فلما كانت الليلة ١٤٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنهما اتفقا على أن كل واحد يحكم يومًا، ثم أولموا الولائم، وذبحوا الذبائح، وزادت بهم الأفراح، وأقاموا على ذلك مدة من الزمان، كل ذلك والسلطان «كان ما كان» يقطع ليله مع بنت عمه «قضى فكان»، وبعد تلك المدة، بينما هم قاعدون فَرِحون بهذا الأمر، وانصلاح الشأن؛ إذ ظهر لهم غبار قد علا وطار حتى سدَّ الأقطار، وقد أتى إليهم من التجار صارخٌ يستغيث وهو يصيح ويقول: يا ملوك الزمان، كيف أسلم في بلاد الكفر وأُنهَب في بلادكم وهي بلاد العدل والأمان؟ فأقبل عليه الملك رومزان وسأله عن حاله، فقال له: أنا تاجر من التجار، ولي غائب عن الأوطان مدة مديدة من الزمان، واستغرقت في البلاد نحو عشرين سنة من الأعوام، وإن معي كتابًا من مدينة دمشق كان قد كتبه لي المرحوم الملك شركان، وسبب ذلك أنني كنت قد أدَّيت إليه جارية، فلمَّا قربت من تلك البلاد، وكان معي مائة حمل من تحف الهند، وأتيت بها إلى بغداد التي هي حرمكم، ومحل أمنكم وعدلكم، فخرجت علينا عربان ومعهم أكراد مجتمعة من جميع البلاد، فقتلوا رجالي ونهبوا أموالي، وهذا شرح حالي.
ثم إن التاجر بكى بين يدي الملك رومزان وحوقَلَ واشتكى، فرحمه الملك ورقَّ إليه، وكذلك رحمه ابن أخيه الملك «كان ما كان»، وحلفوا أنهم يخرجون إليهم، فخرجوا إليهم في مائة فارس، كل فارس منهم يُعَدُّ بين الرجال بألوف، وذلك التاجر سار أمامهم يدلُّهم على الطريق، ولم يزالوا سائرين ذلك النهار وطول الليل إلى السَّحَر، حتى أشرفوا على وادٍ غزير الأنهار كثير الأشجار، فوجدوا القوم قد تفرَّقوا في ذلك الوادي، وقسَّموا بينهم أحمال ذلك التاجر، وبقي البعض فأطبق عليهم المائة فارس، وأحاطوا بهم من كل مكان، وصاح عليهم الملك رومزان هو وابن أخيه «كان ما كان»، فما كان غير ساعة حتى أسروا الجميع، وكانوا نحو ثلاثمائة فارس مجتمعين من أوباش العربان، فلما أسروهم أخذوا ما معهم من مال التاجر، وشدوا وثاقهم، وطلعوا بهم إلى مدينة بغداد، فعند ذلك جلس الملك رومزان هو وابن أخيه الملك «كان ما كان» على تخت واحد مع بعضهما، ثم عرضوا الجميع بين أيديهما، وسألاهم عن حالهم، وعن كبارهم، فقالوا: ما لنا كبار غير ثلاثة أشخاص، وهم الذين جمعونا من سائر النواحي والأقطار. فقالا لهم: ميِّزوهم لنا بأعيانهم. فميَّزوهم لهما، فأمرَا بالقبض عليهم، وإطلاق بقية أصحابهم بعد أخذ جميع ما معهم من الأموال، وتسليمه للتاجر، فتفقَّدَ التاجر قماشه وماله فوجده قد هلك رُبعه، فوعداه أنهما يعوِّضان له جميع ما ضاع منه، فعند ذلك أخرج التاجر كتابين: أحدهما بخط شركان، والآخر بخط نزهة الزمان، وقد كان التاجر اشترى نزهة الزمان من البدوي وهي بكر، وقدَّمها لأخيها شركان، وجرى بينها وبين أخيها ما جرى.
