فلما كانت الليلة ٢٣٨
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز قبلت ما قاله الحجاج، ولما أصبحت لبست أثوابها الصوف، ووضعت في رقبتها سبحة عدد حبَّاتها ألوف، وأخذت بيدها عكازًا وركوة يمانية وسارت وهي تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولم تزل في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر والمحال حتى وصلت إلى دار نعمة بن الربيع عند صلاة الظهر، فقرعت الباب ففتح لها البواب وقال: ما تريدين؟ قالت: أنا فقيرة من العابدات، وأدركتني صلاة الظهر، وأريد أن أصلي في هذا المكان المبارك. فقال لها البواب: يا عجوز، إن هذه دار نعمة بن الربيع، وليست بجامع ولا مسجد. فقالت: أنا أعرف أنه لا جامعَ ولا مسجدَ مثل دار نعمة بن الربيع، وأنا قهرمانة من قصر أمير المؤمنين خرجت طالبة العبادة والسياحة. فقال لها البواب: لا أمكِّنك من أن تدخلي. وكثُر بينهما الكلام فتعلَّقت به العجوز وقالت له: هل يُمنَع مثلي من دخول دار نعمة بن الربيع وأنا أعبر إلى ديار الأمراء والأكابر؟ فخرج نعمة وسمع كلامها فضحك، وأمرها أن تدخل خلفه، فدخل نعمة وسارت العجوز خلفه حتى دخل بها على نِعَم، فسلَّمت عليها العجوز بأحسن سلام، ولما نظرت إلى نِعم تعجَّبت من فرط جمالها، ثم قالت لها: يا سيدتي، أعيذك بالله الذي ألَّفَ بينك وبين مولاك في الحسن والجمال.
ثم انتصبت العجوز في المحراب، وأقبلت على الركوع والسجود والدعاء إلى أن مضى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، فقالت الجارية: يا أمي، أريحي قدمَيْك ساعةً. فقالت العجوز: يا سيدتي، مَن طلب الآخرة أتعب نفسه في الدنيا، ومَن لم يُتعِب نفسه في الدنيا لم ينل منازل الأبرار في الآخرة. ثم إن نِعم قدَّمت الطعام للعجوز، وقالت لها: كلي من طعامي، وادعي لي بالتوبة والرحمة. فقالت العجوز: يا سيدتي إني صائمة، وأما أنت فصبية يصلح لك الأكل والشرب والطرب، والله يتوب عليك، وقد قال الله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا. ولم تزل الجارية جالسة مع العجوز ساعة تحدثها، ثم قالت لسيدها: يا سيدي، احلف على هذه العجوز أن تقيم عندنا مدةً، فإن على وجهها أثر العبادة. فقال: أخلي لها مجلسًا للعبادة، ولا تخلِّي أحدًا يدخل عليها، فلعل الله — سبحانه وتعالى — ينفعنا ببركتها، ولا يفرق بيننا.
ثم باتت العجوز ليلتها تصلي وتقرأ إلى الصباح، فلما أصبح الصباح جاءت إلى نعمة ونِعم وصبَّحت عليهما، وقالت لهما: استودعتكما الله. فقالت لها نِعم: إلى أين تمضين يا أمي وقد أمرني سيدي أن أخلي لك مجلسًا تعتكفين فيه للعبادة؟ فقالت العجوز: الله يبقيه، ويديم نعمته عليكما، ولكن أريد منكما أن توصوا البواب أنه لا يمنعني من الدخول إليكما، وإن شاء الله تعالى أدور في الأماكن الطاهرة، وأدعو لكما عقب الصلاة والعبادة في كل يوم وليلة. ثم خرجت من الدار والجارية نِعم تبكي على فراقها، وما تعلم السبب الذي أتت إليها من أجله، ثم إن العجوز توجَّهت إلى الحجاج، فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إني نظرت إلى الجارية فرأيتها لم تلد النساءُ أحسنَ منها في زمانها. فقال لها الحجاج: إنْ فعلت ما أمرتك به يصل إليك مني خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهرًا كاملًا. فقال لها: أمهلتُك شهرًا. ثم إن العجوز جعلت تتردد إلى دار نعمة وجاريته نِعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.