«فرية الدم»
كان للمحاكَمة التي جرت في دمشق عام ١٨٤٠م صدًى واسعًا غير عادي في أنحاء العالم، وشدَّت إليها بدرجة أو بأخرى اهتمام حكومات الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وكان السبب في إثارتها الرهبان اليونانيون في المقام الأول، ثم القنصل الفرنسي راتي مينتون، وهو شخص ذو سمعة مُريبة للغاية، وهو مرتدٌّ تحوَّل من المسيحية إلى الإسلام، واشتهر بعدد من عمليات الاحتيال وغيرها من التصرفات الشائنة، وكان أعوانه بنفس القدر من السُّمعة السيئة؛ حنا بحري بك ومحمد التلي الذي كان يبتزُّ فيما سبق أحد أثرياء يهود دمشق ويُهدده ﺑ «فرية الدم» إذا لم يَفتدِ نفسه منها، والعربي المسيحي شبلي أيوب الذي كان يتَّهم يهوديًّا بالاحتيال ويتعطَّش للثأر منه.
وهنا استغلَّت الجماعات الدينية للمسيحيين الشرقيين، التي كانت مُضطهَدة حتى وقت قريب، عدم الاستقرار السياسي وزادت من نشاطها.
في دمشق عاشت طائفة يهودية كبيرة إلى حدٍّ ما، بلغ عددها حوالي عشرين ألف شخص. كانت الصراعات بين الأعراق والأديان قد خمدت لمئات السنين، ولكنَّها في ظروف عدم الاستقرار السياسي عادت لتشتعل وتجذب إليها أعدادًا هائلة من الناس.
في الخامس من فبراير عام ١٨٤٠م اختفى رئيس أحد أديرة جزيرة سردينيا الأب توما هو وخادمه، وكان توما يمارس الأعمال المالية والشعوذة والتطعيم وغيرها من الأعمال، ولذلك لم يكن يكتفي بزيارة الأحياء المسيحية فقط، بل والأحياء التي يسكنُها المسلمون واليهود أيضًا، وأصبح من المعروف أنه قبل اختفاء توما بعدة أيام وقع شجار عنيف بينَه وبين سائق بغال تركي، أقسم بعده الأخير أن يَقتل هذا الكافر ردًّا على الإهانات التي لا يتحمَّلها مسلم. وحضر هذا الشجار تاجر تركي كان أيضًا مُستعدًّا للعمل دون إبطاء. وسرعان ما اختفى الأب توما. وتوجه الرهبان طلبًا للمُساعدة إلى القنصل الفرنسي راتي مينتون، الذي كان إضافة إلى كل «مميزاته» يكره اليهود، وأبلغوه أن توما وخادمه شُوهدا قبل اختفائهما بقليل في الحي اليهودي، وتمسك الرهبان على الفور برواية تورُّط اليهود في هذا العمل. وكان ذلك لثلاثة أسباب؛ أولًا: لانتشار التعصب المعادي للسامية بشكلٍ تقليدي في أوساطهم، والذي كانوا يربطونه بالورع المسيحي. ثانيًا: أنهم كانوا يُدركون عدم جدوى بحث رواية مشاجرة توما مع المسلمين في بلد مسلم. ثالثًا: أنه أصبح بإمكانهم الآن إضافة شهيد جديد قتله اليهود إلى قائمة القدِّيسين. كذلك اعتبر راتي مينتون أن رواية تورط اليهود أكثر ملاءمة، متغاضيًا عن حقيقة أن التاجر التركي الذي كان شاهدًا ومشاركًا في المشاجرة بين توما والسائق، عُثر عليه مشنوقًا. انضمَّ والي دمشق شريف باشا أيضًا إلى التحالف المعادي لليهود؛ حيث قيل إنه تم العثور على شهود يدَّعون أنهم رأوا كيف دخل الأب توما ومعه خادمه إلى منزل أحد اليهود ولم يخرجا منه. ولم يقلق أحد من أن الشهود لم يكونوا موضع ثقة، وأن أحدهم قد أُطلق سراحه من السجن ليشارك في «العمل».
مع اختفاء توما وخادمه جرى تلفيق الاتهام التقليدي بعملية قتل مُرتبطة بطقوس دينية، رغم أن عيد الفصح اليهودي كان باقيًا عليه أكثر من شهرَين ولم يكن أحدٌ من الذين نادوا بهذا الاتهام يستطيع أن يقول كيف كان ممكنًا آنذاك الاحتفاظ بدم الضحية. لكن بالنسبة للعامة من المسيحين والمسلمين لم تكن الأدلة والأسس المنطقية ضرورية على الإطلاق، بل كان المطلوب هو مُبرر للمذابح.
