فلما كانت الليلة ٢٦٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أحمد الدنف قال لعلاء الدين: ما هذا الفعل الذي فعلته؟ ورحم الله مَن قال: مَن ائتمنك فلا تخنه، ولو كنت خائنًا. والخليفة مكَّنك عنده وسمَّاك بالثقة الأمين، كيف تفعل معه هكذا وتأخذ أمتعته؟ فقال له علاء الدين: والاسم الأعظم يا كبيري ما هي عملتي، ولا لي فيها ذنب، ولا أعرف مَن عملها. فقال أحمد الدنف: إن هذه العملة ما عملها إلا عدو مبين، ومَن فعل شيئًا يُجازَى به، ولكن يا علاء الدين أنت ما بقي لك إقامة في بغداد، فإن الملوك لا تُعادَى يا ولدي، ومَن كانت الملوك في طلبه، فيا طول تعبه. فقال علاء الدين: أين أروح يا كبيري؟ فقال له: أنا أوصلك إلى الإسكندرية فإنها مباركة، وعتبتها خضراء، وعيشتها هنية. فقال: سمعًا وطاعة يا كبيري. فقال أحمد الدنف لحسن شومان: خلِّ بالك، وإذا سأل عني الخليفة فقل له إنه راح يطوف على البلاد. ثم أخذه وخرج من بغداد، ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى الكروم والبساتين، فوجدا يهوديين من عمَّال الخليفة راكبين على بغلتين. فقال أحمد الدنف لليهوديين: هاتا الغفر. فقال اليهوديان: نعطيك الغفر على أي شيء؟ فقال لهما: أنا غفير هذا الوادي. فأعطاه كل واحد منهما مائة دينار، وبعد ذلك قتلهما أحمد الدنف وأخذ البغلتين، فركب بغلة، وركب علاء الدين بغلة، وسارا إلى مدينة أياس، فأدخلا البغلتين في خان وباتا فيه، ولما أصبح الصباح باع علاء الدين بغلته، وأوصى البواب على بغلة أحمد الدنف، ونزلوا في مركب من مينة أياس حتى وصلوا إلى الإسكندرية؛ فطلع أحمد الدنف ومعه علاء الدين، ومشيا في السوق، وإذا بدلَّال يدلل على دكان، ومن داخل الدكان طبقة على تسعمائة وخمسين، فقال علاء الدين: عليَّ بألف. فسمح له البائع، وكانت لبيت المال؛ فتسلم علاء الدين المفاتيح، وفتح الدكان، وفتح الطبقة فوجدها مفروشة بالفرش والمساند، ورأى فيها حاصلًا فيه قلاع، وصوارٍ، وحبال، وصناديق، وأجربة ملآنة خرزًا وودعًا، وركايات، وأطبارًا، ودبابيس، وسكاكين، ومقصات … وغير ذلك؛ لأن صاحبه كان سقطيًّا.
فقعد علاء الدين أبو الشامات في الدكان، وقال له أحمد الدنف: يا ولدي، الدكان والطبقة وما فيهما صارت ملكك فاقعد فيها، وبِعْ واشترِ، ولا تنكَرِ، فإن الله تعالى بارك في التجارة. وأقام عنده ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع أخذ خاطره، وقال له: استقر في هذا المكان حتى أروح وأعود إليك بخبرٍ من الخليفة بالأمان عليك، وأنظر الذي عمل معك هذا الملعوب. ثم توجَّه مسافرًا حتى وصل إلى أياس، فأخذ البغلة من الخان وسار إلى بغداد، فاجتمع بحسن شومان وأتباعه، وقال له: يا حسن، هل الخليفة سأل عني؟ فقال: لا، ولا خطرتَ على باله. فأقام في خدمة الخليفة، وصار يستنشق الأخبار، فرأى الخليفة التفت إلى الوزير جعفر يومًا من الأيام، وقال له: انظر يا وزير هذه العملة التي فعلها معي علاء الدين. فقال له: يا أمير المؤمنين، أنت جازيته بالشنق، وجزاؤه ما حل به. فقال له: يا وزير، مرادي أن أنزل وأنظره وهو مشنوق. فقال الوزير: افعل ما شئتَ يا أمير المؤمنين. فنزل الخليفة ومعه الوزير جعفر إلى جهة المشنقة، ثم رفع طرفه فرأى المشنوق غير علاء الدين أبي الشامات الثقة الأمين، فقال: يا وزير، هذا ما هو علاء الدين. فقال له: كيف عرفتَ أنه غيره؟ فقال: إن علاء الدين كان قصيرًا، وهذا طويل. فقال له الوزير: إن المشنوق يطول. فقال له: إن علاء الدين كان أبيض، وهذا وجهه أسود. فقال له: أَمَا تعلم يا أمير المؤمنين أن الموت له غبرات؟! فأمر بتنزيله من فوق المشنقة. فلما أنزلوه وجد مكتوبًا على كعبَيْه الاثنين: اسمي الشيخين. فقال له: يا وزير، إن علاء الدين كان سُنِّيًّا، وهذا رافضي. فقال له: سبحان الله علَّام الغيوب، ونحن لا نعلم هل هذا علاء الدين أم غيره؟ فأمر الخليفة بدفنه فدفنوه، وصار علاء الدين نسيًا منسيًّا.
هذا ما كان من أمره، وأما ما كان من أمر حبظلم بظاظة ابن الوالي، فإنه قد طال به العشق والغرام حتى مات ووارَوْه في التراب.
