الفصل الثامن
اليهود في البلقان
عصر السيادة العثمانية في بلغاريا ومقدونيا
كان اليهود يعيشون في البلقان منذ عصر الإسكندر المقدوني، وبعد
تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية
والإمبراطورية الرومانية الشرقية (٣٩٥م)، انضم جزء من الأراضي،
بالمقيمين عليها من السكان اليهود، إلى الإمبراطورية البيزنطية
ودول البلقان الأخرى. ويتحدث م. أ. أرتامونوف في كتابه «تاريخ
الخزر» عن رحلات التجارة التي كان يقوم بها يهود البلقان في البحر
الأسود في الفترة من القرن السابع حتى القرن العاشر الميلاديين،
وكانوا ينقلون إلى الجنوب مختلف أنواع البضائع: الجلود والسلاح
والأدوية والحلي التي تستخدم كتعاويذ، ولم يتجنبوا حتى تجارة
الرقيق أيضًا. وفي عام ١٣٦٠م تم طرد يهود المجر من البلاد، وقدم
لهم حاكم بلغاريا إيفان شيشمان الملجأ، وانضموا إلى طائفة أبناء
عقيدتهم في فيدين ونيكوبول وبليفن، وبعد فترة من الزمن انتقل
بعضهم إلى سيريس وسالونيك حيث كان بها آنذاك عدد كبير من
المستوطنات اليهودية.
وفي عام ١٣٥٤م استولى الأتراك على تحصينات شبه جزيرة جاليبولي
ومن هناك بدأ تقدمهم نحو البلقان. وفي عام ١٣٦١م احتلت قوات
السلطان مراد الثالث مدينة أوهريد. وكان في أوهريد طائفتان
يهوديتان؛ الأولى هي الرومانيت، الذين كانوا قد استقروا هناك منذ
زمن بعيد، والطائفة الثانية الأشكيناز، التي تتكوَّن من المهاجرين
الذين تعرضوا للملاحقة في المجر وألمانيا وبولندا والنمسا، وقد
فروا من هذه البلاد في النصف الثاني من القرن الرابع عشر
الميلادي.
بعد الانتصار في معركة نهر ماريتا عام ١٣٧١م سرعان ما احتل
الأتراك مقدونيا كلها. وحاولت بلغاريا التصدي لهم دون جدوى.
وقاومت مدينة تارنوفو مقاومة بطولية لكنها سقطت أيضًا عام ١٣٩١م.
واستجابة لنداء البابا حاول الصليبيُّون وقف التوسع التركي لكنهم لم
يتمكَّنوا وهُزموا عند نيكوبول عام ١٣٩٦م.
١
وجاء المُنتصرون إلى البلقان ومعهم ديانتهم. وكان الناس هنا قبل
ذلك لا يعلمون إلا القليل عن الإسلام. واستمرَّت الغالبية العظمى من
سكان البلقان محتفظة بعقيدتها المسيحية حتى بعد الغزو التركي، ومع
ذلك فإن هذه العقيدة أصبحت الآن خاضعة لكثير من القواعد والقيود
الإسلامية. وتعرضت اليهودية لنفس المصير، ولكن وضع اليهود تحت حكم
الأتراك تغير إلى الأفضل؛ فلم يكن الأتراك يشاطرون المسيحيين
آراءهم المعادية للسامية. وحصل اليهود على نفس الحقوق التي حصل
عليها أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين مثل: حرية العقيدة
والإدارة الذاتية داخل الطائفة والحق في محاكمهم الدينية الخاصة،
جمع الضرائب الحكومية داخل الطائفة وسدادها لخزانة السلطان. وكان
اليهود يتنقلون بحرية في أراضي الإمبراطورية العثمانية. وكانت
أملاكهم مركزة بشكل رئيسي في المدن حيث كان يعيش أغلبهم. وطبقًا
للإحصاءات العثمانية في القرن السادس عشر كان في مدن بلغاريا عدد
صغير من اليهود.
٢⋆
|
١٥٢٠–١٥٣٠م |
١٥٧١–١٥٨٠م |
روسي |
١٣ أرملة |
— |
فيدين |
٧ |
٤٨ |
صوفيا |
٤٠ أرملة |
٥٢ (٦ أرامل) |
بلوفديف |
٩٤ (١٣ أرملة) |
٥٤ |
لم تصل الموجة الأولى من المهاجرين اليهود من إسبانيا إلى
مقدونيا قبل عام ١٣٩١م وكان اليهود الذين وقعوا في الأسر أو في
أيدي تجار الرقيق في كريت يتمُّ افتداؤهم بواسطة أبناء عشيرتهم،
وغالبًا ما كانوا يستقرُّون في مدن مقدونيا وبلغاريا. وفي النصف
الأول من القرن السادس عشر كتب الحاخام إفرام بن جيرزون من مدينة
بير، والمعروف بعلمه، عن مصير الطوائف اليهودية في أوهريد وبير
وكوستور التي استولى عليها الأتراك. وفي شهر مارس عام ١٤٣٠م سقطت
مدينة سالونيك إحدى كبريات مدن مقدونيا. وتمكَّن كثير من الأسر، بما
في ذلك الأسر اليهودية، من الفرار من هناك قبل وصول الأتراك. وكان
السلطان مراد الثاني (١٤٢١–١٤٥١م)، الذي قاد حصار المدينة،
مُندهشًا من قلة عدد السكان الذين رآهم. وعرض السلطان على الفارين
العودة ضامنًا لهم الحياة والحرية والحق في اختيار العمل.
وبالتدريج اكتسبت سالونيك الملامح المميزة للمدينة الشرقية. وتم
تحويل كثير من الكنائس إلى مساجد بما في ذلك كنيسة القديس ديمتري
الشهيرة. وفي عصر الغزوات السريعة في زمن توسع الدولة العثمانية
لم يكن الأتراك يُعارضون بناء المعابد اليهودية في تلك المدن التي
انتقل اليهود للعيش فيها بمحض إرادتهم. صحيح أنهم كانوا يُنقلون
أحيانًا بالقوة، فقد كانت السلطات منذ الأزمنة القديمة تقوم بذلك
مع مختلف مجموعات السكان لاعتبارات خاصة بها. وكان اليهود يَسعون
للعيش في مدن ذات بنية أساسية متطورة للتجارة والحرف. وكان بعضهم،
وخصوصًا المهاجرين من أوروبا الغربية، يَحتفظون بثرواتهم وتمكنوا
من إحياء الإنتاج الحرفي والتجارة في عدد من مدن البلقان مثل
بلغراد وسكوبيا وفيدين وأدريانوبول وسراييفو وبلوفديف … وفي ذلك
الوقت كانت هناك طوائف يهودية متماسكة. وزاد عدد سكان مدن
البلقان، في نهاية القرن الخامس عشر وفي القرن السادس عشر، بشكل
ملحوظ بفضل السفارديم الذين فرُّوا في مجموعات كبيرة عدة مرات من
إسبانيا والبرتغال وصقلية. وانتقل اليهود للعيش في تركيا
الأوروبية من مدن الإمبراطورية العثمانية في آسيا الصغرى
أيضًا.
جاء في إحدى الوثائق التركية، التي ترجع إلى نهاية القرن الخامس
عشر الميلادي، أنه كان في سالونيك في ذلك الحين ٦٣٦ منزلًا
للسفارديم و٦٨ منزلًا للأشكيناز (منها ١٥ لأشخاص غير مُتزوِّجين).
وسرعان ما أصبحت المدينة مركزًا تجاريًّا رئيسيًّا لشرق البحر
المتوسط. وفي النصف الأول من القرن السادس عشر كان عدد المنازل
اليهودية يَتراوح بين ٢٥٠٠ و٣٥٠٠ منزل. وطبقًا لإحصاء عام ١٥١٨م
كان في سالونيك ١٣٧٤ منزلًا للمسلمين (منها ٢٨٢ منزلًا لغير
المتزوِّجين)، و٣١٤٣ منزلًا يهوديًّا (منها ٥٣٠ منزلًا لغير
المتزوِّجين) و١٠٨٧ منزلًا لغير المسلمين أغلبها للمسيحيين.
في مدن البلقان الأخرى كان عدد المنازل اليهودية أقل بكثير.
وهذه المعلومات تقريبية بالطبع؛ حيث إنَّ عدد المنازل الخاصة كان
يتغير خلال القرن، ولكن المعلومات مأخوذة من سجلات الضرائب وتقدم
تصورًا واضحًا عن نسب هذه المنازل في مختلف المدن في القرنين
السادس عشر والسابع عشر.
صوفيا |
– ١٥٠٠ |
سيريس |
– ٥٦ |
بيتولا |
– ٢٠٠ |
بلوفديف |
– ٣٠٠ |
كافالا (قولة) |
– ٥٠٠ |
تريكالا |
– ٣٨٧ |
موريا |
– ٤٦٤ |
نيكوبول |
– ٢٠٥ |
نافباكتوس |
– ٨٤ |
فيدين |
– ٥٠ |
يانينا |
– ٣٤ |
ينجي-فاردار |
– ٢٤ |
كوموتيني |
– ١٩ |
جاليبولي |
– ٢٣ |
كراتوفو |
– ١١ |
كوروني |
– ١٠ |
ذُكرت سالونيك في السجلات السلطانية في بداية القرن السادس عشر
باعتبارها مدينة يصل إيرادها إلى ٣١٤٩٦٥٩ آقجة (عملة فضية
عثمانية)، وهو إيراد كبير. وفي العقود التالية تناقص عدد البيوت
اليهودية في سالونيك قليلًا، وكان هذا غالبًا بسبب انتقال السكان
اليهود (وليس اليهود فقط) إلى إسطنبول والمدن الأخرى. وفي
أدريانوبول عام ١٥٢٩م، كان عدد منازل المسلمين ٣٢٦٩، والمسيحيين
٤٧٢، واليهود ٢٠٧. وفي نهاية القرن السادس عشر كان في بلوفديف ٣٠٠
منزل يهودي، وفي نيكوبول ٢٠٥، وفي فيدين ٥٠. وإجمالًا لم تتجاوز
نسبة المنازل اليهودية في البلقان، في منتصف القرن السادس عشر،
٠٫٤٪ من العدد الكلي. وبقول آخر فإن عددها كان ٤١٣٤ منزلًا. أما
المنازل المسيحية التي بلغ عددها ٨١٤٧٧٧ منزلًا فكانت تشكل ٨١٪،
أما منازل المسلمين فكانت ١٨٫٦٪ (وكان عددها ١٨٦٩٥٢
منزلًا).
٣
كانت سالونيك مثل غيرها من المدن الكبيرة في الإمبراطورية
العثمانية تضم ثلاث طوائف يهودية أساسية: الرومانيوت والأشكيناز
والسفارديم.
تحدثنا فيما سبق عن هجرة اليهود من غرب ووسط أوروبا إلى
البلقان. وتأخرت الموجة الجديدة ليهود بافاريا في سالونيك (وجرى
هذا في الثلث الأخير من القرن الخامس عشر). في عام ١٤٧٥م، دعا
الحاخام إسحاق تسارفاتي الطوائف اليهودية في أوروبا لمغادرة المدن
المسيحية؛ حيث كانوا يهددونهم باستمرار، والانتقال إلى
الإمبراطورية العثمانية التي كانت في القرنين الخامس عشر والسادس
عشر أكثر أمانًا.
٤ وجاء إلى سالونيك وغيرها من مدن البلقان يهود من
ألمانيا وبولندا ومورافيا والمجر.
في عام ١٤٩٣م طُرد اليهود من جنوب إيطاليا وصقلية، وفي عام
١٤٩٧-١٤٩٨م من البروفانس والبرتغال، ووجد أغلبهم ملجأً في الأراضي
التي يسود فيها الإسلام، بما في ذلك المناطق العثمانية في
البلقان. واكتسب السكان اليهود الجدد في سالونيك تسميات مرتبطة
بالأماكن التي هاجروا منها: القشتاليون، الأراجونيون، الطليطليون،
الصقليون، الكالابريون، القرطبيون، البرتغاليون … وكان السفارديم
القادمون إلى سالونيك يفوقون غيرهم من الطوائف اليهودية عددًا،
وكان كثيرون منهم ذوي ثقافة رفيعة المستوى، ودرسوا في الجامعات
الإسبانية والبرتغالية، وكانوا هم أنفسهم يقومون بالتدريس في
المدارس، وكانوا يعرفون اللاتينية والعربية والفرنسية والألمانية
والإيطالية، بالإضافة طبعًا إلى الإسبانية والبرتغالية. وقام
الثري المثقف دون يهودا بينيفيستا، الذي كان مستشارًا ماليًّا
لملك قشتالة جوان الثاني، بإنشاء مكتبة في سالونيك من أمواله
الخاصة، وأسس أكاديمية تلمودية مشهورة في أوروبا كلها.
