فلما كانت الليلة ١٤٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العجوز رجعت إلى «كان ما كان»، وأعلمته بأن «قضى فكان» تسلِّم عليه، ووعدتها أنها في نصف الليل تجيء إليه؛ فلما بلغه ذلك الخبر، فرح لوعد ابنة عمه «قضى فكان»، فلما جاء نصف الليل أتته بملاءة سوداء من الحرير، ودخلت عليه ونبَّهَتْه من نومه، وقالت له: كيف تدَّعِي أنك تحبني، وأنت خليُّ البال، نائم على أحسن الحال؟ فانتبه وقال: والله يا منية القلب، إني ما نمتُ إلا طمعًا في أن يزورني منك طيفُ الخيال. فعند ذلك عاتبَتْه بلطيف الكلمات، وأنشدت هذه الأبيات:
فاستحيا منها «كان ما كان»، وتعانَقَا وتشاكيا ألمَ الفراق، وعظيم الوَجْد والاشتياق، ولم يزالا كذلك إلى أن بدت غرةُ الصباح، وطلع الفجر ولاح، فبكى «كان ما كان» بكاءً شديدًا، وصعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
فلمَّا فرغ من شعره، ودَّعَتْه «قضى فكان»، ورجعت إلى خدرها، وأظهرت بعض الجواري على سرِّها، فذهبت جارية منهن إلى الملك ساسان، وأعلمته بالخبر، فتوجَّه إلى «قضى فكان»، وجرَّدَ عليها الحسام، وأراد أن يضرب عنقها، فدخلت عليه أمها نزهة الزمان، وقالت له: بالله لا تفعل بها ضررًا، فإنك إنْ فعلتَ بها ضررًا يشيع الخبر بين الناس، وتبقى معيرة عند ملوك الزمان؛ إنَّ «كان ما كان» صاحب عرض ومروءة، ولا يفعل أمرًا يُعاب عليه، فاصبر ولا تعجل؛ فإن أهل القصر وجميع أهل بغداد قد شاع عندهم أن الوزير دندان قاد العساكر من جميع البلدان، وجاء بهم ليملِّكوا «كان ما كان». فقال لها: لا بد أن أرميه في بلية، بحيث لا أرض تقله ولا سماء تظله، وإني ما طيبت خاطره ولا أنعمت عليه إلا لأجل أهل مملكتي لئلا يميلوا إليه، وسوف ترين ما يكون. ثم تركها وخرج يدبر أمر مملكته.
هذا ما كان من أمر الملك ساسان، وأما ما كان من أمر «كان ما كان»، فإنه أقبل على أمه في ثاني يوم، وقال لها: يا أمي، إني عزمت على شن الغارات، وقطع الطرقات، وسوق الخيل والنِّعَم والعبيد والمماليك، وإذا كَثُر مالي وحَسُن حالي، خطبت «قضى فكان» من عمي ساسان، فقالت: يا ولدي، إن أموال الناس غير سائبة؛ لأن دونها ضرب الصفاح، وطعن الرماح، ورجالًا تقتنص الأسود، وتصيد الفهود. فقال لها «كان ما كان»: هيهات أن أرجع عن عزيمتي إلا إذا بلغتُ منيَّتي. ثم أرسَلَ العجوز إلى «قضى فكان» ليعلمها أنه يريد السير حتى يحصِّل لها مهرًا يصلح لها. وقال للعجوز: لا بد أن تأتيني منها بجواب. فقالت له: سمعًا وطاعة. ثم ذهبت إليها ورجعت له بالجواب، وقالت له: إنها في نصف الليل تكون عندك. فأقام سهران إلى نصف الليل من قلقه، فلم يشعر إلا وهي داخلة عليه، وتقول له: روحي فداك من السهر. فنهض لها قائمًا وقال: يا مُنية القلب، روحي فداكِ من جميع الأسواء. ثم أعلمها بما عزم عليه فبكت، فقال لها: لا تبكي يا بنت العم، فأنا أسأل الذي حكم علينا بالفراق أن يمنَّ علينا بالتلاقي والوفاق.
