الطائفة اليهودية في إزمير
كان اليهود يعيشون على أراضي آسيا الصغرى منذ أقدم العصور. ومن المعروف أن الإسكندر المقدوني قد قام بنَقل جزء من يهود فلسطين إلى سميرنا التي كانت من أكبر مدن آسيا الصغرى في العالم القديم. وكانت الطوائف اليهودية في آسيا الصغرى محدودة العدد.
١٦٣١م | ٧٠٠٠ |
١٦٧٥م | ١٥٠٠٠ |
١٧٠٢م | ١٨٠٠ |
١٧٣١م | ٧٠٠٠ |
١٧٣٩م | ٦٠٠٠ |
١٧٧٩م | ١٠٠٠٠ |
١٨١٢م | ٥٠٠٠ |
١٨٣٦م | ١٥٠٠٠ |
١٨٣٧م | ٨٠٠٠ |
١٨٥٧م | ٢٠٠٠٠ |
١٨٦١م | ١٤٠٠٠ |
١٨٦٨م | ٤٠٠٠٠ |
١٨٧٣م | ١٥٠٠٠ |
١٨٨٦م | ٢٠٠٠٠ |
١٨٩٢م | ٢٥٠٠٠ |
١٩٠٤م | ٣٥٠٠٠ |
١٩٢٧م | ١٦٥٠١ |
في العصور الوسطى كثيرًا ما كان عدد السكان يتناقص بشكل حاد نتيجة للأوبئة التي تجتاح المدينة. ومن المعروف أن الطاعون أودى، عام ١٨١٢م، بحياة عدة آلاف من الناس. كما انتشر وباء فظيع عام ١٨٦٥ أيضًا. وفي القرن التاسع عشر كانت أوبئة الطاعون والكوليرا والدفتريا والتيفوس وغيرها من الأمراض لعنة تصيب المدن الكبرى في المقام الأول.
في أثناء الحرب الروسية التركية (١٨٧٧-١٨٧٨م) فرَّ آلاف من يهود بلغاريا إلى أدرنة وإزمير وإسطنبول. وفيما بعد ازداد عدد الطوائف اليهودية في هذه المدن نتيجةً للمهاجرين من رومانيا واليونان وروسيا.
وكان السكان اليهود يُمارسون مختلف أنواع المهن؛ فقد كانوا يشتغلون بالتجارة والصرافة والحدادة وإصلاح الساعات وصياغة الذهب وصناعة الخبز، وعمل الأختام والطب وصناعة الزجاج والموسيقى والغناء وتفصيل الملابس وصناعة الأحذية.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر استقر في إزمير تجار من فرنسا وهولندا وراجوس والبندقية، ومن إنجلترا فيما بعد، ولم يكونوا يعرفون اللغة ولا العادات المحلية، واستخدموا اليهود وسطاء؛ حيث إنَّ لهجتهم اليهودية الإسبانية كانت ذات أساس لاتيني وتسمح لهم بالتواصل مع تجار فرنسا والبندقية وغيرهما.
وكان أحد الهولنديين الذين زاروا إزمير عام ١٦٧٥م يقول إنَّ معظم الأوروبيين الذين يعيشون في هذه المدينة من هولندا ويتولى اليهود أعمالهم فيها.
وكتب رحالة أوروبي زار إزمير في القرن الثامن عشر يقول: «يُمارس اليهود الأعمال التجارية الصغيرة والوساطة والسمسرة، وهم باعتراف الجميع يَملكون أمانة لا تشوبها شائبة، وغاية في النشاط، ويُقبلون على الأعمال الصعبة.»
في عام ١٦٧٠م حدث في إزمير نزاع بسبب الأعمال؛ فقد نشب خلاف بين رجال بنوك يهود على رأسهم نسيم أماتو، ورجال بنوك أرمن على رأسهم جاسبار، بشأن عمليات صرافة مع مدينة ليفورنو الإيطالية. وتوجه الطرفان إلى المفتي، الذي وقف في صف اليهود قائلًا إن ادعاءات جاسبار لا أساس لها؛ حيث إنه في هذه الحالة فإن تجار إزمير يمثلون تجار ليفورنو، ولذلك فإنَّ مصالحهما متطابقة. ومن أجل التصديق على رأي المفتي أرسل اليهود ممثليهم إلى أدرنة (أدريانوبول) حيث كان بلاط السلطان هناك في ذلك الوقت.