٥ وبالتدريج أصبحت المدينة مركزًا ثقافيًّا
مهمًّا.
وقد استفادت الدولة العثمانية، التي كانت تَستجمِع قواها، من
الخبرة التجارية التي تجمَّعت عبر القرون لدى اللاجئين إليها،
بالإضافة إلى إتقانهم الحرف واللغات الأجنبية، وصلاتهم بأبناء
عقيدتهم في مختلف أنحاء العالم. وكان البلاط السلطاني العثماني
يُقدِّر إتقان المهاجرين للعمل، وعلمهم الواسع في الطب والصيدلة
والكيمياء وصناعة الأسلحة والمعدَّات الحربية. واحتفظ الرومانيوت؛
سكان سالونيك الأصليون، بمعرفتهم بصناعة النسيج منذ الزمن الذي
كانت فيه فينيسيا تحكم المدينة. غير أن صناعة النسيج حققت النهضة
الكبيرة بعد وصول أعداد كبيرة من السفارديم.
وكانوا هم الذين أنشئوا أول مطبعة في إسطنبول، وبعد ذلك بقليل،
عام ١٥١٥م، افتتح السفارديم مطبعة في سالونيك، وكان معظم ما يطبع
فيها من كتب بالعبرية القديمة.
٦
في نهاية القرن السادس عشر كان الرحالة الغربيون يصفون سالونيك
بأنها مدينة كبيرة جميلة ذات شوارع عريضة، وأنابيب لنقل المياه،
وتجارة وحرف متطورة.
استمرَّ نزوح اليهود إلى البلقان في العقود التالية أيضًا، ولكنها
لم تعد تحمل طابعًا جماعيًّا كثيفًا. جاءت إلى شبه الجزيرة
مجموعات صغيرة من المهاجرين وبعض العائلات بل وحتى المهاجرون
أفرادًا. كانت الرحلة طويلة ولا تخلو من الخطر وتتطلب قدرًا غير
قليل من المال. وفي عام ١٥٠٢م توجَّه عدد من الأسر اليهودية على متن
سفينة إلى بوليا، آملين أن يصلوا عبر فالونا إلى سالونيك. وفي
البحر قام البحارة بقتل الركاب واستولوا على ممتلكاتهم ثم باعوها
في دوبروفنيك.
٧
عندما استولى الأتراك على البلقان أقاموا هناك نظامهم الاجتماعي
السياسي والاقتصادي. وكان على السكان غير المسلمين، في المناطق
الخاضعة لهم، أن يدفعوا الضرائب التي كانت الجزية أكبرها قيمة.
وكان يُعفى منها، بالإضافة إلى كبير الحاخامات، بعض مسئولي
الطائفة اليهودية، وكذلك أولئك الذين كانوا، طبقًا لمرسوم سلطاني
(براءة)، يتمتَّعون بميزات مقابل خدمات ما.
كان اليهود يُقسمون الضرائب داخل الطائفة بأنفسهم مع مراعاة
الوضع المادي لكلِّ أسرة، وكانت الطائفة تُجري تقييمًا لكل
الممتلكات مرةً كل ثلاث سنوات، وكان يتمُّ تعيين مُثمِّنين يُحدِّدون قيمة
المطلوب دفعه، وإذا اعترض أحد أفراد الطائفة على المبلغ المطلوب،
كان يمكنه، بعد أن يؤدي القَسَم، أن يقدم بيانًا بقيمة مُمتلكاته،
وإذا لم يكن دافع الضرائب، في تلك اللحظة، يملك نقودًا، فإن
الطائفة تدفع بدلًا منه، وعند ذلك كان لها الحق في استرداد النقود
من المدين والاحتفاظ بنصف الدين لصالحها.
وفي وثائق الطائفتَين البرتغالية والأرجوانية في بيتول عام
١٦٣٤م، كان هناك ثلاث درجات لدافعي الضرائب: الأثرياء كانوا
يدفعون ٤٨ درامًا (عملة فضية)، والأقلُّ ثراءً يدفعون ١٢ درامًا، أما
الفقراء فيدفعون ٧ درامات. وكانت كل طائفة تجمع ضرائبها على
حدة.
٨
هناك العديد من الوثائق المحفوظة والمنشورة المتعلقة بالضرائب
المفروضة على الطوائف اليهودية في البلقان في أثناء الحكم
العثماني، وكانت هذه الوثائق (وتُسمَّى دفاتر) تعد سنويًّا، وكان تتم
فيها مراجعة عدد المنازل الخاضعة للضرائب في هذه السنة وكذلك قيمة
الضريبة التي كثيرًا ما كانت تتغيَّر لأسباب مختلفة.
وتُشير سجلات تحصيل الجزية من غير المسلمين في ولاية سيليستر، عن
عام ١٠٣٠ هجرية (نوفمبر ١٦٢٠-١٦٢١م) إلى أن عدد منازل الطائفة
اليهودية المحلية يَبلغ ٣٤ منزلًا.
وجاء في سجل مُماثل لبلوفديف عن عامي ١٦٣٣-١٦٣٤م أنَّ المدينة بها
١٦ منزلًا يهوديًّا خاضعًا للضرائب. ويدلُّ العديد من الوثائق على
أنَّ المبالغ المحصلة من اليهود كثيرًا ما كانت تزيد عما كان على
الطائفة أن تَدفعه طبقًا للقانون.
٩
وفي مثل تلك الحالات كانت الطائفة تُرسل إلى إسطنبول وسيطًا لطلب
تخفيض المبلغ المطلوب، وهو الأمر الذي كان مصحوبًا بمخاطرة كبيرة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن تجهيز وسيط للسفر إلى إسطنبول في ذلك الوقت
كان يحتاج إلى نفقات كبيرة.
وفي بعض الأحيان عندما كانت السلطات المحلية تقرر فرض ضرائب
جديدة على التجار اليهود، على بيع وشراء بعض البضائع، كان التجار
يرسلون مُمثِّلهم للتوسط لإلغاء هذه الضريبة. وكان السفر إلى إسطنبول
يتطلب إنفاق ٣٠٠٠ قرش، وهو مبلغ كبير، كان التجار الآخرون يَلتزمون
بتعويضِه (القرش هو وحدة نقدية في هذا الوقت تزيد قيمتها كثيرًا
على الآقجة).
ولكن سرعان ما اتَّضح أنهم لا يتعجَّلون الوفاء بالتزاماتهم؛ إذ
إنهم قرَّروا أنه من الأسهل بيع البضائع المذكورة من خلال أشخاص
اسميين غير يهود. ونشب نزاع قضائي فصلت فيه المحكمة
الحاخامية.
كان على طائفة صوفيا أن تُؤدِّي للخزينة ٢٩٥٨٠ آقجة (عملة فضية
كانت هي وحدة النقود الأساسية من مُنتصَف القرن السادس عشر حتى
نهاية القرن السابع عشر، وسرعان ما فقدت قيمتها) وذلك لحساب ضريبة
إسبنجة (ضريبة نفس تُؤخَذ من غير المسلمين، سواء الرجال أو النساء،
البالغين). وفي الواقع أنَّ المحصل إبراهيم جلبي أخذ من اليهود
٣٠٠٠٠ آقجة. وتقول الوثيقة إنَّ الفارق البالغ ٤٢٠ آقجة محسوب لصالح
الخزانة.
١٠
في عام ١٦٨٢م صدرت تعليمات من السلطات العثمانية بجمع ضريبتي
الجزية والإسبنجة معًا. وانعكس هذا في براءة عام ١٦٨٣-١٦٨٤م بشأن
الضرائب على اليهود. وجاء في هذه الوثيقة أن سالونيك لم تَعُد نفس
الوحدة الإدارية-السنجق، ولكنها تعتبر من الآن وحدة أقل هي
القضاء. وبناءً على مرسوم السلطان محمد الرابع الصادر عام
١٦٨٥-١٦٨٦م، فإن ضريبتي الجزية والإسبنجة في مدينة المنستير زادت
من ٤٢٧٥٠ إلى ٤٣٧٥٠ آقجة. وفي بلغراد نقص هذا المبلغ قليلًا من
٦٣٩٠ إلى ٦٢٩٠ آقجة.
١١ وكان تعسف الإدارة عند جمع الضرائب في عدد من مدن
البلقان يَحمل طابعًا ممنهجًا، وكان اليهود يشتكون في هذا الشأن
للقضاة المحليِّين وللسلطان، وكان مما يثير حنقهم أيضًا طرق حساب
الضرائب، عندما كان المبلغ المطلوب يَزيد بكثير على ذلك المحدد في
الاتفاق مع السلطات العليا. كما كانت الأساليب الإجرامية لجمع
الضرائب تُثير سخطهم. وفي عام ١٦٣٤م شكا يهود بيتول للسلطان أنه
بدلًا من المبلغ المقرر وهو ٦٠٠٠٠ آقجة تمَّ تحصيل ١٥٠٠٠٠ آقجة من
الطائفة. وكانت الشكاوى كثيرة التكرار، وفي عام ١٦٥٥م ظهر أخيرًا
فرمان السلطان محمد الرابع (١٦٤٨–١٦٨٧م) ردًّا على شكوى يهود
بيتول بشأن تعسُّف جامعي الضرائب.
أبلغ مسئول الطائفة اليهودية السلطات بما يلي: «إن ضرائب الجزية
والإسبنجة ورابي أكتشيسي (ضريبة الحق في أن يكون لدى الطائفة كبير
حاخامات. أ. ف.) مقرَّرة على طائفتنا بمبلغ ٤٢٧٥٠ آقجة، وهي مقررة
طبقًا للدفاتر، ونحن ندفع الضرائب سنويًّا حسب القانون وطبقًا
للدفاتر، ونحن لا نستطيع أن ندفع أكثر من ذلك، ولكن هذا لا يرضي
جامعي الضرائب. ورغم القانون والسجلات فإنهم يُهددونا.» لذلك فإنَّ
الفرمان يتحدَّث مباشرة عن عدم السماح بابتزاز أكثر من المفروض في
الضرائب الثلاث وعدم السماح باستخدام الوسائل السيئة
لاغتصابها.
١٢ وكان مبلغ ٤٢٧٥٠ آقجة سنويًّا المذكور في الدفاتر
يذهب لصناعة ملابس صوفية من أجل فيلق الإنكشارية للباب العالي،
وكانت هناك لوائح سلطانية خاصة بسالونيك حيث تُصنع هذه الملابس،
وصدرت الأوامر للسلطات المحلية بعدم التعسف عند تحصيل الضرائب حتى
لا تكون هناك حاجة إلى شكاوى أخرى بهذا الصدد، وجاء في الفرمان
السلطاني أيضًا ضرورة اطِّلاع ممثلي الطائفة اليهودية على هذه
الوثيقة.
وتمَّ إرسال فرمانات مماثلة، ردًّا على الشكاوى التي وصلت إلى
المركز، إلى السلطات المحلية وخصوصًا القضاة. وفي عام ١٦٦٣م اشتكى
ياكوف كالديرون للقاضي في بيتول من أنهم يرغمونه على دفع الجزية
التي كان معفيًّا منها لأنه أصم وأعمى، وكان العجزة يعفون دائمًا
من دفع الضريبة.
كان يهود بيتول الذين تأخَّروا في دفع الجزية ١٧٠٨-١٧٠٩م، مهددين
بعقابٍ قاس، وجاء في الفرمان المرسل من المركز: «إن من لا يدفع
الضريبة، أو يتأخَّر في دفعها، سوف يخضع لإرساله لخدمة طويلة في
البحرية كمجدف على سفنٍ سُلطانية.» ومن أجل تجنب الصراع الدائم مع
اللصوص من محصلي الضرائب (جزيادار)، ومع الولاة والقضاة الذين
كانوا، بالإضافة إلى المبالغ المقرَّرة، يبتزون هدايا من الأقمشة
الصوفية وغيرها من البضائع الثمينة، كان بعض اليهود يفرون من
المدينة، وغالبًا ما كانوا يعثرون عليهم ويكرهونهم على العودة إلى
مكانهم السابق.
