفسروا الظروف المحزنة التي كان يمر بها شابتاي بأنها معاناة في سبيل العقيدة، والمعاناة يجب أن تَسبق المجد القادم.
قدم هذا التنكيل السريع بشابتاي مُبررًا للمواطنين أصحاب الديانات الأخرى للسخرية من اليهود والشماتة بهم، وكانوا يسألونهم باستمرار: «إذن من الذي أتى إليكم؟ أهو حاخام؟ هل هو في حقيقة الأمر نبي؟»
أدَّت بضعة أيام من السجن إلى انكسار عزيمة شابتاي، وتوجه إلى أتباعه المخلصين وطلب منهم التوسُّط له لدى إيهودا شلبي، ابن موردخاي كوهين الذي يتولى الأمور البنكية للصدر الأعظم. أخذ شابتاي يتوسل للمساعَدة في إخراجه من السجن، موافقًا على الذهاب إلى أي منفًى بعيد. استجاب الوزير للرجاء وأمر بنفي شابتاي إلى كوم-كالي، وهي قلعة أبيدوس القديمة على شاطئ الدردنيل. ووصل شابتاي إلى كوم–كالي عشية عيد الفصح، وسمحوا له بأن يذبح حملًا (خروفًا) كقُربان. ومن الواضح أنه كان يتضوَّر جوعًا لدرجة أنه أكل حتى الأجزاء المحرَّم أكلها طبقًا لشريعة موسى.
سُمِح لشابتاي أن يَصطحب معه إلى أبيدوس سكرتيره صمويل بريمو وعددًا محدودًا من أتباعه، ولم يكن ممنوعًا من مقابلة أتباع ديانته، وأدَّى هذا التساهل من جانب السلطات إلى اعتقاد أتباع المسيح الكاذب أن هذا دليل على احترام الصدر الأعظم لشخصه، ولو كان العكس لكان قد حكم على شابتاي بالإعدام. كان وضعه الحالي في أبيدوس أفضل بكثير مما سبق. كان الجو هنا مُمتازًا وكان الأسير بعيدًا عن العاصمة، ومن ثمَّ بعيدًا عن الرقابة المباشرة للسلطات العُليا. ولم تكن الحراسة تحُول بينه وبين الاستمرار في اجتذاب جموع الحُجاج القادِمين إلى أسوار القلعة، ولم يكونوا يأتون من الأماكن القريبة فقط، بل وحتى من خارج البلاد: من بولندا وألمانيا وإيطاليا وهولندا. وكان الحُجاج يُغدقون عليه الهدايا وفي المقابل كانوا يَحصلون على بركاته. ولم تكن جماهير اليهود تُقلق الحراس إطلاقًا؛ إذ إنهم كانوا يحصلون على الكثير من الهدايا المقدمة لشابتاي، ومن هنا لفترة ما، لم يكن أحد يبلغ العاصمة بأي شيء.
كان الأتراك يتعامَلُون مع الحُجاج بصورة مهذبة ولا يضيقون عليهم بأي شكل. لم يكن مثل هذا الاعتقال يُشكل عبئًا كبيرًا على شابتاي؛ فقد كان هنا أيضًا مُحاطًا بحبِّ وتقديس أتباعه، بل حتى إنه فكر في عمل طقس مخصَّص للاحتفال بيوم مولده. ولكن بين عشية وضُحاها انتهى كل شيء. من بين الحُجاج القادمين إلى أبيدوس كان هناك الحاخام البولندي نيميا كوهين، الخبير بمَذهب الكابالا، والذي كانت لديه القدرة على المبادَرة مثل شابتاي.
كان شابتاي قد سمع الكثير عن القادم الجديد واستقبله باهتمام خاص، وتحوَّلت الجلسة إلى نقاش حول موضوعات رفيعة المستوى، وقام نيميا بتذكير شابتاي أنه طبقًا للكتاب المقدَّس يُنتظر مجيء مشيحين أحدهما ابن أفراييم والآخر ابن داود؛ الأول هو واعظ الشريعة سيكون فقيرًا ومُحتقَرًا من الجميع، وسيكون دوره هو التمهيد للثاني، أما الثاني فسيُعيد اليهود بقوة ومجدٍ إلى القدس؛ حيث سيجلس على عرش داود ويقوم بأعمال عظيمة.
