فلما كانت الليلة ٢٧٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أهل المملكة بذلوا لذلك الملك جميع ما في أيديهم من الأموال والذخائر على عدم فتح ذلك القصر فلم يرجع عن فتحه، ثم إنه أزال الأقفال وفتح الباب، فوجد فيه صور العرب على خيلها وجمالها، وعليهم العمائم المسبلة، وهم مقلَّدون بالسيوف، وبأيديهم الرماح الطوال، ووجد كتابًا فيه، فأخذ الكتاب وقرأه فوجد مكتوبًا فيه: إذا فُتِح هذا الباب يغلب على هذه الناحية قوم من العرب، وهم على هيئة هذه الصورة، فالحذر ثم الحذر من فتحه. وكانت تلك المدينة بالأندلس، ففتحها طارق بن زياد في تلك السنة في خلافة الوليد بن عبد الملك من بني أمية، وقتل ذلك الملك أقبح قتلة، ونهب بلاده، وسبى مَن بها من النساء والغلمان، وغنم أموالها، ووجد فيها ذخائر عظيمة، فيها ما ينوف عن مائة وسبعين تاجًا من الدر والياقوت، ووجد فيها أحجارًا نفيسة، وإيوانًا ترمح فيه الخيل برماحهم، ووجد بها من أواني الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف، ووجد بها المائدة التي كانت لنبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، وكانت على ما ذكر من زمرد أخضر، وهذه المائدة إلى الآن باقية في مدينة روما، وأوانيها من الذهب، وصحافها من الزبرجد ونفيس الجواهر، ووجد فيها الزبور مكتوبًا بخط يوناني في ورق من الذهب مفصَّص بالجواهر، ووجد فيها كتابًا يُذكَر فيه منافع الأحجار والنبات، والمدائن والقرى، والطلاسم، وعلم الكيمياء من الذهب والفضة، ووجد كتابًا آخر يُحكى فيه صناعة صياغة اليواقيت والأحجار، وتركيب السموم والترياقات، وصورة شكل الأرض والبحار والبلدان والمعادن، ووجد فيها قاعة كبيرة ملآنة من الإكسير الذي الدرهم منه يقلب ألف درهم من الفضة ذهبًا خالصًا، ووجد بها مرآة كبيرة مستديرة عجيبة مصنوعة من أخلاط صُنِعت لنبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، إذا نظر الناظر فيها رأى الأقاليم السبعة عيانًا، ووجد فيها ليوانًا فيه من الياقوت البهرماني ما لا يحيط به وصف؛ فحمل ذلك كله إلى الوليد بن عبد الملك، وتفرَّق العرب في مدنها، وهي من أعظم البلاد.
حكاية الخليفة والأعرابي
ومما يُحكى أيضًا أن هشام بن عبد الملك بن مروان كان ذهب إلى الصيد في بعض الأيام، فنظر إلى ظبي فتبعه بالكلاب، فبينما هو خلف الظبي إذ نظر إلى صبي من الأعراب يرعى غنمًا، فقال هشام لبعض غلمانه: يا غلام، دونك هذا الصبي فَأْتِني به. فرفع رأسه إليه وقال: يا جاهل بقدر الأخيار، لقد نظرت إليَّ بالاستصغار، وكلَّمتني بالاحتقار، فكلامك كلام جبار، وفعلك فعل حمار. فقال له هشام: ويلك! أَمَا تعرفني؟ فقال: قد عرَّفني بك سوءُ أدبك؛ إذ بدأتني بكلامك دون سلامك. فقال له: ويلك! أنا هشام بن عبد الملك. فقال له الأعرابي: لا قرَّبَ الله ديارك، ولا حيَّا مزارك، فما أكثر كلامك وأقل إكرامك! فما استتم كلامه حتى أحدقت به الجند من كل جانب، وكل واحد منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال هشام: أقصروا عن هذا الكلام، واحفظوا هذا الغلام. فقبضوا عليه، فلما رأى الغلام كثرة الحجَّاب والوزراء وأرباب الدولة لم يكترث بهم، ولم يسأل عنهم، بل جعل ذقنه على صدره، ونظر حيث يقع قدمه إلى أن وصل إلى هشام، فوقف بين يديه، ونكس رأسه إلى الأرض، وسكت عن السلام، وامتنع من الكلام. فقال له بعض الخدام: يا كلب العرب، ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟ فالتفت إلى الخادم مغضبًا وقال: يا برذعة الحمار، منعني من ذلك طول الطريق، وصعود الدرجة والتعريق. فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي، لقد حضرتَ في يوم حضر فيه أجَلُك، وغاب عنك أملك، وانصرف عمرك. فقال: والله يا هشام، لئن كان في المدة تأخير، ولم يكن في الأصل تقصير، فما ضرَّني من كلامك لا قليل ولا كثير. فقال له الحاجب: هل بلغ من مقامك يا أخس العرب أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة؟ فقال مسرعًا: لقيتَ الخبل، ولا فارقك الويل والهبل، أَمَا سمعت ما قال الله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا؟ فعند ذلك اغتاظ هشام غيظًا شديدًا وقال: يا سيَّاف، عليَّ برأس هذا الغلام؛ فإنه أكثر بالكلام، ولم يخشَ الملام. فأخذ الغلام ونزل به إلى نطع الدم، وسلَّ سيفه على رأسه وقال: يا أمير المؤمنين، هذا عبدك المدل بنفسه، الصائر إلى رمسه، هل أضرب عنقه وأنا بريء من دمه؟ قال: نعم. فاستأذن ثانيًا فأذن له، فاستأذن ثالثًا ففهم الفتى أنه إن أذن له في هذه المرة يقتله؛ فضحك حتى بدت نواجذه، فازداد هشام غضبًا، وقال: يا صبي، أظنك معتوهًا، أَمَا ترى أنك مفارق الدنيا؟ فكيف تضحك هزءًا بنفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لئن كان في العمر تأخير لا يضرُّني قليل ولا كثير، ولكن حضرتني أبيات فاسمعها، فإنَّ قتلي لا يفوتك. فقال هشام: هاتِ وأوجز. فأنشد هذه الأبيات:
فتبسم هشام وقال: وحق قرابتي من رسول الله ﷺ لو تلفَّظ بهذا اللفظ في أول كلامه وطلب ما دون الخلافة لأعطيته إياه، يا خادم، احْشُ فاه جوهرًا، وأَحْسِن جائزته. فأعطاه الخادم صلة عظيمة، فأخذها وانصرف إلى حال سبيله. انتهى.
حكاية إبراهيم بن المهدي
ومن لطيف الحكايات أن إبراهيم بن المهدي أخا هارون الرشيد، لما آل أمر الخلافة إلى المأمون ابن أخيه هارون الرشيد لم يبايعه، بل ذهب إلى الري وادَّعى الخلافة لنفسه، وأقام على ذلك سنة واحدة وأحد عشر شهرًا واثني عشر يومًا، وابن أخيه المأمون يتوقع منه العود إلى الطاعة وانتظامه في سلك الجماعة حتى يئس من عوده، فركب بخيله ورجله وذهب إلى الري، فلما بلغ إبراهيم الخبرُ، لم يسعه إلا أنه ذهب إلى بغداد واختفى خوفًا على دمه، فجعل المأمون لمَن يدل عليه مائة ألف دينار، قال إبراهيم: لما سمعتُ بهذه الجعالة خفتُ على نفسي … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.