اقتيد المتَّهمون اليهود لاستجوابهم أمام القنصل الفرنسي، ثم تولى شريف باشا التحقيق. وأمر الوالي بإخضاع أحد المتهمين، وهو حلاق، للتعذيب الشديد مُجبرين إياه، وفي نهاية الأمر، على أن يشي ببعض أبناء دينِه من الوجهاء الأثرياء وهم: دافيد أرار وأبناؤه وإخوته، وموسى أبو العافية وموسى سالونيك بالإضافة إلى العجوز يوسف لانيادو البالغ من العمر ثمانين عامًا، وتم القبض عليهم على الفور. وفي الاستجواب أنكروا جميعًا أية علاقة لهم باختفاء الأب توما، وبدءوا في ضربهم بالعصيِّ، ولكن خوفًا من أن يموت المُسنُّون قبل الاعتراف بالذنب لجأ المُحقِّقون إلى وسيلة تعذيب أخرى. قاموا بإجبار المتَّهمين على الوقوف ٣٦ ساعة (وحسب معلومات أخرى ٥٠ ساعة) تحت الحراسة بدون طعام أو شراب أو نوم. لكن حتى هذه الوسيلة في الاستجواب لم تأتِ بالنتائج المرجوة. حينئذ بدءوا بأمر من القنصل راتي مينتون في ضرب المتهمين بالعصي. وبعد ٢٥ ضربة فقدوا الوعي، فأفاقوهم ثم استمروا في الضرب. واستمرَّ المتهمون صامتين. وأخذ شريف باشا أكثر من ٦٠ طفلًا يهوديًّا من سن ثلاث سنوات إلى عشر سنوات رهائن، وتم حبس الأطفال دون طعام أو شراب، اعتمادًا على أن الأمهات نتيجةً للبكاء والصراخ سيَيئَسْن ويُقدِّمن للقائمين على التعذيب معلومات كاذبة ولكنَّها ضرورية لهم. ولكن رغم الألم الذي لا يحتمل فإنَّ الأمهات لم يستطعن تأكيد الادعاءات الكاذبة التي تجلب العار لجيرانهم. ولم تتحمَّل إحدى النساء ذلك واعتنقت الإسلام هي وابنتها. واستشاط شريف باشا غضبًا من إخفاق التحقيق وهدَّد بقطع رءوس كثير من اليهود إذا لم يتم العثور على الأب توما.
ولما كان شريف باشا مقتنعًا بإدانة المقبوض عليهم دون أية أدلة، فقد توجه بفصائل مسلحة إلى الحي اليهودي؛ حيث أمر بهدم بيت داود أرار للبحث عن جثثٍ أو أي دليل على الجريمة. وتعرَّضت بيوت المتهمين الآخرين لنفس المصير. وظهر شاهد آخر وهو فتى يهودي شاهد كيف دخل الأب توما متجر التاجر التركي قبل اختفائه بقليل، وتجرأ على أن يقصَّ هذا على الباشا. ولكن أحدًا لم يرغب في بحث شهادته. وفضلًا عن ذلك أمر راتي مينتون وسكرتيره بودين بضرب الفتى بقَسوة فمات في الليلة نفسها.
رأى راتي مينتون أنه من الضروري استدعاء خادم داود أرار، التركي مراد الفلات للاستجواب. ورغم ضرب التركي بقسوة إلا أنه لم يستطع أن يقول شيئًا ضد سيده. عند ذلك تدخل المجرم محمد التلي، الذي تمكَّن بالتهديد بالتعذيب الفظيع والقتل من إقناع الخادم بأن يعترف أنه قام، بأمر من سيده، بقتل توما في حضور كل المتهمين الآخرين. وتمَّ إجبار الحلاق اليهودي على تأكيد هذا الاتهام الملفق. وأرسل راتي مينتون بالمتَّهمين المشوهين من أثار التعذيب إلى شاطئ القناة حيث ألقيت عظام وجماجم القتلى كما يدعون.
عثروا على قطعة عظام مكسورة وخرقة، واعتبر الأطباء المسيحيون أن العظمة آدمية أما الخرقة فقالوا إنها قطعة من طاقية الأب توما. وبهذا الشكل تم الحصول على أدلة مادية. وتم استجواب سبعة من المتهمين مرة أخرى باستخدام التعذيب، وكانوا يَطلُبون منهم أن يقولوا أين أخفوا زجاجات دم القتيل للاحتفال بعيد الفصح. مات العجوز يوسف لانيادو من التعذيب أما موسى أبو العافية فقد اعتنق الإسلام لينجو من أي تعذيب جديد، أما الآخرون فشهدوا تحت التعذيب بكلِّ ما طُلب منهم. تبلَّد الناس تمامًا من التعذيب وكانوا يتضرعون طلبًا للموت، ولكن اعترافاتهم لم ترق للقنصل الفرنسي. كان راتي مينتون يَطلب أدلة مادية؛ أي زجاجات الدم، التي لم يكن المتهمون يستطيعون بأيِّ حال إحضارها، فكيف يمكن إحضار ما ليس موجودًا؟ ولم يؤدِّ المزيد من التعذيب سوى إلى أن المقبوض عليهم تراجعوا عن شهادتهم السابقة.
في بداية شهر مارس استُدعي للتحقيق ضحايا جدد كان من بينهم التاجر الثري فرحي وإسحاق ليفي بيتشيوتو وهارون إسطنبولي. وقبل ذلك كان ثلاثة من حاخامات دمشق قد تعرضوا للسجن والتعذيب؛ وهم: يعقوب أنيتري وسولومون وأزاريا خالفيني.
ومن بين الذين جرى البحث عنهم في قضية مقتل الأب توما، أمكن العثور على اثنين فقط هما رافائيل فرحي الذي كان يتمتَّع بالحصانة؛ حيث إنه كان قنصلًا، وبيتشيوتو ابن أخ القنصل العام في حلب، وكان عمه يتمتَّع برتبة النبلاء في بلاط إمبراطور النمسا نظير خدمات خاصة، وبقي بيتشيوتو في دمشق مُعتمدًا على جنسيته النمساوية وخضوعه للاختصاص القضائي الخارجي، أما الآخرون فتمكنوا من الاختفاء. ورغم ذلك تم القبض على واحد منهم هو مير فرحي وتعرض للتعذيب.
في هذا الوقت تم العثور على عظام جديدة، وقد أثبتت فيما بعد أنها كانت عظام خراف. ورغم ذلك فقد تمكَّن راتي مينتون من أن يدرجها في القضية باعتبارها أدلة، أما الرهبان فاعتبرُوها مقدسة.