ثم إن كان ما كان أخذ في السفر، ودخل على أمه وودَّعها، ونزل من القصر، وتقلَّد بسيفه وتعمَّم وتلثَّم، وركب جواده القاتول، ومشى في شوارع المدينة وهو كالبدر حتى وصل إلى باب بغداد، وإذا برفيقه صباح بن رباح خارج من المدينة، فلما رآه جرى في ركابه وحيَّاه، فردَّ عليه السلام، فقال صباح: يا أخي، كيف صار لك هذا الجواد وهذا المال، وأنا الآن لا أملك غير سيفي؟ فقال له «كان ما كان»: ما يرجع الصياد إلَّا بصيد على قدر نيَّته، وبعد فراقك بساعة حصلَتْ لي السعادة، وهل لك أن تأتي معي، وتخلص النية في صحبتي، ونسافر في تلك البرية؟ فقال: ورب الكعبة ما بقيت أدعوك إلا مولاي. ثم جرى قدام الجواد وسيفه على عاتقه، وجرابه بين كتفيه، ولم يزالَا سائرَيْن في البر أربعة أيام، وهما يأكلان من صيد الغزلان، ويشربان من ماء العيون. وفي اليوم الخامس أشرفَا على تلٍّ عالٍ، تحته مرابع فيها إبل وغنم وبقر وخيل قد ملأت الروابي والبطاح، وأولادها الصغار تلعب حول المراح، فلما رأى ذلك «كان ما كان» زادت به الأفراح، وامتلأ صدره بالانشراح، وعوَّل على القتال، وأخْذِ النياق والجمال، فقال لصباح: انزل بنا على هذا المال الذي عن أهله وحيد، ونقاتل دونه القريب والبعيد، حتى يكون لنا في أخذه نصيب. فقال صباح: يا مولاي، إن أصحابه خلق كثير، وجمٌّ غفير، وفيهم أبطال من فرسان ورجال، وإن رمينا أرواحنا في هذا الخطب الجسيم، فإننا نكون من هوله على خطر عظيم، فضحك «كان ما كان»، وعلم أنه جبان، فتركه وانحدر من الرابية عازمًا على شنِّ الغارات، وترنَّمَ بإنشاد هذه الأبيات:
ثم حمل على ذلك المال مثل الجمل الهائج، وساق جميع الإبل والبقر والغنم والخيل قُدَّامه، فتبادرت إليه العبيد بالسيوف الصقال والرماح الطوال، وفي أولهم فارس تركي إلا أنه شديد الحرب والكفاح، عارف بأعمال سمر القنا وبيض الصفاح، فحمل على «كان ما كان»، وقال له: ويلك! لو علمتَ لمَن هذا المال ما فعلتَ هذه الفِعال، اعلم أن هذه الأموال للعصابة الرومية والفرقة الجركسية، الذين ما فيهم إلا كل بطل عابس، وهم مائة فارس قد خرجوا عن طاعة كل سلطان، وقد سُرِق منهم حصان، وحلفوا ألَّا يرجعوا من هنا إلا به. فلما سمع «كان ما كان» هذا الكلام، صاح قائلًا: هذا هو الحصان الذي تعنون، وأنتم له طالبون، وفي قتالي بسببه راغبون، فبارزوني كلكم أجمعون، وشأنكم وما تريدون. ثم صرخ بين أذني القاتول، فخرج عليهم مثل الغول، وعطف على الفارس وطعنه فأخرج كلاه، ومال على ثانٍ وثالث ورابع أعدمهم الحياة، فعند ذلك هابته العبيد، فقال لهم: يا بني الزواني، سوقوا المال والخيول وإلا خضبتُ من دماكم سناني. فساقوا المال، وأخذوا في الانطلاق، وانحدر إليه صباح، وأعلن بالصياح، وزادت به الأفراح، وإذا بغبار علا وطار حتى سدَّ الأقطار، وبان من تحته مائة فارس مثل الليوث العوابس، فلما رآهم صباح فرَّ إلى الرابية وترك البطاح، وصار يتفرج على الكفاح، وقال: ما أنا فارس إلا في اللعب والمزاح. ثم إن المائة فارس داروا حول «كان ما كان»، وأحاطوا به من كل مكان، فتقدَّمَ إليه فارس منهم وقال له: أين تذهب بهذا المال؟ فقال له «كان ما كان»: دونك والقتال، واعلم أن من دونه أسد أروع، وبطل سميدع، وسيف أينما مال قطع.