كانت الأمور الداخلية — وأحيانًا الخارجية — للطائفة تُحلُّ بواسطة المجلس الديني اليهودي، بيت الدين، الذي يتكون من أعضاء يتم اختيارهم كل سنة. وكان المجلس يقوم بتوزيع الأعباء الضريبية ومراقبة الشئون اليومية للطائفة. وفي عام ١٦٧٠م كان عدد أعضاء المجلس سبعة أشخاص، وفي عام ١٨١١م اثني عشر شخصًا. وفي عام ١٨٩٦م اختير عشرة أشخاص في المجلس المدني؛ مجلس جيسماني.
وفي عام ١٩١١م كان عدد أفراد المجلس سبعة أشخاص يحملون الجنسية التركية وأربعة مستشارين بوظائف استشارية يحملون جنسيات أجنبية. وكان اختيار أعضاء المجلس — ميمونيم — يتم بواسطة السيناجوج وأحيانًا كان يتم تعيينهم بواسطة كبير الحاخامات الذي يرأس المجلس. كان كبير حاخامات إزمير يُعتمد بخطاب من السلطان الحاكم بناءً على توصية من مجلس وكبير حاخامات إسطنبول. وكان من الممكن، بناءً على قرار كبير الحاخامات، أن يتمَّ إلقاء الشخص المذنب، المُخالف لنظام الطائفة، في السجن. وكانت محكمة الحاخامات تقوم بالفصل في النزاعات الدينية والمدنية والتجارية … وكانت تتكون من فرد من الحاخامات ورئيس (روس بيت دين) وأحيانًا كان كبير الحاخامات يقوم بوظائفه. وحتى نهاية القرن التاسع عشر كانت سلطتها على أفراد الطائفة عظيمة جدًّا. وكان النظام الديني التقليدي الصارم لليهودية الشَّرقية يُقيد مبادرة أبناء الطائفة والطائفة ككل، الأمر الذي كان سببًا في تخلُّفها عن اليونانيِّين والأرمن الأكثر قدرة على الحركة والذين تطوَّروا بنجاح خلال القرن الثامن عشر.
عند نهاية القرن السابع عشر، وفي القرن الثامن عشر على وجه الخصوص، تمكن اليونانيون والأرمن من إزاحة اليهود من المواقع الرئيسية للتجارة الدولية؛ حيث إنهم كانوا يُوفِّرون لأبنائهم تعليمًا عصريًّا ومعرفة جيدة باللغات والأعراف الأوروبية، وكانوا يتعاملون مع بيوت التجارة الأوروبية دون وسطاء. ولم يكن اليهود قادرين، دون تأهيل جيد وبدون رأس مال كبير، على تحمل مثل هذه المنافسة القوية، وأخذت تجارتهم في الخردوات وبضائع المُستعمرات، وكذلك المانيفاتورة، تنكمش تدريجيًّا، بينما بدأ اليونانيون والأرمن في الاستحواذ على إنتاج وتجارة كل منتجات الصناعة الحديثة. واستمر الأمر على هذا النحو حتى نهاية القرن التاسع عشر عندما حدثت تغيُّرات مهمة في حياة الطوائف اليهودية. أما فيما يتعلق باليهود من رعايا الدول الأخرى، الموجودين لأسباب مختلفة في الإمبراطورية العثمانية، فقد كانوا يلجئون عند الضرورة إلى قناصل دولهم. وعادة ما كان هؤلاء اليهود يقومون بزيارة القناصل الأوروبيين في أوقات أعيادهم.
في عام ١٨٨٥م فُرضت ضريبة سنوية مقدارها ٥٠ قرشًا على العقارات يدفعها اليهود مُلَّاك العقارات.
بالإضافة إلى ذلك كانت هناك الاحتياجات الداخلية للطائفة والتي تتطلب مصروفات. كان ملحقًا بالسيناجوج معاهد دراسية تلمود-توراة أو خيفرا يرتادها الأطفال من ٦ إلى ١٢ أو ١٣ سنة وكذلك يشيفا للصبية في المناطق المزدحمة بالسكان، وكانوا يتعلمون في المدرسة القراءة والكتابة باللهجة اليهودية الإسبانية، ومبادئ الحساب، ونصوصًا دينية مترجمة إلى اللهجة اليهودية الإسبانية، وكانوا يقومون في يشيفا بدراسة شولخان أروخ والتلمود بالتفصيل. كان الآباء يدفعون نفقات التعليم، ويمكن أن تُعطيَ الطائفة للمحتاجين بعض النقود. وفي عام ١٨٩٠م تمَّ إصلاح برنامج تلمود-توراة في إزمير.
بالإضافة إلى اللغة العِبرية القديمة واللغة التركية اللتين كانتا تدرسان في المدارس اليهودية، جرى أيضًا تدريس اللغة الفرنسية، التي كانت مطلوبة في كثير من نواحي الحياة، وكانت تدرس أيضًا في المدارس التركية سواء المدنية أو العسكرية.
