الطوائف اليهودية في البلقان
تدلُّ معلومات علم الآثار على أن اليهود عاشوا في داتشيا في القرن الثاني الميلادي (وتعرف هذه المناطق في الوقت الحالي باسم ترانسلفانيا وفالاخيا وباناتا). وفي سياق الغزوات الرومانية في الأعوام من ١٠١ إلى ١٠٧ ميلادية تحت قيادة الإمبراطور ترايان تحولت داتشيا إلى ولاية رومانية تضمُّ سكانًا من أعراق مختلفة كما هو الحال في العديد من أقاليم الإمبراطورية الأخرى، فإذا ما تحدثنا عن المستوطنات اليهودية، التي كانت موجودة هنا في ذلك العصر، فإن بإمكاننا أن نستند في ذلك إلى النصوص التي عثر عليها علماء الآثار في رومانيا في سارميسيدجيوتس وخيرشوف، وكذلك إلى الكتابات اليهودية التي يعود تاريخها إلى عامي ١٣٣ و١٣٤ ميلادية.
وقد وصَل إلينا من المصادر الأكثر قدمًا وصف للطائفة اليهودية التي زارها اليهودي بنيامين من توديلا في عام ١١٦٥م. واستنادًا إلى عدد من الوثائق التجارية التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، فقد كان اليهود يدعمون العلاقات التجارية مع بيزنطة والأراضي الروسية وبولندا. كانت الطرق التجارية تمتدُّ عبر بلغاريا والأراضي المتاخمة لنهر الدانوب. ويذكر المؤرخ نيكولاي يورجا أن اليهود استفادوا من عملية نقل البضائع عن طريق الترانزيت من القسطنطينية قبل عام ١٨٤٠م وهناك وثائق تؤكد وجود مستعمرة يهودية في أكيرمان في النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي.
ويَذكُر المؤرخان ب. خاشديو وم. كوجالنيتشانو أن اليهود استقروا في الأراضي الرومانية بعد قيام الملك لودفيك الأول (١٣٤٢–١٣٨٢م) بنفيهم من المجر بزعم أن الطائفة رفضت اعتناق المذهب الكاثوليكي. وقد أضعف هذا الملك، الذي اشتهر بتطرفه الديني، فضلًا عن سياسته الخارجية العدوانية، إمكانات جيرانه من الشعوب السلافية في مقاومة التهديد التركي الذي بات قريبًا منهم.
من المعروف أن القائد العسكري لفالاخيا المدعو دان الأول (١٣٨٣–١٣٨٦م)، والذي كان يُشجِّع التجارة على أراضيه، قدَّم لليهود إمكانية الإقامة داخل حدود بلاده، وأنعم عليهم بميزات، من بينها حق استئجار الأرض لمدة عام واحد، يُمكنهم بعده أن يمدُّوا مدة الإيجار تبعًا لما تراه السلطات.
وهناك معلومات تُفيد أن المستوطنات اليهودية الصغيرة في مولدافيا ظلت كما هي في فترة حكم ستيفان الثالث (١٤٥٧–١٥٠٤م). كان اليهود يُتاجرون في الخضر والفواكه والأسماك والملح والمواد المتعلقة بالملابس وفراء الثعالب والسناجب والجلود والعسل وغيرها من السِّلع.
من البديهي أن هذه المباحثات لم تُكلل بالنجاح؛ إذ إن القائد العسكري سرعان ما اضطر أن يُصبح تابعًا للإمبراطورية العثمانية. هذا القرار مكَّنه بدرجة ملحوظة من الوقوف في مواجهة عدوان ملك بولندا، الذي تمكنت قواته من إلحاق الهزيمة به في عام ١٤٩٧م بدعم من الأمير العظيم إيفان الثالث، أمير موسكو.
في عام ١٤٧٦م تمَّ إعلان فالاخيا منطقة تابعة للدولة العثمانية، وفي عام ١٥٠١م أصبحت مولدافيا أيضًا إمارة تابعة. كلتا الإمارتين الواقعتين على نهر الدانوب احتفظتا باستقلالهما فيما يخص شئونهما الداخلية؛ أي أنهما لم تتحوَّلا إلى باشاليك. لم توضع في هاتين الإمارتين أي حاميات تركية أو ممثلون عن الإدارة العثمانية، لكنهما كانتا ملتزمتَين بإرسال جزية سنوية إلى الخزانة السلطانية. وقد ازدادت قيمة هذه الجزية من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف دوقية ذهبية مع نهاية القرن الخامس عشر ومن ستين ألفًا إلى ثمانين ألفًا مع نهاية القرن الرابع عشر.
