فلما كانت الليلة ٢٣٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن بهادر صاحب القاعة لما وصل إلى قُرَيْب القاعة، وجد الباب مفتوحًا، فدخل قليلًا قليلًا وطلَّ برأسه فنظر الأمجد والصبية، وقدَّامهما طبق الفاكهة وآلة المدام، وفي ذلك الوقت كان الأمجد ماسك القدح وعينه إلى الباب، فلما صارت عينه في عين صاحب الدار اصفرَّ لونه وارتعدت فرائصه؛ فلما رآه بهادر قد اصفرَّ لونه وتغيَّر حاله، غمزه بإصبعه على فمه، يعني: اسكت، وتعال عندي. فحطَّ الأمجد الكأس من يده وقام إليه، فقالت الصبية: إلى أين؟ فحرَّكَ رأسه، وأشار لها أنه يريق الماء، ثم خرج إلى الدهليز حافيًا، فلما رأى بهادر علم أنه صاحب الدار، فأسرع إليه وقبَّل يديه، ثم قال له: بالله عليك يا سيدي قبل أن تؤذيني أن تسمع مني مقالي. ثم حدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، وأخبره بسبب خروجه من أرضه ومملكته، وأنه ما دخل القاعة باختياره، ولكن الصبية هي التي كسرت الضبة وفتحت الباب وفعلت هذه الفعائل؛ فلما سمع بهادر كلام الأمجد وعرف أنه ابن ملك حنَّ عليه ورحمه، ثم قال: اسمع يا أمجد كلامي، وأَطِعْني وأنا أتكفَّل لك بالأمان مما تخاف، وإن خالفتني قتلتك. فقال الأمجد: اؤمرني بما شئتَ، فأنا لا أخالفك أبدًا؛ لأنني عتيق مروءتك.
فقال له بهادر: ادخل هذه القاعة، واجلس في المكان الذي كنتَ فيه واطمئنَّ، وها أنا داخل إليك واسمي بهادر، فإذا دخلت إليك فاشتمني وانهرني، وقل لي: ما سبب تأخُّرك إلى هذا الوقت؟ ولا تقبل لي عذرًا، بل قم اضربني، وإن شفقتَ عليَّ أعدمتُك حياتك، فادخل وانبسط، ومهما طلبته مني تجده حاضرًا بين يديك في الوقت، وبت كما تحب في هذه الليلة، وفي غدٍ توجَّه إلى حال سبيلك إكرامًا لغربتك، فإني أحب الغريب وواجبٌ عليَّ إكرامه. فقبَّلَ الأمجد يده ودخل، وقد اكتسى وجهه حمرةً وبياضًا، فأول ما دخل قال للصبية: يا سيدتي، آنستِ موضعك وهذه ليلة مباركة. فقالت له الصبية: إن هذا عجيب منك حيث بسطت لي الأنس. فقال الأمجد: والله يا سيدتي إني كنت أعتقد أن مملوكي بهادر أخذ لي عقود جواهر، كل عقد يساوي عشرة آلاف دينار، ثم إنني خرجت الآن وأنا متفكِّر في ذلك ففتشت عليها فوجدتها في موضعها، ولم أدرِ ما سبب تأخُّر المملوك إلى هذا الوقت، ولا بد لي من عقوبته.