إضافةً إلى هذا تم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فتح مدارس أجنبية شبه مدنية؛ إنجليزية وأمريكية وألمانية وفرنسية وإيطالية، في المدن الكبرى بالإمبراطورية العثمانية. وفي ذلك الوقت كان يُمكن لغير المسلمين الالتحاق بمدارس التبشير الكاثوليكية أو البروتستانتية المخصَّصة للمسيحيِّين. وكانت الدراسة فيها للأولاد والبنات كل على حدة.
في عام ١٨٨٦م تأسَّست في إزمير مدرسة كيتير – توراه التي كان التدريس فيها باللغة التركية. وفي عام ١٩٠٠م طلب كبير حاخامات تركيا من الحكومة السماح بإنشاء جمعية لنشر اللغة التركية بين اليهود، وتمَّ الحصول على الموافَقة وتمَّ إنشاء هذه الجمعية في المدن الكبرى بالإمبراطورية.
على مدى مئات السنين سادَت في الطوائف اليهودية في الدولة العثمانية مبادئ الأبوية الأسرية والدين والعادات والتقاليد، وكان هذا، دون شك، يساعد الطوائف على الاستمرار في الحياة والمحافظة على هويتها في أصعب ظروف الشتات، هذا من جهة، ومن الجهة الأخرى كانت تحدُّ من تطور شخصية الفرد وكذلك الطائفة ككل. كانت سلطة رب الأسرة لا جدال فيها، وكانت الزوجة تحظى بالاحترام باعتبارها الشخص المقرَّب القادر على تقديم النصح باعتبارها ربة المنزل، وكثيرًا ما كانت تقوم بدور الوسيط بين الزوج والأبناء. كان الأولاد يتمتَّعون بحرية أكثر من البنات، ولكن في المسائل المهمة مثل الزواج والأمور المالية كانت الكلمة الأخيرة للكبار.
وكان الأبناء يُخاطبون الأب بلقب «سنيور» وأحيانًا يضيفون كلمة «بادري» (أب)، وكان يسمون الأم «مانا» (ماما) وفي أحيان نادرة كانت تسبقها «سنيورا» وكانت زوجة الابن تخاطب حماتها بقولها «سنيورا إيما» (إيما تعني أم).
كان أساس تربية الأبناء هو احترام الكبار وكان هذا يصل إلى حد تدخُّل الأخيرين في حياة الشباب الخاصة. وكثيرًا ما كان الجد أو الجدة وهما على فراش الموت يوصيان بأن يتزوَّج فتًى ما بفتاة ما عند بلوغ سنٍّ معيَّنة، حتى لو كان الأطفال صغارًا جدًّا. وكانت هذه الوصية واجبة التنفيذ. وكانت المحافظة على كل القواعد والأعياد الدينية أمرًا ملزمًا للجميع.
كانت ملابس اليهود تُميزهم عن غيرهم من الطوائف العرقية، رغم أن بعض تفاصيلها مثل الجبة والمعطف (الأنتاري) كانت في تفاصيلها شبيهة بالتركية. كان الرجال والنساء يَرتدُون الأنتاري وهو معطف من الحرير أو غيره من الأقمشة يتميَّز بالطول وعدد الأزرار، وكذلك السراويل الواسعة المصنوعة من قماش سميك أو رقيق باللون الأسود أو الأزرق السماوي الفاتح وأحيانًا بالأحمر أيضًا.
وكانت الجبَّة ذات الأكمام الضيقة تُزين بتطريز من الحرير ويصل طولها إلى كعب القدم. وكان الرجال يُغطُّون رءوسهم بعمامة رمادية أو بيضاء اللون تلتفُّ حول طربوش أو طاقية. وكانت سترة أو جاكتة قصيرة من القماش تُغطي الظهر، أما الأحذية فعادة ما تكون من الجلد الأصفر وتتكوَّن من ثلاثة أجزاء.
وكانت النساء، بالإضافة إلى الأنتاري، يرتدين فيريدجي وهو نوع من القفطان من القماش يُشبه الجبة ويُلبس من خلال الرأس، وكذلك سترة تُغطي الظهر. وكانت النساء كبار السن يَضعن شالًا فوق غطاء الرأس. أما الفتيات فكنَّ يكتفين بغطاء رأس مثل البونيه. وكانت النساء يرتدين كابيلو وهو غطاء للرأس له قاعدة من الكرتون عليها قماش أسود خفيف ويُشبك من الخلف بمَشابك مُزيَّنة بالمجوهرات، أحيانًا باللؤلؤ أو غيره من الأحجار الكريمة أو شبه الكريمة، وكن يغطين رءوسهنَّ بمنديل خفيف يشبك بدبوسين. وكان المنديل الأبيض يطرز على حوافه أحيانًا بخيوط ذهبية أو فضية أشكال أشجار، وكانت العروس تضع مثل هذا المنديل في أثناء مراسم الزواج.