على أنه وبمرور وقت قصير تعرضت هذه المناصب الرفيعة للفساد الشامل، وهو نفس الفساد الذي أصاب الإدارة العثمانية بأكملها، والذي كان، وما يزال حتى الآن، عُرفًا في عدد من بلدان الشرق.
سرعان ما بدأ بيع وظائف القادة العسكريين للطامعين، الذين كانوا يدفعون فيها مبالغ كبيرة. وكثيرًا ما كان يتم تغيير القادة العسكريين، الأمر الذي انعكس على نحو سيئ، بطبيعة الحال، على الوضع الداخلي في هذه البلاد. كان كل قائد عسكري جديد يُحاول أن يَعتصر من السكان أقصى ما يُمكن ابتزازه، ثم يقوم بتسوية حسابه مع الأتراك، بحيث لا يُلحق ذلك به ضررًا. ومنذ عام ١٧١١م وحتى عام ١٧١٦م، ثم بعد مرور ردحٍ من الزمن حتى عام ١٨٢٢م، كان الأتراك يضعون على عرشي مولدافيا وفالاخيا حكامًا من اليونانيِّين الفناريين فقط.
تُرجع بعض المصادر، بما في ذلك المصادر اليهودية، زمن تنشيط التجارة اليهودية في هذه الإمارات إلى منتصف القرن السادس عشر؛ أي إلى فترة السيادة التركية. ومن المعروف أن طائفة السفارديم، الذين فروا من إسبانيا والبرتغال قد تأسَّست في هذا الوقت في بوخارست. آنذاك تقريبًا وصل اليهود الأشكيناز إلى إسطنبول وسالونيك وإلى مدن مولدافيا قادمين من غرب أوروبا. هؤلاء كانوا مشاركين نشطاء في التجارة مع بولندا وغيرها من البلاد الأوروبية. كانت التجارة تسير عبر إمارات الدانوب، وكان اليهود يُتاجرون في الماشية والجلود والشمع والخمور والملابس، وفضلًا عن ذلك فقد كانوا في هذه الفترة يعملون بتجارة التجزئة في الملابس المنتجة في بولندا وفي تبادل العملة-الزلوطا البولندية والدوكاتية المجرية والإيطالية. كان لليهود المُقرضين وضع جيِّد لدى الباب العالي أيضًا، وكذلك لدى البلاط البولندي.
على أنَّ اليهود الذين استقرُّوا هنا وفي مناطق ممالك الدانوب لم يَنعموا بالسكينة والاستقرار. إن الأحداث التي وقعت في هذه البلاد، التي ساقتهم إليها الأقدار، قد انعكست، على نحو أو آخر، في المقام الأول على النازحين، الذين ظلوا غرباءً بالنسبة للسكان المحليين، فكانوا يتعرَّضون للسرقة والاضطهاد لمجرد اندلاع أية اضطرابات داخلية.
كان الباب العالي عندما يحتاج إلى المال يلجأ إلى الابتزاز، فيُرغم أمير مولدافيا على دفع ثمانين ألف زلوطا، بدلًا من الأربعين ألفًا المُعتادة، إلى الخزانة. وفي عام ١٥٧٢م دعا إيون ليوتي الشعب إلى الانتفاضة، وقد دعمه جزء من السكَّان وأصحاب الأراضي، وقد قام السلطان باتخاذ خطوته، بأن عيَّن الأمير بيتر خروموي (الأعرج) وأصدر أمره للسنجق بيه (القائد العسكري) نيكوبول وأميرَيْ ترانسلفانيا ومونتينيا (الجزء الجنوبي لفالاخيا المتاخم لبوخارست) بالقضاء على قوات إيون. على أن الأخير استطاع أن ينزل بأعدائه الهزيمة وأن يحتلَّ بوخارست. كان السلطان معرضًا لفقدان بيصاربيا-رأس الجسر الأهم الواقع شمال غربي البحر الأسود. وفي عام ١٥٧٤م وجَّه السلطان جيشه المكون من ١٣٠٠٠٠ فرد إلى بيصاربيا ثم أضاف إليهم ١٠٠ ألف آخرين من الجيش التتاري. وفي المعركة التي جرت عند بحيرة كاجول مُني إيون ليوتي بالهزيمة ليقع في الأسر وتتم الإطاحة برأسه.
