فلما كانت الليلة ٢٣١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد فهم إشارة المرأة، وعرف أنها تريد الذهاب معه حيث يذهب، فالتزم لها بالمكان، وقد استحى أن يروح بها عند الخياط الذي هو عنده، فمشى قدَّامها ومشت خلفه، ولم يزل ماشيًا بها من زقاق إلى زقاق، ومن موضع إلى موضع حتى تعبت الصبية، فقالت له: يا سيدي، أين دارك؟ فقال لها: قدَّام، وما بقي عليها إلا شيء يسير. ثم انعطف بها في زقاق مليح، ولم يزل ماشيًا فيه وهي خلفه حتى وصل إلى آخره، فوجده غير نافذ، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم التفت بعينه فرأى في صدر الزقاق بابًا كبيرًا بمصطبتين، ولكنه مغلوق، فجلس الأمجد على مصطبة، وجلست المرأة على مصطبة، ثم قالت له: يا سيدي، ما الذي تنتظره؟ فأطرق برأسه إلى الأرض مليًّا، ثم رفع رأسه وقال لها: أنتظر مملوكي، فإن المفتاح معه، وكنت قد قلتُ له: هيِّء لنا المأكول والمشروب وصحبة المدام حتى أخرج من الحمام. ثم قال في نفسه: ربما يطول عليها المطال فتروح إلى حال سبيلها، وتخلِّيني في هذا المكان. فلما طال عليها الوقت قالت له: يا سيدي، إن المملوك قد أبطأ علينا، ونحن قاعدون في الزقاق. ثم قامت الصبية إلى الضبَّة بحجر، فقال لها الأمجد: لا تعجلي، واصبري حتى يجيء المملوك. فلم تسمع كلامه، بل ضربت الضبَّة بالحجر فقسمتها نصفين فانفتح الباب، فقال لها: وأي شيء خطر لك حتى تفعلي هكذا؟ فقالت له: يا سيدي، أي شيء جرى؟ أَمَا هو بيتك؟ فقال: نعم، ولكن لا يحتاج إلى كسر الضبَّة.
ثم إن الصبية دخلت البيت، فصار الأمجد متحيِّرًا في نفسه خوفًا من أصحاب المنزل، ولم يدرِ ماذا يصنع، فقالت له الصبية: لِمَ لَمْ تدخل يا سيدي يا نور عيني وحشاشة قلبي؟ قال لها: سمعًا وطاعة، ولكن قد أبطأ عليَّ المملوك، وما أدري هل فعل شيئًا مما أمرته به أم لا؟ ثم إنه دخل معها وهو في غاية ما يكون من الهم خوفًا من أصحاب المنزل، ولما دخل البيت وجد فيه قاعة مليحة بأربعة لواوين متقابلة، وفيها خزائن وسدلات مفروشات بالفرش الحرير والديباج، وفي وسط القاعة فسقية مثمَّنة مرصوص عليها أطباق مرصَّعة بفصوص الجواهر، وهي مملوءة فاكهةً ومشمومًا، وفي جانبها أواني الشراب، وهناك شمعدان فيه شمعة مركبة، والمكان ملآن بنفيس القماش، وفيه صناديق وكراسيُّ منصوبة، وعلى كل كرسي بقجة وفوقها كيس ملآن دنانير، والدار تشهد لصاحبها بالسعادة؛ لأنَّ أرضها مفروشة بالرخام. فلما رأى الأمجد ذلك تحيَّر في أمره، وقال في نفسه: قد راحت روحي، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون. وأما الصبية فإنها لما رأت ذلك المكان، فرحت فرحًا شديدًا ما عليه من مزيد، وقالت: والله يا سيدي ما قصَّر مملوكك، فإنه مسح المكان وطبخ الطعام وهيَّأ الفاكهة، وقد جئتُ أنا في أحسن الأوقات. فلم يلتفت إليها الأمجد لاشتغال قلبه بالخوف من أصحاب المكان، فقالت: يا سيدي، ما لك واقفًا هكذا؟ ثم شهقت شهقة، وأعطت الأمجد قُبلة مثل كسر الجوز، وقالت له: يا سيدي، إنْ كنتَ مواعِدًا غيري فأنا أشد ظهري وأخدمها. فضحك الأمجد عن قلب مملوء بالغيظ، ثم طلع وجلس وهو ينفخ، وقال في نفسه: يا قتلة الشؤم إذا جاء صاحب المنزل، وقد جلست الصبية في جانبه وصارت تلعب وتضحك، والأمجد مهموم معبس يحسب في نفسه ألف حساب ويقول: لا بد أن يجيء صاحب هذه القاعة، فأي شيء أقول له؟ ولا بد أنه يقتلني بلا شك.
ثم إن الصبية قامت وتشمَّرت وأخذت خوانًا وقد حطَّت عليه السفرة وأكلت، وقالت للأمجد: كُلْ يا سيدي. فتقدَّم الأمجد ليأكل فلم يَطِبْ له الأكل، بل صار ينظر إلى ناحية الباب حتى أكلت الصبية وشبعت، وقد رفعت الخوان وقدَّمت طبق الفاكهة وشرعت تتنقَّل، ثم قدَّمت المشروب وفتحت الجرَّة وملأت قدحًا وناولته للأمجد، فأخذه منها وقال في نفسه: آه آه من صاحب هذه الدار إذا جاء ورآني. وقد صارت عينه صوب الدهليز والقدح في يده. فبينما هو كذلك وإذا بصاحب الدار قد جاء، وكان مملوكًا من أكابر المدينة؛ لأنه كان أمير ياخور عند الملك، وقد جعل تلك القاعة مُعَدَّة لحظِّه لينشرح فيها صدره، ويختلي فيها بمَن يريده، وكان في ذلك اليوم قد أرسل إلى معشوق يجيء له وقد جهَّزَ له ذلك المكان، وكان اسم ذلك المملوك بهادر، وكان سخي اليد صاحب جُودٍ وإحسان، وصدقات وامتنان، فلما وصل إلى قريب القاعة … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.