كان من الواضح أنَّ النقاش بشأن المسيحين لم يُعجب شابتاي، وفهم أن نيميا كوهين كان يَرغب أن يكون هو ابن أفراييم. وجرَح شابتاي على وجه الخصوص تأنيب الحاخام له على تعجله في المجيء بصفته المسيح؛ فعلى حسب رأي كوهين أن هذا كان يجب أن ينتظر حتى يظهر المسيح الأول ويُصبح معروفًا للعالم. وانتهت المناقشة بعنف وشقاق مُتبادَل، وقبل أن يُغادر نيميا أبيدوس أعلن إسلامه فجأة، وبدأ في كشف شابتاي في كلِّ مكان باعتباره مدعيًا كاذبًا. ومن إسطنبول التي دأب كوهين فيها على التحريض ضد شابتاي، توجه إلى أدرنة حيث كان السلطان موجودًا آنذاك. وهناك توجه نيميا إلى القائمقام (رئيس المنطقة) مصطفى باشا، واتهم شابتاي بأعمال موجَّهة لفصل فلسطين عن الإمبراطورية العثمانية واغتصاب سلطة السلطان، وفي أثناء ذلك لم ينسَ أن يتَّهم أيضًا حراس أبيدوس بخيانة الأمانة وعدم القيام بواجباتهم، وقال إن اليهود ما زالوا يأتون إلى شابتاي من جميع أنحاء العالم.
أخذ القائمقام معلومات نيميا مأخذ الجد وقدم تقريرًا توضيحيًّا للسلطان، وتمَّ عقد مجلس لكبار رجال الدولة، وحضر المجلس شيخ الإسلام واني أفندي، الذي اقترح إحضار شابتاي إلى أدرنة واستجوابه. ولم يتوانَ منافسو وخصوم الطائفة اليهودية المحلية في استغلال ما يحدث مع شابتاي، ووصل إلى أدرنة من المناطق المجاورة المدعو الشيخ محمود بصحبة أعيان المسلمين، واشتكوا للسلطان من أن السكان المحليِّين يُعانون من غلاء أسعار الاحتياجات الضرورية للحياة، وأنَّ سبب كل هذا تأثير اليهود في هذه المدينة وطلبوا وضع حد لذلك. كان وصول شابتاي إلى أدرنة سببًا في ظهور أقاويل عديدة، بعضها غاية في الغرابة؛ كانوا يقولون إنَّ النار لا تَحرقه وإنه لا يغرق في الماء وإن الأسلحة لا تُؤذيه وإن التعذيب لا يعطي أي نتيجة.
وها هو شابتاي يُمثل أمام مجلس السلطان، وطلبوا منه أن يأتي بالمعجزات التي طالَما تحدثوا عنها في كل مكان، وكان المترجم هو الطبيب حياتي-زاده وهو يهوديٌّ كان يُدعى موشيه بن رافائيل أبرافائيل، ولكنَّه أشهر إسلامه وأصبح طبيبًا في بلاط السلطان، وتوجَّه إلى شابتاي باللهجة العبرية الإسبانية قائلًا: «أنت يا من تَسبَّب في كل هذا الاضطراب في عالمنا! إذا كنت حقًّا قادرًا على الإتيان بالمعجزات هيا أرنا إياها حتى تُنقذ نفسك الآن وبذلك ستنقذ أيضًا أبناء دينك.» كان السلطان موجودًا في غرفة مُجاورة ويَسمع كل ما يقال، واقترح الاختبار التالي: أن يتمَّ خلع ملابس شابتاي كلها ويقف عاريًا ليكون هدفًا يُصوِّب عليه أفضل الرماة، وجلالته مُستعدٌّ للاعتراف به مشيحًا إذا لم تُصبه السهام ولم تجرَحه.
وعندما سمع شابتاي الاختبار الذي اقترحه السلطان انتابَه الفزع، ونفى بحسم أية أفكار عن مشيحانيته وأكد أنه حاخام بسيط وأن كل هذا الأمر من اختلاق اليهود الذين، لأمرٍ ما، يَدعونه كذلك. لم يقبل السلطان هذه الإجابة وأمر بأن يَعتنق شابتاي الإسلام. وتقول الحوليات التركية عن هذا إن شابتاي اعتنق الإسلام طوعًا بهدًى من الله.