ثم إن الملك «كان ما كان» وقف على الكتابين، وعرف خط عمِّه شركان، وسمع حكاية عمَّته نزهة الزمان، فدخل بذلك الكتاب الثاني الذي كانت كتبته للتاجر الذي ضاع منه المال، وأخبرها «كان ما كان» بقصة التاجر من أوَّلها إلى آخرها، فعرفته نزهة الزمان وعرفت خطَّها، وأخرجت للتاجر الضيافات، ووصَّت عليه أخاها الملك رومزان، وابن أخيها الملك «كان ما كان»، فأمرَا له بأموال وعبيد وغلمان من أجل خدمته، وأرسلت إليه نزهة الزمان مائة ألف درهم من المال، وخمسين حملًا من البضائع، وقد أتحفته بهدايا، وأرسلت إليه تطلبه، فلما حضر طلعت وسلَّمت عليه، وأعلمته أنها بنت الملك عمر النعمان، وأن أخاها الملك رومزان، وأن ابن أخيها الملك «كان ما كان»، ففرح التاجر بذلك فرحًا شديدًا، وهنَّأها بسلامتها واجتماعها بأخيها وابن أخيها، وقبَّل يدها وشكرها على فعلها، وقال لها: والله ما ضاع الجميل معك. ثم دخلت إلى خدرها، وأقام التاجر عندهم ثلاثة أيام ثم ودَّعهم ورحل إلى بلاد الشام.
وبعد ذلك أحضر الملوك الثلاثة أشخاص اللصوص الذين كانوا رؤساء قُطَّاع الطريق، وسألوهم عن حالهم؛ فتقدَّمَ واحد منهم وقال: اعلموا أني رجل بدوي، أقف في الطريق لأخطف الصغار والبنات الأبكار، وأبيعهم للتجار، ودمت على ذلك مدة من الزمان إلى هذه الأيام، وأغراني الشيطان فاتفقت مع هذين الشقِيَّين على جمع الأوباش من الأعراب والبلدان لأجل نهب الأموال، وقطع الطريق على التجار. فقالوا له: احكِ لنا على أعجب ما رأيت في خطفك الصغار والبنات. فقال لهم: أعجب ما جرى لي يا ملوك الزمان، أنني من مدة اثنتين وعشرين سنة خطفت بنتًا من بنات بيت المقدس ذات يوم من الأيام، وكانت تلك البنت ذات حُسن وجمال، غير أنها كانت خدَّامة، وعليها أثواب خَلِقة، وعلى رأسها قطعة عباءة، فرأيتها قد خرجت من الخان، فخطفتها بحيلة في تلك الساعة، وحملتها على جمل وسبقت بها، وكان في أملي أنني أذهب بها إلى أهلي في البرية، وأجعلها عندي ترعى الجمال، وتجمع البعر من الوادي، فبكت بكاءً شديدًا، فدنوت منها وضربتها ضربًا وجيعًا، وأخذتها وسرت بها إلى مدينة دمشق، فرآها معي تاجر فتحيَّر عقله لما رآها، وأعجبته فصاحتها وأراد شراءها مني، ولم يزل يزيدني في ثمنها حتى بعتها له بمائة ألف درهم، فعندما أعطيتها له رأيت منها فصاحة عظيمة، وبلغني أن التاجر كساها كسوة مليحة، وقدَّمها إلى الملك صاحب دمشق، فأعطاه قدر المبلغ الذي دفعه إليَّ مرتين، وهذا يا ملوك الزمان أعجب ما جرى، ولعمري إن ذلك الثمن قليل في تلك البنت.
فلما سمع الملوك هذه الحكاية تعجَّبوا، ولما سمعت نزهة الزمان من البدوي ما حكاه صار الضياء في وجهها ظلامًا، وصاحت وقالت لأخيها رومزان: إن هذا البدوي كان خطفني من بيت المقدس بعينه من غير شك. ثم إن نزهة الزمان حكت لهم جميع ما جرى لها معه في غربتها من الشدائد والضرب والجوع والذل والهوان، ثم قالت لهم: الآن حلَّ لي قتله. ثم جذبت السيف وقامت إلى البدوي لقتله، وإذا هو صاح وقال: يا ملوك الزمان، لا تدعوها تقتلني حتى أحكي لكم ما جرى لي من العجائب. فقال لها ابن أخيها «كان ما كان»: يا عمتي، دعيه يحكي لنا حكاية، وبعد ذلك فافعلي ما تريدين. فرجعت عنه، فقال له الملوك: الآن احكِ لنا حكاية. فقال: يا ملوك الزمان، إنْ حكيتُ لكم حكايةً عجيبة تعفوا عني؟ قالوا: نعم. فابتدأ البدوي يحدِّثهم بأعجب ما وقع له، وقال: اعلموا أني من مدة يسيرة، أرقت ليلة أرقًا شديدًا، وما صدَّقت أن الصباح يصبح، فلما أصبح الصباح قمت من وقتي وساعتي، وتقلَّدت سيفي، وركبت جوادي، واعتقلت رمحي، وخرجت أريد الصيد والقنص، فواجهني جماعة في الطريق، فسألوني عن قصدي فأخبرتهم به، فقالوا: ونحن رفقاؤك. فنزلنا كلنا مع بعضنا، فبينما نحن سائرون، وإذا بنعامة ظهرت لنا فقصدناها، ففرَّت من بين أيدينا وهي فاتحة أجنحتها، ولم تزل شاردة ونحن خلفها إلى الظهر حتى رمتنا في برية لا نبات فيها ولا ماء، ولم نسمع فيها غير صفير الحيَّات، وزعيق الجان، وصريخ الغيلان، فلما وصلنا إلى ذلك المكان، غابت عنا فلم ندرِ أفي السماء طارت أم في الأرض غارت، فرددنا رءوس الخيل وأردنا الرواح، ثم رأينا أن الرجوع في هذا الوقت الشديد الحر لا خيرَ فيه ولا إصلاح، وقد اشتد علينا الحر وعطشنا عطشًا شديدًا، ووقفت خيولنا فأيقنَّا بالموت.