وبالإضافة إلى الجزية كان من الضروري دفع ضرائب أخرى أيضًا مثل:
ضريبة مصروفات القوات، وضريبة الميراث، وضريبة المراعي السلطانية،
وضريبة الذبح وبيع اللحوم، كما كانت هناك أيضًا ضريبة
دينية.
وإذا قام وزير رومللي (الجزء الأوروبي من الإمبراطورية
العثمانية) أو أي من الوجهاء المهمين الآخرين بزيارة مدينة يعيش
فيها يهود، يؤخذ منهم ١٩ قرشًا و٥ آقجة من كل فرد. وكانت النقود
تُنفق على إيواء الوجيه وحاشيته.
كذلك كانت توجد ضرائب خاصة مثل ضريبة ملابس الجيش وكان مقدارها
عام ١٦٩٦م ٢٥٠٠ قرش من الطائفة الصغيرة، وضريبة مواد غذائية للجيش
أيضًا، كانت عام ١٧١٤م ٥٦٢٤٠ آقجة، وكانوا، في بيتول، يأخذون
للتجهيزات العسكرية ضريبة من كل منزل ٣٠٧٢ آقجة.
١٣ وكما سبق أن ذكرنا، لم يكن يُعفى من الضرائب في
الطائفة اليهودية سوى أفراد معدودين وبمراسيم عليا فقط. وتوجد
وثيقة من عام ١٦٧٣م، عبارة عن طلب من الطبيب السابق لخان القرم
سليم كراي الأول، إلى السلطان محمد الرابع. وبعد كلمات الثناء على
السلطان، المعتادة في ذلك الوقت، يلخص الطبيب الموضوع: «أنا
عبدكم، القادم إلى مدينة أدرنة، أعمل طبيبًا، وكنت في خدمة صاحب
السمو الخان المبجَّل، وأنا الآن كهل لا أملك شيئًا. بكل تواضع أرجو
من سموكم، بناءً على الدفتر الموضح فيه وضعي، إعفاء عبديكما؛ أنا
وابني، من دفع الجزية والإسبنجة والضرائب الأخرى.» وجاء بعد ذلك
أن الطائفة اليهودية في أدرنة، طبقًا للدفاتر، بها ٧٠٠ منزل. ومع
طلب الطبيب أرفقت رسالة من سليم كراي خان نفسه. وفي الثالث من رجب
عام ١٠٨٤ هجرية (١٤ أكتوبر ١٦٧٣م) تم توقيع براءة بشأن إعفاء
اليهودي ماكار-أوغلو كمال وابنه كمال من الضرائب.
١٤
أما فيما يتعلَّق بالمزايا الضريبية للحاخامات وأعضاء المجالس
والمدرسين وغيرهم من العاملين في خدمة الطائفة، فقد كان هذا شأنًا
داخليًّا بحتًا للطائفة ولا علاقة للسلطات العثمانية به. وكانت
قيمة الضرائب تقسم داخل الطائفة. ولم يكن الحاخامات يتمتعون
بمكانة دينية فقط بل وبسلطة إدارية كبيرة أيضًا. وقد سُئل أحد
المحترمين العارفين بالتقاليد الدينية: «هل يجب على الحاخام
المشتغل بالعمل الديني أن يدفع الضرائب والمكوس التي تطلبها
الدولة من الطائفة؟» وكانت الإجابة كما يلي: «إن الشخص المشغول
بدراسة الشريعة والتقاليد، يُعفى من دفع الضرائب.»
١٥
كان كل نشاط اليهود في الدياسبورا (الشتات) مركزًا في نطاق
الطائفة: نشاط اقتصادي، وروحي، وثقافي. وكانت قوانين الدولة
الإسلامية، بالإضافة إلى القوانين الدينية اليهودية، تعمل أيضًا
على عزل اليهود عن بقية السكان. كانت الطائفة الدينية (كحيلا)
موجودة في كثير من مدن البلقان في زمن الدولة البيزنطية أيضًا،
ولكنها نمت بشكلٍ كبير تحت حكم العثمانيِّين. كان للطوائف اليهودية
محاكمها الدينية الخاصة بها، بيت دين، وكانت تقوم بحل كل الأمور
المدنية، وكانت المحكمة تمنع اليهود من اللجوء، لأي سبب كان، إلى
المحاكم الشرعية للإمبراطورية العثمانية، ولكن بالطبع لم تكن
صلاحياتها تشمل كل شيء؛ فلم تكن تتمكن، على سبيل المثال، من حل
الخلافات العديدة السابق ذكرها والمرتبطة بتحصيل الضرائب، ولم
تستطع تسوية سوء التفاهم الذي كان للإدارة التركية المحلية دور
فيه. وفي الحالات الأكثر صعوبة كان كبير الحاخامات يقوم بالدفاع
عن مصالح الطائفة لدى السلطات العليا. وكان الأمر يتطلب أن يكون
على قدر كبير من التعليم والكفاءة في المسائل غير الدينية
أيضًا.
كان الخلاف بين اليهودي وغير اليهودي يُنظر أمام القاضي. ولم
يكن موقف الطائفة اليهودية والمحكمة الحاخامية من طريقة نظر
القضايا أمام المحاكم الشرعية العثمانية وكذلك أحكامها، لم يكن
مرتبطًا بالاختلافات الدينية والتقاليد فقط. في أحد الخلافات بشأن
المواريث طالبت أرملة أشقاء زوجها المتوفَّى بالميراث الذي حصلت على
حجة بشأنه من المحكمة الشرعية. ولكن الحاخامية رفضت طلب الأرملة،
وقررت أن الوثيقة الصادرة من المحكمة الشرعية غير معترف بها؛
نظرًا لأنه من المعروف أن قضاة الإمبراطورية العثمانية يتغاضون عن
شهادة الزور ويأخذون رشاوى وكثيرًا ما يفسرون قوانينهم كما يحلو
لهم.
١٦
كان سعي الطائفة للحد من اتصال أفرادها بغير اليهود له ما
يبرره، بالطبع فيما عدا الاتصالات الضرورية التي لا غنى عنها؛
فهذه الاتصالات كثيرًا ما كانت تنتهي نهاية سيئة. ولم يكن من
المحبذ عمل اليهودي لدى غير اليهود وخاصة أصحاب المراتب
الدينية.
وقد حدث أن يهوديًّا أراد الحصول على موافقة مجلس الطائفة
والحاخامات الأربعة للعمل لدى ملَّا (رجل دين)، وحصل على الموافقة،
ولكن سرعان ما دب خلاف بين الباشا المحلي؛ أي حاكم المدينة، وذلك
الملا، واضطر الأخير للسفر إلى إسطنبول للبحث عن العدالة، وفي ذلك
الوقت قام الباشا بتهديد وابتزاز السكان، سواء الأتراك أو
المسيحيُّون، لإجبارهم على التوقيع على اتهام كاذب للملا المسافر،
وطلب أن يوقعه اليهود أيضًا، ولكنهم رفضوا قائلين إنهم يعرفون أن
الملا رجل شريف. عندئذ أمر الباشا بالقبض على اليهودي الذي يعمل
لدى الملا، وكبلوه بالأغلال، وعذبوه وابتزوا منه النقود، وتمَّ سجن
أحد عشر من أبناء عقيدته أيضًا، وهددوهم بالقتل، وفي نهاية الأمر
اضطر المقبوض عليهم أن يدفعوا للباشا مقابل الإفراج عنهم ٩٠٠
قرش.
١٧ ولم يكن انتزاع النقود بطريقة غير شرعية أمرًا
استثنائيًّا؛ فقد كان بإمكان التركي ذي النفوذ أن يقبض أيضًا على
أعضاء المجلس بهدف ابتزاز النقود.
كانت الأحكام القضائية الصادرة من المحكمة الدينية في سالونيك
مُلزمة للمحاكم الحاخامية في بلغراد وسراييفو، وكانت محكمة سالونيك
هي الأقدم ويُنظر إليها باعتبارها المحكمة المركزية لطوائف
البلقان، وكان لكلٍّ منها مجلس يتكون من أكثر الناس احترامًا-خاصكاموت.
كان الحاخام يُدرس قرارات المجلس من حيث اتفاقها مع
الشرائع اليهودية، وكان يمكنه التعليق على هذه القرارات ولكن لا
يمكنه إلغاؤها. وكان المجلس يشارك في جمع الضرائب وينظم علاقات
تنظيمات الحرفيين والتجار، محاولًا تقليل التنافس الداخلي إلى
أدنى حد. وكان للطوائف اليهودية الكبيرة مثل ما في إسطنبول أو
سالونيك، مجلسان؛ الأول meclis-I
ruhani ويتولَّى المسائل الدينية، والثاني
meclis-I cezmani ويُوجه نشاطه
للأمور المدنية. وكان الحاخام الأكبر هو القائد الأعلى الديني
والدنيوي للطائفة.
وكان للطوائف اليهودية في العصور الوسطى قواعد قانونية معدة
بدقة-أسكاموت. وكما يُؤكد بعض الباحثين فإن بعض نصوصها دخلت فيما
بعد في القوانين المدنية لعدد من بلدان أوروبا. وتوجد في القانون
اليهودي قاعدة قانونية تمنع إجراء عمليات تجارية بالمباني السكنية
ومباني العمل. وكان هذا يعطي مالك المبنى الحق في الاحتفاظ
بملكيته تحت أي ظرف من الظروف. ولم يكن ممكنًا لأي شخص آخر، دون
تصريح خاص، أن يقوم باستئجار أو شراء منزله أو متجره، وقد كان هذا
أمرًا مهمًّا في ظروف عدم الاستقرار وضعف الحماية القانونية
لليهود في دولة أجنبية.
١٨ هذا بالإضافة إلى أن القواعد الدقيقة لاستئجار وتملك
العقارات كانت تهدف إلى الحد من التنافُس بين اليهود في الإنتاج
الحرفي والتجارة والسداد، وبذلك يُمكن تجنُّب المواجهات داخل
الطائفة. وكان أفراد الطائفة يُحاولون اتباع القواعد خوفًا من أن
يجدوا أنفسهم وحيدين دون حماية في عالم معادٍ لهم.
كان أفظع عقاب هو الحرمان؛ أي الطرد من الطائفة. وكان هناك
أربعة أشكال من الحرمان؛ الأول يقضي بالعزلة الكاملة والدائمة
للمدان، ومنه التعامل مع أفراد أسرته أيضًا، والثاني يعني العقاب
لفترة محددة. أما الثالث والرابع من أشكال العقاب فكانا أقل حدة.
كان الطرد كطقس خاص يتم في المعبد يوم السبت، باعتبار أن كل القوى
السماوية والأرضية تشارك في عملية العقاب في هذا اليوم. وكان
يتعرَّض للعقاب الأشخاص الذين يُلاحظ قراءتهم لكتب الفلسفة، أو
مخالفتهم للقواعد الدينية، أو شغفهم بلعب القمار … وأحيانًا كان
يدان بعض التجار اليهود لقيامهم بأعمال تجارية مع غير اليهود دون
موافقة الحاخامية.
كان التلمود يحتوي على القانون اليهودي، وكان الحاخامات يعتمدون
عليه عند حل الخلافات الدينية، ولكن مع مراعاة الظروف التاريخية
المحدَّدة. كان القانون اليهودي التقليدي في العصور الوسطى يضمُّ ما
يُسمى سجل الدين الذي كان يجب أن يحتوي، بالإضافة إلى توقيع
المدين، على توقيع اثنين من الشهود أيضًا. وبدون هذا لم يكن يعتد
به. ونظرًا لتراجع قيمة النقود باستمرار كانت تذكر قيمة العملة
وقت عقد الصفقة.
وفي الحالات الصعبة كان يتمُّ اللجوء إلى التحكيم، وكان المحكمون
يُختارون من طرفي النزاع. وتضمَّن القانون اليهودي في العصور
الوسطى، نظرًا للضرورة، قواعد معدة بدقة للعلاقات التجارية؛ «يوس
ميركاتوريوم» (Jus
mersatorum).
في أراضي البلقان التابعة للإمبراطورية العثمانية سرى تقليد
تجاري يُسمَّى «ميناج أسوخاريم»، وفيما بعد أصبح قانونًا يَسري على كل
أنواع الصفقات. كانت الصفقات تعقد بحضور كل من يعقدونها، ثم كان
الأمر يتطلَّب أيضًا حضور ثلاثة من أعضاء المحكمة الدينية واثنين من
الشهود، وذلك لأن الدولة لم يكن بها مؤسسة لتوثيق العقود مثل
المعروفة في أوروبا منذ زمن بعيد، وكانت كل الصفقات التجارية توثق
كتابةً وتعتمد من المحكمة الحاخامية.