كانت النساء يُغطِّين رءوسهن بمنديل يتدلى على الظهر، وكن يَرتدينه في أثناء الزيارات. وبشكلٍ عامٍّ فإن غطاء الرأس كان متنوع الأشكال والأغراض. وفي القرن التاسع عشر أخذت حركة تحرُّر النساء تَنتقل بشكل أو بآخر من أوروبا إلى بلدان الشرق. ووصلت هذه العملية إلى الطائفة اليهودية أيضًا. وبالتدريج أصبح ارتداء المنديل والبرقع أمرًا أقلَّ إلزامًا، وفي نهاية الأمر أصبح نادرًا.
وكتب بيتون دي تورنيفور، الذي زار إزمير ١٧٠٠–١٧٠٢م، يقول: «إن يهوديات إزمير عادةً ما يَرتدين تنورة بيضاء ذات ثنيات عديدة وجوارب حمراء مُطرَّزة بالذهب وقلنسوة من الصوف أو الحرير مزينة بالبلاتين والذهب والفضَّة أو على الأقل النحاس. والتسريحة المعتادة هي ضفيرة من الخلف.»
كان يهود إزمير يعيشون في دُور منفصلة أو فيما يُسمَّى كورتيجوس. كانت أسر العائلات الثرية تعيش كل أسرة في دار. أما الكورتيجوس فكان عبارة عن فناء مُحاط بحوائط وبداخله مبانٍ صغيرة من غرفة أو غرفتَين تعيش فيها عادة أسر فقيرة في زحام فظيع وفي غياب الوسائل الصحية الأمر الذي يجعلها الضحية الأولى للأوبئة المُتكرِّرة. تأخر الإصلاح في الطائفة اليهودية في إزمير كثيرًا؛ فإذا كان أبناء عقيدتهم في إسطنبول قد حصلوا على وضعٍ عُضوي ونظام إدارة جديد عام ١٨٦٤م فإن طائفة إزمير لم تبدأ الإصلاحات إلا عام ١٨٩٦م.
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأ التقدم يتطرق إلى مختلف جوانب حياة الطوائف اليهودية. تحسَّنت ظروف الإسكان والنواحي الصحية وتقلَّص عدد الكورتيجوس.
إضافة إلى العدد الكبير نِسبيًّا لطائفة السفارديم في إزمير، تأسَّست طائفة محدودة العدد من الأشكيناز التي كان أفرادها يعملون في الحرف والتجارة. وفي عام ١٨٧٥م كان هناك أسر أشكيناز معروفة مثل شفارتسمان وأنجلباخ وليفينون وجولدنبرج وغيرها. وفيما بعد، نتيجة للمَذابح التي حدثت في روسيا ورومانيا، فرَّ مئات اليهود من تلك البلاد واستقرُّوا في إزمير. وكوَّن القادمُون الجدد مع الأشكيناز المحليِّين طائفة مُستقلَّة. وفي عام ١٨٩٣م توجهوا بطلب إلى كبير حاخامات المدينة بطلب تأسيس معبد (سيناجوج) خاص بهم نظرًا للاختلاف بين السفارديم والأشكيناز في نطاق النصوص المقدسة، هذا كما أنهم كانوا يُريدون أن يكون لديهم جزار خاص بهم؛ حيث إنهم اعتادوا على أكل لحوم خالية من تلك الكمية من الخضراوات التي يَستعملها السفارديم. ولكنَّهم قاموا أولًا بفتح محل جزارة خاص بهم. وأبدى كبير حاخامات إزمير عدم رضاه عن هذه النزعة الانفصالية الواضحة لدى الأشكيناز الأمر الذي أدَّى إلى تناقص وتبدد إيرادات الطائفة المخصَّصة للإنفاق على مختلف مؤسسات الطائفة. ولكن الإدانة الواضحة من جانب كبير الحاخامات لم يكن لها، رغم ذلك، التأثير الواجب على نشطاء الطائفة الجديدة. عند ذلك لجأ مجلس طائفة إزمير لاتخاذ إجراءات قسرية: رفض ختان أطفال الأشكيناز، رفض دفن القادمين الجدُد في مقبرة اليهود، عدم تقديم العون الديني لمرضاهم. وتم الإعلان عن هذه الإجراءات في المعابد ودعوة السفارديم إلى عدم شراء لحوم من الجزار الأشكينازي. وأدَّى موقف كبير الحاخامات إلى تعميق الأزمة. حينئذ قرر الأشكيناز فتح معبد خاص بهم. وقدم يوحنا آري كرامير، صاحب أكبر مطعم وفندق في إزمير، مبنى قاموا بتجهيزه ليكون معبدًا (سيناجوج)، وأوقف عليه عدة بيوت صغيرة ليتم الإنفاق عليه من إيرادها. واستخدم كبير الحاخامات السُّلطة المخوَّلة له من قبل الحكومة، وقدم طلبًا إلى والي إزمير لإغلاق المعبد الذي أقيم بمساعدة كرامير، وجاء في الشكوى أن كرامير كان نمساوي الجنسية وأقام المعبد مُعتمدًا على معونة ودعم القنصل. وأمر الوالي الشرطة بمُحاصَرة المعبد ومنع وصول المُصلِّين إليه، وصارت فضيحة؛ عندئذ وجدت الطائفة مخرجًا وهو أن تُعطي اليهود الأشكيناز مبنى مدرسة كيتر التوراة.