فبينما نحن كذلك إذ نظرنا من بعيد مرجًا أفيح فيه غزلان تمرح، وهناك خيمة مضروبة، وفي جانب الخيمة حصان مربوط، وسنان يلمع على رمح مركوز، فانتعشت نفوسنا من بعد اليأس، ورددنا رءوس خيلنا نحو تلك الخيمة نطلب ذلك المرج والماء، وتوجه إليه جميع أصحابي وأنا في أولهم، ولم نزل سائرين حتى وصلنا إلى ذلك المرج، فوقفنا على عين وشربنا، وسقينا خيلنا، فأخذتني حمية الجاهلية وقصدت باب ذلك الخباء، فرأيت فيه شابًّا لا نبات بعارضيه وهو كأنه هلال، وعن يمينه جارية هيفاء كأنها قضيب بان، فلما نظرتُ إليها وقعَتْ محبتها في قلبي، فسلمت على ذلك الشاب فردَّ عليَّ السلام، فقلت: يا أخا العرب، أخبرني مَن أنت؟ وما تكون لك تلك الجارية التي عندك؟ فأطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه وقال: أخبرني مَن أنت؟ وما الخيل التي معك؟ فقلت: أنا حمَّاد بن الفزاري الفارس الموصوف، الذي أُعَدُّ بين العرب بخمسمائة فارس، ونحن خرجنا من محلنا نريد الصيد والقنص، فأدركَنَا العطش، فقصدت أنا باب تلك الخيمة لعلي أجد عندكم شربة ماء. فلما سمع مني ذلك الكلام التفت إلى الجارية المليحة، وقال: ائتِ إلى هذا الرجل بالماء، وما حصل من الطعام. فقامت الجارية تسحب أذيالها، والحجول والذهب تخشخش في رجليها وهي تتعثر في شعرها، وغابت قليلًا، ثم أقبلت وفي يدها اليمنى إناء من فضة مملوء ماءً باردًا، وفي يدها اليسرى قدح ملآن تمرًا ولبنًا وما حضر من لحم الوحوش، فما استطعتُ أن آخذ من الجارية طعامًا ولا شرابًا من شدة محبتي لها، فتمثلت بهذين البيتين، وقلت:
ثم قلت للشاب بعد أن أكلت وشربت: يا وجه العرب، اعلم أني أوقفتك على حقيقة خبري، وأريد أن تخبرني بحالك، وتوقفني على حقيقة خبرك. فقال الشاب: أما هذه الجارية فهي أختي. فقلت: أريد أن تزوِّجني بها طوعًا، وإلا أقتلك وآخذها غصبًا. فعند ذلك أطرق الشاب رأسه إلى الأرض ساعة، ثم رفع بصره إليَّ وقال لي: لقد صدقتَ في دعواك أنك فارس معروف، وبطل موصوف، وأنك أسد البيداء، ولكن إن هجمتم عليَّ غدرًا وقتلتموني قهرًا وأخذتم أختي، فإن هذا يكون عارًا عليكم، وإن كنتم على ما ذكرتم من أنكم فرسان تُعدُّون من الأبطال، ولا تبالون بالحرب والنزال، فأمهلوني قليلًا حتى ألبس آلة حربي، وأتقلَّد سيفي، وأعتقل رمحي، وأركب فرسي، وأصبر أنا وإياكم في ميدان الحرب، فإن ظفرتُ بكم أقتلكم عن آخِركم، وإن ظفرتم بي وقتلتموني فهذه الجارية أختي لكم. فلما سمعتُ منه هذا الكلام قلتُ له: إن هذا هو الإنصاف، وما عندنا خلاف. ثم رددتُ رأس جوادي إلى خلفي، وقد زادني الجنون في محبة تلك الجارية، ورجعت إلى أصحابي ووصفت لهم حسنها وجمالها، وحسن الشاب الذي عندها، وشجاعته وقوة جنانه، وكيف يذكر أنه يصادم ألف فارس، ثم أعلمت