وعند عقد الصفقات انتشر استخدام الضمانة أو الكفالة على نطاق
واسع وكثيرًا ما كانت جماعية، وكان الإخلال بالاتفاق من جانب أي
من الأطراف يعدُّ جرمًا خطيرًا، يعاقب عليه في بعض الأحيان بالطرد
من الطائفة.
١٩
كانت مدينة سالونيك معروفة باعتبارها بؤرة الحياة الروحية
اليهودية حتى قبل وصول الفارين من بلدان أوروبا، ولكن مع ظهور
السفارديم والأشكيناز أصبحت المدينة، عن حق، مركزًا دينيًّا
وثقافيًّا ضخمًا. وكان من بين المهاجرين عدد غير قليل من الحاصلين
على تعليم في جامعات أوروبا. وبالإضافة إلى ذلك كان الحاخامات من
كثير من مدن البلقان يتعلَّمون في سالونيك، وفُتحت مدارس لتعليم
الرياضيات واللاهوت والفلك والفلسفة وغيرها من المقررات. وفي
المعاهد اليهودية كان الطلبة، بالإضافة إلى الكتب المقدسة، يدرسون
الرياضيات واللغات الأجنبية وأسس العلوم الطبيعية. ولم تكن البنات
يذهبن إلى المدرسة ولكنَّهن كن يتلون الصلوات كثيرًا في المنازل
ويدرسن اللغة العبرية القديمة. كانت كل طائفة تملك مكتبة تابعة
للمعبد، حيث تُحفظ المخطوطات وأوائل الإصدارات المطبوعة، مثل كتب
من إسطنبول وإزمير وسالونيك، ومِن إيطاليا وهولندا وغيرهما من
البلدان.
وترك ديجو بيريتس، المعروف أيضًا باسم شلومو مولخو، أثرًا
كبيرًا في الحياة الروحية لسالونيك، وكان يعمل موثقًا للعقود في
البلاط البرتغالي، ولكنَّه فر في بداية القرن السادس عشر إلى
البلقان ووجد ملجأً في سالونيك. وكان بيريتس يحلم بتحرير فلسطين،
حتى إنه أصبح عضوًا في منظمة سرية كرَّست نفسها لهذا الهدف بالذات،
وفي سالونيك درس لسنوات طويلة القبالة وتفوق في هذا الأمر. ويَعتقد
البعض أن أحد أتباعه في القرن السابع عشر كان شابتاي زيفي. وفي
عام ١٥٢٩م نشر بيريتس عدة صلوات عن مجيء المسيح الذي كان ينتظر
مجيئه عام ١٥٤٠م.
٢٠ كان البقاء على قيد الحياة آنذاك ممكنًا بالحلم
بالمعجزة فقط.
وهكذا يصف الحاخام هارون حاييم أكوين الحي اليهودي في مدينة
سكوبيه: «على مدى سنوات طويلة كان اليهود يعيشون في مكان واحد،
وكان هذا المكان قلعة وسط المدينة محاطة بسور به بوابات مُغلقة
بإحكام. أقيمت هذه القلعة للمحافظة على الشعب اليهودي في عزة ومجد
ومن أجل حماية البنات الإسرائيليات العفيفات. وسكان هذه المدينة،
غير اليهود، أشخاص سيئون وغالبًا غريبو الأطوار، عسى ألا يتسللوا
إلى هذا المكان حيث توجد بيوتنا وأفنيتنا، ومعابدنا ومدارسنا.»
وفي عام ١٦٩٧م حرقت القوات النمساوية هذا الحي.
٢١ ولم تكن الحقائق من هذا النوع استثناءً في أوروبا في
العصور الوسطى. ونتيجة لهذا كان كثير من اليهود، لعدة قرون،
يُفضِّلون حكم الأتراك رغم المهانة وتقييد الحقوق.
لم يكن في الإمبراطورية العثمانية اضطهاد ومذابح لليهود مثلما
كان الحال في أوروبا، ولكنَّ اليهود كانوا رعايا من الدرجة الثانية،
مثلهم مثل المسيحيِّين الذين يُذكرون في الوثائق الرسمية باعتبارهم
«كفارًا». وفي عام ١٥٦٣م أمر قاضي بيتول بطرد اليهود الذين يشتبه
في بيعهم النبيذ للمسلمين؛ حيث إن هذا يُشكِّل خرقًا للقوانين
الإسلامية. وفي عام ١٥٩٥م أصدر السلطان مراد الثالث مرسومًا بمنع
اليهود من ارتداء الحرير وغيره من الأقمشة الغالية والحلي
الثمينة. وابتداءً من عام ١٦٢٠م لم يُسمح لهم بارتداء العمائم
وحمل الأسلحة وركوب الخيل، وكذلك امتلاك ملابس باللونين الأخضر
والأحمر، ومنعوا من انتعال أحذية صفراء.
٢٢ ويُوجد خطاب بتاريخ ١٥ ربيع الأول عام ١٠٩١ هجرية (١٥
أبريل ١٦٨٠م) من قاضي عسكر
٢٣⋆
رومللي، أحمد أفندي بايزيد زادة، وهذا الخطاب موجه إلى القاضي
نائب الوالي (حاكم الولاية) الحاج صفر آر وممثلي السلطة الآخرين
في صوفيا. وبعد التحية ينتقل أحمد أفندي إلى الموضوع. وهو ينبه
إلى أن المدينة بها حمامات عامة مخصصة ﻟ «الكفار»؛ أي لليهود
والمسيحيين الذين كانوا ممنوعين تمامًا من دخول حمامات المسلمين،
ولكن رغم المنع فإن نساء «الكفار» يذهبن إلى الحمامات المخصَّصة
للمسلمات، وهذا خرق للنظم والتقاليد المستقرَّة منذ زمن بعيد، ويجب
تنفيذ القواعد الموضوعة. ويكتب قاضي عسكر في خطابه: «وحيث إن نساء
اليهود والمسيحيِّين غير مسموح لهن بدخول الحمامات المخصصة
للمسلمات، يجب عليكم منع المخالفات. إنَّ الأمر المذكور أعلاه هو
إحدى القواعد المهمة لعقيدتنا، ويجب أن تولوه اهتمامًا خاصًّا.
يجب عليكم منع نساء «الكفار» من دخول حمامات المسلمات، ويجب عليكم
معاقبة كل من يخالف هذا الأمر طبقًا للشريعة.»
٢٤
لكن، بالطبع، كان أكثر ما يُصعِّب حياة السكان اليهود هم
الإنكشارية، الذين كانوا يَهجمون على «الكفار» في وضح النهار وفي
الأماكن المليئة بالناس، وكان الجميع يخشونهم. وفي مارس ١٦٣٤م، في
يوم العيد، قام حسن بك باقتحام المعبد اليهودي في بيتول ونهب
المصلين وأخذ منهم ما مجموعه ٨٠٠٠٠ آقجة، وكان يُؤكِّد للجميع أنه
يجمع النقود ﻟ «حالة الحرب»، كما أنه أمسك بالمدعو داود وقطع
رأسه، وأمام الناس ألقى برأسه في النهر.
وكثيرًا ما كانت النساء اليهوديات الجميلات يتعرَّضن لتحرش
الأتراك إذا ما رأوهنَّ، وكانوا يُجبروهن على الزواج أو يَضمُّوهن إلى
الحريم كجَوارٍ.
وفي البلقان، مثل غيره من الأماكن، كانت تنتشر من وقت لآخر
الإشاعات الكاذبة المغرضة، ومن بينها «فرية الدم» سيئة السمعة. في
٢٧ يونيو ١٦٥٦م اتُّهم اليهودي ماسليم باختطاف طفل مسلم وقتله في
السيناجوج، وقيل إن اليهودي كان يحتاج دم الطفل. على أن الأمر
انتهى بسلام فسرعان ما تأكَّدت السلطات من كذب البلاغ وأطلقوا سراح
المقبوض عليه.
ومع ذلك فإنَّ الحياة الواقعية أكثر تناقضًا وتعقيدًا من النماذج
والقوالب التي كانوا يحاولون وضعها فيها. كان أغلب اليهود من سكان
المدن، ولكن نتيجة للظروف المختلفة كان منهم من يسكن المناطق
الريفية. وإذا كانوا يَسكنون في أراضي السباهية، أي مالك الأرض
الحاصل على إقطاع مقابل الخدمة العسكرية، فإنهم ينتمون إلى مرتبة
الرعية مثل كل الفلاحين الآخرين. ويدلُّ عدد من وثائق القرن السابع
عشر على أن بعض اليهود في القرى كانوا يعملون في وظائف إدارية
صغيرة. وتذكر هذه الوثائق، على وجه الخصوص، اليهودي إسحاق. في مايو
١٦٣٦م كان مسجلًا سوباشي
٢٥⋆
في قريتي لوزان ودوبروشيفو، الواقعتين في ضواحي بيتول. وقد ثار
سكان القريتَين ضد السوباشي التركي متَّهمين إياه بالقسوة وسوء
السلوك. وبناءً على طلب الفلاحين تمَّ تعيين إسحاق سوباشي جديدًا،
ووافق على طلبهم سباهي لوزان علي بك وكذلك سباهي دوبروشيفو محمد
أفندي. ومن الواضح أن معارضة سكان القريتين كانت ستُكلفهم الكثير.
وجاء في وثيقة مؤرخة في شهر نوفمبر ١٦٤٠م أن: «السباهية بيج زاده
مصطفى وإبراهيم أغا ومحمد شلبي ودرويش أغا، قد اختاروا اليهودي
مينتيش في وظيفة سوباشي؛ حيث إنَّ الرعية لم تَعُد تتحمَّل ظلم السوباشي
السابق.»
٢٦ واضطرَّ الموظف للاستسلام، وغادر القرية وسافر إلى
ولاية أخرى.
ونظرًا لوضع اليهود في الدولة العثمانية لم يكن يمكنهم تملك
الأراضي ولا العمل في الزراعة، فيما عدا استثناءات محدودة على
الأقل، وكان نشاطهم الأساسي مرتبطًا بالحرف والتجارة والعمليات
المالية والالتزام، وكان اليهود الأثرياء يُنظمون في القرن السادس
عشر اتحادات تجارية صناعية. وبالاتِّفاق مع سلطات إسطنبول، تم في
سالونيك إنشاء مصنع لإنتاج الأقمشة الصوفية، ومنها كانت تُصنع
ملابس الإنكشارية، وهو الأمر الذي كان يهمُّ الحكومة، حتى إنها كانت
تحسب هذا القماش باعتباره ضريبة عينية على الطائفة. وحصل ملاك
المصنع على حق احتكار شراء الصوف في جزء كبير من الأراضي
العثمانية، وتوريد خامات إنتاج أقمشة زرقاء وحمراء اللون وكذلك
تأمين تسويق منتظم للمنتجات، ولم يكن مسموحًا بالبيع الحر لباقي
الصوف للتجار الآخرين إلا بعد شراء إنتاج الاتحاد اليهودي، وكان
مثل هذا الاحتكار يسري أيضًا على الأصباغ. وكان الجزء الأكبر من
الإنتاج في سالونيك يخصص للوفاء باحتياجات العاصمة، ومع ذلك كانت
الملابس من سالونيك تباع أيضًا في سكوبيه وصوفيا وبيتول وسليفين
وبلغراد. ورغم كل أهمية إنتاج المصنع كان من الضروري رشوة موظفي
العاصمة، وإلا فإنهم كانوا سيضعون العراقيل في عمل المصانع. وكان
يحدث أحيانًا تدخل للسلطات المركزية والمحلية في الاقتصاد، وصدور
لوائح قاسية في المجال التجاري الصناعي، ورقابة على الدخل العائد
منه. أما في بلدان الغرب فكان المُنتجون والتجار أكثر حرية وكان
التضامن التعاوني وكذلك الدولة يضمنان لهم الحماية من
التعسف.
لم يكن اليهود في الإمبراطورية العثمانية يَحصُلون على دعم الدولة
إلا في أحوال نادرة، وكان عليهم أن يعتمدوا أساسًا على أنفسهم
للدفاع عن مصالحهم والكفاح من أجل البقاء؛ فعلى سبيل المثال كان
طرد اليهود الإيطاليِّين من أنكونا عام ١٥٥٦م دافعًا ليهود سالونيك
للمقاطعة التجارية لهذه المدينة.
