الفصل السادس
الطوائف اليهودية في إسطنبول
عندما استولى الأتراك على القسطنطينية عام ١٤٥٣م قضوا على
الإمبراطورية البيزنطية التي لم يكن قد بقيَ منها في ذلك الوقت إلا
القليل. وساعد في نجاح الأتراك الخلافات والحروب المتكرِّرة داخل
العالم المسيحي، وأنانية وتُنافس الحكام الأوروبيِّين، الذين رفضوا
مساعدة بيزنطة المُحتضَرة، ولكن سرعان ما كانوا مُضطرِّين للاتحاد من
أجل الدفاع عن أنفسهم ضد التوسع اللاحق للأتراك.
إن النكبات التاريخية عادةً ما تنتج عنها آثار مختلفة؛ فنجاح
البعض قد يتحوَّل إلى مصيبة بالنسبة لآخرين. لقد أدت حرب الاسترداد
(reconquista) إلى تعزيز
وتقوية قدرات إسبانيا الحربية. وترجع الكشوف الجغرافية العظيمة
التي قام بها الإسبان، إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو
زمن تغول محاكم التفتيش والسلطة الدينية. وفي هذا الوقت بالذات
تعرَّض آلاف اليهود والمسلمين للإبادة أو الطرد من إسبانيا
والبرتغال؛ لأنهم لم يقبلوا إجبارهم على اعتناق المسيحية
قسرًا.
صَاحَب سقوط القسطنطينية مصرع وهروب آلاف اليونانيين وفقدانهم
لدولتهم، ولكن بالنِّسبة لليهود الذين تعرضوا للملاحقة القاسية
والطرد من بلدان أوروبا كانت أبواب عاصمة الأتراك الجديدة إسطنبول
مفتوحة. كان اليهود في بيزنطة يتعرَّضون للاضطهاد واضطر كثيرون
لمغادرتها، أما في الإمبراطورية الإسلامية الناشئة فلم يكن هناك
تعصُّب ديني زائد على الحد، لعدة أسباب؛ فسلاطين العثمانيين، وهم
خلفاء سلاجقة الروم وورثة أرضهم وثقافتهم، أخذوا عنهم العديد من
أساليب وطرق الإدارة. وفي المراحل الأولى اتبعوا أيضًا الخبرة
الروحية لأسلافهم بازدواج العقيدة الإسلامية المسيحية وعشوائية
التقاليد القديمة لما قبل الإسلام مع وجود تعاليم متعددة مخالفة
للإسلام.
وفي الأوساط العليا لمجتمع آسيا الصغرى حتى القرن الرابع عشر
استمرَّت عقائد الترك القديمة التي لا تتفق مع الإسلام. ولا شك في
أن تثبيت سيادة المذهب السنِّي الحنفي، وهو ليس أكثر المذاهب
راديكالية في الإسلام، استمرَّ لفترة طويلة لا تقلُّ عن مائتي سنة،
وفي القرن السادس عشر فقط تمكَّن من تحقيق الانتصار النهائي في
الدولة العثمانية.
وهناك سبب آخر للتسامح الديني تجاه أصحاب العقائد الأخرى من
جانب السلاطين العثمانيين الأوائل؛ ألا وهو التنوع الإثنوديني
الكبير لسكان الإمبراطورية الجديدة. إن محمدًا الثاني الفاتح، ومن
بعده خلفاؤه، عندما قاموا بالسماح بحرية دخول العاصمة لليهود
الفارين من أوروبا، كان ذلك لأهداف عملية بحتة، وهي إنعاش
الاقتصاد في المناطق التي دمرتها الحرب. وبطبيعة الحال لم يسلم
اليهود المحليُّون من فظائع الحصار والنهب، حيث لم يكن الأتراك
المهاجمون يميزونهم عن جماهير سكان المدن التي استولوا عليها.
ولكن، وبعد الاستيلاء على القسطنطينية، سرعان ما قام السلطان
بتجديد المرسوم، الذي سمح فيه لكل السكان المحليين الفارين من
الحرب بالعودة إلى بيوتهم. كما أمرَ محمَّد الثاني أيضًا بنقل أتراك
وأرمن ويهود من المناطق الأخرى من البلاد إلى العاصمة الجديدة.
وتمَّ السماح لليهود المهاجرين بالسكن في إسطنبول وغيرها من مدن
الدولة العثمانية وبناء المَعابد والمدارس وممارسة الحرف
والتجارة.
كان اليهود المحليُّون الذين يعيشون على هذه الأرض منذ زمن بعيد
يُسمَّون رومانيوت، وكانوا يتكلمون اليونانية ويعتنقون الديانة
اليهودية الأرثوذوكسية، وخلال القرون الأولى للإمبراطورية
العثمانية كانوا يُشكِّلون الأغلبية في الطوائف اليهودية، وكان كبار
حاخامات إسطنبول الأوائل يُختارون من بينهم.
وكان في بيزنطة أيضًا طائفة القرَّائين، التي كانت تتمسَّك
بعزلتها. على أي حالٍ فإنَّ الطوائف الأخرى بدورها لم تكن تتعامَل
بنجاح دائمًا مع بعضها البعض، ولم يكن السفارديم مجتمعًا متماسكًا
بل كانوا مقسمين إلى مجموعات تسعى كل واحدة منها للمُحافظة على
نظامها الخاص بالطقوس الدينية وعلى عاداتها، وكانوا يُطالبون بأن
يكون لهم معبد مُستقلٌّ وحاخامية خاصة بهم. وكان في طائفتهم جاليات
منفصلة: القشتالية والأراجونية والبرتغالية. وكانت الأخيرة تَنقسم
إلى مجموعات أصغر: القرطبية والطليطلية والبرشلونية واللشبونية
وغيرها.
أما طائفة الأشكيناز فتكوَّنت بعد ذلك، وكانت تضم القادمين من
ألمانيا وغيرها من بلدان وسط وشرق أوروبا، الذين فروا من
الملاحقة. ولفترة ما كانت كل طائفة تستقل بالتصرف في الإيرادات
المالية من الضرائب للإنفاق على مُتطلبات العبادة والمدارس
والمستشفيات والمؤسسات الخيرية، ومن أجل الإنفاق على أعضاء
مَجالسها الدينية والموظفين. وكانت كلٌّ منها تقوم بجمع الضرائب
لصالح السلطات العثمانية، وكانت ضريبة الفرد (الجزية) وضريبة
الحاخام (
rav akcesi) من أجل الحق
في أن يكون لها كبير حاخامات في إسطنبول وكانت ٢٠٠ أو ١٠٠ أو ٢٠
قطعة فضية تبعًا لدرجات الثراء الثلاث لأفراد الطائفة. وبالإضافة
إلى الفقراء والعجزة كان يعفى من الضرائب عادة الحاخامات وأحيانًا
الأشخاص المُقربون من السلطان. وكان من بينهم، على سبيل المثال،
طبيب السلطان سليم الأول، يوسف جامون اليهودي الإسباني، وفيما بعد
ابنه وحفيده في بلاط سليمان الأول.
١
من الواضح أنه لضرورة تحسين أحوال اليهود المهاجرين والنازحين
في الأماكن الجديدة، أصدر محمد الثاني مرسومًا للطوائف اليهودية
لإعفائهم من بعض الضرائب (إعفاءً تامًّا) وجاء فيه: «يمنع من الآن
أن يُطلب من الطوائف اليهودية ضرائب قصا بليك (على بيع اللحوم (أ. ف.)) وصرافليك (على
تغيير العملة (أ. ف.)) ويافي (للإنفاق على
الحراسة (أ. ف.)) وكذلك يتمُّ إعفاؤهم من كل الضرائب
المعتادة.»
وفي الفرمان الصادر في ١٠ ذي الحجة عام ١٠٠١ه (١٧سبتمبر عام
١٥٩٣م) باسم السلطان الجديد مراد الثالث تأكد «مرسوم الإعفاء
الذي أنعم به على الطوائف اليهودية المرحوم المغفور له السلطان
محمد خان الثاني رحمة الله عليه.»
٢
كانت ضريبة قصا بليك مرتبطة بضرورة الإمداد المنظم باللحوم، منذ
تلك الأزمنة البعيدة وحتى بداية القرن العشرين. كانت قطعان
الماشية تأتي للعاصمة من الأجزاء الأوروبية والآسيوية
للإمبراطورية-روملي والأناضول، الأمر الذي كانت يتطلب جهدًا
كبيرًا ونفقات كثيرة، دون ضمان النجاح. ومع قدوم صقيع الشتاء كانت
الماشية تُنفِق في الطريق لعدم وجود طعام. ولم يكن يُغامر بالدخول في
مثل هذه التجارة سوى قليلين، لذلك ومن أجل تزويد سكان إسطنبول
باللحم كان على كل الطوائف غير المسلمة دفع ضريبة تُشكِّل موردًا
لتلك التجارة غير المأمونة. ويورد الفرمان بعد ذلك سبب إلزام
اليهود بدفع هذه الضريبة فيما سبق: «إنَّ اليهود لا يعملون أيام
السبت ولا أيام أعيادهم، ولا يمكنهم القيام بتوريد اللحم، ولهذا
فإنهم مُلزَمون بأن يدفعوا للخزانة مائة ألف قطعة فضية لاستهلاك
الأغنام والمبلغ نفسه لاستغلال المناجم.»
٣
خلا المرسوم من أسباب إعفاء اليهود من ضريبة صرافليك. وكان
السلاطين يقومون، في مراسيم منفصلة، بإعفاء بعض الأشخاص العاملين
في القصر من الضرائب. في الفرمان الصادر عام ١٤٥٢م قبل سقوط
القسطنطينية بقليل أعفى محمد الثاني طبيبه اليهودي يعقوب من
العشور، ومن الضرائب على الحدائق والكروم، وضرائب بناء الحصون، ومن
كل أشكال العمل الإجباري، وكذلك ضريبة الطوارئ
(avariz). على أي حال من
المعروف أنه في القرون الأولى للإمبراطورية العثمانية لم تكن
الضرائب المفروضة على غير المُسلمين باهظة. وكانت غنائم الحرب
والجزية، المأخوذة من سكان المناطق المفتوحة، تكفل للصفوة
العثمانية حياةً رغدة. أما فيما يتعلَّق بإسكان يهود إسطنبول فإنهم،
مثل غيرهم من المجموعات الإثنودينية، كانوا يعيشون متجمعين في
أحياء محدَّدة مُستقلة.
في عام ١٦٢٥م قال الرحالة التركي الشهير إيليا جلبي: «عندما غزا
الفاتح إسطنبول قام بإسكان ٥٠ أسرة (يهودية) في تيكفو سراي بالقرب
من شهود كويوسو (بئر الشهود (أ. ف.)) الذي غيروا اسمه فيما بعد
إلى تشيفوت كويوسو (بئر اليهود (أ. ف.)). وفي حي خاصكوي تم إسكان
القادمين من تسفات.» وتُوجد دلائل على أن اليهود في عهد هذا
السلطان كانوا محميِّين من كراهية وعدوان المسلمين والمسيحيين
أيضًا.
في القرن السادس عشر استقرَّ القرَّاءون في حي باختشي كابي (باب
الحديقة)، وغيَّر الأتراك اسمه إلى تشيفوت كابيسي (باب اليهود).
وفي بداية القرن السابع عشر قرَّرت السلطات أن تقيم في هذا المكان
مسجد يني والدة، وأُخرج القراءون من هناك، وسُمح لهم، بدلًا من
ذلك، بالسكن في ضواحي هاص كوي. وفي منتصف هذا القرن خرجت طائفة
الروم من حي باليك بازار بسبب الحرائق. وفي نهاية القرن كان
اليهود يعيشون في إسطنبول في الأحياء التالية: بالات، أيازما
كابيسي، أيوان سراي، جيبالي، تيكفور سراي. وعلى شواطئ القرن
الذهبي كانت أحياؤهم تقع في خاصكوي، وقاسم باشا، وجلطة، ومومخان.
وعلى البوسفور استقروا في بيشيكتاش، وأورتاكيو، وكوزنودجوك،
وأوسكيودار. وتُوجد دلائل على أنهم كانوا يُعيشون في ١٧ حيًّا تحيط
بخليج القرن الذهبي.
ويَذكر إيليا جلبي في كتابه «الحدائق الرائعة» لبعض يهود خاصكوي،
ومنهم على وجه الخصوص موردخاي ونسيم وكمال، وهم ثلاثة أبناء
للمدعو كيوبي، وكانوا يَزرعون أشجارًا ممتازة لليمون والخوخ
والرمان، وكذلك اليهودي كيبلي الذي كان يَصنع مشروبات روحية
رائعة.
٤
من الصعب أن نُحدِّد على وجه الدقة تعداد الجماعات الإثنودينية في
الدولة العثمانية حتى القرن التاسع عشر، عندما بدأت طرق تعداد
السكان تَقترِب من الوسائل الأوروبية. وكان الرحالة والعملاء الذين
زاروا إسطنبول يوردون أرقامًا مختلفة لأعداد الطوائف اليهودية،
رغم أنها تتحدَّث عن نفس الوقت؛ حيث إنهم كانوا يعتمدون على معلومات
غالبًا ما تكون بعيدة عن مناهج الإحصاء. ورغم ذلك فإن بعض
المعلومات، وخاصة من السجلات العثمانية، تستحق الاهتمام.
طبقًا للإحصاء العثماني لسكان إسطنبول وضاحية جلطة، عام ١٤٧٨م،
بلغ عدد بيوت المسلمين ٩٤٨٦، وغير المسلمين ٦٥٣٨ بيتًا (من بينها
١٦٤٧ بيتًا يهوديًّا أي حوالي ٨٠٠٠ شخص) وفي عام ١٤٨٩م زاد عدد
بيوت غير المُسلمين إلى ١٠٨٦٥ بما في ذلك ٢٤٩١ بيتًا يهوديًّا. وفي
الفترة من ١٤٦٦م حتى ١٤٦٩م قضى وباء الطاعون على عدد كبير من سكان
المدينة. وعند نهاية القرن الخامس عشر نما عدد سكان إسطنبول مرة
أخرى. وفي الثلث الأول من القرن السادس عشر ١٥٢٠–١٥٣٠م بلغ عدد
بيوت المسلمين ٤٦٦٣٥ والمسيحيين ٢٥٢٩٢ واليهود ٨٠٧٠.