أصحابي بجميع ما في الخباء من الأموال والتحف، وقلت لهم: اعلموا أن هذا الشاب ما هو منقطع في تلك الأرض إلا لكونه ذا شجاعة عظيمة، وأنا أوصيكم أن كل مَن قتل هذا الغلام يأخذ أخته. فقالوا: رضينا بذلك. ثم إن أصحابي لبسوا آلة حربهم، وركبوا خيولهم، وقصدوا الغلام، فوجدوه قد لبس آلة حربه، وركب جواده، ووثبت إليه أخته وتعلقت برِكابه، وبلَّت برقعها بدموعها، وهي تنادي بالويل والثبور من خوفها على أخيها، وتنشد هذه الأبيات:
فلما سمع أخوها شعرها بكى بكاءً شديدًا، وردَّ رأس جواده إلى أخته، وأجابها على شعرها بقوله:
فلما فرغ من شعره قال: يا أختي، اسمعي ما أقوله لك، وما أوصيك به. فقالت له: سمعًا وطاعة. فقال لها: إنْ هلكتُ فلا تمكِّني أحدًا من نفسك. فعند ذلك لطمت على وجهها وقالت: معاذ الله يا أخي أن أراك صريعًا وأمكِّن الأعداءَ مني. فعند ذلك مد الغلام يده إليها، وكشف برقعها عن وجهها، فلاحت لنا صورتها كالشمس من تحت الغمام، فقبَّلها بين عينيها وودَّعها، وبعد ذلك التفت إلينا وقال لنا: يا فرسان، هل أنتم ضيفان أم تريدون الضرب والطعان؟ فإن كنتم ضيفانًا فأبشروا بالقِرَى، وإن كنتم تريدون القمر الزاهر فَلْيبرز لي منكم فارس بعد فارس في هذا الميدان، ومقام الحرب والطعان. فعند ذلك برز إليه فارس شجاع، فقال له الشاب: ما اسمك؟ وما اسم أبيك؟ فإني حالف أني ما أقتل مَن اسمه موافِق لاسمي، واسمُ أبيه موافق لاسم أبي، فإن كنتَ بهذا الوصف فقد سلَّمت إليك الجارية. فقال له الفارس: اسمي بلال. فأجابه الشاب بقوله:
ثم حملَا على بعضهما، فطعنه الشاب في صدره، فخرج السنان من ظهره، ثم برز إليه واحد فقال الشاب:
ثم لم يمهله الشاب دون أن يتركه غريقًا في دمه، ثم نادى الشاب: هل من مبارز؟ فبرز إليه واحد، فانطلق على الشاب وجعل يقول:
فلما سمع الشاب كلامه أجابه بقوله:
ثم طعنه في صدره فطلع السنان من ظهره، ثم قال: هل من مبارز؟ فخرج إليه الرابع، وسأله الشاب عن اسمه، فقال له الفارس: اسمي هلال. فأنشد يقول:
ثم حملَا على بعضهما، واختلف بينهما ضربتان، فكانت ضربة الشاب هي السابقة إلى الفارس فقتله، وصار كلُّ مَن نزل إليه يقتله، فلمَّا نظرت أصحابي قد قُتِلوا قلتُ في نفسي: إن نزلت إليه في الحرب لم أطقه، وإن هربت أبقى معيرةً بين العرب. فلم يمهلني الشاب دون أن انقضَّ عليَّ وجذبني بيده، فأطاحني من سرجي فوقعت مغشيًّا عليَّ، ورفع سيفه وأراد أن يضرب عنقي، فتعلَّقْتُ بأذياله، فحملني بكفه فصرت معه كالعصفور، فلما رأت ذلك الجارية فرحت بفعل أخيها، وأقبلت عليه وقبَّلَتْه بين عينيه، ثم إنه سلَّمني إلى أخته وقال لها: دونك وإياه، وأحسني مثواه؛ لأنه دخل في زمامنا. فقبضت الجارية على أطواق درعي، وصارت تقودني كما تقود الكلب، وفكَّت عن أخيها لَأْمَةَ الحرب، وألبسته بدلة، ونصبت له كرسيًّا من العاج فجلس عليه، وقالت له: بيَّض الله عرضك، وجعلك عُدَّة للنائبات. فأجابها بهذه الأبيات:
فلما سمعتُ شعره حرتُ في أمري، ونظرت إلى حالتي وما صرت إليه من الأسر، وتصاغرتْ إليَّ نفسي، ثم نظرت إلى الجارية أخت الشاب وإلى حُسْنها، فقلت في نفسي: هذه سبب الفتنة. وصرتُ أتعجَّب من جمالها، وأجريتُ العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن الجارية أحضرت لأخيها الطعام، فدعاني إلى الأكل معه، ففرحت وأمنت على نفسي من القتل، ولما فرغ أخوها من الأكل أحضرت له آنية المُدام، ثم إن الشاب أقبل على المُدام، وشرب حتى شعشع المدام في رأسه واحمرَّ وجهه، فالتفت إليَّ وقال لي: ويلك يا حماد، أنا عبَّاد بن تميم بن ثعلبة، إن الله وهب لك نفسك وأبقى عليك عرسك. ثم حيَّاني بقدح شربته وحيَّاني بثانٍ وثالث ورابع، فشربت الجميع، ونادمني وحلَّفني أني لا أخونه، فحلفتُ له ألفًا وخمسمائة يمين أني لا أخونه أبدًا، بل أكون له معينًا، فعند ذلك أمر أخته أن تأتيني بعشر خِلَع من الحرير، وهذه بدلة منها على جسدي، وأمرها أن تأتيني بناقة من أحسن النياق، فأتتني بناقة محمَّلة من التحف والزاد، وأمرها أيضًا أن تُحضِرَ لي الحصان الأشقر، فأحضرته لي، ثم وهب لي جميعَ ذلك، وأقمتُ عندهم ثلاثة أيام في أكل وشرب، والذي قد أعطاه لي موجود عندي إلى الآن. وبعد الثلاثة أيام قال لي: يا أخي يا حماد، أريد أن أنام قليلًا لأريح نفسي، وقد استأمنتك على نفسي، فإن رأيتَ خيلًا ثائرةً فلا تفزع منها، واعلم أنهم من بني ثعلبة يطلبون حربي. ثم توسَّدَ سيفه تحت رأسه ونام، فلما استغرق في النوم وسوس إليَّ إبليس بقتله، فقمتُ بسرعة وجذبت سيفه من تحت رأسه، وضربتُه ضربةً أطاحَتْ رأسه عن جثته، فعلمَتْ بي أخته، فوثبت من جانب الخباء ورمت نفسها على أخيها، وشقَّتْ ما عليها من الثياب، وأنشدت هذه الأبيات:
فلما فرغت من شعرها قالت له: يا ملعون الجدَّين، لماذا قتلت أخي وخُنته؟ وكان مراده أن يردَّك إلى بلادك بالزاد والهدايا، وكان مراده أيضًا أن يزوِّجني لك في أول الشهر. ثم جذبتْ سيفًا كان عندها وجعلتْ قائمه في الأرض وطرفه في صدرها، وانحنت عليه حتى طلع من ظهرها، فخرَّت على الأرض ميتة، فحزنت عليها وندمت حيث لا ينفع الندم، وبكيت، ثم قمت مسرعًا إلى الخباء وأخذت ما خفَّ حمله وغلا ثمنه، وسرت إلى حال سبيلي، ومن خوفي وعجلتي لم ألتفت إلى أحد من أصحابي، ولا دفنت الصبيَّة ولا الشاب، وهذه الحكاية أعجب من حكايتي الأولى مع البنت الخدَّامة التي خطفتها من بيت المقدس. فلما سمعت نزهة الزمان من البدوي هذا الكلام، تبدل النور في عينها بالظلام. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.