بانتهاء عملية التحقيق وصَل راتي مينتون إلى نتيجة مفادها أن كل اليهود المقبوض عليهم والذين تعرَّضوا للتعذيب، مدانون في مقتل الأب توما. وحُكم بقطع رءوس كل من بقي حيًّا بعد التعذيب. ومِن أجل التصديق على الحكم توجه شريف باشا إلى حاكم مصر محمد علي.
في الوقت نفسه تقريبًا جرى توجيه اتهامات مُماثلة ليهود جزيرة رودس التي كانت حينذاك ضمن حدود الإمبراطورية العثمانية أيضًا.
كانت البداية أن صبيًّا في العاشرة ابن فلاح يوناني انتحر شنقًا. وفي الحال أعلن المسيحيُّون أن اليهود هم الذين قتلوا الصبي، وطلب القناصل الأوروبيون من الوالي يوسف باشا بدء تحقيق صارم في هذا الأمر، وأدلَت سيِّدتان تركيتان بشهادة مفادها أنَّ الصبي كان يَسير على أثر يهودي من رودس، وكان هذا كافيًا. تم القبض على اليهودي الذي أشارتا عليه وألقي في السجن حيث تعرض للتعذيب لإنكاره الأمر، وعذبوا سيِّئ الحظ بالفحم المتقد والأحجار الثقيلة، وثقبوا أنفه بسلك حديدي.
عادةً ما كان يجري تدبير مثل هذه العمليات من أجل تصفية الطوائف اليهودية المحلية جسديًّا أو طردها. وبقدر ما قد يبدو الأمر غريبًا فإنَّ اضطهاد المسيحيين لليهود اشتد بعد الاحتفال بإعلان مساواة كل الرعايا العثمانيين بصَرف النظر عن الانتماء العرقي أو الديني وذلك في خط شريف باشا جولخان الصادر عام ١٨٣٩م.
كان المرسوم يُعلن الأمان الكامل لحياة وعِرض وممتلكات كل الرعايا، وتنظيم أساليب تقسيم وتحصيل الضرائب، وتحديد قواعد جديدة للتجنيد في الجيش ومدة الخدمة (كان المسلمون فقط قبل ذلك هم الذين يخدمون في الجيش أما غير المسلمين فكانوا يدفعون الجزية). وبالطبع كانت المسافة بعيدة بين الحقوق المتساوية على الورق والمساواة الكاملة في الواقع.
ها نحن نجد أنه إثر صدور المرسوم السلطاني نشبَت صراعات إثنية وطائفية عنيفة.
قاربت قضية دمشق على الانتهاء. وأدَّت المحاكمات المعادية لليهود إلى انفجار غضب الرعاع المتعصِّبين، وهو الأمر الذي كان يعول عليه الذين أثاروا القضية. وفي جوبر بالقرب من دمشق دمرت الجماهير السيناجوج ومزَّقت صحائف التوراة. وفي بيروت تم تجنب المذبحة فقط بفضل تدخل قنصل هولندا لاوريلا والدبلوماسي البروسي زازون.
إن التعصب الديني واليهود فوبيا التقليدية لدى كثير من الناس، وكذلك الصراع المستمر في أوروبا وتضارب الأهداف والمصالح السياسية، كل هذا كان يجعل من الصعب تقديم أي مساعدة فعالة للضحايا.
نشرت الجرائد الفرنسية تقريرًا عن قضية دمشق وتضمَّن هذا التقرير مجموعة الافتراءات المُعتادة ضد اليهود ومدح لمهارات راتي مينتون البوليسية. وأصبحت الكراهية غير المنطقية، التي يجري إحياؤها، تُهدِّد باجتياح يهود أوروبا أيضًا.
فهمَ الكثيرون هذا. وكان في أوروبا رجال يهود شجعان وأذكياء قرَّروا الوقوف في وجه تيار الكراهية العاصف. ومن بين هؤلاء كان أدولف كريمي وهو خطيب مفوَّه موهوب ومحامٍ معروف كان يشغل منصب نائب رئيس المجلس الكنسي المركزي. وأرسل إلى الحكومة (الفرنسية) استفسارًا عن مدى دقة الأنباء الواردة بشأن قضية دمشق. ورد عليه أحد الوزراء بأنه لم يتلقَّ، على حد زعمه، أية أخبار، وهو أمر لا يتَّفق مع الحقيقة. وبدأ كريمي في مقارنة الحقائق التي وصلت إليه وحاول أن يفكَّ لغز «حماة العدالة المحلية».
انضم يهود فرنسا وإنجلترا أيضًا إلى الصراع من أجل تحرير أبناء دينهم في الشرق، وكان من بينهم روتشيلد وموسى مونيتفوري. وبتاريخ ٢١ أبريل وجَّه اجتماع ممثلي الطوائف اليهودية نداءً إلى حكومات إنجلترا وفرنسا والنمسا يلتمسون فيه وقف الاستبداد في دمشق. وفي الأول من مايو حظيَ كريمي بمقابلة لوي فيليب، أما وفد يهود إنجلترا فقد استقبله اللورد بالمرستون.
تعلَّل لويس فيليب بعدم الإلمام بكل ظروف الحادث، على أنه تم مع ذلك إرسال نائب قنصل إلى دمشق لتبين الأمر ووضع تقرير عنه. بالنسبة لراتي مينتون فإنه لم يجد أي صعوبة في خداعه.
