فلما كانت الليلة ١٣٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحاجب الكبير لما صار سلطانًا، سموه الملك ساسان، ثم إنه بلغه حبُّ «كان ما كان» ﻟ «قضى فكان»، فندم على جعلهما معًا في محل واحد، ثم دخل على زوجته نزهة الزمان وقال: إنَّ الجمع بين الحلفة والنار لَمِنْ أعظم الأخطار، وليست الرجال على النساء بمؤتَمَنِين، ما دامَتِ العيون في دعج والمعاطف في لين، وإن ابن أخيك «كان ما كان» قد بلغ مبلغ الرجال، فيجب منعه عن الدخول على ربَّات الحجال، ومنع بنتك عن الرجال أوجب؛ لأن مثلها ينبغي أن يُحجَب. فقالت: صدقتَ أيها الملك العاقل، والهمام الكامل. فلما أصبح الصباح، جاء «كان ما كان» ودخل على عمته نزهة الزمان على جري عادته، وسلَّمَ عليها فردَّتِ السلامَ وقالت له: عندي لك كلام ما كنتُ أحبُّ أن أقوله، ولكن أخبرك به رغمًا عني. فقال لها: وما ذاك الكلام؟ قالت: إن الملك سمع بحبك ﻟ «قضى فكان»، فأمر بحجبها عنك، وإذا كان لك حاجة، فأنا أرسلها إليك من خلف الباب، ولا تنظر «قضى فكان». فلما سمع كلامها، رجع ولم ينطق بحرف واحد، وأعلم والدته بما قالت عمته، فقالت له: إنما نشأ هذا من كثرة كلامك، وقد علمت أن حديث حبك ﻟ «قضى فكان» شاع وانتشر في كل مكان، وكيف تأكل زادهم وبعد ذلك تعشق بنتهم؟ فقال: إني أريد الزواج بها؛ لأنها بنت عمي، وأنا أحقُّ بها. فقالت له أمه: اسكت لئلا يصل الخبر إلى الملك ساسان، فيكون ذلك سببًا لغرقك في بحر الأحزان، ولم يبعثوا لنا في هذه الليلة عشاء، ولو كنا في بلد غير هذه، لَمتنا من ألم الجوع أو ذل السؤال. فلما سمع «كان ما كان» كلامَ أمه، زادت بقلبه الحسرات وأنشد هذه الأبيات:
ولما فرغ من شعره قال لأمه: ما بقي عند عمتي ولا عند هؤلاء القوم مقام، بل أخرج من القصر وأسكن في أطراف المدينة بجوار قوم صعاليك. ثم خرج وفعل كما قال، وصارت أمه تتردَّد إلى بيت الملك ساسان، وتأخذ منه ما تقتات به هي وإياه، ثم إن «قضى فكان» اختلت بأم «كان ما كان» وقالت لها: يا امرأة عمي، كيف حال ولدك؟ فقالت: إنه باكي العين، حزين القلب، ليس له من أَسْرِ الغرام فكاك، ومقتنص من هواك في إشراك. فبكت «قضى فكان» وقالت: والله ما هجرتُه بغضًا له، ولكن خوفًا عليه من الأعداء، وعندي من الشوق أضعاف ما عنده، ولولا عثرات لسانه وخفقان جنانه، ما قطع أبي عنه إحسانَه وأولاه منعه وحرمانه، ولكن أيام الورى دول، والصبر في كل الأمور أجمل، ولعل مَن قضى بالفراق أن يمنَّ علينا بالتلاق. ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:
فشكرَتْها أم «كان ما كان» وخرجت من عندها، وأعلمت ولدها «كان ما كان» بذلك، فزاد شوقه إليها وقال: ما أبدلها من الحور بألفين. وأنشد هذين البيتين:
ثم مضت الأيام والليالي وهو يتقلَّب على جمر المقالي، حتى مضى له من العمر سبعة عشر عامًا، وقد كمل حسنه؛ ففي بعض الليالي أخذه السهر وقال في نفسه: ما لي أرى جسمي يذوب؟ وإلى متى لا أقدر على نيل المطلوب، وما لي عيب سوى عدم الجاه والمال؟ ولكن عند الله بلوغ الآمال، فينبغي أن أشرد نفسي عن بلادها، حتى تموت أو تحظى بمرادها. ثم أضمر على هذه العزمات، وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن «كان ما كان» خرج من القصر ماشيًا حافيًا في قميص قصير الأكمام، وعلى رأسه لبدة لها سبعة أعوام، وصحبته رغيف له ثلاث أيام، حافيًا سار في حندس الظلام، حتى وصل إلى باب بغداد، فوقف هناك، ولما فتحوا بابَ المدينة كان هو أول خارِجٍ منه، ثم صار يقطع الأوديةَ والقفار في ذلك النهار، ولما أتى الليل طلبَتْه أمه فلم تجده، فضاقت عليها الدنيا باتساعها، ولم تلتَذَّ بشيء من متاعها، ومكثت تنتظره أولَ يوم وثاني يوم وثالث يوم إلى أن مضى عشرة أيام، فلم تَرَ له خبرًا؛ فضاق صدْرُها وبكت ونادت قائلةً: يا مؤنسي، قد هيَّجْتَ أحزاني، حيث فارقْتَني وتركت أوطاني. يا ولدي، من أي الجهات أناديك؟ ويا هل تُرَى أيُّ بلد تأويك؟ ثم صعدت الزفرات، وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إنها امتنعت عن الطعام والشراب، وزادت في البكاء والانتحاب، وصار بكاؤها على رءوس الأشهاد، واشتهر حزنها بين العباد والبلاد، وصار الناس يقولون: أين عينك يا ضوء المكان؟ ويا هل ترى ما جرى على «كان ما كان»، حتى بعد عن وطنه وخرج من المكان، وكان أبوه يشبع الجيعان، ويأمر بالعدل والأمان؟ ووصل خبر «كان ما كان» إلى الملك ساسان. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.