فلما كانت الليلة ٢٦٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة قال لأحمد الدنف: ألزمتك أن تجيء به. فقال له: سمعًا وطاعة. فأمر له الخليفة بعشرة آلاف دينار، وسار متوجهًا إلى الإسكندرية.
هذا ما كان من أمر أصلان، وأما ما كان من أمر والده علاء الدين أبي الشامات، فإنه باع ما كان عنده في الدكان جميعه، ولم يبقَ في الدكان إلا القليل وجراب، فنفض الجراب فنزلت منه خرزة تملأ الكف في سلسلة من الذهب، ولها خمسة وجوه، وعليها أسماء وطلاسم كدبيب النمل، فدعك الخمسة وجوه فلم يجاوبه أحد، فقال في نفسه: لعلها خرزة من جزع. ثم علَّقها في الدكان، وإذا بقنصل فائت في الطريق فرفع بصره فرأى الخرزة معلقة، فقعد على دكان علاء الدين، وقال له: يا سيدي، هل هذه الخرزة للبيع؟ فقال له: جميع ما عندي للبيع. فقال له: أتبيع لي إياها بثمانين ألف دينار؟ فقال له علاء الدين: يفتح الله. فقال له: أتبيعها بمائة ألف دينار؟ فقال: بعتها لك بمائة ألف دينار، فأنقِدْني الدنانير. فقال له القنصل: ما أقدر أن أحمل ثمنها معي، والإسكندرية فيها حرامية وشرطية، فأنت تروح معي إلى مركبي وأعطي لك الثمن، ورزمة صوف أنجوري، ورزمة أطلس، ورزمة قطيفة، ورزمة جوخ. فقام علاء الدين وقفل الدكان بعد أن أعطى له الخرزة، وأعطى المفاتيح لجاره وقال له: خذ هذه المفاتيح عندك أمانةً حتى أروح إلى المركب مع هذا القنصل وأجيء بثمن خرزتي، فإن عوَّقت عنك وورد عليك المقدم أحمد الدنف الذي كان وطَّنني في هذا المكان، فأعطه المفاتيح وأخبره بذلك. ثم توجه مع القنصل إلى المركب، فلما نزل به المركب نصب له كرسيًّا وأجلسه عليه، وقال: هاتوا المال. فدفع له الثمن، والخمس رزم التي وعده بها، وقال له: يا سيدي، اقصد جبري بلقمة أو شربة ماء. فقال: إن كان عندك ماء فاسقني. فأمر بالشربات فإذا فيها بِنْج، فلما شرب انقلب على ظهره، فرفعوا الكراسي وحطوا المداري، وحلوا القلوع، وأسعفتهم الرياح حتى وصلوا إلى وسط البحر، فأمر القبطان بطلوع علاء الدين من العنبر فطلَّعوه، وشمموه ضد البنج، ففتح عينيه وقال: أين أنا؟ فقال له: أنت معي مربوط وديعة، ولو كنت تقول «يفتح الله»، لكنت أزيدك. فقال له علاء الدين: ما صناعتك؟ فقال له: أنا قبطان، ومرادي أن آخذك إلى حبيبة قلبي.
فبينما هما في الكلام، وإذا بمركب فيها أربعون من تجار المسلمين، فطلع القبطان بمركبه عليهم، ووضع الكلاليب في مركبهم، ونزل هو ورجاله فنهبوها وأخذوها، وساروا بها إلى مدينة جنوة؛ فأقبل القبطان الذي معه علاء الدين إلى باب قيطون قصر، وإذا بصبية نازلة وهي ضاربة لثامًا، فقالت له: هل جئتَ بالخرزة وصاحبها؟ فقال لها: جئتُ بهما. فقالت له: هات الخرزة. فأعطاها لها، وتوجه إلى المينة ورمى مدافع السلامة، فعلم ملك المدينة بوصول ذلك القبطان، فخرج إلى مقابلته وقال له: كيف كانت سفرتك؟ فقال له: كانت طيبة جدًّا، وقد كسبت فيها مركبًا فيها واحد وأربعون من تجار المسلمين. فقال له: أخرجهم إلى المينة. فأخرجهم في الحديد، ومن جملتهم علاء الدين، وركب الملك هو والقبطان، ومشَّوهم قدَّامهم إلى أن وصلوا إلى الديوان، فجلسوا وقدَّموا أول واحد، فقال له الملك: من أين يا مسلم؟ فقال: من الإسكندرية. فقال: يا سياف اقتله. فضربه السياف بالسيف فرمى رقبته، والثاني والثالث هكذا إلى تمام الأربعين.