أما فيما يتعلَّق بقضية دمشق فإن محمد علي كان يماطل بكل الوسائل في إعادة النظر فيها رغم ما وعَد به القنصل النمساوي العام لاروين. وكان القنصل الفرنسي العام كاشليه يُمارس ضغطًا على الباشا ولكن في الاتجاه المضاد. عند ذلك حاول القنصل النمساوي، طبقًا لتعليمات ميترنيخ، أن يُبصِّره بمكائد الفرنسيين. وأقنع لاروين يهود الإسكندرية بإرسال رسالة إلى محمد علي لتوضيح حقيقة الأمر، وجاء في الرسالة: «إن الديانة اليهودية موجودة منذ آلاف السنين، وطوال هذه السنين فإنَّ كتبنا المقدسة لم تُحقِّق ولا يوجد فيها كلمة واحدة يُمكن أن تكون مبررًا لمثل هذه الأعمال غير الإنسانية ومثل هذه الدعاوى غير الإنسانية. عار على كل من يصدق مثل هذه الافتراءات. إن اليهود يَنفرون من الدم، وقوانينهم في هذا الصدد بالغة الوضوح.
إنَّ ما حدث في دمشق من تعذيب فظيع أمر لم يشهد العالم مثيلًا له. إن أمثلة وعي اليهود الذين ثبتت براءتهم فيما بعد، معروفة للجميع. لقد مات عدد كبير من الأطفال اليهود جوعًا وفي السجون. هذه هي العدالة التي يُعامَل بها شعبُنا في دمشق. نحن لا نطلب التعاطف مع أبناء دينِنا، نحن ندعو للعدالة التي يتَّصف بها سموكم.»
كان القانون الجنائي الإسلامي قبل تحديثه في مُنتصَف القرن التاسع عشر، بل وحتى بعد ذلك، يحمل آثار بقايا قواعد القانون الأبوي التقليدي. كانت الشريعة تُقنِّن القصاص بالقتل. ولم تكن التعاليم بخصوص جريمة متطورة مصاغة بالدرجة التي كانت عليها في القوانين الأوروبية المَبنية على أساس القانون الروماني.
حسب الشريعة الإسلامية فإنَّ دية القتل (إذا وافق أولياء القتيل على العفو عن القاتل مقابل فدية مالية) يجب دفعها في خلال ثلاث سنوات، ولم تكن تُؤخذ فقط من أملاك القاتل بل ومن أملاك أقاربه أيضًا وحتى من أفراد طائفته. وإذا لم يكن القاتل معروفًا فإن سكان القرية أو الحي أو البيت أو مالك الأرض التي عُثر فيها على الجثة يكونون مسئولين عن الجريمة. لذلك فإنَّ راتي مينتون ومُساعديه كانوا بكل الوسائل المعقولة وغير المعقولة، يسعون للعثور على أي شيء في الحي اليهودي يُمكن تقديمه على أنه رفات الأب توما.
أرسل القناصل مُمثلين إلى دمشق من أجل استجواب محايد للشهود في الموقع. وتلقَّى شريف باشا أمرًا بوقف تعذيب المسجونين ووقف أي اضطهاد لليهود. ومن أجل تجنُّب إساءات الجماهير الثائرة من السكان المسيحيين تمَّ إرسال ٨٠٠ جندي إلى دمشق. وقام القناصل الأربعة المُعينون بصفتهم قضاة بالتوجه بطلب إلى فيينا لإرسال أربعة قضاة ألمان من العارفين بأحكام الإجراءات الجنائية الأوروبية إلى دمشق، من أجل إعادة التحقيق في هذه القضية التي عقدتها السلطات المحلية.
تَبرع جيمس روتشيلد بمبالغ كبيرة لصالح اليهود الذين تمَّ نهبهم والفقراء في دمشق وكذلك لتعويض ما أنفق في التحقيقات. وقبل سفر مونتيفيوري إلى الشرق تمَّ استقباله من قبل الملكة فيكتوريا التي منحته مكانًا على متن باخرة حكومية.
وظهرت أيضًا أمثلة لسفالة البشر؛ فقد توجَّه المدعو دكتور فيليبيرت إلى مسكن عائلة روتشيلد في باريس بغرض تضمن ما يلي: إذا أعطوه مبلغًا محدَّدًا من المال فإنه سينشر في الصحف الأوروبية مقالات لتأييد يهود دمشق، وإذا لم يتمَّ ذلك فإنه سيقوم بنشر معلومات تُشهِّر بهم. وتمَّ رفض هذا الابتزاز الوقح، ولكن المذكور وأمثاله قاموا بالفعل بإغراق صفحات عدد من الصحف بسيل من الافتراءات القذرة.
عبر كل من إمبراطور روسيا ومُمثِّل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية عن رفضهما لتعذيب يهود دمشق. وفي ذلك الوقت تشكِّل الموقف السياسي بحيث إن إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا توصلوا إلى الاتِّفاق على إعادة مصر وسوريا تحت سلطة السلطان العثماني. جاء هذا الاتفاق في وقت وصول كريمي ومونتيفيوري إلى القاهرة. وعند مقابلة محمد علي تلقى القادمون إجابة مراوغة، رغم الاستقبال. كان الباشا يماطل في اتخاذ قرار، فقد كان حائرًا لا يعلم أي دولة أو أي مجموعة دول يمكنه أن يضع رهانه عليها. فلم يكن يرغب في الخلاف لا مع إنجلترا ولا مع النمسا ولا مع تير، الذي لم يكن يرغب في فشل قنصله. واستمرَّ تردُّد محمد علي ثلاثة أسابيع، واقترح كريمي على القناصل الأوروبيين الراغبين في تأييده تقديم طلب جماعي لتحرير الباقين على قيد الحياة من مساجين دمشق، من السجن.
