فلما كانت الليلة ٢٣٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة مرجانة أمرت الجواري أن يقدِّمن المُدام فقدَّمنه، فشربت مع الأسعد، وألقى الله — سبحانه وتعالى — محبة الأسعد في قلبها، وصارت تملأ القدح وتسقيه حتى غاب عقله، فقام يريد قضاء حاجة ونزل من القاعة، فرأى بابًا مفتوحًا فدخل فيه وتمشى، فانتهى به السير إلى بستان عظيم فيه جميع الفواكه والأزهار، فجلس تحت شجرة وقضى حاجته، وقام إلى الفسقية التي في البستان فاستلقى على قفاه ولباسه محلول، فضربه الهواء فنام ودخل عليه الليل.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر بهرام، فإنه لما دخل عليه الليل صاح على بحرية المركب، وقال لهم: حلوا قلوعكم وسافروا بنا. فقالوا له: سمعًا وطاعة، ولكن اصبر علينا حتى نملأ قربنا ونحل. ثم طلع البحرية بالقِرَب وداروا حول القلعة، فلم يجدوا غير حيطان البستان، فتعلقوا بها ونزلوا البستان، وتتبعوا أثر الأقدام الموصلة إلى الفسقية، فلما وصلوا إليها وجدوا الأسعد مستلقيًا على قفاه، فعرفوه وفرحوا به وحملوه بعد أن ملئوا قِرَبهم ونطوا من الحائط، وأتوا به مُسرِعين إلى بهرام المجوسي، وقالوا له: أَبْشِر بحصول المراد وشفاء الأكباد؛ فقد طبل طبلك وزمر زمرك، فإن أسيرك الذي أخذته الملكة مرجانة منك غصبًا قد وجدناه وأتينا به معنا. ثم رموه قدَّامه، فلما نظره بهرام طار قلبه من الفرح، واتسع صدره وانشرح، ثم خلع عليهم وأمرهم أن يحلوا القلوع بسرعة، فحلوا قلوعهم وسافروا قاصدين جبل النار، ولم يزالوا مسافرين إلى الصباح.
هذا ما كان من أمرهم، وأما ما كان من أمر الملكة مرجانة، فإنها بعد نزول الأسعد من عندها مكثت تنتظره ساعة فلم يَعُدْ إليها، فقامت وفتَّشت عليه فما وجدته، فأوقدت الشموع وأمرت الجواري أن يفتشن عليه، ثم نزلت هي بنفسها فرأت البستان مفتوحًا فعلمت أنه دخله، فدخلت البستان فوجدت نعله بجانب الفسقية، فصارت تفتش عليه في جميع البستان، فلم تَرَ له خبرًا، ولم تزل تفتش عليه في جوانب البستان إلى الصباح، ثم سألت عن المركب، فقالوا لها: قد سافرت في ثلث الليل. فعلمت أنهم أخذوه معهم، فصعب عليها واغتاظت غيظًا شديدًا، ثم أمرت بتجهيز عشر مراكب كبار في الوقت، وتجهزت للحرب، ونزلت في مركب من العشر مراكب، ونزل معها عسكرها مُهيَّئين بالعدة الفاخرة وآلات الحرب، وحلوا القلوع، وقالت للرؤساء: متى لحقتم مركب المجوسي فلكم عندي الخِلَع والأموال، وإن لم تلحقوها قتلتكم عن آخركم. فحصل للبحرية خوف ورجاء عظيم، ثم سافروا بالمراكب ذلك النهار وتلك الليلة، وثاني يوم، وثالث يوم، وفي اليوم الرابع لاحت لهم مركب بهرام المجوسي، ولم ينقضِ النهار حتى أحاطت المراكب بمركب المجوسي، وكان بهرام في ذلك الوقت قد أخرج الأسعد وضربه وصار يعاقبه، والأسعد يستغيث ويستجير فلم يجد مغيثًا ولا مجيرًا من الخلق، وقد آلمه الضرب الشديد. فبينما هو يعاقبه؛ إذ لاحت منه نظرة، فوجد المراكب قد أحاطت بمركبه ودارت حولها كما يدور بياض العين بسوادها، فتيقن أنه هالك لا محالة، فتحسَّرَ بهرام وقال: ويلك يا أسعد! هذا كله من تحت رأسك. ثم أخذه من يده وأمر البحرية أن يرموه في البحر، وقال: والله لأقتلك قبل موتي. فاحتملته البحرية من يديه ورجليه ورموه في وسط البحر، فأذن الله — سبحانه وتعالى — لما يريد من سلامته وبقية أجله، أنه غطس ثم طلع وخبط بيديه ورجليه إلى أن سهَّل الله عليه وأتاه الفرج، وضربه الموج وقذفه بعيدًا عن مركب المجوسي، ووصل إلى البر، فطلع وهو لم يصدق بالنجاة، ولما صار في البر قلع أثوابه وعصرها ونشرها، وقعد عريانًا يبكي على ما جرى له من المصائب والأسر، ثم أنشد هذين البيتين:
فلما فرغ من شعره قام ولبس ثيابه، ولم يعلم أين يروح ولا أين يجيء، فصار يأكل من نبات الأرض وفواكه الأشجار، ويشرب من ماء الأنهار، وسافَرَ بالليل والنهار حتى أشرف على مدينة، ففرح وأسرع في مشيه نحو المدينة، فلما وصل إليها أدركه المساء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.