وفي مرحلة أخرى من الحرب الدائرة بين الإمبراطورية العثمانية والنمسا، تم في عام ١٥٩٤م تنظيم انتفاضة جديدة ضد السلطان. قرر أمير ترانسلفانيا سيجيزموند باتوري وأمير فالاخيا ميخائيل طرابري (الشجاع) وحاكم مولدافيا أرون، القائد العسكري، الدخول في تحالف مع الإمبراطور رودولف الثاني إمبراطور النمسا (١٥٧٦–١٦١٢م).
جمع ميخائيل الشجاع دائنيه في قصره، من غير الأتراك أساسًا، وأحرق القصر. وكان ذلك هو المبرِّر للانتفاضة. على أن المتمرِّدين لم يتلقَّوا المساعدة، التي كانوا يتطلَّعون للحصول عليها، وتم سحقهم على يد الجيش التركي، الذي كان يتفوق عليهم على نحو كبير.
في الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي دارت لدى الباب العالي نقاشات حامية بشأن قضية تغيير الوضع في إمارات الدانوب، وعن تحويلها إلى باشاليك، مثلها مثل الأقاليم العثمانية الأخرى. وقد أيَّد هذا الاتجاه الصدر الأعظم سنان باشا. لكن هذه الفكرة لم يُكتب لها التحقُّق آنذاك؛ فقد كَفَّت الحروب الدائرة مع النمسا وإيران، والانتفاضات في الأناضول، وفي أجزاء أخرى من الإمبراطورية، يد السلطان، الذي لم تكن لديه الرغبة في التورط في صراع جديد والدخول في أعمال عسكرية جادة وخيمة العواقب.
ظلَّت منطقة إمارات الدانوب طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر وما بعدهما سببًا للنزاع بين الإمبراطورية العثمانية والنمسا، ثم مع روسيا التي قويت شوكتها في مطلع القرن الثامن عشر. وفي ظروف الحروب والانتفاضات المتكرِّرة لم يكن أمام سكان هذه المناطق، بمن فيهم اليهود، إلا أن يفكروا في البقاء على قيد الحياة.
هناك وثائق من وثائق البلاط تعود إلى أزمنة أكثر قدمًا، ورد بها ما يفيد تقديم عروض على النازحين الجدد من اليهود للإقامة في عدد من المدن والقرى، وقد شكَّل هؤلاء عددًا كبيرًا من دافعي الضرائب وأنعشوا الحياة الاقتصادية. وقد حصل المُهاجرون على أرض مخصَّصة لبناء مساكن وسيناجوجات وبناء مستوطنات (ميكقاه) ومدارس وملاجئ ومُستشفيات وما إلى ذلك. وقد ظهرت هذه المستوطنات أساسًا في مولدافيا، وتُسمى المستوطنة «شتيتل» وهي عبارة عن مدينة صغيرة يسكنها اليهود بالدرجة الأولى.
كانت الطوائف تضمُّ الأشكيناز والسفارديم. كانت التقاليد الدينية هي التي تُشكِّل أساس معيشتهم.
وكما ذكرنا من قبل، فقد كان حكم الفناريين ملائمًا للغاية بالنسبة للطوائف اليهودية. فيما بعد فُرضت عليهم قيود على حق امتلاك الأراضي، ونزعت عنهم إمكانية الإدلاء بشهادتهم في المحاكم ضد المسيحيين الأرثوذوكس، وبعد ذلك بدأت عملية طردهم جميعًا من البلاد. وإذا كان اضطهاد هذه الطائفة المسيحية أو تلك قد جاء نتيجة استفزاز الحروب والصراع الديني بين كاثوليكيي الإمبراطورية النمساوية والأرثوذوكس، فقد عانى اليهود من هؤلاء وأولئك. وبالمقارنة مع التسامُح النسبي للباب العالي المسلم مع أصحاب العقائد الأخرى-المسيحيين واليهود، فإنَّ كاثوليكيي الإمبراطورية المسيحية قد تعاملوا مع المسيحيِّين الأرثوذوكس بقسوة متناهية. وبناءً على أمر من الجنرال أدولف بوكوف في عام ١٧٦١م جرى نهب وإحراق الأديرة الأرثوذوكسية في ترانسلفانيا، التي تضرر من جرائهما حوالي ١٥٠ ديرًا.