فلما سمع الفارس ذلك الكلام، التفت إليه فرآه فارسًا كالأسد الضرغام، إلا أن وجهه كبدر التمام، وكان ذلك الفارس رئيس المائة فارس، واسمه كهرداش، فلما رأى «كان ما كان» مع كمال فروسيته بديعَ المحاسن، يشبه حُسْنُه حُسْنَ معشوقةٍ له يقال لها «فاتن»، وكانت من أحسن النساء وجهًا، قد أعطاها الله من الحُسْن والجمال وكرم الخصال ما يعجز عن وصفه اللسان، ويشغل قلب كل إنسان، وكانت فرسان القوم تخشى سطوتها، وأبطال ذلك القُطْر تخاف من هيبتها، وحلفت أنها لا تتزوج إلا مَن يقهرها، وكان كهرداش من جملة خُطَّابها، فقالت لأبيها: ما يقربني إلا مَن يقهرني في الميدان، وموقف الحرب والطعان. فلما بلغ كهرداش هذا القول اختشى أن يقاتل جارية، وخاف من العار، فقال له بعض خواصه: أنت كامل الخصال في الحسن والجمال، فلو قاتلتها وكانت أقوى منك فإنك تغلبها؛ لأنها إذا رأت حُسْنَك وجمالك تنهزم قدَّامك حتى تملكها؛ لأن النساء لهنَّ غرض في الرجال، ولا يخفى عنك هذا الحال. فأبى كهرداش وامتنع من قتالها، واستمرَّ على امتناعه من القتال إلى أن جرت له مع «كان ما كان» هذه الأفعال، فظنَّ أنه محبوبته فاتن، وقد عشقَتْه لما سمعت بحُسْنه وشجاعته، فتقدَّمَ إلى «كان ما كان» وقال: ويلك يا فاتن! قد أتيتِ لتريني شجاعتك، فانزلي عن جوادك حتى أتحدث معك، فإني قد سقتُ هذه الأموال، وقطعت الطريق على الفرسان والأبطال، وكل هذا لحُسْنك وجمالك الذي ما له مثيل، وتزوَّجِيني حتى تخدمك بنات الملوك، وتصيري ملكةَ هذه الأقطار.
فلما سمع «كان ما كان» هذا الكلام، صارت نار غيظه في اضطرام، وقال: ويلك يا كلب الأعجام! دَعْ فاتنًا وما بها ترتاب، وتقدَّمْ إلى الطعن والضراب، فعن قليل تبقى على التراب. ثم جال وصال، وطلب الحرب والنزال، فلما نظر كهرداش إليه علم أنه فارس همام، وبطل مصدام، وتبيَّنَ له خطأ ظنه؛ حيث لاح له عذار أخضر فوق خده كآسٍ نبتَ خلال ورد أحمر، وقال للذين معه: ويلكم! ليحمل واحد منكم عليه، ويظهر له السيف البتار، والرمح الخطار، واعلموا أن قتال الجماعة للواحد عار، ولو كان في سنان رمحه شعلة نار. فعند ذلك حمل عليه فارس تحته جواد أدهم، بتحجيل وغرَّة كالدرهم، يحيِّر العقلَ والناظر، كما قال فيه الشاعر:
ثم إن ذلك الفارس حمل على «كان ما كان»، وتجاولَا في الحرب برهة من الزمان، وتضاربا ضربًا يحيِّر الأفكار، ويغشي الأبصار، فسبقه «كان ما كان» بضربة بطل شجاع قطعت منه العمامة والمِغفر، فمال عن الجواد كأنه البعير إذا انحدر، وحمل عليه الثاني والثالث والرابع والخامس، ففعل بهم كالأول، ثم حمل عليه الباقون، وقد اشتد بهم القلق، وزادت الحرق؛ فما كان إلا ساعة حتى التقطهم بسنان رمحه، فنظر كهرداش إلى هذا الحال، فخاف من الارتحال، وعرف من نفسه أن عنده ثبات الجنان، واعتقد أنه أوحد الأبطال والفرسان، فقال ﻟ «كان ما كان»: قد وهبتُ لك دمك ودم أصحابي، فخذ من المال ما شئتَ واذهب إلى حال سبيلك، فقد رحمتك لحُسْن ثباتك والحياة أولى بك. فقال له «كان ما كان»: لا عدمت مروءة الكرام، ولكن اترك عنك هذا الكلام، وفُز بنفسك ولا تخشَ الملام، ولا تطمع نفسك في ردِّ الغنيمة، واسلك لنجاة نفسك طريقة مستقيمة.