وأما ما كان من أمر الجارية ياسمين، فإنها وفت حملها، ولحقها الطلق فوضعت ولدًا ذكرًا كأنه القمر، فقال لها الجواري: ما تسميه؟ فقالت: لو كان أبوه طيبًا كان سمَّاه، ولكن أنا أسمِّيه أصلان. ثم إنها أرضعته اللبن عامين متتابعين، وفطمته وحبا ومشى. فاتفق أن أمه اشتغلت بخدمة المطبخ يومًا من الأيام، فمشى الغلام ورأى سلم المقعد فطلع عليه، وكان الأمير خالد الوالي جالسًا فأخذه، وأقعده في حجره، وسبَّح مولاه فيما خلق وصوَّر، وتأمَّلَ وجهه فرآه أشبه البرايا بعلاء الدين أبي الشامات. ثم إن أمه ياسمين فتَّشَتْ عليه فلم تجده، فطلعت المقعد فرأت الأمير خالدًا جالسًا والولد في حجره يلعب، وقد ألقى الله محبة الولد في قلب الأمير خالد، فالتفت الولد فرأى أمه فرمى نفسه عليها، فزنقه الأمير خالد في حضنه، وقال لها: تعالي يا جارية. فلما جاءت قال لها: هذا الولد ابن مَن؟ فقالت له: هذا ولدي وثمرة فؤادي. فقال لها: ومَن أبوه؟ فقالت: أبوه علاء الدين أبو الشامات، والآن صار ولدك. فقال لها: إن علاء الدين كان خائنًا. فقالت: سلامته من الخيانة، حاشا وكلَّا أن يكون الأمين خائنًا. فقال لها: إذا كبر هذا الولد وانتشأ وقال لك: مَن أبي؟ فقولي له: أنت ابن الأمير خالد الوالي صاحب الشرطة. فقالت له: سمعًا وطاعة.
ثم إن الأمير خالد الوالي طاهر الولد، وربَّاه وأحسن تربيته، وجاء له بفقيه خطاط فعلَّمه الخط والقراءة، فقرأ وعاد وختم، وطلع يقول للأمير خالد: يا والدي. وصار الوالي يعمل في الميدان، ويجمع الخيل، وينزل يعلِّم الولد أبواب الحرب ومقام الطعن والضرب، إلى أن انتهى في الفروسية، وتعلَّم الشجاعة، وبلغ من العمر أربع عشرة سنة، ووصل إلى درجة الإمارة، فاتفق أن أصلان اجتمع مع أحمد قماقم السراق يومًا من الأيام، وصارا أصحابًا، فتبعه إلى الخمارة، وإذا بأحمد قماقم السراق أطلع المصباح الجوهر الذي أخذه من أمتعة الخليفة، وحطَّه قدامه، وتناول الكأس على نوره وسكر، فقال له أصلان: يا مقدم، أعطني هذا المصباح. فقال له: ما أقدر أن أعطيك إياه. فقال له: لأي شيء؟ فقال: لأنه راحت على شأنه الأرواح. فقال له: أي روح راحت على شأنه؟ فقال له: كان واحد جاءنا هنا، وعمل رئيس الستين يُسمَّى علاء الدين أبا الشامات، ومات بسبب ذلك. فقال له: وما حكايته؟ وما سبب موته؟ فقال له: كان لك أخ يُسمَّى حبظلم بظاظة، وبلغ من العمر ستة عشر عامًا حتى استحق الزواج، وطلب أبوه أن يشتري له جارية … وخبَّره بالقصة من أولها إلى آخرها، وأعلمه بضعف حبظلم بظاظة، وما وقع لعلاء الدين ظلمًا. فقال أصلان في نفسه: لعل هذه الجارية ياسمين أمي، وما أبي إلا علاء الدين أبو الشامات. فطلع الولد أصلان من عنده حزينًا، فقابَلَ المقدم أحمد الدنف، فلما رآه أحمد الدنف قال: سبحان مَن لا شبيهَ له! فقال له حسن شومان: يا كبيري، من أي شيء تتعجَّب؟ فقال له: من خلقة هذا الولد أصلان؛ فإنه أشبه البرايا بعلاء الدين أبي الشامات. فنادى أحمد الدنف وقال: يا أصلان. فرَّد عليه، فقال له: ما اسم أمك؟ فقال له: تُسمَّى الجارية ياسمين. فقال له: يا أصلان، طِبْ نفسًا وقرَّ عينًا؛ فإنه ما أبوك إلا علاء الدين أبو الشامات، ولكن يا ولدي ادخل على أمك، واسألها عن أبيك. فقال: سمعًا وطاعة.
ثم دخل على أمه وسألها، فقالت له: أبوك الأمير خالد. فقال لها: ما أبي إلا علاء الدين أبو الشامات. فبكت أمه وقالت له: مَن أخبرك بهذا يا ولدي؟ فقال: المقدم أحمد الدنف أخبرني بذلك. فحكت له جميع ما جرى، وقالت له: يا ولدي، قد ظهر الحق واختفى الباطل، واعلم أن أباك علاء الدين أبو الشامات، إلا أنه ما ربَّاك إلا الأمير خالد، وجعلك ولده، فيا ولدي إن اجتمعت بالمقدم أحمد الدنف فقل له: يا كبيري، سألتك بالله أن تأخذ لي ثأري من قاتل أبي علاء الدين أبي الشامات. فطلع من عندها وسار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.