علم محمد علي بالخطة الدبلوماسية التي يقوم بتجهيزها تسعة قناصل ورأى أنه من الأفضل له أن يَسبقها، وأرسل بتاريخ ٢٨ أغسطس إلى دمشق بالإفراج الفوري عن كل المسجونين. ولكن اتَّضح أنه يدس السم في العسل؛ إذ إن نسخة الأمر المكتوبة باللغة التركية تضمَّنت عبارة أن مونتيفيوري وكريمي طلبا العفو عن اليهود، وهو ما يعني تأكيد إدانتهم. توجَّه كريمي على الفور إلى الباشا، وأوضح له أن العفو يُلوِّث سمعة المتهمين وكل اليهود، وكذلك يبرئ راتي مينتون والجلادين والرهبان. ووافق محمد علي على استبدال تلك الكلمة بغيرها مما يعني «الحرية والهدوء».
اضطرَّ شريف باشا، عندما تلقى الفرمان في ٦ سبتمبر، إلى إطلاق سراح المسجونين دون علم راتي مينتون؛ فقد كان خوفه من غضب الباشا أكثر بكثير من مينتون. كان سبعة من المسجونين قد عُذبوا حتى أصبحوا مُقعَدين، وتُوفيَ أربعة من أثر التعذيب. وأمام السجن تجمع، بالإضافة إلى اليهود، كثيرٌ من الأتراك أيضًا، واصطحبوا المطلق سراحهم إلى السيناجوج حيث شكر اليهود الرب على الحرية والحياة. تمكن ستة من اليهود الهاربين من التنكيل من العودة إلى بيوتهم. ومع هذا التحول غير المتوقَّع للأحداث اتَّضح أن أعيان المسلمين في المدينة لم يكونوا كلهم متضامنين مع الرهبان ومع راتي مينتون. أما الذين كانت سعادتهم غامرة بخبر تبرئة يهود دمشق فهم أعضاء الطوائف اليهودية في أوروبا وآسيا. وفور الهزيمة العسكرية التي أنزلتها قوات التحالف الأوروبي بجيش محمد علي، اضطر إلى إعادة سوريا وكريت إلى السلطان العثماني. وتحتَّم عليه الخضوع لكثير من شروط الباب العالي، مثل أن يدفع جزية سنوية للسلطان، والامتناع عن بناء السفن الحربية دون تصريح خاص، وكذلك عدم الإنعام برتبة اللواء على ضباط جيشه. وكان مُلتزمًا بتنفيذ قرارات وأوامر الباب العالي ولكن كان يُمكنه توريث الحكم لأولاده.
فقَدَ تير منصب رئيس الوزراء. أما شريف باشا فَقَبِلَ دخول القوات التركية إلى دمشق وعاد إلى القاهرة؛ حيث تم إعدامه لثبوت تهمة الخيانة عليه.
أما القساوسة المسيحيُّون، والذين كانوا دائمي التنافس والعداء، والأساقفة الأرمن والسريان، وكذلك ممثل البطريرك اليوناني، الذين كانوا متَّحدين ضد اليهود، فقد شعروا الآن بأنهم مهانون وكانوا يشكون لرؤسائهم الروحيين من الإهانات الفظة والتصرُّفات السيئة من جانب اليهود. ولكن الوقت كان قد فات وباتت الريح تهبُّ في اتجاه آخر.
أرسل موسى مونتيفيوري إلى لندن وثيقتَين باللغة العبرية؛ الأولى إلى الحاخام الأكبر سولومون زيرشيليو والأخرى إلى بيت دين (المحكمة الدينية) لهذه المدينة. كانت الوثيقتان تنفيان وتُفنِّدان الافتراءات التي أثيرت على أساسها المحاكمات المعادية لليهود. وتمَّت ترجمة الوثيقتَين إلى اللغة التركية وقام مونتيفيوري، الذي وصل إلى إسطنبول، بتسليمهما إلى السلطان عبد المجيد الأول عند استقباله له.
في السادس من نوفمبر ١٨٤٠م تم نشر الفرمان الذي كان يجبُ أن يحمي اليهود العثمانيين من الافتراءات والاضطهاد، ولكنه، كما سنرى فيما بعد، لم يَحمِهم. وجاء في هذا الفرمان: «لزمن طويل كانت هناك آراء مسبقة عن أن اليهود يقدمون أضحيات بشرية وأنهم يحتاجون إلى الدم للاحتفال بعيد الفصح. ونتيجة ﻟ «فرية الدم» هذه، تعرض يهود دمشق ورودس للتعذيب. وتمَّ إثبات كذب الاتهامات الموجهة إليهم. لقد جرى بحث كتب اليهود الدينية بواسطة أناس مُحايدين وخبراء. وأوضح الفحص أن اليهود مُحرَّم عليهم بشكل قاطع حتى استخدام دم الحيوانات فما بالنا بدم الإنسان. ولا يُمكننا أن نسمح بأن يجري في المستقبل تعذيب اليهود واضطهادهم. وطبقًا لخطي شريف جولخان الصادر عام ١٨٣٩م؛ فإنهم يتمتَّعون بكل الحقوق مثل الشعوب الأخرى في الإمبراطورية العثمانية.»