فعند ذلك اشتد بكهرداش الغضب، وحصل عنده ما يوجب العطب، فقال ﻟ «كان ما كان»: ويلك! لو عرفت مَن أنا ما نطقت بهذا الكلام في حومة الزحام، فاسأل عني، فأنا الأسد البطَّاش المعروف بكهرداش، الذي نهب الملوك الكبار، وقطع الطريق على جميع السفار، وأخذ أموال التجار، وهذا الحصان الذي تحتك طِلبتي، وأريد أن تعرِّفني كيف وصلتَ إليه حتى استوليت عليه. فقال: اعلم أن هذا الجواد كان سائرًا إلى عمي الملك ساسان تحت عجوز كبيرة، ولنا عندها ثأر من جهة جدي الملك عمر النعمان وعمي الملك شركان. فقال كهرداش: ويلك! ومَن أبوك لا أم لك؟ فقال: اعلم أني كان ما كان بن ضوء المكان بن عمر النعمان. فلما سمع كهرداش هذا الخطاب قال: لا يُستنكَر عليك الكمال، والجمع بين الفروسية والجمال. ثم قال له: توجَّهْ بأمان؛ فإن أباك كان صاحب فضل وإحسان. فقال له «كان ما كان»: أنا والله ما أوقِّرك يا مهان. فاغتاظ البدوي، ثم حمل كلٌّ منهما على صاحبه، فسدت لهما الخيل آذانها، ورفعت أذنابها، ولم يزالا يصطدمان حتى ظن كلٌّ منهما أن السماء قد انشقت، ثم بعد ذلك تقاتلا ككباش النطاح، واختلفت بينهما طعنات الرماح، فحاوله كهرداش بطعنة، فزاغ عنها «كان ما كان»، ثم كرَّ عليه وطعنه في صدره، فأطلع السنان من ظهره، وجمع الخيل والأسلاب، وصاح في العبيد: دونكم والسوق الشديد. فنزل عند ذلك صباح، وجاء إلى «كان ما كان» وقال له: أحسنت يا فارس الزمان، إني دعوت لك وقد استجاب ربي دعائي. ثم إن صباحًا قطع رأس كهرداش، فضحك «كان ما كان» وقال له: ويلك يا صباح! كنتُ أظن أنك فارس الحرب والكفاح. فقال له: لا تنسَ عبدك من هذه الغنيمة، لعلي أصل بسببها إلى زواج بنت عمي نجمة. فقال له: لا بد لك فيها من نصيب، ولكن كن محافظًا على الغنيمة والعبيد.
ثم إن كان ما كان سار متوجهًا إلى الديار، ولم يزل سائرًا بالليل والنهار، حتى أشرف على مدينة بغداد، وعلمت به جميع الأجناد، ورأوا ما معه من الغنيمة والأموال، ورأس كهرداش على رمح صباح، وعرف التجار رأس كهرداش، ففرحوا وقالوا: لقد أراح الله الخلق منه؛ لأنه كان قاطع الطريق. وتعجَّبوا من قتله، ودعوا لقاتله، وأتت أهل بغداد إلى «كان ما كان» بما جرى من الأخبار، فهابته جميع الرجال، وخافته الفرسان والأبطال، وساق ما معه إلى أن أوصله تحت القصر، وركَّز الرمح الذي عليه رأس كهرداش إلى باب القصر، ووهب للناس وأعطاهم الخيل والجمال، فأحبه أهل بغداد ومالت إليه القلوب، ثم أقبل على صباح، وأنزله في بعض الأماكن الفساح، ثم دخل على أمه، وأخبرها بما جرى له في سفره، وقد وصل إلى الملك خبره، فقام من مجلسه واختلى بخواصه، وقال لهم: اعلموا أني أريد أن أبوح لكم بسري، وأبدي لكم مكنون أمري، اعلموا أن «كان ما كان» هو الذي يكون سببًا لانقلاعنا من هذه الأوطان؛ لأنه قتل كهرداش، مع أن له قبائل من الأكراد والأتراك، وأمرنا معه آيل إلى الهلاك، وأكثر خوفنا من أقاربه، وقد علمتم بما فعل الوزير دندان، فإنه جحد معروفي بعد الإحسان، وخانني في الأيمان، وبلغني أنه جمع عساكر البلدان، وقصد أن يسلطن «كان ما كان»؛ لأن السلطنة كانت لأبيه وجده، ولا شك أنه قاتلي لا محالة.