أحدث تحوُّل شابتاي إلى الإسلام تأثيرًا صادمًا على يهود الإمبراطورية العثمانية والبلدان الأخرى، وتعرَّض اليهود الأتراك لسُخرية الطوائف الدينية الأخرى. وفي إزمير أطلقوا عليهم لقبًا مهينًا أخف ما يُمكن ترجمته به هو «الفاسقون». أرهقت هذه المعاملة كل الطائفة اليهودية في هذه المدينة وأدَّت إلى إحباطها؛ إذ إن أحدًا لم يُفرِّق بين أنصار شابتاي وخصومه. أما شابتاي فبلغت به الجرأة أن يكتب لهم: «لقد جعل الرب مني الآن مُسلمًا. أنا أخوكم محمد كابيدجي باشي. لقد أمَرَني وأنا نفَّذتُ الأمر.» ولكن حتى هذه الضربة الفظيعة، وهي التخلِّي عن دين الآباء، لم تهزَّ بعض المؤمنين به.
كانوا يُؤمنون أن ظلَّ شابتاي يَبقى على الأرض إلى الأبد، حتى وإن كان برأس بيضاء (أي بعمامة) وفي ملابس تركية، وكانوا يَعتقدُون (يفترضون) أن جسده ورُوحه صعدا إلى السماء حيث سيَبقيان حتى يجيء زمن المعجزات.
أما أكثر أتباعه إصرارًا فقد حافظوا على الاتصال به من خلال المبعوثين (الرسل) والخطابات، واستمرُّوا في الحديث عن المعجزات التي يُظهرها المسيح، وعن أن هذه المعجزات تؤكد ضرورة تحوله الحالي إلى الإسلام. بقي شابتاي لفترة من الزمن في البلاط العثماني، وكان أنصاره يُقارنون هذا الموقف ببقاء موسى في قصر فرعون.
وصل الأمر إلى حدِّ نشر كتاب صوفي تم التأكيد فيه على أن شابتاي مع كونه المسيح الحقيقي قد تحوَّل إلى الإسلام من أجل أن يبشر باليهودية وسط المسلمين، وهو أمر لا يتَّفق إطلاقًا في حقيقة الأمر مع ما تدعو إليه الديانة اليهودية؛ فلا يُوجد بها أي دعوة للتبشير. أما فيما يتعلَّق بالسلطان والمفتي فقد قال لهما شابتاي إنه يحافظ على علاقته باليهود من أجل تحويلهم إلى الإسلام فقط، وليس لأي غرض آخر، وكان تفسيره مقبولًا؛ فبالفعل كانت هناك حالات يأتي فيها إلى إسطنبول أناس من بغداد والقدس وغيرهما من الأماكن، ويعتنقون الإسلام في حضور السلطان. كانت هذه مجموعة (طائفة) محدودة من اليهود الذين كانوا موجودين دائمًا لسبب أو لآخر يعتنقون الإسلام لدوافع مختلفة، وكان يطلق عليهم مآمينيم وبالتركية دونمة (المتحوِّلون)، وكانوا يرتدون الملابس التركية ويضعون عمامات على رءوسهم. كانت السلطات تُشجِّع نشاط شابتاي في هذا الاتجاه، بل وحتى كانوا يسمحون له بإلقاء الخطب في السيناجوج؛ حيث كان في واقع الأمر يستمر في تبرير وتطوير فكر مشيحانيته، ونجح في هذا إلى حدٍّ كبير، وكان البعض، رغم كل شيء، لا يشكُّون في أنه هو المسيح الحقيقي، ولم يكن أحد يجرؤ الآن على الاعتراف بهذا علنًا؛ إذ إنه حتى أكثرهم اقتناعًا كانوا يَخشون غضب المسلمين الذين انضم إليهم شابتاي، وكذلك غضب غالبية الطائفة اليهودية التي كان يمكن أن تطردهم.