٥
لم يتجاوَز عدد المعابد اليهودية ثلاثة معابد في أفضل الأحوال في
إسطنبول في عهد اليونانيين. وفي إسطنبول العثمانية نمت الأحياء
اليهودية، وظهرت أحياء جديدة لليهود القادمين من أدرنة
(أدرينابول) العاصمة السابقة للأتراك العثمانيين. ويقول إيليا
جلبي إنه في بداية القرن السابع عشر كان في الأحياء اليهودية ٧
معابد و١٢ حاخامًا.
٦
إنَّ نظام إدارة الطوائف من العصر البيزنطي حتى زمن العثمانيين لم
يتغيَّر؛ حيث إن قواعده الأخلاقية والاجتماعية والقانونية كانت
تعتمد على أساس ديني. كان في المعبد مجلس الوجهاء (خاصخاخ). وكان
يقوم بتشكيل اللجان التي تقوم بأعمال محددة مثل حل المشاكل
القانونية والاقتصادية، وكان عدد أعضاء المجلس يَتراوح بين ٧ و٩
أشخاص، ولكن في بعض الأحيان كان يَصل إلى ٥ بل وحتى ٣ أشخاص. وكان
مجلس الجالية يقوم بتعيين مُفوضين (مأمون) يقومون بتحديد الضرائب
وغيرها من المسائل الاقتصادية، كما كانوا يراجعون مدى صحة أحكام
الطرد من الطائفة.
تأسست الحاخامية الرئيسية في إسطنبول بعد تأسيس البطريركية
اليونانية والبطريركية الأرمينية. وفي بادئ الأمر كانت سلطة كبير
حاخامات إسطنبول (حاخام باشا) تَقتصِر على حدود المدينة. وفي حالة
عدم وجود كبير حاخامات، فإن قيادة الجاليات كان يقوم بها المجلس
الديني–بيت دين.
جاء في حوليات إيليا كابسالي أنَّ أول كبير حاخامات لإسطنبول هو
موسى كابسالي (عم كاتب الحوليات المذكور). كان من طائفة
الرومانيوت وكان شخصية ذات تأثير ونجح في التوسط لدى السلطان محمد
الثاني من أجل عدد من تجار والاش الذين نهبهم أمير والاش فاليد
تسبيش (نموذج دراكولا)، كما قدم الحاخام أيضًا شكوى للسلطان من
إنكشاري كان يرهب الأطفال اليهود، الأمر الذي جعله مكروهًا من
الإنكشارية وهي مؤسسة قوية ومُتميزة.
بعد وفاة السلطان محمد الثاني بعدة أيام وصل إلى المدينة وريثه
بايزيد، الذي كان يشغل في الشهور الأخيرة من حياة والده منصب والي
مانيسا. وكان كابسالي يتمتَّع بثِقة السلطان الجديد أيضًا. وتوجد
دلائل تشير إلى أنه خلال فترة حكمه (١٤٨١–١٥١٢م)، حاول
الإنكشاريون الانتقام من كبير الحاخامات، فاقتحمُوا منزل كابسالي
ليلًا عازمين على قتله.
لم يتمكَّن القتلة من تحديد المكان المطلوب في الفناء الواسع
المليء بالمباني، وكان في المنزل خادمة صرخت باللغة التركية:
«ماذا تريدون؟ هنا يعيش مسلمون فقط»، وقرر الإنكشاريون أنهم
أخطئوا، فخرجوا، الأمر الذي أنقذ حياة الحاخام.
٧
كان لدى موسى كابسالي مشاكل أخرى أيضًا. كان أخو السلطان
بايزيد، وهو جم، الذي كان قد فر إلى مصر، يحاول أن ينازعه على
الحق في العرش. وتفاقمت الخلافات بين الجانبين. لم يكن العثمانيون
قد غزوا فلسطين بعدُ، ولم تَدخل ضمن إمبراطوريتهم، بل كانت تحت حكم
حكام مصر. واستمر وضع اليهود هناك لسنوات طويلة بائسًا، وانخفض
عدد الطائفة بشكل ملحوظ. وقام يهود فلسطين بإرسال مبعوث (شالياخ)،
إلى الطوائف الأوفر حظًّا من يهود البلدان الأخرى، يطلبون مساعدات
للفقراء في القدس. ووصل المبعوث إلى إسطنبول وتوجه إلى كبير
الحاخامات، الذي اضطرَّ إلى رفض طلبه. ومن الواضح أنه بعد أن درس
وقيَّم العلاقات المتأزمة بين السلطان وحكام مصر، لم يجرؤ على أن
يقوم، بدون علم بايزيد الثاني، بعمل أي شيء لأبناء ديانته؛ لأنهم
من الناحية الرسمية رعايا دولة معادية.
وجد المبعوث الغاضب لغةً مشتركة مع أعداء كابسالي مثل: إيلي
بارناس، وهارون بن أباي، وإسحاق بن صمويل التيرنو، والحاخام أشير
بن إسحاق حاكوهين الأشكينازي، وكانوا يزعمون أنهم وجدوا أخطاءً في
أربعة مراسيم دينية أصدَرَها موسى كابسالي، وأبلغوا بها، عن طريق
المبعوث، حاخام بادو
٨ الشهير، يوسف كولون الذي أرسل إلى طوائف إسطنبول
خطابات تتضمن إهانات وتهديدات لكبير الحاخامات، الأمر الذي أثار
انطباعًا سيئًا للغاية في أوساط الحاخامات في عدد من بلدان
أوروبا. في نهاية الأمر يبدو أن يوسف كولون أدرك وضاعة تصرفه،
وقبل وفاته بزمن قليل أرسل ابنه إلى إسطنبول باعتذار إلى كبير
الحاخامات، الذي استقبله استقبالًا كريمًا.
٩
بعد وفاة موسى كابسالي عام ١٥٧١م (هذا التاريخ خاطئ، الصواب هو
١٤٩٥م، (المترجم)) تولى منصب كبير الحاخامات أحد أبناء القادمين من
اليونان وهو إيليا مزراحي (ولد عام ١٤٥٥م ومات بين عامي ١٥٢٥
و١٥٢٧م). وكان تلميذًا للحاخام يهودا مينتسي من بادو، واشتهر
بمعرفته العميقة بالتلمود. ومع تدينه المخلص الصادق فإنه لم يكن
يعتبر العلم شيئًا مُعاديًا، كما كان بعيدًا كل البعد عن التعصب.
كان إيليا مزراحي يقوم بتدريس الرياضيات والفلك وألف كتبًا فيهما
بلغ من انتشارها أنها تُرجمت إلى اللاتينية.
كان كبير الحاخامات في شبابه مُجادلًا قويًّا، وكان يُناقش
القرَّائين الأتراك علنًا، ولكنه في الشيخوخة أصبح أكثر تسامحًا
وصبرًا، وكان يُدافع عنهم ضد هجمات المُتعصِّبين، الذين كان كثيرون
منهم ينتمون إلى طائفة أبوليا. وكان هؤلاء الناس يَعتزمون تحطيم
أواصر علاقات حسن الجوار الطيبة بين التلموديِّين والقرَّائين. وجمع
التلموديُّون أفراد طائفتهم ليقوموا، وصحائف التوراة في أيديهم،
بلَعنِ كل مَن سيَجرؤ في المُستقبل على تعليم القرَّائين وأبنائهم أي
شيء. ولم يَقتصِر الأمر على منع تدريس التوراة للقرَّائين، بل امتد
إلى المواد العلمية الدنيوية مثل: الرياضيات والعلوم والمنطق
والموسيقى، بل وحتى مجرَّد تعليم القراءة والكتابة. وحرَّم التلموديون
العمل لدى القرَّائين. وهكذا ظهر حائط أصم بين من كانوا يؤمنون
بالتوراة فقط، وأولئك الذين كانوا يعترفون بالتلمود أيضًا.
اعترض على هذا التعصب الواضح عدد صغير جدًّا من يهود إسطنبول،
وكانوا في الغالب هم المدرسين، الذين لديهم تلاميذ في الطوائف
المختلفة والذين فقدوا جزءًا كبيرًا من دخلهم. واجتمع التلموديون
الأكثر تسامحًا في المعبد وحاولوا إلغاء اللعنة غير العادلة على
حد رأيهم. ولكن المتعصِّبين كانوا أكثر عددًا ونشاطًا، فأحضروا إلى
المعبد جماهير أنصارهم، مسلَّحين بالعصيِّ وأصرُّوا على إعادة طقس
اللعنة.
شخص واحد فقط قرَّر الوقوف أمام الكراهية العمياء للجماهير، ألا
وهو كبير الحاخامات، وأخذ في إقناع الغاضبين، وإثبات أن من يكره
القرَّائين ويبعدهم، يتصرَّف بشكل ظالم ويعارض التلمود. وأكد
مزراحي، معتمدًا على الآراء الموثوق فيها للجاءونيَّين
١٠⋆
قاي وموسى بن ميمون، على أن التلموديِّين يُمكنهم، بل ويجب عليهم، أن
يُعاملوا القرَّائين كيهود. كما أشار إلى أن عدم التسامح سيُؤدي إلى
انهيار التعليم اليهودي؛ إذ إنه حتى ذلك الحين كان التنافس
والرغبة في التفوق على قرائي إسطنبول يساعد على نجاح التلاميذ
التلموديِّين، هذا كما لاحظ إيليا مزراحي أن يهود إسبانيا والبرتغال
القادمين إلى إسطنبول لا يعتبرون ولن يعتبروا أنفسهم في المستقبل
مُلزَمين بهذه اللعنة. وأغلب الظن أنهم لن يعيروها اهتمامًا ولن
يرفضوا التعامل مع السكان القدامى لهذه المدينة؛ أي
القرَّائين.
في هذه الفترة المبكِّرة للإمبراطورية العثمانية كان ليهود
إسطنبول ممثلهم في البلاط ويُسمَّى على الطريقة التركية
كخيا
١١⋆
ويملك حق الاتصال بكبار الأعيان والوجهاء وبالسلطان نفسه. وفي
أثناء حكم السلطان سليمان القانوني كان يقوم بهذه الوظيفة المدعو
شالتيل، الذي تصفُه المصادر اليهودية بأنه كان شخصًا بارعًا
وناجحًا للغاية، كما كان يجيد اللغة التركية. وكانت حالات
الاعتداء والعنف من جانب المسلمين والمسيحيِّين تجاه اليهود كثيرة.
كما كان هناك تعسف من جانب السلطات المحلية أحيانًا. وكان الكخيا شالتيل يدافع عن أبناء
ديانتِه وكان يُنهي الأمور لصالحهم في البلاط
مقابل دفع نقود. وفي عام ١٥١٩م تم عزله من منصبه بناءً على طلب
الطوائف، التي كان يُمثلها في البلاط. ويبدو أن شالتيل عطَّل مصالح
أشخاص ذوي نفوذ في الطائفة، ولكن مع ابتعاد وسيط بارع له اتصالات
مع السلطة الحاكمة ومع السلطان الذي كان يَحظى بعطفه، أدرك كثير من
اليهود كم كان من الضروري وجود مثل هذا الشخص في البلاط.
في مايو ١٥٢٠م وبقرار من الحاخامات ومُمثلي مجالس الطوائف عاد
شالتيل إلى مكانه القديم، مع إلزامه بتنفيذ الشروط التالية: عدم
إجراء أي مباحثات أو أعمال مع السلطان والوزراء دون مُوافَقة
الطوائف، عدم إساءة استعمال وضعه ونفوذه بهدف الحصول على مكاسب
شخصية والإضرار بأبناء ديانته، عدم إلحاق أبنائه بالعمل معه في
البلاط. ولكن لم يَنتِه النزاع عند هذا الحد؛ فقد أثار قرار إعادة
شالتيل إلى وظيفتِه السابقة غضب جزء من الجالية، يبدو أنهم هم
الذين سعوا إلى إبعاده. وكما تُشير المصادر اليهودية فإن: «بعض
المتعصِّبين الأشرار الذين لم يتعلموا شيئًا كريمًا مهذبًا، كانوا
يرغبون في أن تعتبرهم الجماهير الجاهلة، مقدسين، هذه الثعالب التي
تفسد كروم الرب، كانت مستعدة فقط لزرع بذور الخلاف.» وكانوا
يعترضون على إلغاء قرار إبعاد شالتيل. ورغم ذلك فإن معظم
الحاخامات قد أعربوا عن تأييدهم له. وكان من بينهم كبير حاخامات
إسطنبول إيليا مزراحي، ويعقوب تام بن يحيى، وأبراهام بن يايسن،
ويهودا بن بولات وغيرهم من مُمثلي الحاخامية الإسبان وكذلك
الألمان.
١٢
كما سبق أن ذكرنا فإنَّ الأقليات الإثنودينية في مدن العصور
الوسطى سواء في الغرب أو الشرق، كانت تعيش في أحياء منعزلة،
تتوسَّطها المباني الدينية: مساجد، كنائس، معابد، على حسب ديانة
السكان. وأحيانًا كانت الأحياء تحيط بها أسوار تفصل بينها. وفي
هذا الزمن كان القليل من الناس من يستطيع أن يعيش وحده خارج الحي
وخارج الطائفة، كانت الطائفة هي مجال الحياة والسند والحماية. وفي
هذه الأزمنة كانت الاتصالات بين أفراد الطوائف المختلفة في حدها
الأدنى.
كان سكان المدن العثمانية في العصور الوسطى يَختلفُون في مظهرهم
الخارجي: من حيث الملابس وأغطية الرأس والأحذية وأحيانًا كانت
الطوائف نفسها تُصرُّ على مثل هذه الاختلافات وفي أحيان أخرى كانت
السلطات هي التي تَفرضها. وجاء في بعض المصادر أنه بعد عام ١٦٠٠م
تمَّ فرض نمط ملابس على اليهود وإجبارهم عليه. وكان بعضهم قبل ذلك
يضع عمامة ملفوفة بشاش أبيض مشابه لأغطية الرأس التي تميز رجال
الدين المسلمين. وعن هذا يقول أحد الكتاب الأوروبيين، بإيحاءات
مميزة: «كان اليهود القادمون من تركيا إلى إيطاليا يرتدون العمائم
البيضاء، التي كان ارتداؤها مُقتصرًا على الأتراك، أما هم فكان يجب
عليهم ارتداء أغطية رأس صفراء.» وكما يُؤكِّد المؤلف بعد ذلك فإن
«هذا كان مكرًا منهم؛ إذ إنهم بهذا الشكل يُمكن أن يتمتَّعوا بالسُّمعة
الطيبة للأتراك، الذين كانوا يُستقبَلون في الغرب أفضل من اليهود.
