فلما كانت الليلة ٢٧٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن إبراهيم بن المهدي قال: فأخذت الخريطة في كمي وقد أثقلني حملها وانصرفت، فلما انتهيت إلى باب داره قال: يا سيدي، هذا المكان أخفي لك من غيره، وليس عليَّ في مئونتك ثقل، فأَقِمْ عندي إلى أن يفرِّج الله عنك. فقلت له: بشرط أن تنفق من تلك الخريطة. فأوهمني الرضا بذاك الشرط، ثم أقمتُ عنده أيامًا على تلك الحالة ولم يصرف من الخريطة شيئًا، ثم تزيَّيْتُ بزيِّ النساء كالخف والنقاب وخرجت من داره، فلما صرتُ في الطريق داخَلَني من الخوف أمر شديد، وجئتُ لأعبر الجسر، وإذا أنا بموضع مرشوش، فنظرني جندي ممن كان يخدمني فعرفني وصاح وقال: هذه حاجة المأمون. ثم تعلَّقَ بي، فدفعته هو وفرسه ورميتهما في ذلك الزلق وصار عبرةً لمَن اعتبر، وتبادرت الناس إليه، فاجتهدت أنا في مشيتي حتى قطعت الجسر، ثم دخلتُ شارعًا فوجدت باب دار وامرأة واقفة في دهليز، فقلت: يا سيدتي، احقني دمي فإني رجل خائف. فقالت: لا بأس عليك. وأطلعتني إلى غرفة وفرشت لي فيها، وقدَّمت لي طعامًا وقالت لي: ليهدأ روعك. فبينما هي كذلك وإذا بالباب يدق دقًّا عنيفًا، فخرجتُ وفتحتُ الباب، وإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر مقبل وهو مشدود الرأس ودمه يجري على ثيابه، وليس معه فرسه، فقالت له: يا هذا ما دهاك؟ فقال: كنتُ ظفرت بالفتى وانفلت مني. وأخبرها بالحال، فأخرجت خرقة وعصبت بها رأسه وفرشت له ونام عليلًا، ثم طلعت إليَّ وقالت لي: أظنك صاحب القضية. فقلت لها: نعم. فقالت: لا بأس عليك. ثم جدَّدَتْ لي الكرامة، فأقمتُ عندها ثلاثةَ أيام، ثم قالت: إني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع عليك فتقع فيما تخافه، فَانْجُ بنفسك. فسألتها المهلة إلى الليل فقالت: لا بأس بذلك.
فلما دخل الليل، لبست زيَّ النساء وخرجتُ من عندها، فأتيت إلى بيت مولاة كانت لنا، فلما رأتني بكت وتوجعت وحمدت الله تعالى على سلامتي، وخرجت وكأنها تريد السوق للاهتمام بالضيافة، فما شعرت إلا وإبراهيم الموصلي مقبل في غلمانه وجنده وامرأة قدامهم، فتأمَّلْتُها فإذا هي المولاة صاحبة الدار التي أنا بها، ولم تزل ماشية قدامهم حتى سلَّمتني إليهم، وحُمِلت بالزي الذي أنا فيه إلى المأمون، فعقد مجلسًا عامًّا وأدخلني عليه، فلما دخلت سلَّمت عليه بالخلافة فقال: لا سلَّمَك الله ولا حيَّاك. فقلت له: على رسلك يا أمير المؤمنين، إنك ولي الأمر فتحكم في القصاص والعفو، ولكن العفو أقرب للتقوى، وقد جعل الله عفوك فوق كل عفوٍ، كما جعل ذنبي فوق كل ذنب يا أمير المؤمنين، فإنْ تأخذ فبحقك، وإنْ تعفُ فبفضلك. ثم أنشدت هذه الأبيات:
قال إبراهيم: فرفع المأمون إليَّ رأسه، فبادرت إليه بإنشاد هذين البيتين:
فأطرق المأمون رأسه وأنشد هذين البيتين:
فلما سمعت منه هذا الكلام استروحت منه رائحة الرحمة، ثم أقبل على ابن عمه وأخيه أبي إسحاق وجميع مَن حضر من خاصته وقال لهم: ما ترون في أمره؟ فكلٌّ أشار عليه بقتلي إلا أنهم اختلفوا في كيفية القتل. فقال المأمون لأحمد بن خالد: ما تقول يا أحمد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنْ قتلتَه وجدنا مثلك قتَلَ مثلَه، وإنْ عفوتَ عنه فما وجدنا مثلك عفا عن مثله.
فقالت دنيازاد لأختها شهرزاد: ما أحسن حديثك وأطيبه وأحلاه وأعذبه! فقالت: وأين هذا مما أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك. فقال الملك في نفسه: والله لا أقتلها حتى أسمع بقية حديثها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.