في نهاية القرن الثامن عشر أخذت الإمبراطورية العثمانية في فقدان أوضاعها أكثر فأكثر في ممالك الدانوب. وبناءً على اتفاقية كيتشوك كايناردجي، التي أنهت الحرب الروسية التركية التي استمرت في الفترة من عام ١٧٦٨م وحتى عام ١٧٧٤م، استعاد الأتراك بيصاربيا ومولدافيا وفالاخيا، التي كانت تحتلُّها روسيا. لكن الأتراك لم يُحقِّقوا هنا سوى نجاح مؤقت؛ مجرد مرحلة في الطريق نحو استقلال هذه الإمارات.
تدريجيًّا تم إلغاء القانون العثماني، الذي يُعطي للأتراك الأولوية في شراء البضائع المصدَّرة من الإمارات، التي كان يمكنها إرسال مندوبيها إلى إسطنبول. وفي عام ١٨٢٢م أعيد قانون انتخاب القائد العسكري في الإمارات من الصفوة المحلية بدلًا من الحكام اليونانيين، الذين كان الباب العالي يقوم بتعيينهم.
لقد حصل حكام مولدافيا وفالاخيا على سلطة أكبر على أراضيهم، الأمر الذي كان يُواكبه دائمًا تضييق على الطوائف اليهودية. في عام ١٨١٧م صدر في مولدافيا قانون كاليماخ، أما في فالاخيا فقد صدر قانون كاراج عام ١٨٨١م. تضمَّن القانون قواعد جديدة لإقامة الأجانب في هذه المناطق، وكذلك اليهود المُقيمين هناك. وبناءً على المادة ١٤٣٠ من قانون كاليماخ كان بإمكان اليهود شراء البيوت والمحال في مدن مولدافيا، على أنه كان محظورًا عليهم شراء الأراضي في الضواحى والريف.
كفلت معاهدة أدريانوبول للسلام، التي أنهت الحرب الروسية التركية (١٨٢٨-١٨٢٩م)، التي مُنيت فيها تركيا بالهزيمة، الحكم الذاتي لمولدافيا وفالاخيا. وقد كان لهذه المعاهدة أيضًا نتائج على سكان الإمارات من اليهود. كانت إمارات الدانوب تُعتبر من الناحية الرسمية ضمن ممتلكات السلطان، الذي كان في واقع الأمر يحصل على الجزية السنوية فقط. وفي هذا السياق لم يكن لديه أي وسائل كافية لإلزام الحكام بدفعها في حالة رفضهم. ولم يكن باستطاعة الباب العالي، بناءً على هذه المعاهدة، التدخل في الشئون الداخلية للإمارات، كما لم يكن لديه الحق في توطين المسلمين في هذه الأراضي حسبما يرى.
جاء صدور وثيقة الدستور (١٨٣١-١٨٣٢م)، الذي ورَد ذكره سابقًا، نتيجة لوضع السياسة الخارجية، التي أصابها التغيير في الإمارات، وهذا الميثاق يعد دستورًا من نوع خاص، وضع بداية لعدد من الإصلاحات ذات الصبغة الأوروبية. وفي الوقت نفسه، ووفقًا لهذا الميثاق، بدأ في سريان القانون، الذي أفقد السكان غير المسيحيِّين حقوقهم المدنية والسياسية، وقد ورَد في المراسيم التي تمَّ إعدادها على أساس هذا القانون أن اليهودي، أيًّا كان، والذي لا يستطيع أن يثبت وجود مصدر ثابت لديه للعيش، فإنه يكون بذلك قد تساوى والمتشرَّدين، ومِن ثمَّ يكون مُعرَّضًا للنفي من البلاد في أي وقت. وفي الوقت نفسه ألغت هذه المراسيم الجديدة مؤسسة الحاخام الأكبر بكل امتيازاتها. تغير نظام علاقات التعاون بين الطائفة اليهودية والسلطات. تُرك لليهود الحق في الحصول على التعليم الحكومي الابتدائي، كما ظل الميثاق العضوي ساريًا مع بعض التعديلات التي أدخلت عليه إلى أن تمَّ توحيد الإمارات في عام ١٨٥٩م.