فلما سمع خواص مملكته منه هذا الكلام، قالوا له: أيها الملك، إنه أقل من ذلك، ولولا أننا علمنا بأنه تربيتك لم يقبل عليه منَّا أحد، واعلم أننا بين يديك؛ إنْ شئتَ قتْلَه قتلناه، وإن شئتَ بُعْدَه أبعدناه. فلما سمع كلامهم قال: إن قتله هو الصواب، ولكن لا بد من أخذ الميثاق. فتحالفوا على أنهم لا بد أن يقتلوا «كان ما كان»، فإذا أتى الوزير دندان وسمع بقتله، تضعف قوته عمَّا هو عازم عليه، فلما أعطوه العهدَ والميثاقَ على ذلك، أكرمهم غايةَ الإكرام، ثم دخل بيته، وقد تفرَّق عنه الرؤساء، وامتنعت العساكر من الركوب والنزول حتى يبصروا ما يكون؛ لأنهم رأوا غالب العسكر مع الوزير دندان، ثم إن الخبر وصل إلى «قضى فكان»، فحصل عندها غمٌّ زائد، وأرسلت إلى العجوز التي عادتها أن تأتيها من عند ابن عمها بالأخبار، فلما حضرت عندها أمرتها أن تذهب إليه وتخبره بالخبر، فلما وصلت إليه العجوز سلَّمت عليه ففرح بها، وأخبرته بالخبر، فلما سمع ذلك قال: بلِّغي بنت عمي سلامي، وقولي لها: إن الأرض لله — عز وجل — يورثها مَن يشاء من عباده، وما أحسن قول القائل:
فرجعت العجوز إلى بنت عمه وأخبرتها بما قاله، وأعلمتها بأن «كان ما كان» أقام في المدينة، ثم إن الملك ساسان صار ينتظر خروجه من بغداد ليرسل وراءه مَن يقتله، فاتفق أنه خرج إلى الصيد والقنص وخرج صباح معه؛ لأنه كان لا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، فاصطاد عشر غزالات، وفيهنَّ غزالة كحلاء العيون، صارت تتلفت يمينًا وشمالًا فأطلقها، فقال له صباح: لأي شيء أطلقتَ هذه الغزالة؟ فضحك «كان ما كان» وأطلق الباقي، وقال له: إن من المروءة إطلاق الغزالات التي لها أولاد، وما تتلفت تلك الغزالة إلا لأن لها أولادًا، فأطلقتُها وأطلقت الباقي في كرامتها. فقال له صباح: أطلقني حتى أروح إلى أهلي. فضحك وضربه بعقب الرمح على قلبه، فوقع على الأرض يلتوي كالثعبان.
فبينما هما كذلك، وإذا بغبرة ثائرة، وخيل تركض، وبان من تحتها فرسان وشجعان، وسبب ذلك أن الملك ساسان أخبره جماعة أن «كان ما كان» خرج إلى الصيد والقنص، فأرسل أميرًا من الديلم يقال له جامع، ومعه عشرون فارسًا، ودفع لهم المال، ثم أمرهم أن يقتلوا «كان ما كان»، فلما قربوا منه حملوا عليه وحمل عليهم، فقتلهم عن آخِرهم، وإذا بالملك ساسان ركب وسار ولحق بالعسكر، فوجدهم مقتولين فتعجَّبَ ورجع، وإذ بأهاليهم قبضوا عليه وشدُّوا وثاقه، ثم إن «كان ما كان» توجَّهَ بعد ذلك من ذلك المكان، وتوجَّهَ معه صباح البدوي، فبينما هو سائر إذ رأى في طريقه شابًّا على باب دار، فألقى «كان ما كان» عليه السلام، فردَّ الشاب عليه السلام، ثم دخل الدار وخرج ومعه قصعتان: إحداهما فيها لبن، والثانية ثريد، والسمن في جوانبها يموج، ووضع القصعتين قدام «كان ما كان»، وقال له: تفضل علينا بالأكل من زادنا. فامتنع «كان ما كان» من الأكل، فقال له الشاب: ما لك أيها الإنسان لا تأكل؟ فقال له «كان ما كان»: إنه عليَّ نذر. فقال له الشاب: وما سبب نذرك؟ فقال له «كان ما كان»: اعلم أن الملك ساسان غصب ملكي ظلمًا وعدوانًا، مع أن ذلك الملك كان لأبي وجدي من قبلي، فاستولى عليه قهرًا بعد موت أبي، ولم يعتبرني لصغر سني، فنذرت أنني لا آكل لأحدٍ زادًا حتى أشفي فؤادي من غريمي. فقال له الشاب: أبشِرْ فقد وفَّى الله نذرك، واعلم أنه مسجون في مكان، وأظنه يموت قريبًا. فقال له «كان ما كان»: في أي بيت هو معتقل؟ فقال له: في تلك القبة العالية. فنظر «كان ما كان» إلى قبة عالية، ورأى الناس في تلك القبة يدخلون، وعلى ساسان يلطمون، وهو يتجرع غصص المنون، فقام «كان ما كان»، ومشى حتى وصل إلى تلك القبة، وعاين ما فيها، ثم عاد إلى موضعه، وقعد على الأكل وأكل ما تيسَّر، ووضع ما بقي من اللحم في مزوده، ثم جلس في مكانه، ولم يزل جالسًا إلى أن أظلم الليل، ونام الشاب الذي ضيَّفه.
ثم ذهب «كان ما كان» إلى القبة التي فيها ساسان، وكان حولها كلاب يحرسونها، فوثب له كلب من الكلاب، فرمى له قطعة لحم من الذي في مزوده، وما زال يرمي للكلاب لحمًا حتى وصل إلى القبة، وتوصَّلَ إلى أن صار عند الملك ساسان، ووضع يده على رأسه، فقال له بصوت عالٍ: مَن أنت؟ فقال: أنا «كان ما كان» الذي سعيتُ في قتله، فأوقعك الله في سوء تدبيرك، أَمَا يكفيك أخذ ملكي وملك أبي وجدي حتى تسعى في قتلي؟ فحلف ساسان الأيمان الباطلة أنه لم يسعَ في قتله، وأن هذا الكلام غير صحيح، فصفح عنه «كان ما كان» وقال له: اتبعني. فقال: لا أقدر أن أخطو خطوة واحدة لضعف قوتي. فقال «كان ما كان»: إذا كان الأمر كذلك نأخذ لنا فرسين، ونركب أنا وأنت ونطلب البر. ثم فعل كما قال، وركب هو وساسان، وسارَا إلى الصباح، ثم صلوا الصبح وساروا، ولم يزالوا كذلك حتى وصلوا إلى بستان، فجلسوا فيه يتحدثون، ثم قام «كان ما كان» إلى ساسان، وقال له: هل بقي في قلبك مني أمر تكرهه؟ قال ساسان: لا والله. ثم اتفقوا على أنهم يرجعون إلى بغداد، فقال صباح البدوي: أنا أسبقكما لأبشِّر الناس. فسبق يبشر النساء والرجال، فخرجت إليه الناس بالدفوف والمزامير، وبرزت «قضى فكان» وهي مثل البدر بهي الأنوار في دياجي الاعتكار، فقابَلَها «كان ما كان»، وحنَّتِ الأرواح للأرواح، واشتاقت الأشباح للأشباح، ولم يَبْقَ لأهل العصر حديث إلا في «كان ما كان»، وشهد له الفرسان أنه أشجع أهل الزمان، وقالوا: لا يصلح أن يكون سلطانًا علينا إلا «كان ما كان»، ويعود إلى ملك جده كما كان.