واعتبارًا من عام ١٥٦٦م فرض على يهود ميلانو ارتداء قبعات صفراء
ولم يكن هذا أول تحذير لهم.»
١٣ مقطع بليغ! لكنَّ الكاتب ربما اختلط عليه الأمر، ولكن
ليس من المُستبعَد أنه لم يكن يقول الحقيقة كاملة؛ إذ إن السمعة
«الطيبة» للأتراك، وبالطبع مُعاملتهم أفضل بكثير من اليهود، يمكن
تفسيرها لا بميزاتهم السحرية، بل بالخوف الذي كانت تبثه في قلوب
الأوروبيِّين القوة العسكرية للأتراك وغزواتهم. إن القوة والقدرة
على بث الرعب ما زالت حتى الآن تُشكِّل أساسًا واقعيًّا سواء للسمعة
«الطيبة» أو حقوق بعض البلدان والشعوب.
كان اليهود في الإمبراطورية العثمانية يُجْبَرون على ارتداء
طاقية من القماش الأحمر، وبعد عام ١٠٠٨ هجرية (١٦٠٠م) فرضت
السلطات عليهم ارتداء طاقية من القماش الأسود.
كانت مِهَن اليهود العثمانيين متنوِّعة للغاية. ويقول إيليا جلبي
إنهم كانوا يَعملون في دباغة الجلود (صناعة الرق والأحذية الجلدية)
وصناعة المشروبات الكحولية وخصوصًا الراقي (نوع من الفودكا)
ويعملون في تجارة الحرير وغيره من الأقمشة. وكان من بينهم
الصيادلة وصناع الأسلحة، والجزَّارون وأصحاب محلات المشروبات ولكن
كان معظم الأخيرين من اليونانيِّين. وشاهد الرحالة التركي يهودًا
سحرة ومشعوذين وراقصين وموسيقيين جوالين، وكانوا يعملون بصفة شبه
رسمية في دار سكِّ العملة، وعملوا في الالتزام بالضرائب، وكثيرًا ما
كانوا يمارسون مُختلِف أنواع الوساطة بين الأتراك والأوروبيِّين. وكان
الأوروبيون الذين زاروا البلاد يعتبرون اليهود مُترجمين موهوبين،
لا يُمكن بدونهم إجراء مفاوضات: «إنَّ أولئك الذين جاءوا من إسبانيا
وألمانيا والمجر وبوهيميا وغيرها من البلدان، كانوا يُعلِّمون لغات
البلاد التي قدموا منها لأبنائهم. بينما كان الأبناء يستوعبون
أيضًا لغات الأماكن الجديدة التي يعيشون فيها: اليونانية والتركية
والعربية والأرمينية والإيطالية والسلافية. وكثيرًا ما كان يهود
تركيا يتحدَّثون بأربع وخمس لغات، بل وكان منهم من يلم بعشر أو
اثنتي عشرة لغة. وكانوا (أي يهود المارانو
١٤⋆
الذين جاءوا إلى تركيا (إ.ف)) يُعلِّمون الأتراك أساليب إدارة
التجارة والطرق الأوروبية للإنتاج الميكانيكي.»
١٥
كان اليهود يُكلَّفون بمهام دبلوماسية لا تخلو من الخطر؛ ففي
عام ١٤٧٧م أوفد محمد الثاني إلى البندقية مبعوثًا يهوديًّا لعقد
اتفاقية سلام مع هذه الجمهورية، مُطالبًا بالتنازل عن مدينة
ليبانتو
١٦⋆
كشرط أساسي لعقد الاتفاقية. وقام المبعوث، واسمه غير معروف، بأخذ
خطاب من حاكم كريت التابع للبندقية، وتوجه إلى البندقية على متن
سفينة إيطالية. وسرعان ما استولى القراصنة على السفينة. أما
المبعوث الذي أصيب بجراح في المعركة فقد قطع القراصنة إصبعه
ليستولوا على خاتمه الثمين، ونتيجة لنزيف الدم تُوفي بالقرب من
كابوديستريا.
١٧⋆، ١٨
في عهد السلطان محمد الرابع (١٦٤٨–١٦٨٧م)، كان الصدر الأعظم
محمد باشاكيو بريوليو، وهو من أسرة تولى كثيرون منها منصب الصدر
الأعظم وأداروا البلاد خلال القرن السابع عشر الميلادي، يستخدم
دبلوماسيًّا يهوديًّا. وكان على الصدر الأعظم أن يرد على اقتراح
ملك السويد كارل أغسطس الثاني عشر، بعقد اتحاد ضد روسيا. وكلف
محمد باشا، موسى بن يهودا بيبري بمهمة الرد وأرسله إلى ستوكهولم.
وكان الصدر الأعظم مُوافقًا على عقد الاتحاد المقترح بشرط أن تقطع
السويد كل علاقاتها مع أمير ترانسفاليا ديورد راكوتسي الثاني،
الذي قام بثورة ضد السلطان عام ١٦٤٨م. ولكن السفير تأخَّر كثيرًا في
السويد وتُوفي في أمستردام عام ١٦٧٤م، وبعد وفاته استكمل ابنه
يهودا بيبري هذه المباحَثات الصعبة في السويد.
١٩
شارك اليهود في المفاوضات الدبلوماسية في المراحل الأخيرة لحرب
١٦٩٩م. وكان اتحاد الدول الكاثوليكية (الحلف المقدس)، الذي يضم
النمسا وبولندا والبندقية، قد تكوَّن عام ١٦٨٤م بمشاركة فعالة من
جانب إدارة البابوية الكاثوليكية في روما، من أجل مواجهة أكثر
فاعلية ضد الأتراك، الذين كانت هذه الدول تُحاربهم منذ عام ١٦٨٣م.
وفي عام ١٦٨٦م انضمَّت روسيا إلى الحلف المقدَّس، وتمكَّن هذا التحالف
المكون من الدول الأربع من إنزال الهزيمة بالأتراك، وتم إعداد
اتفاقيات السلام ١٦٩٨-١٦٩٩م في مؤتَمر كارلوفيتس
(Karlowitz Congres)، ومثَّل
الجانب التركي الطبيب إسرائيل كونيجليانو (يُسمُّونه أحيانًا
كونيانو) وكان يعمل دبلوماسيًّا في نفس الوقت. وتمَّ إقرار اتفاقيات
كارلوفيتس في عام ١٧٠٠م بمُعاهدة القسطنطينية السِّلمية.
كذلك كان البرتغالي اليهودي دانييل فونسكا، طبيب السلطان أحمد
الثالث، يقوم بمهام دبلوماسية. في عام ١٧٠٩م تمكنت قوات بطرس
الأول من تحطيم جيش ملك السويد كارل الثاني عشر. وفر الملك ولجأ
إلى مدينة بندر
٢٠⋆
التي كانت آنذاك تحت حكم السلطان، واقترح كارل الثاني عشر على
أحمد الثالث عمل اتحاد للهجوم على روسيا. وشارك دانييل فونسكا في
هذه المباحَثات من الجانب التركي.
كان كثير من الكتاب الأوروبيين، المعادين لليهود، يصمونهم
بالدهاء وسعة الحيلة والمهارة. وكان تسنكايزين يعتبر أن هذه
الصفات بالذات هي التي كانت تُساعد اليهود في الوصول إلى مكانة
متميزة لدى السلطان وحاشيته. وكان يُؤكِّد أن اليهود تمكنوا في
البداية من دخول القصر باعتبارهم موسيقيين جوالين وممثلين
كوميديِّين من أيام السلطان سليم الثاني المعروف بتهتُّكه وسكره، وهو
ابن السلطان سليمان القانوني والأوكرانية روكسولانا.
٢١⋆
وتحدَّث ستيفان جيرلاخ، الذي كان موجودًا في العاصمة العثمانية في
مُنتصَف القرن السادس عشر، عن أوركسترا يهودي من خمسة موسيقيين
يعزفون على الكمان والعود والقانون والطبول والقوبزا
٢٢⋆
إلا أنه من الواضح أن السلطان كان معجبًا بها؛ لأنَّ الموسيقيين
كثيرًا ما كانوا يُدعون إلى القصر.
٢٣
كان الطبُّ أحد الأعمال التقليدية في الأوساط اليهودية. وكثيرًا
ما كان الأطباء اليهود يعملون في بلاط الحكام الأوروبيين
والشرقيين، وخدم في البلاط العثماني، بالإضافة إلى عائلة جامون
التي سبق ذكرها، كثير غيرهم من الأطباء اليهود أيضًا.
كذلك كان اليهود يقومون بدور بارز في التجارة، والعمليات
المالية، والالتزام بتحصيل الضرائب، وكانت طاقتهم وقدرتهم على
المخاطرة تعطيهم إمكانية العمل بنجاح في مختلف المجالات، والتغلب
على الظروف السيئة والعقبات التي تُوضَع أمامهم باستمرار. وكانت هذه
الصفات هي الوسيلة الوحيدة للبقاء لأولئك الذين لم يموتوا في
الاضطهاد والمذابح والإهانات اليومية.
كانت أول مطبعة تأسَّست في إسطنبول عام ١٤٩٤م، هي مطبعة
يهودية،
٢٤ وقد أسَّسها نازحون من شبه الجزيرة الأيبيرية.
وللمقارنة فإن أول مطبعة أرمينية افتتحت عام ١٥٦٧م، أما اليونانية
ففي عام ١٦٢٤م. أما بالنِّسبة لأول مطبعة تركية تستخدم الحروف
العربية لطباعة الكتب، فقد تأسست عام ١٧٢٩م على يد إبراهيم
موتيفريك وهو مجري اعتنق الإسلام.
على مدى أربعة قرون ونصف القرن كانت تَصدُر في إسطنبول مجموعات
وثائق حاخامية تتضمَّن معلومات عن الحياة الاجتماعية والثقافية
والسياسية والاقتصادية للطوائف اليهودية. وقد دُمر الكثير من هذه
المجموعات بسبب الحرائق، كثيرة الحدوث في المدينة، وبالإضافة إلى
الأسباب الطبيعية كانت هناك الحرائق المتعمدة التي كان
الإنكشاريون يُضرمونها بهدف النهب.
في القرن السادس عشر جاءت موجة جديدة كبيرة من الفارين من
البرتغال وإيطاليا وجنوب فرنسا لتنضمَّ إلى الطوائف اليهودية في
البلقان وإسطنبول. وبالإضافة إلى الطباعة جلب السفارديم معهم
تكنولوجيا جديدة لسباكة المعادن وصناعة النسيج. وبسرعة تمكن
القادمون الجدد، بشهادة المؤرخين العثمانيين والرحالة الأوروبيين،
من الوصول إلى مكانة متميزة في المدينة، مع أن كُتَّاب الوثائق
التاريخية لم يظهروا أدنى قدر من التعاطف مع اليهود. وكتب الفرنسي
فرانسوا ميشيل «إنهم (أي اليهود (إ.ف)) على قدر من المهارة وإتقان
العمل جعَلهم ضروريِّين للجميع. ولن تجد أسرة تركية معروفة واحدة،
ولا تاجرًا أجنبيًّا واحدًا، لا يعمل لديه يهودي؛ فقد كان
ضروريًّا في مختلف الأعمال، سواء تقدير ثمن البضائع التي كان يعرف
نوعيتها، أو العمل كمُترجم أو مستشار في المواقف الصعبة. كان
اليهود على معرفة تامة بكل ما يَحدث في المدينة، أين يمكن العثور
على أي شيء وبأي كمية وبأي نوعية، وما إذا كانت هذه البضاعة
معروضة للبيع أو للمُقايضة. وبدون مثل هذا النوع من الخدمات لا
توجد تجارة.»
٢٥⋆
وبعد ذلك يشير الفرنسي إلى أن اليونانيين والأرمن، على الأقل حتى
القرن السابع عشر، كان من الصعب عليهم منافستهم،
٢٦ وكان الدبلوماسيون والتجار من الدول المسيحية يحاولون
بالرشوة أن يستميلوا اليهود الضروريين لهم إلى جانبهم.
ولكن في النصف الثاني من القرن السابع عشر واجه اليهود منافسة
في التجارة والأعمال من جانب يونان الفنار، وهم سلالة الأسر
البيزنطية النَّبيلة الثرية، الذين استولوا تدريجيًّا على مفاتيح
العمليات المالية والتزام تحصيل الضرائب والتجارة.
لمَّا كان السلاطين الذين حكموا في القرنين الخامس عشر والسادس
عشر أقوياء وذوي شخصيات مستقلة فقد تميزوا بتسامح ديني نسبيًّا
تجاه الأقليات ذات العقائد المختلفة، بما في ذلك اليهود، رغم أن
البلاط في ذلك الوقت لم يكن يخلو من المكائد والكراهية والعداوة.
ومن المَشاهِد ذات الدلالة على ذلك أن السلطان سليم الأول أثناء
حملاته لغزو مصر وغيرها من بلدان الشرق الأوسط كان بحاجة إلى
الكثير من المال، فاقترض مبلغًا كبيرًا من أحد اليهود، وسرعان ما
تُوفِّي هذا اليهودي دون أن يسترد ماله. وحاول الدفتردار (الخازن)،
في طلب مكتوب (مذكرة) إلى السلطان، أن يقنعه بعدم إعادة المال إلى
ورثة الدائن اليهودي المتوفَّى. وعندما قرأ السلطان الرسالة كتب
عليها العبارة التالية:
Merhuma rahmet, yetimlerine afiyet,
maline bereket, gammaza Lanet.
أي: «رحمة الله على المُتوفَّى، والصحة والعافية لليتامى، والبركة
في أملاكهم، واللعنة على الواشي.» عندئذ أو بعدها بقليل، على قول
إيليا جلبي، أصبح دفتردار السلطان سليم الأول يهوديًّا اعتنق
الإسلام وأصبح اسمه عبد السلام.
٢٧
ومن المعروف أنَّ السلطان سليمان الأول القانوني تمكن من حماية
رعاياه اليهود من ملاحقة البابا بول الرابع (الكاردينال كارافا
سابقًا)، وهو مُتعصِّب قاسٍ حاول القضاء على البروتستانتية وقتل على
المحارق اليهود الأوروبيِّين بما في ذلك يهود المارانو.
كانت الطوائف اليهودية المُفكَّكة في إسطنبول تتضامن بدرجة ما
لمواجهة كراهية اليونانيين وغيرهم من المسيحيِّين لهم.