على أيِّ حال، رغم سياسة التقييد التي كانت تتبعها الدوائر الحاكمة للإمارات تجاه اليهود، فإنَّ عدد النازحين إلى هذه الأراضي ظلَّ في زيادة على امتداد القرن التاسع عشر، وخاصة بعد توقيع معاهدة أدريانوبول للسلام بين روسيا والإمبراطورية العثمانية في عام ١٨٢٩م. وكما ذكرنا من قبل فإن إمارات الدانوب فتحت أبوابها أمام رأس المال الغربي، ولم يكن اليهود ببعيدين عن هذه العملية. كانت سياسة الأمير ميخائيل ستوردزي موجهة نحو جذب اليهود إلى مولدافيا، على الرغم من اعتراض جزء كبير من الصفوة.
وجدت الثورة في فرنسا وفي غيرها من دول أوروبا الغربية صدى لها في الأحداث السياسية، التي وقعت في إمارات الدانوب. وفي مارس عام ١٨٤٨م قام مُمثلو النبلاء والدوائر المعارضة في مولدافيا، الغاضبون من حكم الأمير ميخائيل ستوردزي، بكتابة عريضة أعربوا فيها عن احتجاجهم على الظلم الإداري، وطالبوا بإلغاء الرسوم الجمركية الداخلية وإجراء الإصلاحات، التي حان أوانها منذ زمن بعيد. وقبل الأمير جزءًا من هذه المطالب، التي كان النبلاء المعارضون مُهتمين بها. أما الحركة الثورية المتصاعدة في مولدافيا فقد تمَّ إخمادها على يد الحكومة الروسية، التي دفعت إلى أراضي مولدافيا بفيلق قوامه اثنا عشر ألف فرد.
تدريجيًّا فُتِحَت إمكانية تطوير الصناعة والحرف المحلية، وتأسست حرية واسعة أمام المؤسسات المحلية، فتم إلغاء الرسوم الجمركية الداخلية، ومن ثمَّ بدأت المصانع والورش في الظهور، والتي لم تكن موجودة هنا من قبل. وقد جاءت مبادرة إنشائها للمرة الأولى من قبل الأجانب، الذين كان من بينهم عدد غير قليل من اليهود.
بعد هزيمة الحركة الثورية في الإمارات تعرَّض المقاتلون من أجل الحقوق المدنية لليهود لضربة، أما فكرة هذه الحقوق ذاتها فقد «تجمدت». كانت المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه قد اتَّخذت بعد جمع مولدافيا وفالاخيا في دولة رومانيا الموحدة، والتي أصبح على رأسها ألكسندر كوزا (١٨٥٩–١٨٦٦م)، وكان يحكم البلاد تحت اسم ألكسندر يوان الأول. وفي البيان المنشور «إلى الرومانيين أتباع شريعة موسى»، أُشير إلى نيات الحكومة «السير في طريق تحرير الرومانيين أبناء العقيدة اليهودية.» على أنه وحتى الإصلاحات الصغيرة (توسيع مجال حقِّ الانتخاب وما إلى ذلك) أثارت مقاومة شرسة من جانب الدوائر ذات النفوذ. وفي عام ١٨٦٦م أُزيح ألكسندر موزا عن عرشه، وتم نفيه من رومانيا، وقد حلَّ محله كارل جوجنتسوليرن بدعم من فرنسا وإيطاليا ودول أخرى، على الرغم من اعتراض تركيا، التي لم تكن ترغب في انتخاب أمير أجنبي.
بتطور الرأسمالية، إلى جانب الخرافات التقليدية والعداء الديني، فقد عانى اليهود بشدة من إجراءات تقييد أعمالهم أو التضييق عليها. كان هؤلاء المنافِسون الناجحون الغرباء يتم طردهم في أغلب الأحوال. لم يكن هناك أحد مهتمًّا بأن اليهود أسهموا في حرب الاستقلال عام ١٨٧٧م، وبأنهم شاركوا في العمليات العسكرية وأنه قد تمت الإشادة بشجاعتهم. وفي الأمر الذي أصدره الجنرال سيرنات، قائد الجيش الروماني، كان من بين الذين تمَّ تكريمهم لقاء ما أدوه من خدمات، الرقيب فلورين بيركوفيتش والملازم ثانٍ ماوريتشو بروسينر، اللذان شاركا في المعارك التي دارت أيام ٢٧، ٣٠، ٣١ أغسطس و٥ سبتمبر ١٨٧٧م. كان اليهود قد شكَّلوا لجانًا لدعم التشكيلات العسكرية وجمعوا مالًا وموادَّ غذائية من أجلها. وبمبادرة من واحدة من المنظمات اليهودية الأولى؛ «سيون»، التي أُنشئت في عام ١٨٧٢م، والتي دافعت عن مصالح يهود بوخارست، تمَّ افتتاح المُستشفى العسكري الروماني الإسرائيلي. وكان الدكتور أ. كوهين-كوسين مديرًا لها. تم تسليم المستشفى لتصبح تحت تصرف الإدارة الطبية العسكرية لتقديم المساعدة للمُشاركين في المعارك بالقرب من مدينتي بليفنا وفيدين إبان الحرب التركية الروسية عامي ١٨٧٧ و١٨٧٨م.
