فلما كانت الليلة ١٤١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفارس المجروح قال لضوء المكان: فخرج على العجوز ومَنْ معها كهرداش، ثم أحاط بهم وهاش وناش، فلم تمضِ ساعة حتى ربط العشرة عبيد والعجوز وتسلَّم الحصان، وسار بهم وهو فرحان، فقلت في نفسي: قد ضاع تعبي وما بلغت أربي. ثم صبرت حتى أنظر ما يئُول إليه الأمر، فلما رأت العجوز روحها في الأسر، بكت وقالت لكهرداش: أيها الفارس الهمام والبطل الضرغام، ماذا تصنع بالعجوز والعبيد، وقد بلغت من الحصان ما تريد؟ وخادعته بلين الكلام، وحلفت أنها تسوق له الخيل والأنعام، فأطلقها هي والعبيد، ثم سار هو وأصحابه وتبعتهم حتى وصلت إلى هذه الديار وأنا ألاحظه، فلما وجدتُ إليه سبيلًا سرقتُه وركبته، وأخرجت من مخلاتي سوطًا فضربته، فلما أحسُّوا بي لحقوني وأحاطوا بي من كل مكان ورموني بالسهام والسنان، وأنا ثابت عليه، وهو يقاتل عني بيديه ورجليه، إلى أن خرج بي من بينهم مثل النجم الطارق والسهم الراشق، ولكن لما اشتد الكفاح أصابني بعض الجراح، وقد مضى لي على ظهره ثلاثة أيام لم أستطعم بطعام، وقد ضعفت مني القوى وهانت عليَّ الدنيا، وأنت أحسنتَ إليَّ وشفقتَ عليَّ، وأراك عاري الجسد ظاهر الكمد، ويلوح عليك أثر النعمة، فما يقال لك؟ فقال: أنا يقال لي «كان ما كان» ابن الملك ضوء المكان، ابن الملك عمر النعمان، قد مات والدي ورُبيت يتيمًا، وتولَّى بعده رجل لئيم، وصار ملكًا على الحقير والعظيم. ثم حدَّثه بحديثه من أوله إلى آخره، فقال الرجل السلَّال وقد رقَّ له: إنك ذو حسب عظيم، وشرف جسيم، وليكن لك شأن وتصير أفرس هذا الزمان، فإن قدرت أن تحملني وتركب ورائي وتودِّيني إلى بلادي، يكن لك الشرف في الدنيا والأجر في يوم التنادي؛ فإنه لم يَبْقَ لي قوة أمسك بها نفسي، وإنْ متُّ في الطريق، فزتُ بهذا الحصان، وأنت أولى به من كل إنسان. فقال له «كان ما كان»: والله لو قدرتُ أن أحملك على أكتافي لَفعلتُ، ولو كان عمري بيدي لَأعطيتُكَ نصفه من غير هذا الجواد؛ لأني من أهل المعروف وإغاثة الملهوف، وفعل الخير لوجه الله تعالى يسدُّ سبعين بابًا من البلاء. وعزم على أن يحمله على الحصان ويسير متوكلًا على اللطيف الخبير، فقال له: اصبر عليَّ قليلًا. ثم أغمض عينيه وفتح يديه وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. وتهيَّأ للممات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره، أغمض عينيه وفتح فاه وشهق شهقة، ففارَقَ الدنيا، فحفر له «كان ما كان» حفرةً وواراه في التراب، ثم مسح وجه الحصان ورآه لا يوجد في حوزة الملك ساسان، ثم أتته الأخبار من التجار بجميع ما جرى في غيبته بين الملك ساسان والوزير دندان، وأن الوزير دندان خرج عن طاعة الملك ساسان هو ونصف العسكر، وحلفوا أنهم ما لهم سلطان إلا «كان ما كان»، واستوثق منهم بالأيمان، ودخل بهم إلى جزائر الهند والبربر وبلاد السودان، واجتمع معهم عساكر مثل البحر الزاخر، لا يعرف لهم أول من آخِر، وعزم على أن يرجع بجميع الجيوش إلى البلاد، ويقتل مَن خالَفَه من العباد، وأقسَمَ على أنه لا يردُّ سيفَ الحرب إلى غمده، حتى يملك «كان ما كان». فلما بلغته الأخبار، غرق في بحر الأفكار، ثم إن الملك ساسان علم أن الدولة انحرفت عليه الكبار والصغار، فغرق في بحر الهموم والأكدار، وفتح الخزائن وفرَّق على أرباب الدولة الأموال والنِّعَم، وتمنى أن يقدم عليه «كان ما كان»، ويجذب قلبه إليه بالملاطفة والإحسان، ويجعله أميرًا على العساكر الذين لم يزالوا تحت طاعته، لتقوى به شرارة جمرته.