وكان ما يُغضِب اليونانيِّين هو أن اليهود حصلوا على الحق في الحضور
معهم في المراسم الرسمية وكانوا يَشكُّون للسلطات العثمانية مؤكدين
أن مرتبة رجال الدين اليونانيين أعلى من اليهود؛ لأنَّ بطريركيتهم
تأسست قبل الحاخامية الرئيسية. وردًّا على هذا قدم اليهود حججهم؛
ففي عهد السلطان مراد الرابع (١٦٢٣–١٦٤٠م)، عندما كانت تَردُ إلى
الإدارة السلطانية شكاوى كثيرة من اليونانيِّين، أشار اليهود إلى
التفوُّق العددي لطوائفهم بالنِّسبة للمِلَل غير المسلمة.
ويُؤكِّد هذا معلومات إيليا جلبي، الذي كان موجودًا في إسطنبول في
الربع الأول من القرن السابع عشر، فحسب شهادته كان في إسطنبول
آنذاك ٦٥٧ منزلًا يهوديًّا، و٣٠٤ منازل يونانية، و٢٧ منزلًا
أرمنيًّا، و١٧منزلًا للأوروبيين.
٢٨
في سنوات حكم مراد الرابع حدثت تجاوزات أثارها المُتعصِّبون بسبب
«فرية الدم»، وهي الافتراءات التي كثيرًا ما استُخدمت كمبرر
للمذابح. وشاب عهد هذا السلطان أيضًا الحرائق، التي تسببت في خراب
جزء كبير من أحياء المدينة، بما في ذلك الأحياء اليهودية. وكما
سبق القول فإن الرومانيوت كانوا يعيشون مُنفصلين عن السفارديم.
ولكن الحرائق التي ألحقت الكوارث بكل سكان العاصمة، أرغمت بعض
عائلات السفارديم على البحث عن ملجأ في أحياء الرومانيوت والذهاب
إلى معبدهم. كما أن الرومانيوت، الذين عانوا من الحريق، اضطروا
بدورهم للذهاب إلى معبد السفارديم الذي نجا من الحريق. وبهذا
الشكل، نتيجة للظروف القهرية، جرى، ولو مؤقتًا، تخطِّي حاجز الجفاء
الذي ظلَّ لزمن طويل يقسم الطوائف اليهودية.
كان الجانب العمَلي للحياة الدينية لليهود يشمل نشاط الجمعيات
الخيرية، وكانت تُنفق على المستشفيات والمدارس وملاجئ الأيتام
والأشخاص المُحتاجين إلى مساعدة. في عام ١٦٢٤م ترك المدعو موسى
زالما في وصيته مبلغ عشرة آلاف قطعة فضِّية للجمعية الخيرية
للرومانيوت (
Bikur holim) والمبلغ نفسه
لصالح مدرسة السفارديم تلمود-توراة.
٢٩ ولم تكن الجمعيات والصناديق الخيرية مُستقرة؛ فقد كان
نشاطها مرتبطًا بمصادر التمويل، التي يمكن أن تتوقف، وكذلك بدرجة
اجتهاد العاملين عليها. ومع ذلك، وفي نهاية القرن التاسع عشر،
ازدادت هذه الصناديق بشكلٍ واضح، وأصبحت نتائج أعمالها ملحوظة عن
ذي قبل.
في القرن السابع عشر تتدهور أحوال طائفة الرومانيوت تدريجيًّا؛
إذ دمرت الحرائق معبدهم ومنازلهم. وتفرق الرومانيوت واختلطوا
بيهود الطوائف الأخرى. ومع أن عدد اليهود الأشكيناز لم يكن كبيرًا
مثل السفارديم، إلا أنهم تمكنوا من الصمود. وفي القرن السابع عشر
ازدادت الطائفة وقويت نتيجة لقدوم أبناء عقيدتهم الفارين من
المذابح من أوكرانيا وبولندا ١٦٤٨–١٦٦٠م.
تشير الدلائل إلى أن الأحداث المأساوية لمذابح اليهود في
أوكرانيا، على يد عصابات بوجدان خميلنيتسكي، كانت أحد أسباب تضامن
طائفتي السفارديم والأشكيناز. وقد تم افتداء كثير من اليهود الذين
اختطفهم القوزاق والتتار، بواسطة أحفاد المطرودين من
إسبانيا.
منذ القرن السابع عشر وضحت علامات تدهور الطوائف اليهودية،
وازداد الأمر سوءًا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبلغ
الفقر بالسكان إلى حدِّ أنهم اضطروا إلى إغلاق المطبعة اليهودية.
وكانت الكتب الضرورية تُطبع لدى الأرمني بوجخوس أراروجلو.
في مُنتصَف القرن الثامن عشر تمَّ تقييد تجارة المشروبات الكحولية،
التي كان يعمل بها المسيحيُّون واليهود (الخمر محرَّم على المسلمين
طبقًا للتعاليم الدينية). وقام السلطان محمود الأول (١٧٣٠–١٧٥٤م)
بتجديد المرسوم القاضي بعدم إدخال النبيذ والفودكا إلى إسطنبول من
السفن المملوكة للمسيحيين واليهود. وللحق فإن السلطان في المرسوم
التالي سمح لليهود باستيراد حوالي ١٠.٣ لتر من النبيذ لتلبية
الاحتياجات الدينية الخاصة بهم، بشرط ألا يقوموا ببيعه في محالِّ
المشروبات. وفي مرسوم آخر سُمح للمُنتجين ببيع العنب للتجار
المسلمين أما اليهود والمسيحيون فكان ممنوعًا بيع العنب لهم بكمية
تزيد ولو قليلًا على إمكان عمل ولو كأس نبيذ واحدة.
٣٠
بحلول عام ١٧٧٢م أصبح الوضع المالي للطوائف اليهودية في إسطنبول
يبعث على الأسى، ووصَل دَيْنُهم للخزانة ٣٢٥٠٠٠ قرش، ولم تتمكَّن
الإيرادات من ضبط الميزانية. واستدعت السلطات العثمانية ٣٠٠ من
١٥٠٠ مدين، لم يَدفعوا الضرائب، من أجل أعمال دعم احتياجات الجيش
الذي كان يُحارب آنذاك ضد روسيا.
في أعوام ١٧٩٨–١٨٠٠ م طلب الباب العالي أن يقوم يهود إسطنبول
بالخدمة في البحرية كبحارة. وكان هذا ضروريًّا نظرًا لظروف حملة
نابليون العسكرية على مصر، التي كانت حينذاك ضمن أملاك الدولة
العثمانية. ومن المعروف أن حملة نابليون على مصر لم تُكلَّل بالنجاح،
رغم الانتصارات الأولية وهزيمة القوات المصرية. عاد البحارة
اليهود إلى منازلهم ولكنَّ الخدمة العسكرية، التي لم يكتب عنها إلا
القليل، لم تنته بالنِّسبة لهم؛ ففي عام ١٨٢١م اضطر الأتراك لقمع
الثورة اليونانية التي كانت تمتد بسرعة في أراضٍ جديدة. ومن أجل
زيادة أعداد البحارة، الذين يتم إرسالهم لمحاربة الثوار، توجهت
الحكومة إلى الطائفة اليهودية لتطلب أن يوضع تحت تصرفها ٣٠ فردًا
من أحياء خاصكوي ونفس العدد من أحياء بالاط. واضطر اليهود لتنفيذ
أوامر سلطات إسطنبول. انتهت الثورة اليونانية في عهد محمود الثاني
والتي استمرَّت حتى عام ١٨٢٥م، وأيدتها دول أوروبية كثيرة وخاصة
روسيا، انتهت بإعلان استقلال اليونان. ولكن أحداث هذه الثورة لم
تمرَّ دون تأثير على يهود إسطنبول، الذين اجتذبتهم الأطراف
المتصارعة، رغم إرادتهم، في خلافاتها.
في السابع والعشرين من شهر أبريل عام ١٨٢١م، في أول أيام عيد
الفصح الأرثوذوكسي، تم شنق بطريرك القسطنطينية، الذي اتهمته
السلطات بالاشتراك في الثورة، في الحي اليوناني على بوابة
الكاتدرائية. وعندما لاحظ الصدر الأعظم علي باشا، الذي حضر الشنق،
وجود بعض اليهود في الزحام، توجَّه إليهم بتحية ساخرة: «أهلًا أيها
اليهود، ها هو أمامكم عدوُّنا وعدوكم المشنوق، إنني آمركم أن تُلقوه
في البحر.» وقام ثلاثة من اليهود، موتال وبيشاتشي وليفي، وقد
انتابهم خوف مُميت فلم يَجرُءوا على عصيان الأمر الذي كان من الصعب
عدم تنفيذه، قاموا بحمل جثمان البطريرك إلى شاطئ القرن الذهبي.
كانت هذه الأعمال القسرية مُبرِّرًا لقيام اليونانيين بإبادة عدد من
الطوائف اليهودية في موري. ومات حينذاك حوالي خمسة آلاف
شخص.
٣١
في منتصف القرن التاسع عشر كان يهود إسطنبول ما زالوا منقسمين،
الأمر الذي زاد من صعوبة الدفاع عن مصالحهم. في الثلث الأول من
القرن السادس عشر، بعد وفاة إيليا مزراحي، تم إلغاء الحاخامية
الرئيسية وحدث هذا بسبب الصراعات بين الطوائف نفسها. تلك الصراعات
التي كانت تخبو أحيانًا ويستعر أوارها أحيانًا أخرى. حينذاك في
القرن السادس عشر اختار الرومانيوت حاخامًا أكبر من بينهم هو
إيشوا كاندنيوتي الذي كان مزراحي يزكيه في أثناء حياته. لكن طائفة
السفارديم، التي كان عددها قد زاد وقويت في ذلك الوقت، رفضت
الاعتراف بحاخام أكبر من الرومانيوت، واختاروا مرشحًا من
السفارديم؛ حيث إن كل حاخاماتهم كانوا من طائفتهم فقط. وقضى هذا
الانشقاق على منصب حاخام باشا المعترف به رسميًّا. وتم إلغاء
المنصب، لكن الطوائف استمرَّت تدفع الضريبة المفروضة عليه وهي ضريبة
رافاكتشيسي. وفي عام ١٨٣٦م وافق الأتراك على طلب الطوائف اليهودية
لإعادة منصب كبير الحاخامات. وبعد انقطاع طويل دام عدة قرون تولى
أبراهام ليفي منصب الحاخام الأكبر.
في القرن التاسع عشر كانت طوائف اليهود العثمانيين قد أصابها
الضعف والفقر، وحاول إخوانهم في العقيدة من الأوروبيين الناجحين
مساعدتهم. في عام ١٨٥٤م قام ألبير كوهين، وهو أحد مديري الصندوق
الخيري لعائلة روتشيلد، بزيارة إسطنبول في أثناء عودته من القدس،
واستقبله إصلاحي التنظيمات المعروف الصدر الأعظم مصطفى رشيد باشا.
وطلب كوهين من الصدر الأعظم تقديمه للسلطان الذي كان موجودًا في
قصر تشيراغان. وتمَّت الاستجابة لطلبه وسُمح له بمقابلة السلطان.
وشجَّع الاستقبال الودِّي كوهين فألمح إلى مشاكل الطوائف اليهودية،
وطلب من السلطان الرأفة بالرعايا اليهود. وأجاب السلطان عبد
المجيد الأول بأنه لا يُفرق بأي شكل بين رعاياه، الذين يتمتعون بكل
الحقوق والمزايا على قدم المساواة.
٣٢ وكان من الصعب أن نتوقَّع إجابة أخرى، فلم يكن هناك أي
سلطان مُستعِد لحلِّ مشاكل أي طائفة غير مسلمة، إلا إذا كانت الطائفة
نفسها قادرة على التضامُن وتنظيم نفسها، وهي أهم شروط البقاء
والتقدُّم.
في أبريل عام ١٨٧٣م استقبل السلطان عبد العزيز، في إسطنبول،
البارون جريش التاجر ورجل الأعمال المعروف. وفي أثناء الاستقبال
لفت البارون نظر السلطان إلى الحالة البائسة للطوائف اليهودية في
الإمبراطورية، وطلَب منه ضم بعض يهود روملي (الجزء الأوروبي من
الدولة العثمانية) إلى إدارة سكك حديد وتلغراف الشرق، التي كان
ينوي المشاركة فيها.
٣٣
كان امتياز إنشاء السكة الحديد في روملي الممنوح لشركة بلجيكية
عام ١٨٦٨م قد انتقل إلى البارون جريش ولكن بعد ذلك بفترة طويلة.
تأخَّرت مواعيد الإنشاء، في البداية بسبب الانتفاضة في البوسنة، ثم
نتيجة للحرب الفرنسية البروسية عام ١٨٧٠م، عندما استُدعِيَ جزء من
العمال للجيش. وتأخر العمل أيضًا لأنه بعد وفاة الصدر الأعظم
الإصلاحي عالي باشا ظهر في الحكومة «فراغ سلطة»، وهذا هو السبب في
أن البارون جريش لم يصل إلى السلطان إلا عام ١٨٧٣م.
أجاب السلطان أنه مع كل تعاطفه لن يستطيع تنفيذ طلب البارون.
وأوضح أن اليهود المحليِّين لا يَصلُحون لمثل هذا العمل، أولًا نظرًا
لعدم حصولهم على التعليم الضروري، وثانيًا لعدم معرفتهم للغة
التركية. شعر البارون في البداية بالإحباط، لكن كما قالت جريدة
El Nacional في أبريل ١٨٧٤م
فإن حديثه مع السلطان دفعه للمساعدة في تنظيم التعليم المدرسي
لليهود الأتراك وتبرَّع حينذاك بمبلغ كبير.
كان من الضروري بدء التغيير في الطائفة اليهودية بتنظيم عملية
التعليم؛ فنظام التعليم في المدارس اليهودية في منتصف القرن
التاسع عشر كان مُتدنيًا للغاية. كان خريجو هذه المدارس يعرفون
عمليات الحساب الأربع بالإضافة إلى بعض النصوص الدينية بلغة
لادينو (لهجة يهودية إسبانية). خلَت المدارس من المعلومات عن
المعارف الدنيوية مثل الرياضيات والفيزياء والتاريخ العام
والجغرافيا، كما خلت برامجها من دراسة اللغات الأجنبية التي كانت
تفتح الطريق للعلوم العصرية والعلم.