وعندما وصَل خبر الفضيحة إلى طائفة السفارديم في فيينا عام ١٨٩٨م، تدخَّلت في النزاع وطلبت من أبناء ديانتهم في إزمير إعطاء الأشكيناز حرية تأسيس معبد خاص بهم. وفي نهاية الأمر قدَّمت طائفة السفارديم للأشكيناز مبنى مدرسة سفر التوراة ولكنَّهم اشترطوا عليهم أن يخضعوا لكبير حاخامات إزمير؛ حيث إنهم يُعتبَرون رعايا عثمانيين. أما فيما يتعلَّق بالأشكيناز من رعايا الدول الأخرى فقد قدموا طلبًا إلى الوالي للسماح لهم بالصلاة في المعبد الجديد. وقام الوالي بإحالة الطلب إلى كبير الحاخامات الذي وافَق على هذا. وأدَّى تعنت كبير الحاخامات فيما يتعلق بطلبات الأشكيناز، رعايا الإمبراطورية العثمانية، إلى توجُّههم إلى السلطات العثمانية الأعلى بطلب النظر في شكواهم والسماح لهم بالحق في الصلاة المستقلة في معبدهم الخاص، ولم يحصلوا على هذه الإرادة (الأمر) في نهاية الأمر إلا عام ١٩٠١م.
بعد الحرب العالَمية الأولى (١٩١٤–١٩١٨م) ضعفت طائفة الأشكيناز بشكلٍ واضح، وغادَر كثيرٌ من أفرادها مدينة إزمير. بعد ذلك بقليل دمر حريق جزءًا من المعبد والبيوت التابعة له. غير أنه تمَّ تدبير النقود اللازمة لإعادة بنائه. وساعد أحد مؤسسي «بنك دويتش أورينت» في ترميم المعبد. في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كان اليهود يعملون في مختلف الوظائف في مجالات الإدارة الحكومية والأعمال: صرَّافين، أعضاء في الإدارة المحلية، مترجمين، أعضاء في مجلس المجتمع المُعاد تشكيله، أعضاء في المحكمة التجارية، مدرسين، بما في ذلك تدريس اللغة الفرنسية، موظَّفين في البنوك، موظَّفين في الجمارك والتلغراف والبريد، محاسبين، مُدرسين خصوصيين، رجال شرطة، ضباط يَصلون إلى رتبة رائد وعقيد. وكان من بين اليهود تجار وصيادلة وأطباء ومحامون ومهندسون وناشرون للجرائد والمجلات وأصحاب فنادق، بل وكان أحدهم رقيبًا وهو جاك ديفيد.
كان اليهود العاملون في الوظائف الحكومية يُضطرُّون أحيانًا إلى المخاطرة بمُستقبلهم المهني وبحياتهم؛ فقد كان بيخور روديثي، مثلًا، على معرفة وثيقة بالسياسي التركي البارز مدحت باشا الذي كان الصدر الأعظم عام ١٨٧٨م، وواضع أول دستور تركي، وبعد فترة أمر السلطان عبد الحميد بالقبض عليه خوفًا من أفكاره وتأثيره. كما أنهم اتهموا الصدر الأعظم السابق بالاشتراك في قتل السلطان عبد العزيز. وعندما تلقَّى روديثي، الذي يعمل في الشرطة، أمر السلطان تمكَّن من تحذير مدحت باشا بل وساعده على الاختفاء في القنصلية الفرنسية. وفي نهاية الأمر تمَّ رغم ذلك القبض على الصدر الأعظم السابق، وفي ٢٨ يوليو عام ١٨٨١م تمَّ نفيه إلى الطائف (شبه جزيرة العرب)؛ حيث تمَّ خنقه بعد ثلاث سنوات بأمر سرِّي من السلطان عبد الحميد.