٢٧ وكان سبب ذلك تصرفات البابا الجديد بول السادس الذي
كان متعصبًا يكره اليهود، وقدَّم لمحاكم التفتيش يهود أنكونا
الهاربين من البرتغال، ومن المعروف أن السلطان سليمان الأول تدخل
في الأمر وأرسل إلى البابا خطابًا يطلب فيه منه أن يدع اليهود
وشأنهم.
وتُوجد دلائل على أنه في العقود الأولى من القرن السادس عشر كان
كل السكان اليهود في سالونيك يعملون في الإنتاج الصناعي وازداد
التمايز الاجتماعي عمقًا، وكان هناك نظام معقَّد للعلاقات بين موردي
الخامات وأصحاب أماكن العمل والنساجين وبائعي المنتجات الجاهزة،
وكانت كل نظم الإنتاج وعلاقات الإنتاج تحت إشراف الحاخامية، ولم
تكن العلاقات داخله تخلو من المشاكل، وكثيرًا ما كان ملاك المصنع
يشكون للمركز من أن العمال يَترُكون الورش ويُغادرون المدينة، وكان
ذلك لأسباب مُختلفة؛ فكان يُمكن ألا يُعجبهم العمل نفسه أو الأجر
الذي يَحصلون عليه، وكان الناس يفرُّون من الحرائق متعدِّدة الحدوث.
ولكن نظرًا لأنَّ إنتاج القماش كان ضروريًّا للغاية للحكومة فإن
السلطات لم تدَّخر وسعًا لإعادة الفارِّين إلى أماكنهم، وكان هذا
بمثابة استعباد للعمال. في ٧ فبراير ١٦٢٢م صدر فرمان سلطاني موجه
إلى سلطات مدن البلقان وبه أمر بإعادة كل من هجر الورش،
٢٨ وتوالى إرسال مثل هذه الأوامر في السنوات التالية
أيضًا. ولكن الأمور أخذت مَنحًى دراميًّا خاصًّا في الطائفة عندما
كان ممثلوها مضطرين لمواجهة سلطات إسطنبول؛ فقد طلبت الحكومة من
الطوائف اليهودية بصرامة الوفاء بكلِّ التزاماتها على الفور بصرف
النظر عن أي شيء، أما السلطات نفسها، طبقًا للأحداث التالية، فقد
تَركت لها حرية التصرف الكاملة، وهو ما أدى إلى التعسف والخروج على
القانون.
في عامي ١٦١٩م و١٦٢٠م قامت الطائفة بتوريد قماش إلى إسطنبول،
كانت كميُته محَّددة سلفًا طبقا للعقد، ولكنها لم تحصل على نقود.
وفيما قبل، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، ذهب وفد إلى
العاصمة بطلب النظر في قيمة الضريبة التي تُدفع بالقماش وليس
بالنقود. وكانت السلطات العثمانية تحصل سنويًّا على ضريبة عينية
مقدارها ١٢٠٠ لفة قماش بسعر محدَّد. وطبقًا لهذه الشروط كانت
الطائفة تدفع ضرائبها حتى نهاية القرن الثامن عشر. ولكن نتيجة
لانخفاض قيمة العملات العثمانية، الذي كان واضحًا منذ النصف
الثاني للقرن السادس عشر، لم يكن المُنتجون يتمكَّنون من شراء
الخامات للقماش بالأسعار القديمة. وبالإضافة إلى هذه الأزمة حدثت
في المدينة عدة حرائق كما انتشر وباء الطاعون في بداية القرن
السابع عشر، وأصبح يهود سالونيك في حالة لا تُمكنهم من توريد
الكميات السابقة، ووصل ما يدينون به للدولة إلى ٤٠٠٠ لفة
قماش.
٢٩ وعندما وجد كثير منهم أنه لا يوجد مخرج آخر قرروا
مُغادرة المدينة. ومع تدفُّق السكان المغادِرين اضطرت الحاخامية
لتشديد شروط السفر، وألغيت القواعد التي بمقتضاها كان اليهود
المسافرون إلى مدينة أخرى يعفون بعد مرور عام واحد من دفع ضرائب
المكان السابق، ووصل الأمر إلى حد العبث. كان أحد التجار من
سالونيك قد جلب بضاعة إلى بلغراد ومكث هناك عامًا ونصف العام،
وحالفه الحظ في المكان الجديد؛ حيث إنَّ الضرائب هنا كانت أقل بكثير
من سالونيك، وقرر البقاء في بلغراد، وكتب خطابًا إلى زوجته وطلب
منها القدوم إلى بلغراد، ولكنها رفضت، واتضح أن المهاجر يجب عليه
الآن أن يدفع الضرائب في سالونيك وفي بلغراد أيضًا، وكانت طوائف
المدن الأخرى مصممة على ألا تسمح بنقص مبالغ الضرائب المحصلة لذلك
كانت تعوق بكل الوسائل سفر أفرادها إلى أماكن أخرى، وكان الشيء
نفسه يحدث في بلغراد. وفي مجموعة وثائق الطائفة هناك يوجد وصف
لحادثة، عندما قرر الأخوان أفرام وشمويل البالاج الانتقال للسكن
في كوستور حيث موطن زوجتيهما، ولكن الطائفة اليهودية في بلغراد لم
تعطهما تصريحًا بالسفر، فلم تكن تودُّ أن تفقد دافعي ضرائب؛ حيث إن
الباقين سيتحتم عليهم أن يدفعوا نصيبهما من الضرائب أيضًا، واضطر
الأخوان لإعطاء الطائفة تعهُّدًا بدفع ٥٠٠٠٠ آقجة كتعويض عن الخسائر
المُحتمَلة، وبالإضافة إلى ذلك يجب عليهما عدم بيع منزليهما في
بلغراد لفترة طويلة.
على أيِّ حال لم تكن الطائفة تتمكَّن دائمًا من النجاح في تعويض
خسائرها المُرتبطة بسفر أفرادها؛ فقد كان أحد سكان أدريانوبول،
الذي تزوَّج من أجنبية، يرغب في الرحيل عن المدينة، وطلب اليهود
المحليون منه دفع ضرائب ١٠ سنوات مقدمًا، ولكن الحاخام وقف إلى
جانب هذا الشخص الذي كسب الدعوى.
في ذلك الوقت أخذ دين طائفة سالونيك للدولة لتوريد الأقمشة
الصوفية يَتزايد، ولم يكن لدى المُنتجين إمكانية سداده بسبب سفر
كثير من العمال بل وحتى هرَّبهم سرًّا.
وفي عام ١٦٣٧م أرسلت طائفة سالونيك وفدًا إلى إسطنبول بطلب
تأجيل سداد الدين نظرًا للظروف المذكورة، ورأس الوفد حاخام
الطائفة يهودا كوفو، وانتهت الرحلة نهاية مأساوية. للمرة الأولى
في كل سنوات عمل مصانع سالونيك اتُّهمت الطائفة بتوريد بضائع
رديئة، وتمَّ شنق يهودا كوفو بأمر السلطان، وطلبت أرملة الحاخام
المتوفَّى تعويضًا ماليًّا من الطائفة لوفاة زوجها. ومن المعروف
أيضًا عن هذه الأسرة أن إيليا، ابن الحاخام، وُلد في سالونيك عام
١٦٢٠م، وتعلَّم في الأكاديمية اليهودية في إسطنبول وفي عام ١٦٧٠م
عاد إلى سالونيك لكي يشغل منصب رئيس المحكمة الحاخامية.
٣٠
في نهاية القرن السابع عشر عيَّنت سلطات إسطنبول موظفًا مخصوصًا
لتقييم جودة الأقمشة الموردة من سالونيك.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر تطورت في مقدونيا بنجاح
المراكز الحرفية والتجارية، وعمل اليهود في إنتاج المعادن، مع
ملاحظة أن استيرادها من أوروبا كان أرخص في بعض الأحيان، وأتقن
يهود مقدونيا صناعة الأسلحة والبارود، ودبغ الجلود والفراء، ونسج
مختلف أنواع الأقمشة الحريرية والقطنية. وفي عام ١٦٣٩م صدر أمر
خاص بأنَّ: «إنتاج يهود سالونيك من القماش الصوفي الخشن، الذي تُصنع
منه المعاطف والبطانيات، لم يعد يصلح لسداد الضرائب.» وتشير
الدلائل إلى أنه في عام ١٦٦٧م كان يعيش في سالونيك ١٠٠٠٠٠ يهودي
وكانوا يَصنعون أغطية الرأس والمعاطف من أجل ٤٠ ألفًا من فرقة
الإنكشارية وهؤلاء اليهود أنفسهم كانوا يَنسجون أوشحة حريرية زرقاء
بشراشيب حمراء، ومناشف، وكانوا يَنسجون أبسطة صغيرة، وكانت
منتجاتهم تباع في مختلف أنحاء شبه جزيرة البلقان وفي الأراضي
العربية وفي القرم.
٣١
حتى بداية القرن التاسع عشر كانت ورش سالونيك، بالإضافة إلى
خياطة الملابس المذكورة من القماش، تقوم بنسج الملاءات ومفارش
المائدة، ولكن فيما بعدُ فإن ورش هذه المدينة (مثل غيرها من ورش
المدن العثمانية الكبيرة أيضًا) بدأت في التدهور؛ إذ إن الأسواق
العثمانية أغرقت بالأقمشة الأوروبية الأرخص ثمنًا، وأخذ الإنتاج
المحلي يتوقف لعدم قُدرته على ملاحقة الإنتاج الإنجليزي المجهز
تقنيًّا أفضل بكثير، وأُغلقت بعض الورش المحلية وتحول البعض الآخر
إلى إنتاج السجاد.
وجاء في وثائق أعوام ١٦٣٤–١٧٠٩م أنه في سالونيك وبيتول وكوستور
وسكوبيه يعمل اليهود في تقطيع اللحوم وصناعة الشموع، ويُنافسون في
هذا العمل الغجر والأتراك، لكن بعد عام ١٧٠٩م تخلوا عن المركز
الأول للأتراك.
٣٢ وفي البلقان، وكذلك في الأماكن الأخرى في
الإمبراطورية العثمانية، كان اليهود، بالإضافة إلى الأعمال
الأخرى، يعملون في صناعة نبيذ العنب والفودكا والجبن وغيرها من
المنتجات.
ويتَّضح من المعلومات الإحصائية من القرن السابع عشر حتى التاسع
عشر أن اليهود كانوا يعيشون، على الأقل، في نصف مدن ما كان آنذاك
ولاية الدانوب مثل سموكوف وكيويتنديل ودوبنيتسا وفراتسا ولوما
وفيدين وروس وبيركوفيتسا وشومين وفارنا. وفي ولاية أودرين كانت
أحياؤهم في مدن كازانليك وستارازاجور وبلفديف وخاصكوف وبازارجيك.
وتلا سالونيك، من حيث عدد اليهود الذين يعيشون فيها،
صوفيا.
٣٣ وفيما يتعلَّق بمُشاركتهم في الحياة الاقتصادية لولاية
الدون في ستينيات القرن التاسع عشر فإنه، طبقًا لبيانات سجلات
الأنشطة المهنية، فإنها كانت محدودة مُقارنة بالمجموعات
الإثنودينية الأخرى.
٣٤
|
غير مسلمين |
مسلمون |
أرمن |
يهود |
إجمالي |
أصحاب أعمال |
١٠٤٧ |
١٥٨٢ |
٨٦ |
٥٥ |
٢٧٧٠ |
تجار |
٣٦٢ |
٥٠٨ |
٤٠ |
٥٧ |
٩٦٧ |
مزارعون |
٥٠٧ |
٦٤٠ |
٣ |
٤ |
١١٥٤ |
عمال أُجَرَاء |
٤٠٣ |
٣٢٦ |
٧ |
٩ |
٧٤٥ |
موظفون |
١٩ |
٥٨ |
٣ |
١ |
٨١ |
أشخاص غير محدَّدين |
١٠٥ |
١٤٧ |
٢٢ |
٧ |
٢٦١ |
إجمالي |
٢٤٤٣ |
٣٢٦١ |
١٦١ |
١٣٣ |
٥٩٩٦ |
وقد خلَّف الرحَّالة الفرنسي شيرفو الإحصائيات التالية
للمجموعات الإثنودينية التي كانت ببعض مدن البلقان عام
١٨٦٧م:
٣٥
سالونيك |
مسلمون |
٢٠٠٠٠ |
يونانيون |
٥٠٠٠ |
يهود |
٤٥٠٠٠ |
آخرون |
١٠٠٠ |
|
مجموع |
٧١٠٠٠ |
سيريس |
مسلمون |
٤٠٠٠ |
يونانيون |
٤٦٠٠ |
يهود |
٤٠٠ |
|
مجموع |
٩٠٠٠ |
فيريا |
مسلمون |
١٢٠٠ |
يونانيون |
١٦٠٠ |
يهود |
٢٠٠ |
|
مجموع |
٣٠٠٠ |
وعلى وجه العموم فإنَّ بيانات بداية ومُنتصَف القرن التاسع عشر،
وبيانات الرحالة، بل وحتى القناصل، تَختلِف بشكل واضح؛ حيث لم يكن
في الدولة العثمانية حتى ذلك الحين مَصادر معلومات يُعتمد
عليها.