كانت إصلاحات التنظيمات، التي أعلنت مساواة كل رعايا السلطان
بصرف النظر عن عقيدتهم، تبدو كما لو كانت تفتح أمام اليهود
العثمانيين آفاقًا مُغرية. لكنَّها قوبلت دون أي حماس. بالإضافة إلى
ذلك أدت الإصلاحات إلى اضطرابات وخلاف بين جماعات السكان
المتعادية، والتي كانت حتى بدون ذلك غير مستقرة.
لقد عانت الطوائف اليهودية لآلاف السنين من الطواف الإجباري
والرحيل من بلد لآخر، وتمكَّنوا من البقاء بفضل الالتزام الشديد
بالقانون الديني والتقاليد وكذلك، وإن بدا هذا متناقضًا، بفضل
انعزالهم عن الشعوب الأخرى وبفضل حائط العداء والغربة عن العالم
المحيط بهم. لقد بقوا أحياءً في اضطهادات فظيعة وتحت تهديد
الإبادة الجماعية، ولم يقتصر هذا على زمن محاكم التفتيش فقط، ولكن
ها قد جاء عصر الثورات والحريات. ومنذ الثلث الثاني للقرن التاسع
عشر جرت الإصلاحات في الإمبراطورية العثمانية أيضًا وفي الطوائف
اليهودية، وعندئذ شعر كثيرون بخطرٍ على أُسُس الحياة اليهودية نفسها
عندما انتهت قيود العصور الوسطى: في الحركة والتعليم والعمل وفي
الملابس والمظهر الخارجي، وعندما اندفع الشباب اليهودي إلى الباب
المفتوح؛ نحو المعرفة والتعليم الدنيوي ونمط الحياة، ليصبحوا
مُختلفين عن آبائهم.
وعندما كان غير اليهود وبعض اليهود يلومون «الرجعيِّين» على عدم
اكتراثهم بإصلاحات التنظيمات، لم يكونوا قادرين على تخيل النتائج
السريعة لهذه الإصلاحات، التي لم يكن في الطوائف ترياق لها بعد؛
ترياق لخطر الاندماج واختفاء شعب لم يكن حينذاك لديه «ركن» خاص
به، دولة خاصة به. وعندما كان «التقدميُّون» يكتبون عن أن
«الرجعيين» في عماهم يعتقدون أن تعلم لغة أجنبية مساوٍ لاعتناق
دين جديد، فقد كانوا لا يَرون إلا وجهًا واحدًا فقط من العملة.
سرعان ما جاء الوقت الذي أتقن فيه اليهود لغة البلد الذي يعيشون
فيه ويُبدعون الأدب بلغات كانت يومًا ما غريبة عليهم بل وأصبحوا
أدباءً كلاسيكيِّين مثل هاينه وباسترناك وماند لشتام. ولكن ماذا كان
الثمن؟! إن أجيالًا كاملة من اليهود، في أوروبا خاصة، فقدوا لغتهم
ودينهم، وتقريبًا فقدوا قوميتهم. لقد اتضح أن الوصول إلى توازن
بين الهوية والثقافة الذاتية الأصلية من جهة والمعارف الجديدة
ونمط الحياة، الضرورية للاستمرار والمحافظة على الشعب، من جهة
أخرى، مهمَّة صعبة للغاية. وقد وقع الأتراك أيضًا في موقف مشابه
عندما اضطروا إلى التأورب تحت خطر انهيار الدولة.
إنَّ الشعوب الأوروبية عندما صنعت حضارتها أخذت عن غيرها
الاختراعات والاكتشافات، ولكنها مع ذلك احتفظت بتقاليدها وأسلوب
حياتها، أما الأتراك فيأخُذون عادات غريبة على ثقافتهم. وها هو ما
يحدث نتيجة لذلك: «إنَّ التركي الذي يستوعب الحضارة الأوروبية
ويتخلى عن عاداته وأخلاقه القومية، يصبح شخصًا متمدينًا ولكنه لا
يعود تركيًّا. ومن أجل أن يكون تركيًّا متمدينًا يجب عليه
المحافظة على صورته القومية.»
٣٤ كان هذا ما جاء في مقال عن الأخلاق والعادات القومية
للأتراك، منشور في جريدة «الصباح». وقد كانت هذه المسائل تشغل بال
الجزء الأكبر تقدمًا في المجتمع التركي، الذي كان يوجد فيه كما في
روسيا «أنصار الغرب» و«أنصار الأرض». وكان الأمر سواء بالنسبة
لليهود أو للأتراك غاية في الصعوبة لتحديد الجرعة المطلوب أخذها
من حضارةٍ تكوَّنت في منظومة دينية مختلفة.
إنَّ إيسيدور لويب، كاتب سيرة ألبير كوهين، الذي تحدثنا عنه فيما
سبق، كتب عام ١٨٥٤م يَصف انطباعاته عن إسطنبول: «لقد فقدت طوائف
يهود إسطنبول أهميتها السابقة؛ إذ إنهم عندما استقروا في
الإمبراطورية العثمانية بعد طردهم من إسبانيا كانوا هم وسلالتهم
يشغلون المناصب العليا وأصبحوا عنصرًا مؤثرًا في الدولة. وشيئًا
فشيئًا أزاحهم اليونانيون والأرمن من المناصب الإدارية العليا كما
فقدوا مواقعهم السابقة في التجارة.»
٣٥ ويُفسر إيسيدور لويب تراجع الطوائف بنقص الإنجازات
الفِكرية والثقافة العامة في هذه الفترة من تاريخها وكذلك بعدم
وجود قادة أقوياء يعترف بهم. ولكن كل هذا يُمكن إرجاعه كنتيجة
لتدهور حياة الطائفة وليس سببًا لها. وكان أوبيتشيني، الخبير
بالواقع العثماني في القرن التاسع عشر، يُفسِّر بدوره الوضع الكارثي
ليهود إسطنبول ويربطه جزئيًّا بالإصلاحات: «منذ عام ١٨٥٩م شبت
الخلافات في الطائفة، رغم غرابة ذلك، بسبب الإصلاحات وإدخال
العنصر المدني، الأمر الذي أدَّى إلى محو مؤسساتها السابقة، في
الوقت الذي لم تكن فيه المؤسسات الجديدة قد تأكدت بعد. ومن هنا
جاءت الاضطرابات والشقاق وعدم الاستقرار في الطائفة.»
٣٦
لم تنجح محاولة السلطات العثمانية توحيد الأعراق المفكَّكة بهدف
تقوية ودعم الإمبراطورية الموشكة على الانهيار، وفي المقام الأول
توحيد الشباب ذوي اللغات المُختلفة بنظام تعليم عام، يجري بالطبع
باللغة التركية؛ فقد كانت أولويات كل طائفة تَنحصِر في ديانتها
ومصالح أبناء عرقها. وليس من قبيل الصدفة أن البلاشفة في روسيا
عندما استولوا على السلطة وأرادوا أن يكون السكان موحدين ومطيعين
للسلطات، لم يقوموا بالقضاء على الطبقات فحسب بل وعلى المؤسسات
الدينية للطوائف المختلفة أيضًا، وهو ما لم يصل إليه تفكير
الأتراك في القرن التاسع عشر.
في عام ١٨٤٧م قام السلطان عبد المجيد الأول بزيارة المدرسة
الطبية العسكرية التي تأسست قبل ذلك ببضع سنوات، ولفت نظره عدم
وجود طلبة يهود في الوقت الذي كان فيه أبناء أسر أرمينية ويونانية
فسأل عن سبب هذا.
وأجاب المسئولون بأن أبناء اليهود لا يستطيعون الدراسة في هذه
المدرسة لأسباب دينية؛ فقد كان الأمر يتطلب إعداد طعام (كوشير)،
والالتزام بيوم السبت وكل الأعياد الدينية. وأمر السلطان بإزالة
كل العقبات التي تحُول دون تعليم اليهود والتعامل بعناية مع
متطلباتهم الدينية. وسرعان ما تم عمل كل شيء. وتم تحت إشراف
الحاخامية تجهيز مطبخ لإعداد الكوشير وتنظيم خدمة دينية وسُمح
للطلبة اليهود بمغادرة المدرسة يوم الجمعة والعودة يوم الأحد،
وكانوا يتمتَّعون بنفس الحرية أيام أعيادهم. ورغم ذلك فإن الطلبة
الملتحقين بالمدرسة الطبية أو غيرها من المؤسسات التعليمية من
أبناء الأسر اليهودية في مُنتصَف القرن التاسع عشر كانوا عددًا
قليلًا.
في العشرين من صفر عام ١٢٥٨ هجرية (٥ أبريل عام ١٨٢١م) توجهت
الحكومة إلى الحاخامية الرئيسية باقتراح لإقناع القابلات
اليهوديات بحضور دورة تعليم مُتخصِّصة في مدرسة الطب، ولم تستجب ولا
قابلة واحدة لذلك.
كان السيد دي سالف مُدير مدرسة جَلطَة سراي المؤسسة عام ١٨٦٤م
يفسر علاقة الطوائف اليهودية في إسطنبول بالسياسة الإصلاحية
للحكومة على النحو التالي: «إنَّ يهود البلاد الذين جاء معظمهم من
إسبانيا التي طردتهم منها محاكم التفتيش، قد احتفظوا بعدم التسامح
الديني، الذي عانوا هم أنفسهم منه. إنهم لا يستطيعون أن يقرروا
إلحاق أبنائهم بمدارس مسلمين يُديرها بالإضافة إلى هذا
مسيحيُّون.
٣٧⋆
ومن كان منهم أقل تعصُّبًا كان يطلب لأبناء عقيدته طعامًا مخصوصًا،
الأمر الذي يؤدي إلى آلاف الصعوبات، ويحطم، من حيث المبدأ، تلك
الوحدة التي كانت السلطات تريد تحقيقها.»
كان لدى اليهود أساس لعدم الثقة بالمدارس والمدرسين من العقائد
الأخرى. لم يكن اليهود يُشجِّعون التبشير أبدًا، لكنهم كثيرًا ما
كانوا ضحية محاولات تحويلهم إلى عقائد أخرى.
إنَّ الدعاية الدينية للجزويت (تأسست الطائفة عام ١٥٣٤م)، قد زاد
نشاطها في إسطنبول في القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر،
وكانت موجَّهة إلى اليونانيِّين واليهود، وحاول اليونانيون المقاومة،
وقدم بطريرك القسطنطينية شكوى إلى السُّلطان يطلب فيها وضع حد لنشاط
الكاثوليك العدوانيِّين. لكن تأثير السفير الفرنسي الذي وضعهم تحت
حمايته كان هو الأقوى.
في عام ١٦٠٩م في عهد السلطان أحمد الأول تمكن الجزويت من تحويل
عدد من الأطفال اليهود إلى الكاثوليكية. ولم تأتِ شكاوى الطائفة
اليهودية في إسطنبول بنتيجة. وطُرد الجزويت من البلاد فقط عندما
أصبح نشاطهم يُهدِّد السلطات أيضًا، لكنهم ظهروا مرة أخرى بعد فترة
من الزمن في الإمبراطورية العثمانية وبدءوا في فتح
مدارسهم.
وقام البروتستانت أيضًا بفتح مدارسهم في إسطنبول. وجاء في
الجرائد اليهودية تقرير مدير إحدى هذه المدارس في خاصكوي، والتي
تأسَّست عام ١٨٦٨م، وكان التقرير موجهًا إلى رئاسة المكتب المركزي
في لندن.
وجاء في التقرير: «عندما أسَّست المدرسة كان ذلك في وقت عيد الفصح
اليهودي؛ لذلك أغلقناها لمدة ثلاثة أسابيع. وعندما فتحْناها التحق
بها ٥٠ طفلًا، وفي اليوم التالي جاء ٧٢ طفلًا وفيما بعد ازداد
عددهم. لقد بدأت الدراسة بدروس اللغة الإنجليزية؛ إذ إن كثيرين
منهم كانوا يتكلَّمون بلغة لادينو فقط وبعض التلاميذ يتكلمون
باليديش.
٣٨⋆
كان أساس البرنامج العهد القديم والعهد الجديد بالإضافة إلى بعض
المؤلفات المسيحية. لقد كنتُ أحاول أن يحفظ تلاميذي الصلوات
المسيحية؛ حيث إنني كنت مقتنعًا بأنه في الوقت المناسب ستزرع
دلائل الإيمان هذه في قلوبهم البريئة البذور الطيبة للتطور في
المستقبل. وفيما يلي ما قرأناه عليهم في الأشهر الأخيرة: خمسة
إصحاحات من إنجيل متى وستة إصحاحات من إنجيل مرقص وثمانية من
إنجيل لوقا وثمانية من رسائل يوحنا. وقد اندمج الأطفال في الدراسة
لدرجة أن الفتيات أصبحن يرفضن دراسة اللغة العبرية.
إنَّ اليهود الصغار صاروا يعرفون ثلاثة عشر تعليمًا من تعاليم
الإيمان المسيحي وارتباطهم بالمسيح يزداد يومًا بعد يوم.
وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ الأولاد يَدرُسون الحساب والجغرافيا والبنات
يتعلَّمن الخياطة والتطريز. وعلى أيِّ حال فإن الآباء فقراء للغاية
ويُرسلون أبناءهم برضًا بل وبحماس إلى مدرستنا، حيث كل شيء بدون
مقابل: الكتب المدرسية والملابس والأحذية والتغذية. لذلك فإن
جهودنا يُمكن أن تصبح ناجحة تمامًا.»
٣٩
كان نشر التقرير في الصحف الصادرة باللادينو مُؤثرًا جدًّا على
جمهور القراء، وتولى الحاخام الأكبر لإسطنبول الإشراف على التعليم
المدرسي لليهود. وقد كان قيام الاتحاد اليهودي العام في أعوام
١٨٧٠–١٨٨٠م بفتح مدارس يهودية جديدة مدفوعًا بنشر هذا التقرير.
تأسَّس الاتحاد عام ١٨٦٠م على يد مجموعة من اليهود الفرنسيِّين من أجل
الأهداف التنويرية والنضال ضد التَّفرقة الموجهة ضد أبناء عقيدتهم
في مختلف بلاد العالم.
كانت السلطات العثمانية تتَّخذ الإجراءات لنشر التعليم الأولي بين
كل طبقات السكان، وفي عام ١٨٥٧م، تمَّ تحويل إدارة التعليم الشعبي،
التي كانت فيما سبق تابعة لشيخ الإسلام، لتصبح وزارة
مستقلة.
وفي عام ١٨٦٧م صدر مرسوم خاص يسمح للأطفال غير المسلمين
بالدراسة في المدارس الرشدية الأولية، وكذلك في المدارس الأعلى
درجة بما في ذلك الجامعة. ويُذكر أن التعليم الجامعي لم يقتصر على
الشبان اليهود بل وشمل الفتيات أيضًا.