وكان علاء الدين في آخرهم فشرب حسرتهم، وقال لنفسه: رحمة الله عليك يا علاء الدين! فرغ عمرك. فقال له الملك: وأنت من أي البلاد؟ فقال: من الإسكندرية. فقال: يا سياف ارمِ عنقه. فرفع السياف يده بالسيف، وأراد أن يرمي رقبة علاء الدين، وإذا بعجوز ذات هيبة تقدَّمت بين أيادي الملك، فقام إليها تعظيمًا لها. فقالت: يا ملك، أَمَا قلت لك لما يجيء القبطان بالأسارى تذكر الدير بأسير أو بأسيرين يخدمان في الكنيسة؟ فقال لها: يا أمي، ليتك سبقت بساعة. ولكن خذي هذا الأسير الذي فضل. فالتفتت إلى علاء الدين وقالت له: هل أنت تخدم في الكنيسة أو أخلي الملك يقتلك؟ فقال لها: أنا أخدم في الكنيسة. فأخذته وطلعت به من الديوان، وتوجهت إلى الكنيسة، فقال لها علاء الدين: ما أعمل من الخدمة؟ فقالت له: تقوم في الصبح وتأخذ خمسة بغال، وتسير بها إلى الغابة، وتقطع ناشف الحطب وتكسره، وتجيء به إلى مطبخ الدير، وبعد ذلك تلم البُسُط وتكنس، وتمسح البلاط والرخام، وترد الفرش مثلما كان، وتأخذ نصف أردب قمح وتغربله وتطحنه وتعجنه، وتعمله منينات للدير، وتأخذ ويبة عدس تغربلها وتدشها وتطبخها، ثم تملأ الأربع فساقي ماءً، وتحوِّل بالبرميل، وتملأ ثلاثمائة وستة وستين قصعة، وتفت فيها المنينات وتسقيها من العدس، وتُدخِل لكل راهب أو بطرك قصعته. فقال لها علاء الدين: ردِّيني إلى الملك وخليه يقتلني أسهل لي من هذه الخدمة. فقالت له: إن خدمت ووفيت الخدمة التي عليك خلصت من القتل، وإن لم توفِّ خلَّيت الملك يقتلك.
فقعد علاء الدين حامل الهم، وكان في الكنيسة عشرة عميان مكسحين، فقال له واحد منهم: هات لي قصرية. فأتى له بها فتغوَّط فيها، وقال له: ارم الغائط. فرماه، فقال له: يبارك فيك المسيح يا خدام الكنيسة. وإذا بالعجوز أقبلت وقالت له: لأي شيء ما وفيت الخدمة في الكنيسة؟ فقال لها: أنا لي كم يد حتى أقدر على توفية هذه الخدمة. فقالت له: يا مجنون، أنا ما جئت بك إلَّا للخدمة. ثم قالت له: خذ يا ابني هذا القضيب — وكان من النحاس، وفي رأسه صليب — واخرج إلى الشارع، فإذا قابلك والي البلد فقل له: إني أدعوك إلى خدمة الكنيسة من أجل السيد المسيح. فإنه لا يخالفك، فخلِّهِ يأخذ القمح ويغربله ويطحنه وينخله ويعجنه، ويخبزه منينات، وكلُّ مَن يخالفك اضربه ولا تَخَفْ من أحد. فقال: سمعًا وطاعة. وعمل كما قالت، ولم يزل يسخِّر الأكابر والأصاغر مدة سبعة عشر عامًا. فبينما هو قاعد في الكنيسة، وإذا بالعجوز داخلة عليه فقالت له: اطلع إلى خارج الدير. فقال لها: أين أروح؟ فقالت له: بِت هذه الليلة في خمارة أو عند واحد من أصحابك. فقال لها: لأي شيء تطردينني من الكنيسة؟ فقالت له: إن حسن مريم بنت الملك يوحنا ملك هذه المدينة مرادها أن تدخل الكنيسة للزيارة، ولا ينبغي أن يقعد أحد في طريقها. فامتثل كلامها وقام، وأراها أنه رائح إلى خارج الكنيسة، وقال في نفسه: يا هل ترى بنت الملك مثل نسواننا أم أحسن منهن؟ فأنا لا أروح حتى أتفرج عليها، فاختفى في مخدع له طاقة تطلُّ على الكنيسة. فبينما هو ينظر في الكنيسة، وإذا ببنت الملك مُقبِلة، فنظر إليها نظرةً أعقبته ألف حسرة؛ لأنه وجدها كأنها البدر إذا بزغ من تحت الغمام، وصحبتها صبية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.