ثم إن «كان ما كان» لما بلغه ذلك الخبر من التجار، رجع مسرعًا إلى بغداد على ظهر ذلك الجواد، فبينما الملك ساسان في ربكته حيران، إذ سمع بقدوم «كان ما كان»، فأخرج جميع العساكر ووجهاء بغداد لملاقاته، فخرج كلُّ مَن في بغداد ولاقوه ومشوا قدامه إلى القصر، ودخلت الطواشية بالأخبار إلى أمه، فجاءت إليه وقبَّلَتْه بين عينيه، فقال: يا أماه، دعيني أمضي إلى عمي السلطان ساسان، الذي غمرني بالنعمة والإحسان. ثم إن أرباب الدولة تحيَّروا في وصف ذلك الحصان، وفي وصف صاحبه سيد الفرسان، وقالوا للملك ساسان: أيها الملك، إننا ما رأينا مثل هذا الإنسان. ثم ذهب الملك ساسان إليه وسلَّمَ عليه، فلما رآه «كان ما كان» مُقبِلًا عليه، قام إليه وقبَّلَ يديه ورجليه، وقدَّم إليه الحصان هدية، فرحَّب به وقال: أهلًا وسهلًا بولدي «كان ما كان»، والله لقد ضاقت بي الأرض لأجل غيبتك، والحمد لله على سلامتك.
ثم نظر السلطان إلى هذا الحصان المسمَّى بالقاتول، فعرف أنه الحصان الذي رآه سنة كذا وكذا في حصار عَبَدة الصلبان مع أبيه ضوء المكان، حين قتل عمه شركان وقال له: لو قدر عليه أبوك لَاشتراه بألف جواد، ولكن الآن عاد العز إلى أهله، وقد قبلناه، ومنَّا لك وهبناه، وأنت أحقُّ به من كل إنسان؛ لأنك سيد الفرسان. ثم أمر أن يحضروا ﻟ «كان ما كان» خلعة سنيَّة وجملة من الخيل، وأفرد له في القصر أكبر الدُّورِ، وأقبل عليه العز والسرور، وأعطاه مالًا جزيلًا، وأكرمه غاية الإكرام؛ لأنه كان يخشى عاقبة أمر الوزير دندان، ففرح بذلك «كان ما كان»، وذهب عنه الذل والهوان، ودخل بيتَه وأقبَلَ على أمه وقال: يا أمي، ما حال ابنة عمي؟ فقالت: والله يا ولدي، إنه كان عندي من غيبتك ما أشغلني عن محبوبتك. فقال: يا أمي، اذهبي إليها وأقبلي عليها؛ لعلها تجود عليَّ بنظرة. فقالت له: إن المطامع تذلُّ أعناقَ الرجال، فدَعْ عنك هذا المقال؛ لئلا يفضي بك إلى الوبال، فأنا لا أذهب إليها، ولا أدخل بهذا الكلام عليها. فلما سمع من أمه ذلك، أخبرها بما قاله السلَّال من أن العجوز ذات الدواهي طرقت البلاد، وعزمت على أن تدخل بغداد، وقال: هي التي قتلت عمي وجدي، ولا بد أن أكشف العار وآخذ الثأر. ثم ترك أمه، وأقبل على عجوز عاهرة محتالة ماكرة اسمها سعدانة، وشكا إليها حاله، وما يجده من حب «قضى فكان»، وسألها أن تتوجه إليها وتستعطفها عليه، فقالت له العجوز: سمعًا وطاعةً. ثم فارقَتْه ومضت إلى قصر «قضى فكان»، واستعطفت قلبها عليه، ثم رجعت إليه وأعلمته بأنَّ «قضى فكان» تسلِّم عليه، ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.