فاستراحت الصبية بكلام الأمجد، ولعبا وشربا وانشرحا، ولم يزالا في حظٍّ إلى قُرَيْب المغرب، ثم دخل عليهما بهادر وقد غيَّرَ لبسه وشدَّ وسطه، وجعل في رجليه زربونًا على عادة المماليك، ثم سلَّم وقبَّل الأرض، وكتَّف يديه وأطرق برأسه إلى الأرض كالمعترف بذنبه، فنظر إليه الأمجد بعين الغضب وقال له: ما سبب تأخُّرك يا أنحس المماليك؟ فقال له: يا سيدي إني اشتغلت بغسل أثوابي، وما علمت أنك ها هنا، فإن ميعادي وميعادك العشاء لا بالنهار. فصرخ عليه الأمجد وقال له: تكذب يا أنحس المماليك، والله لا بد من ضربك. ثم قام الأمجد وسطَّح بهادر على الأرض وأخذ عصا وضربه برفق، فقامت الصبية وخلصت العصا من يده، ونزلت بها على بهادر بضرب وجيع حتى جرت دموعه واستغاث، وصار يكزُّ على أسنانه، والأمجد يصيح على الصبية: لا تفعلي هكذا. وهي تقول: دعني أشفي غيظي منه. ثم إن الأمجد خطف العصا من يدها ودفعها، فقام بهادر ومسح دموعه عن وجهه، ووقف في خدمتهما ساعة، ثم مسح القاعة وأوقد القناديل، وصارت الصبية كلما دخل بهادر أو خرج تشتمه وتلعنه، والأمجد يغضب منها ويقول لها: بحق الله تعالى أن تتركي مملوكي، فإنه غير معود بهذا.
وما زالا يأكلان ويشربان، وبهادر في خدمتهما إلى نصف الليل حتى تعب من الخدمة والضرب، فنام في وسط القاعة وشخر، فسكرت الصبية وقالت للأمجد: قم خذ هذا السيف المعلَّق واضرب رقبة هذا المملوك، وإنْ لم تفعل ذلك عملت على هلاك روحك. فقال الأمجد: وأي شيء خطر لك في قتل مملوكي؟ قالت: لا يكمل الحظ إلا بقتله، وإن لم تقم قمتُ أنا وقتلته. فقال الأمجد: بحق الله عليك لا تفعلي. فقالت: لا بد من هذا. وأخذت السيف وجرَّدته وهمَّت بقتله، فقال الأمجد في نفسه: هذا رجل عمل معنا خيرًا، وسترنا وأحسن إلينا، وجعل نفسه مملوكي، كيف نجازيه بالقتل؟ لا كان ذلك أبدًا. ثم قال للصبية: إنْ لم يكن من قتل مملوكي بدٌّ، فأنا أحقُّ بقتله منك. ثم أخذ السيف من يدها ورفع يده وضرب الصبية في عنقها، فأطاح رأسها عن جثتها، فوقع رأسها على صاحب الدار فاستيقظ، وجلس وفتح عينيه فوجد الأمجد واقفًا والسيف في يده مخضَّبًا بالدم، ثم نظر إلى الصبية فوجدها مقتولة، فاستخبره عن أمرها فأعاد عليه حديثها، وقال له: إنها أَبَتْ إلا أن تقتلك، وهذا جزاؤها. فقام بهادر وقبَّل رأس الأمجد وقال له: يا سيدي، ليتك عفوتَ عنها، وما بقي في الأمر إلا إخراجها في هذا الوقت قبل الصباح.
ثم إن بهادر شد وسطه وأخذ الصبية ولفها في عباءة، ووضعها في فرد وحملها وقال للأمجد: أنت غريب، ولا تعرف أحدًا، فاجلس في مكانك وانتظرني عند طلوع الشمس، فإن عدتُ إليك لا بد أن أفعل معك خيرًا كثيرًا، وأجتهد في كشف خبر أخيك، وإنْ طلعت الشمس ولم أَعُدْ إليك، فاعلم أنه قد قُضِي عليَّ، والسلام عليك، وهذه الدار لك بما فيها من الأموال والقماش. ثم إنه حمل الفرد وخرج من القاعة، وشقَّ بها الأسواق وقصد بها طريق البحر المالح ليرميها فيه، فلما صار قريبًا من البحر التفت فرأى الوالي والمقدِّمين قد أحاطوا به، ولما عرفوه تعجَّبوا وفتحوا الفرد فوجدوا فيه قتيلة، فقبضوا عليه وبيَّتوه في الحديد إلى الصباح، ثم طلعوا به هو والفرد إلى الملك وأعلموه بالخبر، فلما رأى الملك ذلك، غضب غضبًا شديدًا وقال له: ويلك! إنك تفعل هكذا دائمًا، فتقتل القتلى وترميهم في البحر، وتأخذ جميع ما لهم، وكم فعلتَ قبل ذلك من قتل؟ فأطرق بهادر رأسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.