وفي مؤتمر برلين الذي عقد عام ١٨٧٨م، والذي وضع نهاية للحرب، طرحت دول الغرب الكبرى، على الحكومة الرومانية، قضية إعادة النظر في المادة السابعة من دستور ١٨٦٦م، المُميز عنصريًّا لليهود على نحو مشين. وقد جاء في الصياغة الجديدة لنص المادة السابعة أن الجنسية الرومانية يمكن أن تُقدم إلى سكان البلاد من غير أصحاب الديانة المسيحية أيضًا. على أنه وحتى في الصياغة الجديدة أيضًا فقد ورَد تفسير هو في جوهره يُؤدِّي إلى عدم سريان هذه المادة: «إن حق التجنس يُقدم فقط على أساسٍ فرديٍّ من جانب المؤسَّسة التشريعية.» على هذا النحو فإنَّ هذه القضية قد تمَّ تحويلها لاختصاص البرلمان، الذي رفض، بطريقة نظامية، طلب اليهود بشأن التجنُّس.
سرعان ما حصل ٨٨٨ يهوديًّا فقط، وهم من الذين شاركوا في حرب الاستقلال، على الجنسية الرومانية. أما الجزء الأكبر من السكان اليهود فقد أصبحوا مرة أخرى ضحية لقوانين التمييز العنصري. وبالنِّسبة للغالبية العظمى من اليهود فقد فرضت عليهم القيود في الوصول إلى عدد من المهن والأعمال التجارية، كما فقدوا الحق في التعليم في المؤسسات التعليمية الحكومية.
لم تتأخَّر نتائج مثل هذه السياسة في الظهور؛ ففي نهاية القرن التاسع عشر كانت ما تزال هناك إمكانية للهجرة الحرة. عشرات الآلاف من اليهود من المتخصِّصين المؤهلين بالدرجة الأولى غادَرُوا رومانيا. ووفقًا لإحصاء عام ١٨٩٩م بلغ عدد السكان اليهود ٢٩٩٩٦٧ نسمة، بينما تراجع عددهم في عام ١٩١٢م ليُصبح ٢٣٩٩٦٧ نسمة؛ أي ما يعادل ٣٫٤٪ من مجموع السكان.
انعكست المحاولات المستمرَّة بإبعاد اليهود عن الحياة الاجتماعية للبلاد أو فرض القيود على مشاركتهم بشكلٍ جوهري في مناحيها على التطوُّر السياسي والاقتصادي في رومانيا، التي أصبحت أهمية رءوس الأموال وخبرة اليهود الاحترافية والتنظيمية وكذلك مشاركتهم في التجارة وأعمال البنوك فيها شديدة الأهمية. يتضمَّن التقرير الإحصائي عن عام ١٩١٣م المؤشِّرات التالية لاشتراك اليهود في اقتصاد البلاد: ١٢٫٢٪ كانوا يعملون في الصناعة باعتبارهم عمالًا أُجَرَاء وموظَّفين؛ ١٢٫٢٪ يمتلكون مؤسسات خاصة، أي ما يربو على ثلاثة أضعاف النسبة في تعداد إجمالي السكان؛ ٣١٫٣٪ كانوا يعملون في التجارة والنقل، وهو ما يَزيد ثماني مرات على النسبة في إجمالي السكان؛ ٧٠٪ من موظفي البنوك ونظام التأمين الاجتماعي، أكثر من ٥٫٣٪ من العاملين بالمهن الحرة، وهو أيضًا ما يزيد على نصيبهم في التعداد العام للسكان.