نتيجة للظروف التاريخية فإنَّ اليهود كانوا لمئات السنين يُمارسون
العمليات التجارية المالية بصرف النظر عن البلد الذي يُقيمون فيه،
وكما ذكرنا من قبل كان ممنوعًا عليهم امتلاك الأراضي (سواء في
الدول المسيحية أو الدول الإسلامية)، الأمر الذي أبعدهم عن القطاع
الزراعي للاقتصاد. كانوا يعيشون ويعملون بشكل أساسي في المدن،
وكان الأتراك يَكادون لا يُمارسون النشاط التجاري المالي؛ فكانوا في
العقود الأولى لنشأة الإمبراطورية العثمانية يحاربون ويغزون
البلاد المجاورة ويَعيشون على حساب الضرائب والجزية، ويشغلون مناصب
في المؤسسات الدينية والإدارية والعسكرية. ولم يكن لدى اليهود، في
واقع الأمر، اختيارات كثيرة للعمل؛ لأنَّهم، ببساطة، كانوا ممنوعين
من كثير من الأعمال. كان القرآن يُحرِّم الربا، بينما وضعت التوراة
قيودًا فقط بالنسبة لليهود: «إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عدم
فلا تكن له كالمُرابي، لا تضعوا عليه ربا» (سفر الخروج: ٢٢، ٢٥)،
ويُوجد أيضًا أمر آخر من نفس النوع: «لا تُقرض أخاك بربا؛ ربا فضة
أو ربا طعام أو ربا شيء مما يقرض بربا» (سفر التثنية: ٢٣، ١٩).
ولكن بالنِّسبة للأجانب أصحاب العقائد الأخرى فإن هذا الحظر لا
يسري: «للأجنبي تُقرض بربا ولكن لأخيك لا تُقرض بربا»، ليباركك الرب
إلهك في كلِّ ما تمتدُّ إليه يدك في الأرض التي أنت داخل إليها
لتمتلكها» (سفر التثنية: ٢٣، ٢٠).
٣٦
ويشرح التلمود منشأ هذا الاختلاف في العلاقة بالربا؛ ففي العصور
القديمة كان الربا مُنتشرًا بين الوثنيِّين، وكانوا، بالطبع، يأخذون
ربًا من اليهود، لذلك فإن اليهود أيضًا كان مسموحًا لهم بأخذه من
غير اليهود. وعند نظر حالات الخلاف؛ أي إذا كان يهودي يأخذ ربا من
أحد أبناء عقيدته، كانت الحاخامية، عادة، تحكم لصالح المدين، وكان
الاستثناء يحدث فقط في حالة ما إذا كان الربا يَذهب لصالح الأيتام،
وهو ما يتَّفق مع مبادئ التوراة.
كانت هناك مواقف معقَّدة في تفسير الفائدة؛ فعلى سبيل المثال،
ونتيجة لانخفاض قيمة العملة العثمانية، كانت قيمة النقود المقرضة
تَنخفِض أيضًا. حينذاك كان الدائن يُقرِّر احتساب الفارق كفائدة ربوية.
ولكن المحكمة الحاخامية لم تتَّفق مع الدائن وحسمت النزاع لصالح
المدين.
٣٧
كان رأس المال التجاري الصناعي موجودًا في البلقان قبل مجيء
الأتراك، وبقي أيضًا بعد الغزو التركي. وإذا كان النشاط التجاري-الصناعي في الغرب يعمل
به مُمثلو القوميات التي شكلت الدول؛ ففي
الإمبراطورية العثمانية كان رأس المال التجاري والربوي مركزًا،
منذ البداية، في أيدي غير الأتراك من بقايا الأرستقراطية
البيزنطية وكذلك أهل فينيسيا واليهود والأرمن. وكان اليهود حتى
نهاية القرن السابع عشر يقومون بدور كبير في تجارة آسيا الصغرى مع
أوروبا، وساعد على نجاح عملياتهم التجارية صلات القرابة مع تجمعات
اليهود في مختلَف أنحاء العالم والمعلومات الدقيقة والسريعة،
بمَقاييس ذلك الزمن، عن العرض والطلب؛ أي عن أحوال الأسواق في
مختلف البلاد. ويدلُّ على هذا تقرير المبعوث الفرنسي إلى هولندا عام
١٦٨٩م: «إن اليهود يحصلون قبل الجميع وبدقة أكبر على المعلومات عن
أي تغييرات في العالم بفضل الاتصالات الدائمة بين طوائفهم في
سالونيك وأمستردام وكثير من المدن الأخرى، وبفضل وساطة أبناء
عقيدتهم في فينيسيا التي تربط تجارة الغرب والشرق في البحر
المتوسِّط. ومن هنا جاء ثراؤهم وتأثيرهم في هذه البلاد.»
٣٨
وأصبح الوضع شبه الاحتكاري، لتجارة الشام، في القرنين السادس
عشر والسابع عشر، مصدرًا لرأس مال كبير لبعض الأسر اليهودية،
وكانوا يُصدرون من الشرق إلى أوروبا المواشي الحية والسجاد والصوف
والقطن والعاج والجلود والفراء والشمع والحرير الخام، وفي الاتجاه
المعاكس كانوا ينقلون مختلف أنواع النسيج والزجاج والمصنوعات
الحرفية. وفي التجارة العثمانية مع فينيسيا وأنكونا وفرنسا
وإنجلترا وهولندا، كان اليهود كثيرًا ما يقومون بدور الوسيط،
وكانوا يربطون المُنتجِين بالأسواق والمَعارض سواء في المدن أو في
القرى، وكانت شبكة التجارة المنظَّمة جيدًا تضم مركزًا كبيرًا مثل
إسطنبول ودوبروفنيك وبلغراد وسالونيك وأدرنة (أدريانوبول) وفيرويا
ودوريس وصوفيا وسراييفو وسكوبيه وبلوفديف وبعض موانئ نهر الدانوب.
وكان التجار اليهود يستطيعون، بفضل رءوس أموالهم، تنظيم التصدير
والاستيراد، وكانوا يمتلكون على الطرق التجارية فنادق وحانات
ومحلات صرافة، وكان الوسطاء والعملاء يشتركون في استلام وشحن
البضائع، وفي المفاوضات مع ملاك السفن وفي مختلف أنواع الصفقات،
وكانوا يُنظمون الحراسة لمُرافَقة القوافل، وكانوا يُتابعون حالة
المخازن. وبالطبع لم تكن التجارة الدولية بين البلدان الأوروبية
والإمبراطورية العثمانية على قدم المساواة، وكانت المُبادَرة في يد
تلك البلاد مثل إنجلترا وفرنسا وهولندا، التي كانت حكوماتها تنشئ
شركات ضخمة للتجارة في الشرق، وتمكَّنوا من إنشاء قنصليات في
المراكز التجارية للإمبراطورية: إسطنبول والإسكندرية وحلب وإزمير
والقاهرة، وكانت التجارة الخارجية تخضع لقواعد خاصة. كان العملاء
يتابعون شحن وتفريغ البضائع، ويعدون دفاتر السفن، وأصبح التأمين
البحري جزءًا لا يتجزَّأ من العمليات التجارية. وكثيرًا ما كان
اليهود يعملون كممثلين للتجار الأجانب. وفي الفرمان الصادر في ٢٣
يناير ١٦٣٥م سمح السلطان للمدعو أسترادا بأن يصبح ممثلًا
قانونيًّا لعدة شركات أوروبية في بيتول.
٣٩
كان تصريف الشحنات الكبيرة للبضائع يتمُّ بواسطة المحطات
التجارية؛ أي الممثليات التجارية في فينيسيا وأنكون وجنوة وغيرها
من مدن البحر المتوسط، وكانت تحدد قواعد البيع وتتابع الأسعار في
الأسواق والمعارض وتُقيِّم درجة الخطر في كل حالة محددة. وفي بعض
الأحيان كان عدة أشخاص يضمُّون رءوس أموالهم من أجل تقديم قرض لبعض
المنتجين بما في ذلك المنتجات الزراعية أيضًا. وكان سكان القرى في
ضواحي سالونيك ولاريسا وسكوبيه وصوفيا وفيدين يحصلون على نقود
بشرط شراء منتجاتهم فيما بعد بأسعار احتكارية محدَّدة مسبقًا، هذا
كما أنَّ العمال الأُجَرَاء كانوا من اليهود والمسيحيِّين، وكانت
المحطات التجارية مُرتبطة بمُلتزمي المقاطعات؛ حيث إنَّ الملتزمين
كانوا يملكون رءوس أموال كبيرة، يحصلون عليها بدورهم من عمليات
التجارة الخارجية، وكان رؤساء المحطات التجارية يملكون تأثيرًا
كبيرًا، ليس فقط في طائفتهم، فقد كانت السلطات التركية أيضًا
تضعهم في الاعتبار، وكان حق الالتزام يَنتقِل أحيانًا
بالميراث.
٤٠
كانت التجارة البحرية في العصور الوسطى عملًا محفوفًا بالمخاطر
بسبب تكرار حوادث غرق السفن، والأعمال الحربية في البحر،
والقرصنة. كان اليهود يُسمُّون القراصنة «شوليليم» وسفنهم تسمى
«داجلانوم»، وفي البر كانت عصابات قطاع الطرق «جايدوكي» تنهب
القوافل المحملة بالبضائع، وتوجد حالة وحيدة كانت العصابة فيها
تضمُّ يهوديًّا ضمن أفرادها. في شهر أبريل ١٧٠٥م هاجم الجايدوكي
قافلة متَّجهة من بيتول إلى سكوبيه، واستولوا على ١٢ حصانًا محمَّلين
بالبضائع، وقتلوا اثنين من القافلة. ولكن حتى في المدن لم يكن
التجار اليهود الأغنياء في مأمن؛ ففي صيف عام ١٦٣٤م هاجمت عصابة
جايدوكي منزل مويزو وهو تاجر ثري كان يعيش في بيتول، وبالتعذيب
أرغموا التاجر وابنه أفرام على أن يُعطوهما النقود والفضة وغيرهما
من النفائس بما تصلُ قيمته إلى حوالي مليون آقجة، وقُتل مويزو
وأفرام. وتُوجد رواية تقول إن هذه العصابة قد أرسلها إلى مويزو
سكان ضواحي بيتول، الذين كان كثيرون منهم مدينين له.
٤١
وكان يحدث أن يُشارك في السرقة أناس ذوو سلطة أيضًا. ومسجَّل في
محاضر المحاكم اليهودية في بيتول وسالونيك إفادات الشهود عن قيام
خدم باشا بيتول بسرقة وقتل تجار يهود كانوا مسافرين من سالونيك
إلى بيتول.
٤٢
لم تكن ثروة بعض العائلات اليهودية تستطيع دائمًا أن تحمي
أصحابها من سطوة المجرمين وكذلك كبار الموظَّفين أيضًا. ولم تكن
تضمن، للأسف، النجاة أيضًا من غير ذلك من نوائب الحياة؛ الحرائق
المدمرة، والملاحقات الدينية، والسرقات التي حدثت بسبب دخول الجنود
النمساويين إلى أراضي البلقان. وقد سبَق وتحدَّثنا عن تدمير الحي
اليهودي في سكوبيه عام ١٦٩٧م. احترق الكثير من المنازل وتمَّ أسر
جزء من السكان. صحيح أنَّ الأتراك سرعان ما استردُّوا المدينة. وبقيت
أنباء هذه الحادثة محفوظة في الوثائق، فقد تطلَّب الأمر إعادة بناء
الحي، وبناء الأسوار والمدرسة والمعبد من جديد. ولما لم تكن توجد
موارد؛ فقد توجَّه أفراد الطائفة إلى الحاخام يَطلُبون أن يبيع الإناء
الفضي المقدَّس الموجود في المعبد حتى يُمكن بثمنِه أن يعيدوا بناء ما
تهدم.