كان أعضاء الطائفة يُتابعون باهتمام الالتزام الصارم بالتعاليم
الدينية في المدارس التي يتعلم فيها أبناء اليهود. وقد وصلنا خطاب
منهم إلى مدير مدرسة الطب السلطانية، التي سبق الحديث عنها، وهو
بتاريخ ١١ رجب ١٢٨٢ هجرية (٣٠ نوفمبر ١٨٦٥م). وفيما يلي جزء منه:
«حيث إنَّ الإشراف على طعام وشراب التلاميذ اليهود المُلتحقين بمدرسة
الطب السلطانية، يقوم به حتى الآن، مدرس واحد (قالفا) لا يُمكنه
مراقبة الخدمة الدينية والكوشير من أجل تلاميذ جَلطة وجولهان،
ولذلك من الأفضل تعيين قالفا آخر، ومِن أجل هذا نفوِّض خادمكم
الصيدلي ياسيف الذي رشَّحته طائفة خاصكوي. وهو شخص بارع وحاصل على
دبلوم. وإذا ما تكرَّمت بقبوله فإنه سوف يقوم بالعمل بكل سرور
وإيمان.»
٤٠
ابتداءً من ١٨٦٣–١٨٧٣م، عندما كان الحاخام الأكبر هو ياكير
حيرون، كانت الحاخامية تطلب دائمًا من السلطات العثمانية التدخل
لوقف أي انتهاكات للقواعد الدينية، أيًّا كان الجانب الذي صدرت
منه. وكانت هذه الطلبات أحيانًا عبثية؛ فقد حدث أن الحاخام الأكبر
طلب أن تمنع السلطات العثمانية عالم آثار مسيحي فرنسي، من القيام
بحفائر في فلسطين بحجة أنَّ هذا الشخص يُدنس التربة الطاهرة للأراضي
المقدسة. في تلك السنوات كان في الطائفة العديد من مظاهر الدسائس
والتعصُّب والعدوانية حتى تجاه أبناء عقيدتهم.
كان الدكتور شبيتسير، وهو يهوديٌّ من مورافيا،
٤١⋆
قد تمَّ تعيينه أستاذًا للتشريح ومُديرًا لمدرسة الطب في إسطنبول؛
حيث إنه كان الطبيب الخاص للسلطان عبد المجيد وعالجه بنجاح، وحاول
المدير الجديد إدخال طرق التعليم العصرية في المدرسة، ولكنَّ زملاءه
قابلوا التحديث بعداوة. ونتيجة لمؤامرات ودسائس أبناء عقيدته،
سرعان ما استبعد شبيتسير من العمل في مدرسة الطب وعينه السلطان
رئيسًا لإدارة السِّفارة العثمانية في فيينا، وفيما بعد أصبح
دبلوماسيًّا من الدرجة الرفيعة في نابولي. ويوجد العديد من مثل
تلك الوقائع السيئة.
في عام ١٨٦٢م وحَّد من ليسوا أفضل الناس في الطائفة جهودهم من
أجل عدم السَّماح بفتح مدرسة في حي بيري باشا، مؤسَّسة بدعم من رجل
البرِّ المعروف أبراهام دي كاموندو. وكان من المفروض أن يَجري في هذه
المدرسة تدريس اللغات العبرية والتركية والفرنسية. وكان تدريس
الأخيرة هو ما أثار استياءً خاصًّا لدى بعض الحاخامات الذين كانوا
يرون في مثل تلك المستحدثات تدنيسًا للمقدسات، وانصب غضبهم على
كاموندو، الذي تعرَّض للطرد من الطائفة (الحرمان)، واضطر إلى مغادرة
إسطنبول عام ١٨٧٠م. وكان الحاخام إيزاك آكريسن هو الذي أثار هذه
الحملة من الاحتجاجات، والذي أودعته السلطات — في نهاية الأمر —
السجن نتيجة لنشاطه الزائد على الحد. ولكن اتَّضح أن لديه شفيعًا
مؤثرًا جدًّا، وعفا السلطان عنه. وبعد الخروج من السجن استمر
الحاخام القلق في «النضال من أجل الحقيقة»، وفي هذه المرة دبر
لعزل الحاخام الأكبر أفيجدور، وكتب منشورًا وقَّع عليه كثيرون من
أعضاء الطائفة. وتمكَّن آكريسن من تسليمه شخصيًّا للصدر الأعظم،
إصلاحي التنظيمات المعروف، فؤاد باشا، وقام الصدر الأعظم باستدعاء
ثلاثة من الحاخامات المؤثِّرين من المقاطعات للتشاور: الحاخام
بالاتسن من أزمير، وياكير حيرون من إدارته، ومناحم كوهين من
سيريس. وكان فؤاد باشا يأمل أن يتمكن الحاخامات من وضع حد
للخلافات التي تقسم الطائفة بسبب منصب الحاخام الأكبر، ولكن رغم
تأييدهم لأفيجدور إلا أنَّ السلام الذي حاولوا إعادة تأسيسه كان
هشًّا. وسرعان ما اشتعلت المشاعر بنفس القوة السابقة، واضطر
أفيجدور لترك الحاخامية. وبدلًا منه تم اختيار ياكير حيرون من
أدرنة، الذي ظلَّ يشغل هذا المنصب لمدة عشر سنوات حتى عام
١٨٧٣م.
كانت الطوائف المسيحية لليونانيِّين والأرمن والسلافيِّين أكثر
نجاحًا من اليهود في الاستفادة من إصلاحات التنظيمات؛ فقد حددوا
بدقة أهدافهم ومصالحهم وتضامنوا وأسسوا منظمات قومية
فعالة.
كانت القوانين الصادرة في فترة التنظيمات (١٨٣٩–١٨٧١م) موجهة
لكل الملل غير المسلمة على حدٍّ سواء، واقترح فؤاد باشا على الطوائف
اليهودية إعداد مشروع إصلاحات على نمط ذلك الذي قرره الباب العالي
بمشاركة ممثلي الطوائف المسيحية، والذي راعى وضع كثير من القواعد
الدينية التقليدية في إطار علماني. وكان يجب أن يتَّفق مشروع إعادة
تنظيم الطوائف الإثنودينية مع مبادئ الخط الهمايوني الصادر في عام
١٨٥٦م، وقام الحاخام الأكبر ياكير حيرون، عندما تسلم الإدارة
السنية بتوقيع السلطان، بدعوة صفوة القوم من أجل تشكيل لجنة
لإعداد النظام الأساسي الحاخامية الكبرى
(Hahamhane nizamnamesi).
وضمت اللجنة ١٢ فردًا وترأسها أربعة حاخامات، وتمَّ اعتماد الوثيقة
التي أعدتها اللجنة بالإرادة السلطانية الصادرة ٢٠ شوال عام ١٢٨١
هجرية (١ أبريل ١٨٦٤م)، ولكنَّها لم تدخل حيز التنفيذ إلا في عام
١٨٦٧م.
في مقدمة النظام الأساسي جاء ذكر الخلافات الداخلية، التي لم
تكن تُؤذي اليهود أنفسهم فحسب، بل وكانت تزعج الحكومة أيضًا. وفي
هذه الوثيقة تكرَّرت مبادئ المواطنة العثمانية العامة ومبادئ
المساواة بين كل رعايا الإمبراطورية أمام قوانينها الجديدة. لقد
خضعت الطائفة شكليًّا للقواعد الجديدة ولكن الخلافات والانشقاقات
الداخلية لم يتمَّ التغلب عليها.
في عام ١٨٦٦م نشر الحاخام شلومو كامخي كُتيِّبًا تضمن هجومًا
عنيفًا على القرَّائين، وجمع المؤلف فيه كل الاتهامات الموجهة
ضدهم على مر الزمن. كما أن هذه الاتهامات كانت مكتوبة بشكلٍ مُهين
للغاية. واختتم كامخي كُتيِّبه بالدعوة إلى إبادة القرَّائين باعتبار
ذلك عملًا مُرضيًا للرب. وكان رد فعل طائفة القرَّائين، على مثل
هذا الكتيب، مُتوقِّعًا تمامًا، فقد أرسلوا على الفور شكوى إلى
الحاخام الأكبر يَطلُبون إسكات المؤلف العنيف، وهو ما تم على الفور.
ولم يتعرَّض شلومو كامخي للوم فقط بل وللعقاب الشديد أيضًا. وتم حرق
النسخ التي عُثر عليها من مؤلفاته.
لم تتمكن التنظيمات من تهدئة الخلافات والعداوة بين الطوائف. في
عام ١٨٦٧م ثار اليونانيون ضد الأتراك، وتم إخماد الانتفاضة على يد
إيومير باشا الذي استولت قواته على مدينة تسفانيا. وكانت الجريدة
التي سبقت الجميع في نشر هذا الخبر للقرَّاء هي جريدة يهودية تصدر
بلغة اللادينو، في ملحق لها باسم «أخبار من كريت»، ومع الصيحات
العالية للبائعين تمَّ بيع كل النسخ على الفور، وأدَّى موقف الشارع
اليهودي من الأحداث إلى غضب شديد لدى اليونانيِّين. وكان ضحية
الصدامات هم باعة التجزئة اليهود، الذين اضطرَّت الشرطة التركية
لحمايتهم. وتناولت جريدة «هارموينا» اليونانية النزاع باعتباره
دينيًّا بحتًا. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تضطر فيها
قيادتا الطائفتَين، بطريرك القسطنطينية جريجور والحاخام الأكبر،
إلى التوجُّه إلى أبناء عقيدتهم منادين بالهدوء.
إنَّ تدهور الطوائف اليهودية وفقر السكان، الذي كان يُمكن ملاحظته
في القرن السابع عشر، أصبح واضحًا للعيان في القرن العشرين وخاصة
بالنسبة للأجانب. في عام ١٨٧٠م قام السفير الأمريكي السابق لدى
الباب العالي م. كارول سبنسر بنشر مقال، في جريدة
Saturday Night الصادرة في
بالتيمور، عن حالة الفقر التي يعيش فيها يهود إسطنبول. وأعيد نشر
المقال في جريدة Levant Times
الصادرة في إسطنبول بتاريخ ٤ أغسطس عام ١٨٧٠م. كما لم يتمكن
الفرنسي ب. بودين من التغاضي عن هذا الموضوع أيضًا، ونشر عام
١٨٧٢م كتيبًا بعنوان «يهود إسطنبول»، ويحاول المؤلف، دون جدوى، في
المقدمة، أن يفهم لماذا كان الرحالة الأوروبيُّون الذين زاروا
إسطنبول يتحدثون عن اليهود باحتقار وتهكم، ويصف مشاعره الخاصة عن
زيارة الأحياء اليهودية كما يلي:
«إن المشاهد المُحزنة التي رأيناها في شوارع ضواحي
جَلطة خاصكوي قد مسَّت أعماق قلوبنا: كان من غير المحتمل
رؤية ناس هم بالكاد على قيد الحياة. ومنذ اليوم الأول
فكرنا … كيف نَنتشِل هؤلاء التعساء المنبوذين من هُوَّة الفقر؟
كيف نعيد إلى الحياة الطبيعية هؤلاء المسنين المرتعشين
والرجال المكتئبين ذوي النظرات الخامدة والنساء المرهقات
اللاتي يَرتدين أسمالًا بالية ويَجرُرن أطفالًا على نفس
القدر من الهزال.
من الصعب على المرء أن يتصوَّر شيئًا أكثر تعذيبًا للروح،
وأكثر فظاعة، من صورة الفقر الجماعي للأسر اليهودية
المسكينة التي لا تجد أي عون.»
ويستكمل المؤلِّف كلامه قائلًا: «هل يُمكن إعادة الحياة الكاملة
إلى الشعب الذي كان يومًا ما صاحب المبادَرة في كل ما أخذناه عن
الشرق والذي كان يُدهشنا حتى في العصور الوسطى بقدراته وحبه
للعمل؟
ومع ذلك يُمكن إصلاح الوضع الحالي للأشياء، ويمكن تجنب ما نراه
من شر. ومن أجل هذا يجب إعداد الأجيال الجديدة من الشعب للحياة
العصرية وأن نُنبِّه وعيهم بالتربية الصحيحة المتواصلة، والتعليم
المدرسي للجنسين، من أجل إعداد الشباب للحياة العملية المنظمة،
ويجب إنشاء شبكة من المعاهد المهنية يمكن للأطفال فيها أن يستمروا
في التعليم بعد المدرسة الابتدائية. وبالطبع يجب تنظيم ورش
ومؤسسات صناعية يمكن للشباب الذي تعلم حرفة أن يجد فيه مجالًا
للاستفادة من قوته وقدراته ويكسب مالًا من أجل الحياة الطبيعية.
ومِن المهم جدًّا أن يبدأ هذا. إن كل شيء يتوقَّف على الجيل الأول
الذي تمَّت تربيته وتعليمه بالطريقة السليمة، ومن سيأتون بعده لن
يستوعبوا فقط ما حقَّقه الأولون، بل وسيعملون على زيادته. وستكون
النتيجة مشجعة فستَختفي هذه الأشباح التي تهيم في شوارع العاصمة
دون هدف، مرفوضة من الجميع، ويحلُّ محلَّها بشر أحياء من هذا الشعب
نفسه.»
وينتقل المؤلف من برنامج بعث الطوائف اليهودية إلى مسئولية
الشعوب المسيحية عن وضع يهود تركيا: «من المحزن أن نرى في أيامنا
هذه الناس الذين لا يفهموننا نحن المسيحيين، الذين يتجرءون
ويرفعون أصواتهم ويُطالبون بتحسين مصير الجنس اليهودي في تركيا.
ويقول آخرون لنا: ولكن ما الذي يمكن أن نفعله؟ ما شأننا نحن
بهذا؟» نحن مُقتنعون بوجود وسيلة لمساعدتهم وإعادة إحياء الطائفة،
وهذه الوسيلة هي نظام جديد للتعليم أي التدريب والتربية بالكد وحب
العمل. ويُمكن أن يسألونا: «هل يُمكن أن ننتظر إعادة إحياء الشعب
الذي كان كل شيء لديه في الماضي، والذي كان يومًا ما مبادرًا بنقل
كل ما أخذناه عن الشرق بما في ذلك الصناعة؟ هل يُمكن أن نعيد لهم
حب العمل هذا؟» أعتقد أن الأمر لن يتطلَّب جهودًا كبيرة حتى يمكن
تحقيق النجاح الكامل.»