كان رفائيل شيكوريل الشرطي اليهودي حسن الحظ في مهنتِه؛ فقد أصبح قوميسارًا للشرطة من الدرجة الأولى وفيما بعد جنرال مُفتشًا لبوليس الولاية. وفي عام ١٩٠٥م أصدر للمرة الأولى في تركيا باللغة التركية كتابًا عن المقاييس البشرية (أنثروبومتري). وقام الصدر الأعظم كامل باشا والي إزمير السابق الذي كان يقدر مواهب شيكوريل بنقله إلى إسطنبول؛ حيث أصبح عام ١٩١٢م مسئولًا عن حفظ النظام في أحد أرقى الأحياء، وهو حي بيوجلو (بيرا)، وهو الذي أدخل نظام البصمات في عمل بوليس إسطنبول للمرة الأولى.
ويوجد يهود حصلوا على أوسمة حكومية رفيعة؛ فقد حصَل إيليا ليون القنصل العام في باريس على الميدالية الفضِّية والوسام المجيدي من الطبقة الأولى. وحصل قائد اللواء إسحاق باشا على ميداليات وعلى الوسم العثماني من الطبقة الثانية. وأنعمت الحكومة بمثل تلك الأوسمة على قائد لواء آخر هو إسحاق فانو باشا. ونظرًا لأسمائهم، يبدو أنه لم يكن من الضروري، كما كان الحال في العهود السابقة، أن يعتنق اليهود الإسلام حتى يتمكَّنوا من الوصول إلى مرتبة رفيعة في التدرُّج العثماني في الوظائف الحكومية الرسمية.
وفي بداية القرن العشرين كان اليهود، بالإضافة إلى غيرهم من غير المسلمين، مُمثلين في المجلس الإداري لإزمير. وبناء على طلبهم قام المجلس (مجلس إداري ولاية) عام ١٩١٣م بإلغاء جلسات يوم السبت.
كانت الأعمال الخيرية تَشغل حيزًا كبيرًا في نشاط الطوائف اليهودية في إزمير، فكانوا يتبرَّعون لبناء المعابد والمدارس والمُستشفيات، وكانوا أحيانًا يَجمعون النقود من أجل تزويج الفتيات الفقيرات وقاموا أكثر من مرَّة بتقديم العون ليهود القدس.
في عام ١٨٧٨م تمَّ تأسيس الجمعية الخيرية «بوخوراتش دانون» التي تُسمى أحيانًا «جاباي صدقة»، وكانت تُقدِّم الدعم للمرضى والمحتاجين. وكانت هذه الجمعية، مثلها مثل غيرها، تتعرض للإغلاق أحيانًا بسبب نقص الموارد. وفي عام ١٨٩٠م أصدر السلطان عبد الحميد الثاني «إرادة» خاصة (مرسومًا) لمنع التسوُّل، وأصبحت رعاية فقراء اليهود مُلقاة بالكامل على عاتق الجمعيات الخيرية. وكان من بين الجمعيات العاملة بنشاط منظَّمة «أوزير داليم» التي كانت تُساعد أرباب الأسر في الحصول على عمل، وكان شديدو العوز يَحصُلون على مُساعَدة أسبوعية، وكانت صدقات الأعياد تأتي أيضًا من العروض المسرحية التي تقام تحت رعاية هذه الجمعية. وكانت ميزانية «أوزير داليم» تصلُ أحيانًا إلى ٢٠٠٠٠ ليرة، وفي عام ١٩٢٦م هبطَت ميزانيتها إلى ٧٠٠٠ ليرة نتيجة للصعوبات المالية. وفي ٢٤ يناير عام ١٩٣٠م في عصر الجمهورية التركية احتفلت جمعية «أوزير داليم» بالذكرى الخمسين لتأسيسها.
وفي عام ١٨٩٩م تم، بتبرُّع من البارون ألفونس روتشيلد، افتتاح مطعَم عامٍّ مجاني في إزمير، كان يستقبل ١٥٠ فقيرًا يوميًّا. ولكنه مثل غيره من المنظَّمات المُماثلة لم يكن يعمل بانتظام، وأغلق أبوابه فيما بعد. وكذلك كانت تعمل في المدينة جمعيات خيرية لمساعدة الأيتام، وفتحت مُستشفيات لعلاج الفقراء، وجمعيات ثقافية مختلفة، كان من أشهرها «جمعية الشباب اليهودية»، التي افُتتحت عام ١٨٨٤م من أجل نشر وسائل التعليم الحديثة، والتي سرعان ما أغلقت أيضًا بسبب نقص الموارد. وفي عام ١٨٩٠م كانت تعمل «جمعية أصدقاء التقدم اليهودي».