أدَّت مأساة دمشق إلى تكاتف الطوائف اليهودية في أوروبا والشرق بعد أن كانت الروابط بينها ضعيفة فيما مضى. ورأت طوائف الشرق كيف نجح أبناء ديانتِهم الأوروبيُّون، بفضل سعة معارفهم، ومدى ما يتمتعون به من تأثير في البلدان الأوروبية، في الوقت الذي كان فيه اليهود في المجتمعات الشرقية مُضطرِّين للخضوع للجميع. كان تدهور الطوائف اليهودية في الشرق مُرتبطًا بالضرورة بتدهور الدولة العثمانية وكل البلدان الإسلامية التي كانوا موجودين بها. واعتزم كريمي تغيير وضع الطوائف اليهودية ولو حتى في الإسكندرية والقاهرة فقط، وذكَّرهم بازدهارهم وثرواتهم في الماضي وتدهورهم الحالي. وكان يتحدَّث عن ضرورة فتح مدارس عصرية حيث يُمكن للأطفال اليهود بالإضافة إلى تعلم أسس الديانة اليهودية والكتابة العبرية أن يحصلوا على تعليم عصري في كل مجالات المعرفة. كانت طائفة الإسكندرية فقيرة جدًّا؛ فكانت ١٢ أسرة في يُسر بينما ٢٠٠ أسرة تعيش في فقر مدقع. وبمُبادرة من الحاخام المحلي وبدعم من بعض الأثرياء المحليين والأوروبيين تمَّ في الرابع من شهر أكتوبر عام ١٨٥٤م افتتاح مدرستين. وفيما بعد ظهرت مثل تلك المدارس في المدن الأخرى في الدولة العثمانية. ولكن الافتراءات على اليهود في مختلف بلدان أوروبا وآسيا استمرَّت في القرن التاسع عشر وكذلك في القرن العشرين.
بعد مرور عدة عقود من الزمن ثارت قضية دريفوس التي كان الأتراك على علم كاف بها. وفي إزمير اندلعت في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين اضطرابات على إثر «فرية الدم». ولكن الأمر جرى هذه المرة بحيث إن القضية لم تُرفع ضد اليهود، كما حدث فيما مضى، بل ضد مُدبِّري الافتراءات والاضطرابات. وكانت هذه الصراعات ترتكز على أسس من خلافات دينية وعرقية عميقة. حتى حرب الاستقلال والثورة الكمالية (١٩١٨–١٩٢٣م) كان يعيش في إزمير عدد كبير من السكان اليونانيِّين، ولكن طبقًا لمعاهدة لوزان السِّلمية جرى تبادل للسكان بين الدولتين المتحاربتين؛ اليونان وتركيا، وتم إجلاء اليونانيين من كل الأراضي التركية باستثناء إسطنبول.
كان اليونانيون، على مدى مئات السنين، ينظرون إلى الأتراك باعتبارهم غُزاة لأراضيهم. وبعد سقوط الدولة البيزنطية، التي كانت القسطنطينية قلعتَها الأخيرة، اضطرُّوا لقبول سلطة الأتراك ولكنهم ظلوا يحلمون بالتخلص منهم طوال الوقت.
رحَّب الأتراك باليهود بعد أن استقبلوا على أراضيهم آلافًا من المطرودين من أوروبا، الذين استوطن كثير منهم البلقان وإسطنبول وإزمير، وكانوا يتذكَّرون هذا وكيف أنه لم تحدُث في تركيا مذابح لليهود مثلما حدث في أوروبا الشرقية والغربية. ومن ثم عاش الأتراك واليهود في سلامٍ قرونًا عديدة، وهو الأمر الذي لا يُمكن قوله عن علاقتهما بالأعراق الأخرى للدخول في الإمبراطورية العثمانية. لهذا السبب فإن محاولات اليونانيِّين المتكررة لجر اليهود إلى خلاف مع الأتراك لم تأت بنتيجة.
مع الشعور بمعاداة السامية الدينية التقليدية ظل اليونانيون لقرون عديدة يتنافَسُون مع اليهود في التجارة وغيرها من مجالات الأعمال.
أصبحت القضية معروفة باسم «قضية الجرس» الذي كان المُحرِّضون يدقُّونه. وكان المحامون، ومن بينهم أشخاص من جنسيات مختلفة، متَّفقين على أن «فرية الدم» شر عظيم، رغم أنهم حاولوا الدفاع عن المتَّهمين كل بطريقته. وحظيت القضية باهتمام كبير في الصحف التركية واليونانية، وقامت الأخيرة، عدا استثناءات قليلة، بتشويه الحقائق عن عَمد. وكانت الصحافة التركية أكثر موضوعية. ونورد هنا، دون أي تغيير أو تعليق، مقتطفات من مرافعات المحامين التي نُشرت في جريدة «خدمت» (الخدمة) التركية رقم ١٧٤٨ الصادرة ٣٠ يونيو ١٩٠١م.
أوضح المحامي التركي نوزت، في دفاعه عن المتهمين، أصل «فرية الدم» والأعمال التي أثيرت بسبب الآراء المسبقة، على النحو التالي: «فُقد الفتى وتجمعت جماهير ساخطة انتشرت بينها أقوال عن خطفه بواسطة اليهود، لأغراض دينية. هذه الأفكار المسبقة الشنيعة لم تنجُ منها حتى الطبقات المتعلِّمة، ولكنها كانت تهز العقول الضعيفة بعنف حتى في القرن العشرين.»
أعتقد أن مثل تلك الأفكار تتناقض مع روح الشريعة الموسوية أي مع روح الإنسانية.
إنني أؤكد هنا أنني لا أحاول على الإطلاق أن أشوه صورة المسيحيِّين بشكلٍ عام. إنني أعني بالذات بعضًا منهم وكذلك من المسلمين، الذين يلصقون بالديانة اليهودية مثل هذا المُنتج البشع لجهلهم الشخصي.
إنَّ أصل «فرية الدم» قديم جدًّا؛ عندما حدث منذ زمن بعيد في النمسا أن غرق ثلاثة أطفال في بحيرة. وبعد بحث عديم الجدوى تم اتهام اليهود، وحُكم على ٣٠٠ مسكين بالحرق أحياءً. وبعد ذلك في الربيع عندما ذاب ثلج البحيرة عثروا فيها على جثث الأطفال الغرقى. وأمثال هذه القصص يُمكن كتابة مجلدات عنها.