٤٢
لاحظ فيرنان بروديل تكرار خطر القضاء على الهوية الثقافية بشكل
دوري في تاريخ اليهود، هذا الخطر الذي تمكن الشعب من الصمود
أمامه: «إنهم (أي اليهود – أ. ف.) كثيرًا ما كانوا يقفون على حافة
الكارثة الثقافية وفقد الشخصية الخاصة بهم، ولدينا العديد من
الأمثلة على هذا. ولكنهم كانوا، عادة، يحتفظون بما يُسمِّيه علماء
الاجتماع والأنثروبولوجيا «أسس الشخصية». كان اليهود يبقون في
أحضان عقيدتهم، وفي مركز كونهم الذي لا يُمكن لشيءٍ أن يَنتزعهم
منه. إنَّ هذا الإصرار والمقاومة المستميتة من السمات المميزة
لتاريخهم.»
٤٣
صدر كتيب ب. بودين قبل افتتاح الاتحاد اليهودي العام لأول
مدرستَين بثلاثة أعوام، وبعد مرور أكثر من نصف قرن على عمل الاتحاد
حدثت تغيُّرات مُدهشة. تمَّ في نهاية ستينيات القرن التاسع عشر افتتاح
بعض المدارس في الأحياء اليهودية بتبرعات من بعض المحسنين. وفي
عام ١٨٦٨م تأسست مدرسة على يد ألبير كوهين، مدير صندوق روتشيلد،
سالف الذكر. وفي عام ١٨٧١م افتتحت المدرسة التي أسسها الحاخام
يعقوب شاؤل. لكن البناء الكثيف للمدارس، والمنظومة المعدة خصيصًا
لتعليم الأطفال اليهود، جرى، كما سبق القول، على يد الاتحاد
اليهودي العام.
في الفترة من عام ١٨٧٤م حتى عام ١٨٨٢م افتتحت في إسطنبول عشر
مدارس؛ خمس للبنات، وخمس للبنين. وبالتدريج بدأت هذه الجهود
الحثيثة تؤتي ثمارها، وتمكن الشباب اليهودي الذي يجيد اللغات
الأجنبية من الانضمام إلى الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية
للبلاد، والمنافسة على قدم المساواة مع أبناء الأعراق الأخرى.
صحيح أنه جرى أيضًا توجيه اللوم إلى الاتحاد لرعايته المبالغ فيها
للطوائف، ولأنه «بأعماله الخيرية أفسد اليهود الأتراك وعوَّدهم
على مدِّ أيديهم طلبًا للإحسان لأي سبب.» إن أولئك الذين رأوا
الجانب الآخر للأعمال الخيرية للاتِّحاد قد لاحظوا غياب المبادرة في
أوساط يهود إسطنبول، الذين تعوَّدوا على العيش على حساب الاتحاد،
وبذلك زادوا من بخلِ أغنيائهم. هل كان أحد يتحدَّث عن ترميم أي مبنى،
أو إنشاء أي عمل، أو عن مكافحة الأوبئة؟ لقد أصبح المعتاد هو
الصياح: Alianza esta alli
(وتعني باللادينو «الاتحاد هناك») أو Alli no
esta la Alianza (أي: لماذا لا يُوجد الاتحاد
هناك؟»). وواصل الاتحاد نشاطه حتى قيام الجمهورية التركية.
وطبقًا لما أعلنته وثائق التنظيمات من مساواة بين الملل غير
المسلمة، فإنَّ حكومة السلطان كانت تدعو رؤساء العقائد الدينية
لحضور المراسم والاستقبالات الرسمية. وفي أكتوبر عام ١٨٦٧م وصل
إلى إسطنبول الإمبراطور النمساوي فرانس يوسف الأول، بدعوة من
السلطان عبد العزيز، وحضر حفل الاستقبال الحاخام الأكبر ياكير
حيرون، الذي ألقى كلمة ترحيب بالضيف الكبير باللغة العبرية
القديمة، وتُرجمت للإمبراطور باللغة الفرنسية. وبعد عامين حضر
رئيس الطوائف اليهودية بالعاصمة حفل الاستقبال الذي أقامه السلطان
للإمبراطورة أوجيني دي مونيتو زوجة نابليون الثالث.
في عام ١٨٧٣م أجرى خديوي مصر إسماعيل باشا مباحثات مع سلطات
إسطنبول، وفي حفل الاستقبال الذي أقيم تكريمًا للخديوي في قصر
أميرخان حضر الحاخام الأكبر موشيه ليفي، الذي انتهز الفرصة ليشكر
إسماعيل باشا على الامتيازات المقدمة ليهود مصر. وانخرط اليهود من
جديد في الحياة السياسية للبلاد التي قدمت لهم المأوى منذ عدة
قرون.
إنَّ مشكلة التوفيق بين القيم الدينية التقليدية والثقافية
ومعايير الحضارة الغربية، وهي المسألة التي كانت ضرورية لتحديث
الطوائف اليهودية في القرن التاسع عشر، من أجل البقاء في الظروف
الجديدة للعالم سريع التغير، كانت محلولة جزئيًّا بالنسبة لليهود
العثمانيين في نهاية القرن التاسع عشر. وعلى أيِّ حال فإنها لم تكن
بنفس الحدة كما كان الأمر منذ عدة عقود مضَت. إن نجاح تحديث
الطوائف اليهودية، مع الحفاظ على قيمها الثقافية الدينية في بداية
القرن التاسع عشر، قد لفت نظر عالم الاجتماع والأديب التركي
المعروف ضياء كوك ألب (١٨٧٦–١٩٢٤م) الذي كان يُولي اهتمامًا كبيرًا
لضرورة مشاركة الأتراك في الحضارة الأوروبية، وكان ذلك — بالطبع —
بهدف المحافظة عليهم كأمة مُستقلة في دولتهم الخاصة بهم. وفي
فصل «نحو الغرب»، بأحد أهم أعماله «أسس النزعة التركية»، كتب
يقول:
«إذا كانت اختلافات الثَّقافات القومية لا تُعد عائقًا
لوحدتها الدينية فلماذا يجب أن تُصبح عقبة في طريق دخولها
في حضارة واحدة؟ فعلى سبيل المثال نجد أن اليهود
واليابانيِّين، رغم اختلافهم عن الأوروبيِّين، نظرًا لخصائصهم
القومية الثقافية والدينية، إلا أنَّهم تمكَّنوا من الانخراط
في الحضارة الغربية، وأن يكونوا فيها على قدم المساواة مع
الشعوب الأوروبية.» ويُوضِّح أن «هذا أصبح ممكنًا لأن
الحضارة الأوروبية الحديثة نشأت نتيجة لانتصار الفكر
القومي والمعرفة العلمية على الدوجما المسيحية، لذلك كان
من المحتم أن تُصبح علمانية. عند ذلك يمكن أن تضم في فلكها
أيضًا المسلمين مثل الأتراك، وغير المسلمين وغير
المسيحيِّين مثل اليهود واليابانيين.»
٤٤
في ٢٣ ديسمبر ١٨٧٦م تم افتتاح أول برلمان تركي، وكان من بين
أعضائه يهود: فمن إسطنبول أبراهام أجيمان، ومن بغداد مناحم صلاح،
ومن البوسنة زيفير، ومن يانينا
٤٥⋆
ديفيد سون ليفي. وتمَّ اختيار ديفيد سون كارمونا لعضوية مجلس
الشيوخ.
وعلى خلاف النواب المسيحيِّين كان النواب اليهود في البرلمان
يؤيدون سياسة الحكومات العثمانية باستمرار؛ حيث إنهم كانوا
يعتبرونها الحامي الوحيد لهم في وسَط مُعادٍ. وكانت الطوائف
اليهودية تذكر دائمًا ولاءَ وتسامح السلاطين العثمانيين. في أبريل
عام ١٨٩٢م جاءت ذكرى مرور ٤٠٠ سنة على فرار السفارديم من إسبانيا
ووصول المهاجرين الأوائل إلى الإمبراطورية العثمانية. وبهذه
المناسبة تمَّ استقبال كبير الحاخامات موشيه ليفي في قصر يلدز
لمقابلة السلطان عبد الحميد الثاني. وقدَّم كبير الحاخامات إلى
السلطان ترجمة تركية لصلاة يهودية تتضمَّن الامتنان للسلاطين
لتقديمهم الملجأ لليهود في الأوقات العصيبة. وكان نص الصلاة
موضوعًا في ألبوم مزيَّن بالذهب بمهارة. وكانت هذه الصلاة تتلى في
المعابد اليهودية. وخصصت الجرائد اليهودية إصدارات خاصة لاستقبال
السلطان، مع وصف مراحل الفرار من إسبانيا. وكانت ثقة السلطان في
الطوائف اليهودية تأخُذ أحيانًا أشكالًا غير سارة بالنسبة لهم. من
بين كل الملل غير المسلمة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن
العشرين بقيَ اليهود وحدهم على ولائهم للحكومة العثمانية. ولذلك،
واستنادًا إلى مراسيم التنظيمات بشأن مساواة كل الرعايا، اقترح
السلطان على موشيه التفكير في إمكانية مشاركة اليهود في التشكيلات
العسكرية العثمانية. ولم يتمكَّن كبير الحاخامات من الرفض. وعلى إثر
موافقة موشيه ليفي جاءت موافَقة مجلس الطائفة. وكان السلطان
مسرورًا وكريمًا وقال للحاخام: «إن أبواب القصر مفتوحة دائمًا لك
ولكل اليهود.» وتمَّ تقديم مشروع تجنيد اليهود للخدمة العسكرية إلى
مجلس الوزراء الذي عبر عن رضاه عن هذا التعبير الواضح عن الوطنية
من جانب طائفة غير مسلمة، ولكن المجلس رأى أن الوقت غير ملائم
لتنفيذ المشروع. وأخذ الوزراء بعين الاعتبار رد فعل غير المسلمين
الآخرين في الإمبراطورية وقرَّروا أنه من الأفضل تأجيل تنفيذ فكرة
السلطان.
٤٦
وفي القرن التاسع عشر، وفي القرن العشرين، استمر وفود اللاجئين
اليهود إلى إسطنبول، وكما كان الحال فيما مضى لم يُعِق السلاطين
قدومهم وقدموا لهم المأوى، وفي عام ١٩٠٦م ظهر في العاصمة اللاجئون
الفارون من المذابح في روسيا، وقامت الطائفة بمساعدتهم للاستقرار
في مكانهم الجديد. ومثلما كان الأمر فيما مضى استقبل السلاطين في
البلاط الأطباء اليهود، ودعا عبد الحميد الثاني البروفيسور بيير
للمساعدة في مكافحة الكوليرا التي انتشرت في بداية القرن العشرين
وخربت مساحات كبيرة من الدولة العثمانية. وكان السلطان راضيًا عن
عمل الطبيب وأنعم عليه بالوسام العثماني.
تغير الزمن وتغيرت حياة سكان إسطنبول بعض الشيء، ولكن ما بقي
ثابتًا دون تغيُّر هو الخلافات والنزاعات داخل الطائفة اليهودية،
ولم يقتصر ذلك على المسائل المهمة، بل وامتد أيضًا إلى أتفه
المسائل. وتوجد وثيقة تخص طرد الصحفي دافيد فريسكو من الطائفة
وفيما يلي نصها:
«إن جريدة تليجرافو (Telegrafo)
وكذلك جريدة إل تيمبو (El’Tiempo)
الصادرتين في إسطنبول ويحررهما دافيد فريسكو لا يمكن إلا أن تبعثا
على الاستياء. إنَّ هذا الصحفي قد أصبح منذ عدة سنوات يمثل مشكلة
بالنسبة للطائفة نتيجةً لمقالاته الموجَّهة ضد الأخلاق. إنه لم يكتف
بأن يَسمح لنفسه بالسخرية من الدين الذي يُناصبه العداء، ولكنه
يعتبر أنه من الممكن أيضًا إهانة الحاخامات. من الواضح أن الهدف
الوحيد لهذا الشخص هو إهانة ديانتنا المقدسة بمقالاته، ولا يمكننا
أن نرد على الألاعيب المعادية، خاصة في الوقت الذي يجري فيه تشكيل
مجلس الطائفة (meclisi cismani)
الذي سيقوم بإدارة شئون الطائفة. وفي هذا الوقت نضطر لإغلاق
أعيننا وآذاننا حتى لا نرى ولا نسمع كيف يواصل تشويه سمعة مؤسسات
الطائفة ويحطم بذلك الطائفة نفسها. وحيث إنه يزرع بذور الخلاف بين
أبناء العقيدة ويحاول تفكيك مجلس الطائفة، الذي نسعى جاهدين
لتكوينه، بينما منذ تأسيس جريدتيه لم نعرف الراحة، لا يسعنا إلا
أن نتخذ أقصى الإجراءات ضد المذكور أعلاه دافيد.
ونظرًا لكل ما سبق فإننا نحن الحاخامات أعضاء مجلس إسطنبول
الديني قد اجتمعنا برئاسة صاحب المعالي الموقَّر كبير حاخامات
المتوج (صاحب الفضيلة) وبدراسة كل نقاط هذا الموضوع طبقًا
للقوانين الدينية آخذين في الاعتبار كلمات وتصرفات المذكور أعلاه
دافيد، التي تُلحق بنا الأذى؛ فقد قرَّرنا طرده من العقيدة، وإعلان
أنه لا يَصلح لتحرير جريدة. ونُعلن أيضًا أنه يجب على كل الجرائد
والمجلات اليهودية ألا تسمح له بالنشر فيها. وقد تم اتخاذ هذا
القرار لوقف الأذى الذي يتسبَّب فيه، وللحفاظ على الدين وعلى الأمة،
ولذلك يجب تنفيذه دون أدنى تغيير.
٤٧ ١٥ من شهر كسلو عام ٥٦٤٥ من خلق العالم (١٨٨٥م).»
ويلي ذلك سبعة توقيعات لأعضاء المجلس الديني.
ورغم قيام السلطات بالإيقاف المؤقَّت لإصدار الجريدة، إلا أن
فريسكو استمر مع ذلك في انتقاد الحاخامية الكبرى على ما يسود فيها
من فوضى. وبعد مرور ثلاث سنوات تمَّ طرد دافيد فريسكو من الطائفة.