٤٣
كان التهديد الدائم لحياة ومُمتلكات أفراد الطوائف اليهودية
يُجبرهم على الالتزام بأسلوب حياة مُغلَق والخضوع للتحكم القاسي
للحاخامية، والمحافظة على القواعد والتقاليد الدينية الثابتة في
صورتها البدائية. وكثيرًا ما كانت الطائفة نفسها تعطي حق جمع
الضرائب أو الحق في إنتاج ما لشخص محدَّد؛ حيث إن هذا كان مهمًّا
للطائفة ككل. وكان من الأعمال المربحة، وإن كانت محفوفةً بالمخاطر،
نظام الالتزام لمُختلف الإيرادات: الضرائب، الجمارك، رسوم الموانئ
وما إلى ذلك. وكان اليهود أيضًا يُسارعون للمشاركة في الالتزام في
ظروف المنافسة الشرسة مع التابعين للطوائف غير المسلمة الأخرى مثل
اليونانيِّين والفلاش والأرمن. وكان اليهود الأثرياء ينفقون الأموال
لرشوة السلطات العثمانية وتقديم الهدايا الثمينة، ليس فقط للأغراض
الشخصية، بل وأحيانًا لصالح أبناء عقيدتهم، للطائفة كلها. وكانت
ظروف الحياة غير المستقرة، والخوف الدائم من مصادرة الأموال
والنفائس لصالح الخزانة العثمانية، تُجبر الملاك على إخفاء حجم
ثرواتهم ونقل الأموال من مدينة لأخرى ومن بلد لآخر، وإنشاء مؤسسات
وشركات وهمية، وأخيرًا، وطبقًا للشريعة الإسلامية، إنشاء أوقاف
لصالح أبنائهم وورثتهم.
ومع الاتِّباع الصارم للتقاليد الدينية فإن الطوائف اليهودية كانت
تتميَّز أحيانًا بتسامُح مُدهِش تجاه من يخرج عن هذه التقاليد. وعلى
سبيل المثال فإنَّ التجار الذين يذهبون في سفر طويل ويضطرون لدواعي
الأمن لارتداء عمامة ليَبدُوا مسلمين، لم يكن أحد يُدينهم، وكذلك
أولئك التجار الذين كانوا، لنفس الأسباب، يغيرون أسماءهم إلى
أسماء مسيحية في البلدان الأوروبية. وأبدت الطائفة، أكثر من مرة،
تسامحًا وتفهمًا عندما كان بعض أفرادها، في ظروف استثنائية وتحت
ضغوط قوية، يتحوَّلون إلى الإسلام أو إلى المسيحية. وخلافًا لليهود
الذين يُغيِّرون دين الآباء لمصالح شخصية فإن اليهود الذين كانوا
يُجبرون على اعتناق المسيحية أو الإسلام لم يكونوا يُعتبَرون مارقين
عن الدين، وكان بعضُهم يتمكَّن من المحافظة على صلته بالطائفة
وكثيرًا ما كانوا عند أي فرصة يعودون لليهودية. وفي القرنين
السادس عشر والسابع عشر استمرَّت الممارسة المعتادة لبحث أمور
ممتلكات مثل هؤلاء الأشخاص في المحاكم الحاخامية مثل أمور غيرهم
من أفراد الطائفة. وفي حالة وفاة يهوديٍّ مُتنصِّر — من أصول إسبانية —
كان على طائفة البلقان المحافَظة على ما ترَكه من ممتلكات لحين وصول
وريثه، الذي كثيرًا ما كان مسيحيًّا أيضًا، من جبال
البرانس.
أما فيما يخصُّ علاقة الطائفة اليهودية بالأُسَر التي تسكن منفصلة
عن أبناء عقيدتها؛ فقد بقيت في بعض الأمثال «يهودي في قرية، جمرة
من الجحيم.» و«اليهودي في القرية نصف كافر.» والأمر في هذه الحالة
بعدم إمكان اتباعه الطقوس الدينية الضرورية، في ظروف الانفصال عن
مراكز العبادة وعن الحاخامات. وكان هناك يَقين ثابت بأن البقاء
لفترة طويلة في وسط مُختلف العقيدة، مختلف اللغة، لا يُمكن ألا يؤدي
إلى اندماج تدريجي خفي يُؤثِّر على الشكل الثقافي للشخص، ويخلق
مقدمات من أجل «تآكُل» وعيه اليهودي. وقد كان الوعي الذاتي أهم
عوامل بقاء اليهود كجماعة إثنودينية.
٤٤
لم يكن انعزال الطوائف اليهودية بسبب التقاليد الداخلية وحدها،
ولكن أيضًا بسبب علاقة السكَّان المحليِّين باليهود؛ فهي علاقة، إن لم
تكن عداوة صريحة؛ فهي على أقل تقدير علاقة حذرة متحفظة، وكان
يُنظر إليهم في كل مكان كغرباء وكأجانب لا ضرورة لهم، ولم يكن أي
من الطرفين يَستحسِن أي علاقة سوى الاتصالات الضرورية جدًّا (غالبًا
إجبارية)، وكان الزواج المُختلط ظاهرة استثنائية، وكان على أحد
الزوجين، في مثل تلك الحالة، التخلِّي عن دين آبائه. وكان هذا
بالطبع، في مُعظَم الأحيان، من نصيب النساء.
٤٥ ولكن رغم كل هذا لم تَحدُث في أراضي بلغاريا مذابح
مثلما حدث في أوكرانيا أو في الأجزاء الأخرى من الإمبراطورية
الروسية؛ فلم يكن بين البلغار واليهود منافَسة شرسة مثلما كان
الحال مع اليونانيِّين ولم تكن هناك مثل تلك العداوة معهم.
في منتصَف القرن التاسع عشر كان من بين ملَّاك المؤسَّسات الكبيرة
نسبيًّا في مقدونيا يهود أيضًا، وكان الإخوة الاتيني، وهم يهود
إيطاليون، يَمتلكون مطاحن ومصنع بيرة (في شركة مع شاؤل موديانو
وفيرنانديس مزراحي) ومصنع بلاط، وكان توريس موديانو صاحب مصنع
خيوط، وكان ريتشو وبوداليكا يملكان مصنعًا صغيرًا للصابون، وكان
يعمل في هذه المؤسسات يهود ومسيحيُّون أيضًا.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان ملاك البيوت التجارية
الشهيرة هم جيديليا إبراهام إيريرا، وإخيس وكوهين وغيرهم، وكانوا
يعملون في تجارة الحرير والمصنوعات الحريرية، وعمل ساياس ونيبوتي
في إنتاج غزل القطن وكانوا يُنتجون حوالي ٨٠٠٠٠ بالة سنويًّا. وكان
توريس موديانو، المذكور أعلاه، يعمل أيضًا في نفس المجال؛ حيث إن
منع المنافَسة بين اليهود لم يكن ساريًا في هذا الوقت، وكان اليهود
يمتلكون مؤسسات لإنتاج الكحول وعددًا من مصانع الصابون وورشًا
لإنتاج الأثاث المعدني، وكان الجزء الأكبر من الآلات والمعدات
لهذه المؤسَّسات يأتي من فرنسا، وكان الاتيني، المذكور أعلاه، وكذلك
موديانو، من كبار ملاك العقارات أيضًا، وكان بعضهم مثل شاؤل
موديانو يمتلكون سفنًا تجارية. غير أنه من غير الصحيح استنتاج أن
حياة الطوائف اليهودية في مقدونيا كانت مزدهرة؛ فقد كان عدد كبار
التجار ورجال المال والأعمال محدودًا للغاية، بينما كانت غالبية
الفقراء بين سكان مقدونيا من اليهود، وكانوا يعيشون في بيوت صغيرة
بائسة في أطراف المدن، وكانت أسرهم، كثيرة الأطفال، تعيش في ضيق
فظيع، وفي ظروف غير صحية، ولذلك كانوا هم أول وأكثر ضحايا أوبئة
الطاعون والكوليرا وغيرهما من الأمراض المعدية، وكان سكان مقدونيا
الذين يَعيشون في القرى، في المناطق الجبلية، وفي المدن الصغيرة،
أقل معاناة بالطبع.
وفي هذه البيئة كان هناك كثير من العاطلين عن العمل والشحَّاذين،
وكان البعض يعيش على العمل بالتجارة البسيطة في القرية وكباعة
جائلين، يبيعون الخُضَر والفواكه في الشوارع. وقد لاحَظَ الإنجليزي
إدوارد لير، الذي زار سالونيك عام ١٨٤٨م، أن كثيرًا من فقراء
اليهود كانوا يَعملون حمَّالين، وشاهد كيف نشبت معركة حقيقية أمامه
عندما تشاجر عدد من الحمالين على الأمتعة، التي جاء بها إلى
المدينة، وقام رجال الشرطة بتفريق المُتشاجرين باستخدام الأحزمة
والعصي.
٤٦
كان تفاقُم التقسيم الطبقي وزيادة فقر جزء كبير من السكان
اليهود، يرجع، إلى حدٍّ كبير، إلى التدهور العام للإمبراطورية
العثمانية، وكان التجار يُفلسون بسبب الضرائب المتزايدة التي لا
تُحتمَل، وكانت الطوائف في البلقان، كما في المناطق العثمانية
الأخرى، تقاوم محاولات السلطات إجراء الإصلاحات المدنية، التي كان
يمكن أن تُصبح مهلكة بالنسبة للمُجتمعات الدينية اليهودية، وأصبحت
المهمَّة الأساسية للقيادات الدينية اليهودية هي المحافظة على وحدة
الطائفة بالشكل الذي كانت عليه في العصور الوسطى، وتجنب أو تخفيف
حدة التناقضات الداخلية. ولكن لسوء الحظ كان هذا غير ممكن، فإن
التقدم مصحوب دائمًا بالنزاعات، ووجدت الطائفة نفسها غير قادرة
على مواجهة عمليات التقسيم الطبقي الذي يَزداد عمقًا من جهة،
والإصلاحات الحتمية من جهة أخرى. ولكن وقت الإصلاح كان قد حان،
وإن كان قد جاء متأخِّرًا قليلًا (كانت الأعراق المسيحية في البلقان
قد بدأت، منذ القرن الثامن عشر، في الفوز في الصراع التنافسي مع
اليهود في مختلف مجالات الاقتصاد)، وكان الرابح من إصلاح
التنظيمات في القرن التاسع عشر أساسًا، هم اليهود الأثرياء، الذين
أصبحوا الآن أقل خوفًا من نهب الإنكشارية (تم حل الفرقة عام
١٨٢٦م)، ومصادَرة الأملاك والتفرقة من جانب الموظفين.
في منتصف القرن التاسع عشر كان يهود بلغاريا يحافظون على
مواقعهم في التجارة، وفي العاشر من ديسمبر ١٨٥٧م، قام العالم
البلغاري الشهير نايدين جيروف بإلقاء محاضرة «عن التجارة والصناعة
والزراعة في سنجق بلوفديف»، وجاء فيها أن الجزء الأكبر من التجارة
في هذه المنطقة في أيدي اليهود، الذين كانوا يقومون أيضًا بعمليات
الوساطة، وبفضلهم قامت تجارة بضائع المستعمرات، وكانوا يملكون
مخازن كبيرة، وكانت البضائع تَرِد من لندن ومدراس وغيرهما من
الأماكن، وكان يوجد بالمخازن قماش إنجليزي وأنسجة قطنية من
إنجلترا وألمانيا وسويسرا وفرنسا، وكان عليها طلب كبير في
البلقان.
٤٧
في نهاية القرن التاسع عشر كثيرًا ما كان اليهود يشغلون وظائف
حكومية مهمة. كان كبير مُفتشي بيتول هو اليهودي حاجيمان أفندي،
ومدير البريد اليهودي بنزيون أفندي. وبعد ثورة تركيا الفتاة عام
١٩٠٨م دخل مُمثِّلو طوائف البلقان اليهودية إلى البرلمان، ولم يكن
هذا بالصدفة، فبالإضافة إلى المجموعات الإثنية الأخرى،
للاشتراكيين الديمقراطيِّين في سالونيك متعدِّدة القوميات، شارك في
هذه الثورة اليهود أيضًا. وكانت مجلَّة العمال الأسبوعية
Giornale Lavor تصدر بلغة
اللادينو. وكانت هناك إصدارات مماثلة باللغات اليونانية
والبلغارية والتركية أيضًا. وكان في سالونيك مكتبة شهيرة تحتوي
على عدد كبير من الكتب الماركسية، وكانت باللغات الأوروبية
أساسًا. وفي عام ١٩١٠م انضمَّ فرع سالونيك إلى الأممية الاشتراكية،
وقام بناروبا بدور فعال في هذا التنظيم، مما أدَّى إلى سجنه. ولكن
موجة الاحتجاجات الداخلية والدولية أجبرت السلطات التركية على
إطلاق سراحه سريعًا.