في تركيا، منذ خمسة عقود مضت، في زمن السلطان سليمان، حدثت واقعة مُماثلة؛ فقد اختفى مسيحي في أماسي، وكان قد شُوهد وهو يدخل في منزل يهودي. وطبقًا لعادات ذلك العصر تم اتهام اليهود وقاموا بتعذيبهم. ولما لم يتحمَّلُوا الألم اعترف المساكين بالجريمة التي لم يرتكبوها وحُكم على عدة أشخاص بالإعدام، وفيما بعد ظهر المسيحي في المدينة، وأصبحت هذه الحادثة درسًا للسلطات العثمانية التي حاولت منذ ذلك الحين تجنُّب مثل تلك الاتهامات. ولكن ما هو أصل «فرية الدم» التي تزعج الجميع على مدى قرون طويلة؟ يجب، للأسف، أن نعترف بأنه يوجد في أوروبا كثير من الناس يبذلون جهودًا كبيرة لإضفاء شكل حقيقي لهذه الكذبة الهائلة المنسوجة من الخيال والأساطير. ولكن العالم المتحضِّر اعترف بمدى الضرر الذي يُلحقه مثل هؤلاء الأشخاص بالإنسانية، والمكاسب التي يُحققونها من جهل الجماهير، وكذلك من «نشاط» المؤسسات المعادية للسامية.
هنا برز سؤال: إذا كان القتل الطقسي ليس سوى فرية فكيف تشكَّلت؟
مِن المعروف للجميع أن الكتاب المقدس وكتب اليهود الدينية الأخرى تدلُّ على التحريم القاطع لاستخدام الدم من أيام موسى، والشعب يلتزم بهذا. وحتى الخدم الوثنيون كان اليهود يحرمون عليهم أكل الطعام الذي يحتوي على دم.
لماذا إذن يوجه مثل هذا الافتراء الشنيع إلى تلك الأمَّة، التي هي دون شك متحضرة، وتتقدَّم بنجاح على طريق التقدم؟
إنَّ التاريخ يساعدنا في الإجابة عن هذا السؤال. من قديم الزمن كانت مُختلف الشعوب تدَّعي على بعضها البعض أبشع الافتراءات المهينة. ومنذ زمن بعيد أيضًا قبل اتهام اليهود بممارسة القتل الطقسي، كانت جرائم مُماثلة تُلصق بالمسيحيِّين. في زمن نيرون اضطهد مئات المسيحيين وقتلوا بنفس الاتهامات السخيفة، بما في ذلك استخدام دم أبناء دينهم في الطقوس الكنسية. وإذا ما تذكَّرنا انتفاضة «الملاكمين» في الصين، ألم تكن تَعتمِد على فكرة أن الأوروبيِّين يستخدمون الدم البشري في طقوس دينية؟
عندما نرى أنه في عصر الاستنارة الذي نعيش فيه تكون أوروبا مُستعدَّة لأن تُصدِّق مثل تلك الافتراءات المُقزِّزة فما قيمة الحضارة؟ إنها لا تزيد عندئذ عن أن تكون مجرد كلمة على الورق.
ربما كانت «فرية الدم» مُرتبطة بشكل ما بأن اليهود في وقت عيد الفصح يستخدمون نبيذًا أحمر، وطقوسهم السرية تجذب الفضوليِّين من غير دينهم، الذين كثيرًا ما كانوا يُثيرون في العصور الوسطى الأزمات الدينية ومسألة طرد اليهود. لقد أدَّى الاضطهاد الديني والتعصُّب من جانب الأوروبيِّين إلى تكاتف اليهود المضطرين إلى مواجهة العديد من الأعداء والمحن. وكانت نتيجة المواجهة هي عزلة اليهود من جهة، ومن جهة أخرى أدَّى هذا الموقف إلى زيادة قدراتهم في التجارة والأعمال المالية؛ إذ إنه بخلاف هذه الأعمال التي سمح لهم الأوروبيون بمزاولتها كانت مجالات المهن الأخرى مغلقة بالنسبة إليهم. كيف كان رد فعل الأوروبيين على تطور وثراء هذا الشعب الذي استضعفوه واضطهدوه؟ كانوا، يملؤهم الحقد والحسد، ويُثيرون كراهية الغوغاء تجاه اليهود، متَّهمين إياهم بكلِّ الخطايا: قطع الطرق، السَّرِقة، تسميم الآبار، قتل الأطفال المسيحيِّين لأغراض طقسية وآلاف غيرها من الجرائم الأسطورية. وما زال بعض بقايا العصور الوسطى هذه موجودًا في أيامنا.
ما الغريب في أن مثل هذا الشعب التركي المتكاتف يتمكَّن من تحقيق النجاح في المجالات التي لا يرغب غيرهم من الأعراق — ولا يستطيع — العمل فيها مثل التجارة والأعمال المالية؟ وهكذا فمن الواضح أن نجاح اليهود يدعو إلى الحقد عليهم ومُعاداتهم ويخلق أسطورة القتل الطقسي وما إلى ذلك. إنَّ الافتراءات كانت سببًا في كثير من الشرور بالنسبة لليهود بما في ذلك «قضية دريفوس».
وبعده جاءت كلمة المحامي اليوناني خريستاكي خامودوبولو: «في عصر حكم صاحب الجلالة السلطان، الذي لم يَسمح بأيِّ تفرقة في المعاملة بين رعاياه، كنا نعيش في تآلف ووفاق مع العالم كله. ولكن نتيجة جهل بعض الناس وقعت حادثة حطمت هذا الوفاق السعيد. والآن يتهمون الأمة كلها بهذا؛ الأمة التي ينتمي إليها ٤٩ متهمًا وأنا أيضًا.