وأما ساسان فإنه دخل على نزهة الزمان فقالت له: إني أرى الناس ليس لهم حديث إلا في «كان ما كان»، ويصفونه بأوصاف يعجز عنها اللسان، فقال لها: ليس الخبر كالعيان، فإني رأيته ولم أرَ فيه صفة من صفات الكمال، وما كل ما يُسمَع يقال، ولكن الناس يقلد بعضهم بعضًا في مدحه ومحبته، وأجرى الله على ألسنة الناس مدحه حتى مالت إليه قلوب أهل بغداد، والوزير دندان الغادر الخوان، وقد جمع له عساكر من سائر البلدان، ومَن الذي يكون صاحب الأقطار، ويرضى أن يكون تحت يد حاكم يتيم ما له مقدار. فقالت له نزهة الزمان: وعلى ماذا عوَّلتَ؟ فقال لها: عوَّلتُ على قتله، ويرجع الوزير دندان خائبًا في قصده، ويدخل تحت أمري وطاعتي، ولا يبقى له إلا خدمتي. فقالت له نزهة الزمان: إن الغدر قبيح بالأجانب فكيف بالأقارب؟ والصواب أن تزوِّجه ابنتك «قضى فكان»، وتسمع ما قيل فيما مضى من الزمان:
فلما سمع ساسان هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، قام مغضبًا من عندها وقال: لولا أني أعرف أنك تمزحين، لَعلوت بالسيف رأسك وأخمدت أنفاسك. فقالت: حيث غضبت مني فأنا أمزح معك. ثم وثبت إليه، وقبَّلت رأسه ويديه، وقالت له: الصواب ما تراه، وسوف أتدبَّر أنا وأنت في حيلة نقتله بها. فلما سمع منها هذا الكلام، فرح وقال لها: عجِّلي بالحيلة وفرِّجي كربتي، فلقد ضاق عليَّ باب الحِيَل. فقالت له: سوف أتحيَّل لك على إتلاف مهجته. فقال لها: بأي شيء؟ فقالت له: بجاريتنا التي اسمها باكون، فإنها في المكر ذات فنون. وكانت هذه الجارية من أنحس العجائز، وعدم الخبث في مذهبها غير جائز، وكانت قد ربَّتْ «كان ما كان» و«قضى فكان»، غير أن «كان ما كان» يميل إليها كثيرًا، ومن فرط ميله إليها كان ينام تحت رجليها. فلما سمع الملك ساسان من زوجته هذا الكلام، قال: إن هذا الرأي هو الصواب. ثم أحضر الجارية باكون وحدثها بما جرى، وأمرها أن تسعى في قتله، ووعدها بكل جميل، فقالت له: أمرك مطاع، ولكن أريد يا مولاي أن تعطيني خنجرًا قد سُقِي بماء الهلاك، لأعجِّل لك بإتلافه. فقال لها ساسان: مرحبًا بك. ثم أحضر لها خنجرًا يكاد أن يسبق القضاء، وكانت هذه الجارية قد سمعت الحكايات والأشعار، وتحفظ النوادر والأخبار، فأخذت الخنجر وخرجت من الديار مفكرةً فيما يكون به الدمار، وأتت إلى «كان ما كان» وهو قاعد ينتظر وعد السيدة «قضى فكان»، وكان في تلك الليلة قد تذكَّرَ بنت عمه «قضى فكان»، فالتهبَتْ من حبها في قلبه النيران، فبينما هو كذلك وإذا بالجارية باكون داخلة عليه وهي تقول: آنَ أوان الوصال، ومضت أيام الانفصال. فلما سمع ذلك قال لها: كيف حال «قضى فكان»؟ فقالت له باكون: اعلم أنها مشتغلة بحبك. فعند ذلك قام «كان ما كان» إليها، وخلع أثوابه عليها، ووعدها بكل جميل، فقالت له: اعلم أنني أنام عندك الليلة وأحدثك بما سمعت من الكلام، وأسلِّيك بحديث كل متيَّم أمرضه الغرام. فقال لها «كان ما كان»: حدثيني بحديث يفرح به قلبي، ويزول به كربي. فقالت له باكون: حبًّا وكرامة. ثم جلست إلى جانبه وذلك الخنجر من داخل أثوابها، فقالت له: اعلم أن أعذب ما سمعت أذني أن رجلًا كان يعشق المِلاح، وصرف عليهن ماله حتى افتقر وصار لا يملك شيئًا، فضاقت عليه الدنيا، فصار يمشي في الأسواق ويفتش على شيء يقتات به، فبينما هو ماشٍ وإذا بقطعة مسمار شكته في إصبعه فسال دمه، فقعد ومسح الدم وعصب إصبعه، ثم قام وهو يصرخ حتى جاز على الحمَّام ودخلها، ثم قلع ثيابه، فلما صار داخل الحمَّام وجدها نظيفة، فجلس على الفسقية، وما زال ينزح الماء على رأسه إلى أن تعب. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.