٤٨
وكان اليهودي فلاخوف عضوًا في المجموعة الاشتراكية الديمقراطية
في سالونيك، وأيَّدته المجموعة في انتخابات البرلمان، وفي صيف عام
١٩١٠م أصبح نائبًا عن مدينتي سالونيك وستروميتسا. وقدم فلاخوف
نفسه باعتباره مُدافعًا متحمِّسًا عن المظلومين، وفي المقام الأول عن
العمال أيًّا كانت الاختلافات القومية أو الدينية بينهم. وعندما
طالب ملاك الأراضي العرب في فلسطين، الحكومة التركية بالحظر التام
لإنشاء مستوطنات يهودية في هذه الأراضي، ألقى فلاخوف خطابًا
حماسيًّا دفاعًا عن عمال الزراعة اليهود والعرب، وبنفس الحماس ندد
بملاك الأراضي. ومفهوم أن هذا لم يؤدِّ فقط إلى عدم توضيح المسألة،
بل أدَّى إلى طمس جوهر النزاع، الذي لم يكن اجتماعيًّا إطلاقًا بل
إثنيًّا.
٤٩
ومع ذلك فقد كان في سالونيك، في وقت ما، ما يشبه التضامن الدولي
للعمال، وكان يقود هذه الحركة نشطاء العمال، والمثقفون من أصول
يهودية، وفي أيام أعياد ماية وعام ١٩١١م قاموا بتنظيم مظاهرة
حاشدة (١٢ ألف متظاهر)، شارك فيها بلغار ويونانيون مقدونيون
وأتراك وبالطبع يهود أيضًا، وغنوا نشيد «إنترناسيونال» بأربع
لغات، وكانوا يَحملون الرايات الحمراء، وخطب في المظاهرة فلاخوف
وأرديتي وبنارويا والتركي إحسان. وفي عام ١٩١٢م بعد سقوط نظام
تركيا الفتاة قامت السلطات الجديدة بالقَبض على صمويل إيون وإسحاق
ليفي وبنارويا، وطالب فلاخوف وممثِّل الاشتراكيِّين الأرمن في
البرلمان زاخاريان بإطلاق سراح قادة الحركة الاشتراكية، وانضمَّت
الأحزاب الاشتراكية في أوروبا إلى احتجاجات النواب الأتراك. وعقدت
في سالونيك اجتماعات للدفاع عن المعتقلين، وقام شاءول ناحوم، مُمثِّل
فرع الأممية الاشتراكية بالمدينة، بتعبئة الصحافة اليسارية
الأوروبية في الصراع. وتحت الضغط الكبير للرأي العام تمَّ الإفراج
عن المعتقلين.
٥٠
اقتربت حرب البلقان الأولى، وحاولت بلغاريا واليونان وصربيا
والجبل الأسود، المستقلة عن سلطة إسطنبول حديثًا، انتهاز فرصة
النزاعات الداخلية في الإمبراطورية العثمانية، والاستيلاء على
مقدونيا وفراكيا، مطالبين بإعطاء هذه الأقاليم حق الحكم
الذاتي.
وفي أثناء حرب البلقان الأولى (٩ أكتوبر ١٩١٢م–٣٠ مايو ١٩١٣م)
بين تركيا من جهة واليونان وبلغاريا وصربيا والجبل الأسود من جهة
أخرى، في ٩ نوفمبر ١٩١٢م تمكنت القوات اليونانية (١١٢٠٠٠ جندي
و١٩٦ مدفعًا)؛ أي أكثر من ضعف القوات التركية (٥٠٠٠٠ جندي و٩٦
مدفعًا) من الاستيلاء على سالونيك، وعند بداية شهر ديسمبر كان
الجيش التركي قد خرج من البلقان، ولم يتمكَّن سوى من الاحتفاظ ببضع
قلاع. وفي ١٧ يناير ١٩١٣م نشرت جريدة
L’Aurore الإسطنبولية (في
العدد رقم ٢٧٣) رسالة من أحد سكان سالونيك، وهو مسلم، وسبق نشرها
في جريدة Anadolu الصادرة في
إزمير، وتصف الرسالة تغيير السلطة في سالونيك:
«عند وصول القوات اليونانية كانت سالونيك كلها مزدانة
بالأعلام اليونانية المعلَّقة على شرفات ونوافذ البيوت ومن
الأشجار، وكان من الممكن رؤيتها على السفن في الميناء بل
وحتى على مآذن المساجد، وكانوا يتحدَّثون في كل مكان عن أن
المدينة كانت تنتظر مجيء اليونانيِّين منذ عدة قرون، ورُفعت
الأعلام اليونانية حتى على بيوت المسلمين بل وفي مقر
إقامة المفتي، وكان الاستثناء الوحيد هو اليهود؛ فقد كانت
لديهم الجرأة لإظهار أسفِهم لرحيل الأتراك وولائهم للسلطة
السابقة.»
وفي الوقت الذي كان فيه المُفتي يقدم التحية مُتزلفًا إلى الملك
اليوناني قسطنطين باسم السكان المسلمين، فإنَّ كبير الحاخامات قال
ما يلي: «يا صاحب الجلالة إنه لمِن الظلم إدانة اليهود لأنهم لا
يُبدون السرور بشأن احتلال جيشكم للمدينة؛ إذ إنَّ هذا يُعدُّ نكرانًا
للجميل بالنِّسبة للبلد الوحيد الذي سمح بدخول اليهود إلى أراضيه
عندما كان الآخرون جميعًا يطردونهم.»
٥١
وكان من دواعي الأسف لدى اليهود أيضًا أن كل النزاعات التي كانت
تنشب تحت الحكم العثماني كانت في الأساس مع اليونانيين.
وأدَّى اقتسام الأراضي المُقتطَعة من الأتراك في أثناء حرب البلقان
الأولى، إلى قيام حرب البلقان الثانية التي كانت هذه المرة بين
حلفاء البلقان السابقين. وفي هذه الظروف عُقد في إسطنبول اجتماع
لأعضاء الجماعات الاشتراكية الديمقراطية، وحضر الاجتماع ممثلو
الاشتراكية الديمقراطية الرومانية كريستو راكوفسكي
وبارفوس
٥٢⋆
الشهير، من الاشتراكية الديمقراطية الروسية، وحضر أيضًا مبعوثو
حزبين اشتراكيين أرمنيَّين، ومثَّل فلاخوف الفرع الاشتراكي
لسالونيك، وابن جوريون وابن تسفي المنظمة الصهيونية «بوالي صهيون»،
ووقَّعوا بيانًا يدين الحرب ويدعو لتوحيد كل بلدان أوروبا الشرقية
بما فيها مقدونيا على مبادئ الاشتراكية الديمقراطية
الأوروبية.
٥٣
وفي العقد الأول من القرن العشرين قام يهود الدونمة المسلمون،
الذين اعتنق أسلافُهم الإسلام في القرن السابع عشر تحت تأثير دعوة
شابتاي تسفي، بدور كبير في الحياة السياسية في سالونيك، ووجد
فلاخوف ملجأً لديهم عندما كانت السلطات التركية تُطارده. وكان
الدونمة يُحضرون إلى النائب المعتقل في السجن طعامًا كثيرًا حتى
إنه — باعترافه — كان يَستطيع أن يُطعم المساجين الآخرين
أيضًا.
فور انتهاء حرب البلقان الثانية، عندما كانت جيوش بلدان مقدونيا
تحتلُّ أراضي مقدونيا المقسمة، قامت جماعة الاشتراكيين الديمقراطيين
في سالونيك، في جريدة «أفانت»، بكشف جرائم القوات التي غزت هذا
البلد، وزار الناشر الإنجليزي هنري نويل بريكسفور، رئيس لجنة
كارنيجي لتسوية مشكلة مقدونيا، زار مقر جماعة الاشتراكيين
الديمقراطيين، كما زاره أيضًا المؤرخ الروسي ب. ن. ميليوكوف،
وحدَّث نشطاء الجماعة؛ أرديتي وريكاناتي وخازان وبنارويا وفلاخوف،
الرجلين عن جرائم قوات دول البلقان ضد السكان المسالمين، وطلبوا
دعم ندائهم للأممية الاشتراكية، والذي طلبوا فيه أن يقوم أعضاؤها
برفع أصوات الاحتجاج ضد ما يجري من أعمال قسوة وحشية، وضد تقسيم
مقدونيا. وتوجه الفرع أيضًا إلى مؤسس ورئيس منظمة الدفاع عن حقوق
الإنسان؛ فرانسيس دي بريسانس، بطلب الدفاع عن مقدونيا.
وبانتهاء حرب البلقان الثانية أصبح فرع الاشتراكيين
الديمقراطيين في الجزء اليوناني من مقدونيا المقسَّمة. وفي عام
١٩١٣م قام عُمَّال مصانع التبغ، في ساحل بحر إيجه في مقدونيا، بعقد
مؤتمرهم الأول، وفيه تمَّ اختيار اليهودي إيونا رئيسًا للجنة
المركزية للنقابة، واختيار بنارويا سكرتيرًا لاتحاد عمال صناعة
التبغ في سالونيك. وفي عام ١٩١٤م سُجن بنارويا وأرديتي وإيونا،
عقابًا لهم على نشاطهم، ولكن سرعان ما أطلقت الحكومة اليونانية
سراحهم تحت ضغط من العمال. وحاولت حكومة فينيزيلوس
٥٤⋆
في تلك السنوات السيطرة على الحركة الاشتراكية في سالونيك، حتى
يمكن، عن طريق نشر التوجهات المعادية لليهود في أوساط العمال،
تحطيم نفوذ قادة الاشتراكيين الديمقراطيين والفرع كله. وكانت
السلطات اليونانية تعمل بالاشتراك مع الحكومة الصربية، التي ألقت
القبض على بنارويا الذي كان يختبئ في أراضيها، وقامت باستجوابه.
وفي الفترة من ٢٠ إلى ٢٣ فبراير ١٩١٨م انعقد في لندن مؤتمر
الأحزاب الاشتراكية اليهودية الذي دُعي إليه أيضًا ممثلو فرع
سالونيك، وأرسلت الحكومة اليونانية أيضًا مندوبيها إلى لندن،
واضعةً في الحسبان أنه بين المسائل التي ستُجرى مُناقشتها سيتطرَّق
الحديث إلى مصير مقدونيا، وكانت مثلها مثل دول البلقان الأخرى تودُّ
الحصول على أراضيها كلها.
وتَعرض ما تردَّد في المؤتمر عن اقتراح إنشاء فيدرالية ديمقراطية
في البلقان، لنقدٍ جادٍّ في الصحافة اليونانية.
٥٥
وفي الرابع من نوفمبر ١٩١٨م عُقد في أثينا المؤتمر الاشتراكي
الأول لعموم اليونان، ومثَّل سالونيك فيه أ. بنارويا وك. إندونيو
ون. بندوري وب. بيترو وأ. كاراسو وأ. ليفي، وعن هيئة تحرير جريدة
«أفانتي» حضر ألبرتو أرديتي. ودعا المؤتمر إلى توحيد كل الجماعات
الاشتراكية في حزب عمال اشتراكي موحَّد، وتمَّ اختيار لجنة مركزية
للحزب دخل فيها النشطاء اليهود من فرع سالونيك.
ولا شكَّ في إسهامهم في تقوية ونشر الأفكار الاشتراكية في مقدونيا
واليونان. ولكن دول البلقان حصلت على الاستقلال نتيجة للنضال
القومي التحرُّري، وليس الاشتراكي فقط، لذلك فإنَّ أفكار الاشتراكية
الديمقراطية وأفكار الأممية، خلافًا للأفكار القومية، لم تحظَ في
هذه البلدان بتطوُّر كبير. ولم يحصل اليهود على المساواة التي سعوا
إليها عشرات السنين. وعشية الحرب العالَمية الثانية عندما اشتدت
الدعاية الفاشية ومعاداة السامية، كان الفائزون منهم هم من تمكنوا
من الهجرة إلى الولايات المتحدة أو فلسطين.