وجرى نشر نص الطرد بلغة اللادينو وترجمته إلى التركية من أجل
السلطات. ولكن الزمن كان قد تغيَّر. لم يَختف فريسكو، وظهر اسمه بعد
ذلك عام ١٩١٩م، مع قيام بعض الأشخاص بزيارة كبير الحاخامات حاييم
ناحوم، وكان من بينهم دافيد فريسكو، الذي كان كما سبق يرأس تحرير
جريدة إل تيمبو
(El Tiempo).
من المعروف أن اليهود شاركوا في ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨م،
وكان بعضهم غاية في النشاط، وكان نسيم روسو يعمل في خدمة حسين
حلمي باشا، المفتش العام لثلاث ولايات في روملي. وبعد انضمامه إلى
تركيا الفتاة، عمل نسيم على توزيع المنشورات والنداءات الداعية
إلى الثورة، والتي كان يلصقها على جدران البيوت في سالونيك. وفي
٢٢ يونيو ١٩٠٨م وقف على كرسي في أحد المقاهي ودعا الناس علانية
للثورة على السلطان عبد الحميد الثاني. وكان يعمل في جرائد تركيا
الفتاة في سالونيك ثم بعد ذلك في إسطنبول. وبعد انتصار الثورة
واستيلاء أنصار تركيا الفتاة على السلطة، حضر روسو وغيره من أعضاء
حزب «الاتحاد والترقي» إلى إسطنبول، وقام وزير المالية في الحكومة
الجديدة، جواد بك، بتعيين روسو رئيسًا لإدارة في وزارته، وبعد ذلك
نقله الوزير إلى مكان آخر ولكن بنفس الراتب.
كذلك انضم عمانويل كاراسو إلى أنصار تركيا الفتاة في الوقت
المناسب، وأصبح حلقة اتصال الحزب وقام بتنسيق أعمال أعضائه في
سالونيك وإسطنبول وغيرهما من المدن. وكان يكلف بمهام أخرى ومن
الواضح أنه نجح في إتمامها. وبعد الثورة أصبح كاراسو نائبًا في
برلمان تركيا الفتاة. وفي سنوات الحرب العالمية الأولى مكنته ثقة
السلطات من الثراء من توريد المهمات للجيش.
وكان إسرائيل أورباخ، وهو من رعايا ألمانيا، يعمل مساعدًا لنسيم
روسو في سنوات حكم أنصار تركيا الفتاة، وكان روسو وأورباخ على
اتصال بمجموعة صغيرة العدد من صهاينة إسطنبول. وكان خصوم أنصار
الصهيونية يتَّهمونهم بالأنانية ومحاولة استخدام الحركة لتحقيق
مصالحهم الشخصية.
بعد اعتماد دستور تركيا الفتاة عام ١٩٠٨م بدأ في إسطنبول الحديث
عن الصهيونية وعن مبدأ هرتزل. وبدأ في عدد من الصحف مثل
Hamevasser
وL’Aurore (الصادرة
بالفرنسية) وEl Judo (الصادرة
باللادينو) وJeune Turl
(الصادرة بالفرنسية)، نشر مقالات وأنباء عن الحركة الصهيونية
وتصريحات قادتها والردود عليها. وعند قراءة هذه الصحف كانت
الجماهير اليهودية في غالبيتها تتناولها بلا مبالاة وباعتبارها
أمرًا لا يخصها على الإطلاق، ولم تكن تشك أن الحركة ليس لديها أي
مستقبل في الإمبراطورية العثمانية التي كانت فلسطين جزءًا منها في
تلك السنوات. كان الجزء الأكبر من الطائفة اليهودية مشغولًا بحلقة
جديدة من الصراع الداخلي؛ فقد استخدم خصوم كبير الحاخامات موشيه
ليفي أحداث ثورة تركيا الفتاة عام ١٩٠٨م، وقاموا بعزله، وأصبح
كبير الحاخامات الجديد هو حاييم ناحوم، ولكنه لم يكن مُرضيًا
بالنسبة لجزء آخر من الساخطين الذين حاولوا أن يضعوا، مكان ناحوم،
حميه، مدير المدرسة الدينية اليهودية. لم تكلل الدسائس بالنجاح
ولكن الهجوم على كبير الحاخامات لم يتوقف، واستخدمت في هذا الصراع
أفكار الصهيونية. وقام الناشط السابق لحركة تركيا الفتاة، نسيم
روسو، الذي فقَد منصبه واختلف مع رفاق الأمس، بمعاداة حاييم ناحوم،
الذي كان يحظى بثقة الحكومة. وحاول روسو إنشاء خلية للحركة
الصهيونية في إسطنبول وبحث عن راعٍ له، واجتذب لنشاطه الجديد
إسرائيل أورباخ، الذي لم يكن من رعايا الدولة العثمانية.
بعد حرب البلقان عام ١٩١٢م اشتدَّت على حكومة تركيا الفتاة هجمات
المنظمات القومية التي تطالب بالتدخل المباشر للدول العظمى وتقسيم
الدولة العثمانية. وتمكن روسو في هذه الظروف من الحصول على تصريح
بإنشاء جمعية كان هدفها مُصاغًا بشكلٍ غامض جدًّا: التنظيم والإسكان
المحدود لليهود في فلسطين العثمانية. وسرعان ما حظرت السلطات
نشاطها. أما فيما يتعلَّق باليهود الذين وصلوا إلى البرلمان
العثماني؛ فيتالي فراج من إسطنبول، وعمانويل كاراسو من سالونيك،
ونسيم ماسلياخ من أزمير، وحزقيال ساسون من بغداد، والسناتور بيجور
أشكينازي؛ فقد كانوا بعيدين تمامًا عن الصهيونية والصهاينة،
وكانوا يتعاونون مع سلطات أنصار تركيا الفتاة ويؤيدون
سياستها.
ساعدت هزيمة الأتراك في حرب البلقان عام ١٩١٢م على نجاح انقلاب
يناير ١٩١٣م عندما وصل إلى السلطة خصوم تركيا الفتاة، الائتلافيون
أعضاء حزب الحرية والائتلاف. وقام صهاينة الأمس روسو وأورباخ،
بمساعدة كاراسو، بإنشاء منظمة وطنية جديدة موالية للسلطة الجديدة،
ولكنَّها لا تتَّفق بأي حال مع مصالح الطوائف اليهودية، وأُطلق عليها
اسم «المجلس الوطني»، وساعد هذا المجلس في إبقاء مُنشئيه في العمل
السياسي حتى عام ١٩١٩م.
٤٨
امتدَّت الإصلاحات لتشمل مؤسسة الحاخامات الموغلة في القدم والتي
بقيت زمنًا طويلًا دون تغيير، وكانت ذات نُظُم معقَّدة ووظائف مختلفة.
وفي عام ١٩١٢ م تمَّ إلغاء مختلف تسميات وتعريفات الحاخامات، ولم
يبقَ سوى تسمية نشاط المؤسسة، وتلا ذلك، طبقًا للوثائق، الاسم
الكامل طبقًا للتقاليد. في ١٤ يوليو عام ١٩١٤م تمَّ إعداد مرسوم
لمؤسسة حاخامات إسطنبول، قُسمت بمُقتضاه إلى أربع درجات: (١) شلوخي
زيبور وميزاريم
٤٩⋆
(٢) تالميدي حاخاميم
٥٠⋆
(٣) الحاخامات أعضاء مجلس الطائفة الديني
(
meclis-I umumi) (٤) سبعة
حاخامات أعضاء المجلس الديني الخاص (
miilis-I
ruhani)، ولكن إعادة التنظيم لم تؤدِّ إلى ترابط
الطائفة. وتسبَّب انتخاب كبير الحاخامات على وجه الخصوص في خلافات
كبيرة. وفي عام ١٩١١م قام مجلس الطائفة، الذي كان به عدد من
الصهاينة، بتدبير حملة ضد كبير الحاخامات حاييم ناحوم، الذي اختير
عام ١٩٠٨م، ووصفت جريدة
El Timpo أعضاء المجلس
بالصهاينة المزيَّفين، وكان هذا، غالبًا، نظرًا لسعيهم وراء بعض
المصالح الشخصية. وتمكَّن أعضاء المجلس هؤلاء من الحصول على تأييد
٢٠ حاخامًا من أعضاء مجلس الطائفة، المكون من مائة عضو من بينهم
٢٠ حاخامًا. واعتبرت الجريدة المذكورة أن نشاط المجلس غير بناء،
ولامت هؤلاء الحاخامات لأنَّهم يُقسمون المجلس ويُدبرون المكائد ضد
خصومهم ومُنافسيهم تحت ستار الحركة الصهيونية. وجاء في الجريدة أن
الحاخامات كانوا يسعون لتشكيل مجلس متجانس من أنصارهم. ومهما كانت
الدوافع الحقيقية لهذه أو تلك من المجموعات داخل مجلس الطائفة،
فلا شكَّ في الحقيقة المؤسفة، وهي الخلافات الدائمة في الطائفة،
وعدم القدرة على الاتِّفاق وتحقيق الإجماع.
وتعرَّضت المحكمة الدينية بيت دين أيضًا لإعادة التشكيل، وكانت
تتكوَّن من ٣–٥ أعضاء من أعضاء المجلس الديني
(meclis-I ruhani) ورئيس،
وأحيانًا كان كبير الحاخامات هو رئيس المحكمة.
كان بيت دين يتولى في الماضي المسائل الدينية والمدنية
والتجارية، ولم يكن ينظر الدعاوى المقامة بين اليهود فقط، ففي بعض
الأحيان كان يتقدم إليه غير اليهود ممن لهم علاقات أعمال مع
اليهود. وفي بداية القرن العشرين لم تكن الولاية القانونية لهذه
المحكمة تشمل سوى المسائل الدينية. وكانت سلطتها، في وقت ما،
كبيرة للغاية لدرجة أنها كانت تصدر أحكامًا باللعنة والحرمان على
المدانين من أعضاء الطائفة. وفي عام ١٩١٢م تغير نظام الجلسات
القضائية، وصدرت تعريفة جديدة لإجراء المحاكمة وإصدار الحكم،
وكذلك جرى إدخال نظام آخر لاستخدام الاقتباسات والمراجع التي تصدر
الأحكام بناءً عليها.
٥١ ورغم ذلك فإنَّ الطائفة ومؤسَّساتها كانت تتغيَّر ببطء
شديد، وهو الأمر الذي يُمكن، إلى حدٍّ ما، تفسيره بعدم استقرار
أحوالها في القرن العشرين.
في الأول من أغسطس عام ١٩١٤م بدأت الحرب العالمية الأولى، التي
شاركت فيها تركيا إلى جانب دول أوروبا الوسطى ألمانيا والنمسا
والمجر. وتمَّ إغلاق كل المدارس التي تُموِّلها بلدان الحلفاء. ونظرًا
لأن مدارس الاتحاد اليهودي العام كانت مدارس ابتدائية فإن الأطفال
اليهود، الراغبين في استكمال التعليم، كانوا يذهبون إلى المدارس
الثانوية التركية والفرنسية والأمريكية. كانت الدراسة في مدارس
الاتحاد باللغة الفرنسية لذلك فإنَّ كثيرًا من الأطفال كانوا يذهبون
بعد ذلك للتعليم في المدارس والكليات الفرنسية. وأدَّى إغلاق هذه
المؤسسات التعليمية إلى حرمان كثير من الطلبة من استكمال التعليم.
وفي هذا الموقف أخذت جمعية «بناي بريت» زمام المبادرة وأسست مدرسة
ثانوية يهودية، أخذت أساسًا لها برنامج مدرسة جَلَطة سراي الحكومية
التي كانت وقتها أفضل مدارس إسطنبول. تمَّ افتتاح المدرسة عام ١٩١٥م
وكانت الدراسة فيها باللغة الفرنسية، وبالإضافة إلى ذلك كان الطلبة
يدرسون العبرية القديمة والإنجليزية والألمانية والتركية. وكان من
بين المدرِّسين أساتذة مدرسة جَلَطة سراي الذين استقدمتهم الحكومة
التركية من فرنسا. وفيما بعد أسَّست نفس هذه الجمعية «بناي بريت»
مدرسة للبنات سرعان ما تحوَّلت نتيجة عدم كفاية التمويل إلى مدرسة
مشتركة. أصبحت مدرسة «بناي بريت» واحدة من أفضل مدارس المدينة،
ولم يَقتصِر الالتحاق بها على اليهود، بل كان يلتحق بها أيضًا
الأتراك واليونانيون والأرمن وسلاف البلقان؛ لأنها كانت تعطي الحق
في التقدم للامتحان للحصول على درجة البكالوريا.
عشية الحرب العالمية الأولى بلغ عدد يهود إسطنبول حوالي ٨٠٫٠٠٠
نسمة.
٥٢ وفي سنوات هدنة مودروس الموقعة عام ١٩١٨م، والتي كانت
دافعًا أساسيًّا لدخول الأتراك حرب الاستقلال، توافَدَ على إسطنبول
اليهود من مختلف الولايات، وخاصة تلك التي كانت تدور فيها
المعارك. وجاء العديد من اللاجئين من القوقاز حيث كانت جبهة
الأعمال العسكرية الروسية التركية. وزاد عدد سكان المدينة ثم
تراجع بشدة فيما بعد.
أدَّت الأزمة الاقتصادية الشاملة، التي اجتاحت كثيرًا من البلاد
بعد الحرب، إلى حرمان كثير من الناس من العمل، ولم يكن اليهود
استثناءً من هذا. ولأن الموانئ التركية لم تغلق على الفور فقد
أعطى هذا الفرصة لعدد كبير من الراغبين في الهجرة للسفر إلى
أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية. ونقص عدد سكان إسطنبول بشكل
كبير. وطبقًا للمعلومات الرسمية انخفض عدد يهود إسطنبول إلى النصف
تقريبًا ليصل إلى حوالي ٤٧٠٣٥ نسمة.
ارتبط تاريخ الطوائف اليهودية في إسطنبول بعد ذلك بالقواعد
السياسية والقانونية للجمهورية التركية، التي انهار فيها نظام
الملل نفسه، والتقاليد القديمة وعلاقتها بالسلطة المركزية. وأدى
دمار الحرب وما بعد الحرب إلى انتهاء الميزات التي حصلت عليها
التجارة اليهودية في سنوات ما قبل الحرب وفي أثنائها، واضطر
اليهود الذين بقوا في تركيا الجمهورية إلى التأقلُم مع السلطة
الجديدة وقواعد اللعب الجديدة وشروط البقاء الجديدة التي لم تكن
تَعِدُ إطلاقًا بحياة هادئة.