فلما كانت الليلة ٢٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الحجاج قال لصاحب الشرطة: لا بد أن تركب الخيل، وتنظر في البلدان والطرقات، وتفتش على الجارية. ثم التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعتُ لك عشرَ جوارٍ من داري، وعشرَ جوارٍ من دار صاحب الشرطة. ثم قال لصاحب الشرطة: اخرج في طلب الجارية. فخرج صاحب الشرطة، ونعمة مغموم، وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل عن داره، ولم يزل يبكي إلى الصباح، فأقبل والده عليه، وقال له: يا ولدي، إن الحجاج قد احتال على الجارية وأخذها، ومن ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده. فتزايدت الهموم على نعمة، وصار لا يعلم ما يقول، ولا يعرف مَن يدخل عليه، وأقام ضعيفًا ثلاثة أشهر حتى تغيَّرت أحواله ويئس منه أبوه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلا الجارية.
فبينما والده جالس يومًا من الأيام إذ سمع بطبيب ماهر أعجمي، وقد وصفه الناس بإتقان الطب والتنجيم وضرب الرمل؛ فدعا به الربيع، فلما حضر أجلسه الربيع إلى جانبه وأكرمه، وقال له: انظر حال ولدي. فقال لنعمة: هات يدك. فأعطاه يده فجسَّ مفاصله، ونظر في وجهه وضحك، والتفت إلى أبيه وقال: ليس بولدك غير مرض في قلبه. فقال: صدقتَ يا حكيم، فانظر في شأن ولدي بمعرفتك، وأخبرني بجميع أحواله، ولا تكتم عني شيئًا من أمره. فقال الأعجمي: إنه متعلق بجارية، وهذه الجارية في البصرة أو في دمشق، وما دواء ولدك غير اجتماعه بها. فقال الربيع: إن جمعتَ بينهما فلك عندي ما يسرك، وتعيش عمرك كله في المال والنعمة. فقال له العجمي: إن هذا الأمر قريب وسهل. ثم التفت إلى نعمة وقال له: لا بأس عليك، فطب نفسًا وقر عينًا. ثم قال للربيع: أَخْرِج من مالك أربعة آلاف دينار. فأخرجها وسلَّمها للأعجمي، فقال له الأعجمي: أريد أن ولدك يسافر معي إلى دمشق، وإن شاء الله تعالى لا أرجع إلا بالجارية. ثم التفت العجمي إلى الشاب وقال له: ما اسمك؟ قال: نعمة. قال: نعمة اجلس وكن في أمان الله تعالى، لقد جمع الله بينك وبين جاريتك. فاستوى جالسًا، فقال له: ثبِّت قلبك فنحن نسافر مثل هذا اليوم، فكُلْ واشرب وانبسط لتقوى على السفر. ثم إن العجمي أخذ في قضاء حوائجه من جميع ما يحتاج إليه، واستكمل من والد نعمة عشرة آلاف دينار، وأخذ منه الخيل والجمال وغير ذلك مما يُحتاج لحمل الأثقال في الطريق.
ثم إن نعمة ودَّع والده وسافر مع الحكيم إلى حلب، فلم يقع على خبر الجارية، ثم إنهما وصلا إلى دمشق وأقاما فيها ثلاثة أيام، وبعد ذلك أخذ الأعجمي دكانًا وملأ رفوفها بالصيني النفيس والأغطية، وزركش الرفوف بالذهب والقطع المثمنة، وحطَّ قدَّامه أواني من القناني فيها سائر الأدهان، وسائر الأشربة، ووضع حول القناني أقداحًا من البلور، وحطَّ الأصطرلاب قدَّامه، ولبس أثواب الحكمة والطب، وأوقف بين يديه نعمة وألبسه قميصًا وملوطة من الحرير، وفوَّطه في وسطه بفوطة من الحرير مزركشة بالذهب، ثم قال العجمي لنعمة: يا نعمة، أنت من اليوم ولدي فلا تدعُني إلا بأبيك، وأنا لا أدعوك إلا بالولد. فقال نعمة: سمعًا وطاعة.
ثم إن أهل دمشق اجتمعوا على دكان العجمي ينظرون إلى حسن نعمة، وإلى حسن الدكان والبضائع التي فيها، والعجمي يكلِّم نعمة بالفارسية ونعمة يكلِّمه كذلك بتلك اللغة؛ لأنه كان يعرفها على عادة أولاد الأكابر، واشتهر ذلك الأعجمي عند أهل دمشق، وجعلوا يصفون له الأوجاع وهو يعطيهم الأدوية، ويأتونه بالقوارير المملوءة ببول المرضى فيبصرها ويقول: إن مرض صاحب البول الذي في هذه القارورة كذا وكذا. فيقول صاحب المرض: إن هذا الطبيب صادق. ثم صار يقضي حاجة الناس، واجتمعت عليه أهل دمشق وشاع خبره في المدينة وفي بيوت الأكابر. فبينما هو ذات يوم جالس إذ أقبلت عليه عجوز راكبة على حمار، برذعته من الديباج المرصَّع بالجواهر، فوقفت على دكان العجمي وشدَّت لجام الحمار، وأشارت للعجمي وقالت له: أمسك يدي. فأخذ يدها فنزلت من فوق الحمار وقالت: أأنت الطبيب العجمي الذي جئت من العراق؟ قال: نعم. قالت: اعلم أن لي بنتًا وبها مرض. وأخرجت له قارورة، فلما نظر العجمي إلى ما في القارورة قال لها: يا سيدتي، ما اسم هذه الجارية حتى أحسب نجمها، وأعرف أي ساعة يوافقها فيها شرب الدواء؟ فقالت: يا أخا الفرس، اسمها نِعَم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.