من الغريب أن نرى كيف يمكن في عصر الاستنارة الذي نعيش فيه، أن يقوم بعض الجهلة اليونانيِّين في إزمير باتهام اليهود باستخدام الدم المسيحي لأغراض طقسية، وكانوا يريدون بذلك زرع بذور الفتنة بين اليونانيين واليهود؛ هذين الشعبين العظيمين اللذين قدما الكثير للإنسانية وللحضارة.
أعتقد أنه من واجبي، يا سيادة الرئيس، أن أتكلم بقدر الإمكان عن هذا الافتراء الحقير الذي لوَّث كلًّا من المتَّهِمين والمتهَمين، ولكنه في الوقت نفسه كان سببًا لرفع شأن هذين الشعبين العظيمين وافتداء ماضيهما. لا يوجد في الكتب المقدسة ولا في كتب التاريخ ولا في تقاليد الكنيستين اليونانية والأرمينية أي ذكر بشأن استخدام الدم في الطقوس، ولا ينسب مثل هذا لليهود. ولكن لماذا ترسخت مثل هذه الفكرة في الوعي الجمعي؟
يُوجد عدد من المؤرخين مثل بارونيوس وباس وجوديسكار وريكور وغيرهم، يُوردون في مؤلَّفاتهم ذكر جرائم يَنسبونها لليهود مباشرة دون أي إثبات. وفي عصور مختلفة ومدن مختلفة في أوروبا كان أطفال يختفون، واتُّهم اليهود في كل هذه الحوادث، وفيما بعد كان يتَّضح أنه في مُعظم الأحيان يكون المشاركون في اختفائهم من رجال الكنيسة، الذين لم يكونوا أكثر إنسانية من المجتمع الذي عاشوا فيه. وتوجد في كنيسة سان ميشيل في كولونيا أدوات التعذيب التي استخدمت في تعذيب القديسة إبوانا (جان دارك-المؤلف).»
بعد ذلك يذكر المحامي قضية الأب توما في دمشق ويستمر قائلًا: «نحن واثقون من أنه بفضل جهود صاحب الجلالة السلطان وبفضل التعليم الذي يَنتشر بيننا يومًا بعد يوم، سيتم القضاء على الفتنة وستهدم الأساطير التي جاءت إلينا من الغرب.»
وقال المحامي الأرمني نازاريت ما يلي:
«إن من يقرأ كتاب «اليهود والدم المسيحي» لا يمكن أن ينكر أن هذه الخرافة القديمة، الموجودة على مدى قرون عديدة في الشرق والغرب، لا تعد على الإطلاق نتيجة الجهل والتعصب. إن هذه الخرافة قد جرى دسها في وعي الجماهير بواسطة التبشير الحانق الذي قام به الحاخام السابق مؤلف هذا الكتاب، الذي يحتوي على كم هائل من الأكاذيب والافتراءات بما في ذلك فرية الطقس الدموي.
وهنا يجب أن نستنتج أن هذا الحاخام، الذي تحوَّل إلى المسيحية، قام بتأليف هذا الكتاب المليء بالكذب حتى ينتقم، لسبب ما، من اليهود، من جهة، ولكي يرضي المسيحيين من جهة أخرى. أما الناس البسطاء السذج فقد أخذوا هذا الكتاب على أنه حقيقة خالصة، مستخدمين إياه كإثبات لحقيقة أسطورة القتل الطقسي. وإذا ما أخذنا في الاعتبار الكراهية المتبادلة والاتهامات المتبادلة بين هذين الشعبين العظيمين؛ اليهود والمسيحيِّين، فلا عجب من وجود أساطير عن مثل هذا الطقس.
إنَّ الخرافات التي تُسيطر على الشعب (يقصد المسيحيين واليونانيِّين بالتحديد - المؤلف) تستحوذ من جانب آخر على ورعِه العظيم. ولكن الجهل، وهو أصل كل العلل والنقائص، يَحيد به عن طريق الحق.
يجب أن نلاحظ أن الخرافات موجودة لدى كل الشعوب، ولم يتمكن أحد حتى الآن من التخلص منها. لذلك كيف يمكن أن نعاقب أم أنيستي المؤمنة بالخرافات، التي ذهبت المأساة بعقلها عندما اختفى ولدها العزيز؟ كانت هذه المرأة في حالة من الاضطراب الرُّوحي؛ تبكي وتصرخ وتطلب العون. أما الجماهير الثائرة، والمؤمنة بالخرافات بالقدر نفسه، فقد زادت فقط من يأسها.
بالطبع كانت الخرافة هي التي أثارت الجماهير التي جمعها ٤٩ متهمًا بدقات الجرس ودفعوها إلى الشغب والعصيان. إن هؤلاء الناس يا سيدي الرئيس لا يستحقون العقاب، ويجب ألا نرسلهم إلى السجن، بل الأولى أن نرسلهم للمدرسة.
ولكن حتى هذه القضية التي أثارت ضجة كبيرة سرعان ما طواها النسيان.
في شهر أبريل عام ١٩١٢م عاد الصبي اليوناني خريستوس إيوانيديس، البالغ من العمر ١٠–١٢ سنة، متأخرًا إلى المنزل، ولكي يُبرِّر تأخره قال إن اليهود حاولوا الإمساك به، لكنه صرخ وطلب المساعدة وأنقذه اثنان من أهل كريت ولم يُعِر أبو الصبي أهمية لحكايته. أما الأم فقد جرت من حي أبانو إلى الحي اليهودي وهي تصرخ وتهدد، فضربوها واقتادوها إلى الشرطة؛ حيث تمَّ استجواب ابنها. واعترف الصبي بأنه كذب على والدَيه خوفًا من العقاب، وتوقفت النزاعات بسبب «فرية الدم» في تركيا بعد إبعاد اليونانيين عام ١٩٢٣م.