وقد أصبح العمل الخيري وإصدار الصحف مُمكنَين نتيجة لنهضة وازدهار نشاط الأعمال للجاليات اليهودية في هذه الفترة. كما ازدادت النواة التجارية اليهودية صلابة نتيجة لانتقال جيل جديد من اليهود المتعلِّمين، الذين درسوا في مدارس عصرية حديثة، بما فيها مدارس جمعية الاتحاد اليهودي العام وكذلك أفضل المدارس التركية والأوروبية، من سالونيك إلى إزمير.
في بداية القرن العشرين جاء تجار يهود من مانيا وميلاس واستقروا في إزمير برءوس أموال جديدة وأساليب جديدة للعمل، الأمر الذي ساعد على تطوير التجارة اليهودية. ومنذ عام ١٩١٢م ولعدة سنوات تالية أصبحت تجارة إزمير وضواحيها في أيدي اليهود. وكان الأتراك قد منعوا اليونانيين والأرمن من العمل بالتجارة على إثر أعمالهم المعادية للأتراك في أثناء حرب البلقان عام ١٩١٢م. وكما سبق أن ذكرنا فإنَّ العلاقات الطائفية بين اليهود واليونانيِّين كانت، على مدى عدَّة قرون، معقَّدة وكثيرًا ما شابها نزاعات على أرضية التحامل والأحكام المسبقة و«فرية الدم». وقام الأتراك أكثر من مرة بالحيلولة دون محاولات القيام بأعمال الشغب. أما اليهود فإنهم، حتى بشهادة الأتراك، قد ظلُّوا أكثر الطوائف الإثنية ولاءً للسلطات في الإمبراطورية. تمسك اليهود بمبدأ التلمود المعروف: قانون الدولة التي يعيش فيها اليهود هو قانونهم. وفي ذلك كثيرًا ما كانوا يَرجعون إلى كلمات النبي إرميا.
رغم المعاملة المقبولة نسبيًّا من جانب العرق الحاكم وهو الأتراك لليهود، فإنَّ وضعهم في الإمبراطورية لم يكن مُستقرًّا نتيجة للصراع مع الرعايا الأتراك من الأعراق المسيحية: السلاف واليونانيين والأرمن وفيما بعد مع المُسلمين العرب، وكانوا يَجدون أنفسهم رغمًا عنهم في مركز الصدامات العرقية. في عام ١٨٦٧م في أثناء انتفاضة اليونانيِّين في كريت ورد الأتراك عليها، تمَّ نهب دير يوناني، واشترى أحد اليهود المحليِّين أجراسًا مسروقة بهدف بيعها في إزمير، ومِن أجل تجنُّب الفضيحة التي لا بدَّ أن تَحدُث اشترى اليهود الأثرياء في المدينة هذه الأجراس وأعطوها للمتروبوليت اليوناني خريسانتيس في إزمير وعبَّر المتروبوليت في رسالة لكبير الحاخامات ياكيرتيرون عن شكره له. ولكن في تلك الأحوال التي كان اليونانيون يُحاولون فيها اجتذاب اليهود إلى صفهم في الصراع مع الأتراك كانت هذه المحاولات تذهب سُدى.
في أثناء الحرب العالمية الأولى والتدخل العسكري لدول الحلفاء؛ حيث كان اليونانيون يُحاربون في صفهم، قامت القوات اليونانية باحتلال إزمير. وحافظ من بقي من الجالية اليهودية في المدينة (غادرها عدد كبير) على ولائهم لتركيا وكانوا يشكُون لممثلي دول الحلفاء من اليونانيِّين. وكان اليونانيون يسعون لضم إزمير والمناطق المجاورة إلى اليونان، ومن أجل هذا كانوا يستعدُّون لإجراء استفتاء بين سكان المدينة، ولكن الجزء الأكبر من السكان اليهود أظهر رفضه لهذا الأمر.
في أثناء الحرب قام الملك اليوناني قسطنطين بزيارة للمدينة المحتلَّة؛ حيث التقى بمُمثلي مختلف الطوائف الإثنية الدينية. وطُلب من الجالية اليهودية تقديم خطاب إلى الملك للتعبير عن الرضا والشُّكر على الإدارة اليونانية للمدينة. ولكن الجالية رفضت القيام بذلك.
سبق أن تحدَّثنا في بداية هذا الفصل عن أن عدد السكان اليهود في إزمير كان يتأرجح بشكل كبير. وحدث مثل هذا الاضطراب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. عانى سكان إزمير من آثار الحرب والأوبئة والزلازل والحرائق، ودفعت الصعوبات الاقتصادية والنزاعات بين الطوائف الإثنية الناس إلى الهجرة أو الانتقال إلى مكانٍ آخر داخل البلاد.
