فلما كانت الليلة ٢٥٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الصبية قالت لعلاء الدين: وإذا أرسلوا إليك رسولًا من طرف الشرع في غد، وقال لك القاضي وأبي: طلِّق. فقُلْ لهما: في أي مذهب يجوز أنني أتزوج في العشاء، وأطلِّق في الصباح؟ ثم إنك تقبِّل يد القاضي وتعطيه إحسانًا، وكذا كل شاهد تقبِّل يده وتعطيه عشرة دنانير؛ فكلهم يتكلمون معك، فإذا قالوا لك: لأي شيء ما تطلِّق وتأخذ ألف دينار والبغلة والبدلة على حكم الشرط الذي شرطناه عليك؟ فقل لهم: أنا عندي فيها كل شعرة بألف دينار ولا أطلِّقها أبدًا، ولا آخذ بدلة ولا غيرها. فإذا قال لك القاضي: ادفع المهر. فقل له: أنا معسر الآن. وحينئذٍ يترفَّق بك القاضي والشهود، ويمهلونك مدة.
فبينما هما في الكلام، وإذا برسول القاضي يدق الباب، فخرج إليه، فقال له الرسول: كلِّم الأفندي، فإن نسيبك طالبك. فأعطاه خمسة دنانير وقال له: يا مُحضر، في أي شرع أني أتزوج في العشاء، وأطلِّق في الصباح؟ فقال له: لا يجوز عندنا أبدًا، وإن كنتَ تجهل الشرع فأنا أعمل وكيلك. وساروا إلى المحكمة فقال له القاضي: لأي شيء لم تطلق المرأة وتأخذ ما وقع عليه الشرط؟ فتقدَّمَ إلى القاضي وقبَّل يده ووضع فيها خمسين دينارًا، وقال له: يا مولانا القاضي، في أي مذهب أني أتزوج في العشاء وأطلِّق في الصباح قهرًا عني؟ فقال القاضي: لا يجوز الطلاق بالإجبار في أي مذهب من مذاهب المسلمين. فقال أبو الصبية: إن لم تطلق فادفع لي الصداق عشرة آلاف دينار. فقال علاء الدين: أمهلني ثلاثة أيام. فقال القاضي: لا تكفي ثلاثة أيام في المهلة، بل يمهلك عشرة أيام. واتفقوا على ذلك، وشرطوا عليه بعد العشرة أيام؛ إما المهر وإما الطلاق، وطلع من عندهم على هذا الشرط، فأخذ اللحم والأرز والسمن وما يحتاج إليه الأمر من المأكل وتوجَّهَ إلى البيت، فدخل على الصبية وحكى لها جميع ما جرى له، فقالت له: بين الليل والنهار عجائب، ولله در مَن قال:
ثم قامت وهيَّأت الطعام وأحضرت السفرة، فأكلا وشربا وتلذَّذا وطربا، ثم طلب منها أن تعمل نوبة سماع، فأخذت العود وعملت نوبة يطرب منها الحجر الجلمود، ونادت الأوتار في الحضرة: يا داود. ودخلت في دارج النوبة. فبينما هما في حظ ومزاح، وبسط وانشراح، وإذا بالباب يطرق، فقالت له: قم انظر مَن بالباب. فنزل وفتح الباب فوجد أربعة دراويش واقفين، فقال لهم: أي شيء تطلبون؟ فقالوا له: يا سيدي، نحن دراويش غرباء الديار، وقوت أرواحنا السماع ورقائق الأشعار، ومرادنا أن نرتاح عندك هذه الليلة إلى وقت الصباح، ثم نتوجه إلى حال سبيلنا، وأجرك على الله تعالى؛ فإننا نعشق السماع، وما فينا واحد إلا ويحفظ القصائد والأشعار والموشحات. فقال لهم: عليَّ مشورة. ثم طلع وأعلمها، فقالت له: افتح لهم الباب. ففتح لهم الباب وأطلعهم وأجلسهم ورحَّب بهم، ثم أحضر لهم طعامًا فلم يأكلوا، وقالوا له: يا سيدي، إنَّ زادَنَا ذِكْرُ الله بقلوبنا، وسماعُ المغنى بآذاننا، ولله در مَن قال:
وقد كنا نسمع سماعًا لطيفًا، فلما طلعنا بطل السماع، فيا هل ترى التي كانت تعمل النوبة جارية بيضاء أم سوداء أم بنت ناس؟ فقال لهم: هذه زوجتي. وحكى لهم جميع ما جرى له، وقال لهم: إن نسيبي عمل عليَّ عشرة آلاف دينار مهرها، وأمهلوني عشرة أيام. فقال درويش منهم: لا تحزن، ولا تأخذ في خاطرك إلا الطيب، فأنا شيخ التكية، وتحت يدي أربعون درويشًا أحكم عليهم، وسوف أجمع لك العشرة آلاف دينار منهم، وتوفي المهر الذي عليك لنسيبك، ولكن اؤمرها أن تعمل لنا نوبة لأجل أن ننحظ ويحصل لنا انتعاش، فإن السماع لقوم كالغذاء، ولقوم كالدواء، ولقوم كالمروحة. وكان هؤلاء الدراويش الأربعة: الخليفة هارون الرشيد، والوزير جعفر البرمكي، وأبو نواس الحسن بن هاني، ومسرور سيَّاف النقمة؛ وسببُ مرورهم على هذا البيت أن الخليفة حصل له ضيق صدر، فقال للوزير: يا وزير، إن مرادنا أن ننزل، ونشق في المدينة؛ لأنه حاصل عندي ضيق صدر. فلبسوا لبس الدراويش ونزلوا إلى المدينة، فجازوا على تلك الدار فسمعوا النوبة، فأحبوا أن يعرفوا حقيقة الأمر، ثم إنهم باتوا في حظٍّ ونظام، ومناقلة كلام، إلى أن أصبح الصباح، فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة، ثم أخذوا خاطره وتوجهوا إلى حال سبيلهم؛ فلما رفعت الصبية السجادة رأت مائة دينار تحتها، فقالت لزوجها: خذ هذه المائة دينار التي وجدتها تحت السجادة؛ فإن الدراويش حطوها قبلما يروحوا، وليس لنا علم بذلك. فأخذها علاء الدين وذهب إلى السوق، واشترى منها اللحم والأرز والسمن، وجميع ما يحتاج إليه.
وفي ثاني ليلة قاد الشمع، وقال لها: إن الدراويش لم يأتوا بالعشرة آلاف دينار التي وعدوني بها، ولكن هؤلاء فقراء. فبينما هما في الكلام، وإذا بالدراويش قد طرقوا الباب، فقالت له: انزل افتح لهم. ففتح لهم وطلعوا، فقال لهم: هل أحضرتم العشرة آلاف دينار التي وعدتموني بها؟ فقالوا له: ما تيسَّرَ منها شيء، ولكن لا تخشَ بأسًا، إن شاء الله تعالى في غد نطبخ طبخة كيمياء، وأمُر زوجتك أن تُسمعنا نوبة عظيمة تنتعش بها قلوبنا، فإننا نحب السماع. فعملت لهم نوبة على العود تُرقِص الحجر الجلمود، فباتوا في هناء وسرور، ومسامرة وحبور، إلى أن طلع الصباح، وأضاء بنوره ولاح، فحط الخليفة مائة دينار تحت السجادة، ثم أخذوا خاطره وانصرفوا من عنده إلى حال سبيلهم، ولم يزالوا يأتون إليه على هذا الحال مدة تسع ليالٍ، وكل ليلة يحط الخليفة تحت السجادة مائة دينار إلى أن أقبلت الليلة العاشرة فلم يأتوا، وكان السبب في انقطاعهم أن الخليفة أرسل إلى رجل عظيم من التجار، وقال له: أحضر لي خمسين حملًا من الأقمشة التي تجيء من مصر … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.