بمرور بعض الوقت لاحظت السلطات أنَّ عدد اليهود الذين يتحوَّلون إلى الإسلام لا يزيد رغم تأكيدات شابتاي، وتوقَّفت السلطات عن دفع مرتبه وأرسلوه إلى إسطنبول حيث عاش ثلاث سنوات يَتصرَّف أحيانًا طِبقًا للقواعد الإسلامية وأحيانًا حسب الأنظمة اليهودية. أشار الصدر الأعظم فاضل أحمد باشاكيوريوليو إلى عدم اتِّساق تصرُّفات شابتاي؛ ففي أثناء عودته من غزوة لجزيرة كريت، أبلغه العملاء بأن المُتحوِّل حديثًا إلى الإسلام يُنشد المزامير بصحبة بعض اليهود في كورو-تشيم وهي ضاحية من ضواحي إسطنبول، وأثار هذا الخبر غضب الصدر الأعظم، كما أن اليهود أيضًا اشتكوا له من شابتاي، وتم إجبار شابتاي على الانتقال إلى ضواحي إسطنبول بالقرب من خليج القرن الذهبي والعيش وحيدًا وعدم إثارة أنصاره. ولكن أتباعه تبعوه إلى هناك. ولم تتوقَّف الكراهية والصدام بين اليهود من أنصار وخصوم شابتاي، ووصل الأمر إلى حدِّ أن خصومه جمعوا مبلغًا غير قليل، وهو ٦٠٠٠ قرش، وقدموه إلى الصدر الأعظم راجين أن يهدئ شابتاي ويرسله إلى مكان بعيد، وحاولت السلطات تلبية طلبهم، وأرسلت شابتاي وزوجته الجديدة إيوخيفيد (توفيت سارة في أدرنة) وحماه يوسف بيلوسوف، إلى مدينة بيرات في ألبانيا؛ حيث تمكن من تأسيس طائفة صغيرة من أتباعه، انشقَّت فيما بعد. بعد مرور خمس سنوات في يوم كيبور سنة ٥٤٣٦ من خلق العالم (٣٠ سبتمبر ١٦٧٥م) تُوفي شابتاي ودفَنه المسلمون على ضفاف النهر الذي يمرُّ بالمدينة ولم يكن شابتاي هو أول مشيح كذَّاب.
ظلَّت عائلة تسفي موجودة حتى بداية القرن العشرين في إزمير طبقًا لشهادة أحد أفراد الطائفة اليهودية المحلية وهو أفرام جالانتي، الذي قام بعمل الكثير لإحياء تاريخ الطوائف اليهودية في إسطنبول والأناضول في الفترة العثمانية. في مقبرة بحري بابا القديمة الموجودة في منطقة قره تاس، ومن بين آلاف القبور، دُفن موردخاي تسفي؛ والد شابتاي، وإسحاق تسفي، وهو على الأغلب شقيق موردخاي، وعلى شاهدي القبرَين نَقشان بمضمون مُتشابه. وفي سنوات الحرب العالمية الأولى تناقَص عدد الطائفة اليهودية الكبيرة في إزمير بشكلٍ حاد، وغادَر الكثير منهم تركيا.
وفي سجلات عام ١٩٠٣م كانت هناك تذكرة أخرى بالماضي «لمدة حوالي ثلاثين سنة يقوم بعض يهود إزمير، بمُبادرة من عائلة كاردوزو، بتنظيم طقوس دينية سنوية في ذكرى شابتاي تسفي.» وفيما بعد غادرت عائلة كاردوزو مدينة إزمير.
كان هنريخ جريتس يَضع سبينوزا نقيضًا لشابتاي ولكنه كان رغم ذلك مُقتنعًا بأنهما «رغم كل اختلاف ظروفهما ومصائرهما كانا يعملان بنشاط لهدم الديانة اليهودية.» ولم يكن لهما ذلك. وعند مقارنة مسار حياة هذَين الشخصين المختلفين تمامًا اللذين شاء القدر أن يكونا مُعاصرَين لبعضهما، فإنَّ جريتس يلفت النظر إلى أنهما ماتا وحيدَين منبوذَين من أبناء ديانتهما. إن سبينوزا، كما يرى المؤرخ، قد أسهم، على غير رغبته، في إعلاء شأن تلك القبيلة (أي أبناء قبيلته – ا. ف.) التي كان يَعيب فيها دون وجه حق. ويستمر قائلًا: «إن قوته العقلية الهائلة وصلابة شخصيته يَزداد الاعتراف بأنهما خصيصتان يَدين بهما للدماء التي تجري في عروقه …»
أما فيما يخصُّ شابتاي تسفي فإنه رغم امتلاكه للقدرات والتعليم الديني فإنه مدين في ارتفاع مكانته ودوره كمشيح كاذب، للظروف أكثر من وجود موهبة خاصة؛ فقد ظهر في الوقت المناسب في المكان المناسب.
Galanté A. Histoire des Juifs. Les Jusi d’jzmir ist. 1937. pp. 236–254.