في عام ١٨٩١م، وعلى إثر «فرية الدم»، اضطرَّت عدة أسر يهودية إلى مغادرة جزيرة كورفا والانتقال إلى إزمير. وفي عام ١٨٩٨م استقر اليهود، الذين فروا من المذابح في جنوب روسيا، في مختلف أنحاء تركيا، وسكن حوالي ٢٠٠ فرد منهم في إزمير.
وفي عام ١٨٩٨م، نتيجة لانتفاضة اليونانيين في كريت والحرب اليونانية التركية، غادَرَ كثير من الأسر اليهودية فيساليا وغيرها من المناطق ووجدوا ملجأً لهم في إزمير، وفي عام ١٩١٢م، في أثناء وبعد حرب البلقان، انضمَّت أسر يهودية من فراكيا الشرقية أيضًا إلى سكان إزمير. وكما سبق أن ذكرنا فقد غادَر جزء من سكان إزمير المدينة في أعوام الحرب العالمية الأولى. وفي سنوات حرب الاستقلال، التي تُسمَّى أحيانًا الثورة الكمالية، وخاصة بعد عام ١٩٢٢م، عندما قامت القوات اليونانية المنسحبة من الأناضول بتدمير ونهب المناطق السكنية وكثيرًا ما أشعلوا فيها النار، فر عدد من الأسر اليهودية إلى إزمير، ومن هناك هاجر كثير منهم، خاصة الشباب. وزاد معدَّل هجرة اليهود من بلدان الشرق منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر.
وكانوا يُسافرُون إلى مصر وأمريكا الشمالية والجنوبية وإلى البلدان الأوروبية وإلى الكونغو. وبالتدريج أخذ جدول الهجرة الصغير يتحوَّل إلى تيار مُتدفِّق. وكانت هجرة عامي ١٩٢٢م و١٩٢٣م مدفوعة إلى حد كبير أيضًا بالأزمة الثقيلة بعد الحرب، وخراب الجزء الأكبر من البلاد. ولكن يهود إزمير كانوا يحاولون، في أماكن استقرارهم الجديدة أيضًا، التماسك وحافظوا لفترة طويلة على سماتهم الثقافية الخاصة.
ومن أجل تجنُّب إعاقة أدائهم لطقوس قراءة التوراة في بيت الحاخام المذكور وفي غيره من البيوت فإننا نأمُر بألا يقوم أي ضابط، بهدف ابتزاز النقود، بأي عمل مُخالف للشريعة أو القوانين السارية، من إساءة استعمال السلطة أو القمع أو التدخل في طقوسهم الدينية ولا يقول لهم: «مارسوا طُقوسكم في مساكنكم، وعند قراءة التوراة أسدلوا الستائر على نوافذِكم ومصابيحكم»، ويجب ألا تكون المعابد والمدارس، الخاصة بالأمة المذكورة منذ أقدم العصور، محلًّا للخداع بحجة أوامر السلطات العليا أو عمليات التفتيش، وألا يتدخَّل أحد في عمليات إصلاحها وترميمها، وألا يعوق تجديدها، وألا تتم مصادرة ممتلكات المدارس والمعابد بحجة وجود ديون عليها أو أي حجج أخرى، وألا تستخدم الشريعة بهدف الاستيلاء على هذه الممتلكات، وإذا تم الاستيلاء على هذه الممتلكات بأيَّة حيلة يجب إعادتها (إلى مالكها السابق) بواسطة الشريعة.
وعندما يأتي الحاخام المذكور إلى إسطنبول، لشأن من الشئون، لا يستطيع أي شخص مهما كانت رتبته أن يتدخل في الأعمال التي يقوم بها الحاخام وممثلوه. ومن الضروري تخصيص مرافقين للممثلين وأولئك الأشخاص الذين يرسلهم الحاخام المذكور لجمع الضرائب الحكومية. وبالإضافة إلى هذا، إذا تطلَّب الأمر من هؤلاء الأشخاص تغيير ملابسهم وحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ضد المُجرمين على الطرق التي يجب السفر فيها، يجب على الحراسة ألا تتدخَّل أو تطلب هدايا أو غير ذلك من العطايا مما يتعارَض مع قوانين الشريعة المجيدة.
وطبقًا لشروط هذه البراءة الإمبراطورية فإنَّ الحاخامية المذكورة تُعتبر صاحبة هذه البراءة، ولا يُمكن لأحد بأي شكل ولا لأي سبب أن يخالفها شكلًا ومضمونًا. فلتكن معلومة جيدًا ولتزداد الثقة بهذا الخاتم المبجَّل.
(١٠ مايو ١٨٤٠م)