فلما كانت الليلة ٢٧٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شدادًا بن عاد سار هو ومَن معه من الجيوش مسرورًا ببلوغ المرام، حتى بقي بينه وبين إرم ذات العماد مرحلة، فأرسل الله عليه وعلى مَن معه من الكفرة الجاحدين صيحةً من سماء قدرته، فأهلكتهم جميعًا بصوت عظيم، ولم يصل شداد ولا أحد ممَّن كان معه إليها ولم يشرف عليها، ومحا الله آثار محجتها فهي باقية على حالها في مكانها إلى قيام الساعة. فتعجَّبَ معاوية من أخبار كعب الأحبار بهذا الخبر، وقال له: هل يصل أحد إلى تلك المدينة من البشر؟ قال: نعم. رجل من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وهو بصفة هذا الرجل الجالس بلا شك ولا إيهام. وقال الشعبي: حُكِي عن علماء حمير من اليمن أنه لما هلك شداد ومَن معه من الصيحة، ملك بعده ابنه شداد الأصغر، وكان أبوه شداد الأكبر خلفه على ملكه بأرض حضرموت وسبأ، بعد أن ارتحل بمَن معه من العساكر إلى إرم ذات العماد، فلما بلغه خبر موت أبيه في الطريق قبل وصوله إلى مدينة إرم، أمر بحمل أبيه من تلك المفاوز إلى حضرموت، وأمر أن يُحفَر له حفيرة في مغارة، فلما حفروا تلك الحفيرة وضعه فيها على سرير من الذهب، وألقى عليه سبعين حلة منسوجة بالذهب مرصَّعة بنفيس الجواهر، ووضع عند رأسه لوحًا من الذهب مكتوبًا فيه هذا الشعر:
قال الثعالبي: واتفق أن رجلين دخلا هذه المغارة فوجدَا في صدرها دَرَجًا فنزلا، فوجدا حفيرة طولها مقدار مائة ذراع، وعرضها أربعون ذراعًا، وارتفاعها مائة ذراع، وفي وسط تلك الحفيرة سرير من الذهب، وعليه رجل عظيم الجسم قد أخذ طول السرير وعرضه، وعليه الحلي والحلل المنسوجة بالذهب والفضة، وعلى رأسه لوح من ذهب فيه كتابة؛ فأخذَا ذلك اللوح وحملا من ذلك الموضع ما أطاقا حمله من قضبان الذهب والفضة وغير ذلك.
زواج المأمون
ومما يُحكَى أن إسحاق الموصلي قال: خرجت ليلة من عند المأمون متوجِّهًا إلى بيتي فضايقني حصر البول، فعمدت إلى زقاق وقمت أبول خوفًا أن يضرَّ بي شيء، إذ جلست في جانب الحيطان فرأيت شيئًا معلَّقًا من تلك الدور، فلمسته لأعرف ما هو فوجدته زنبيلًا كبيرًا بأربعة آذان ملبسًا ديباجًا، فقلت في نفسي: لا بد لهذا من سبب. وصرت متحيرًا في أمري، فحملني السُّكْر على أن أجلس فيه، فجلستُ فيه وإذا بأصحاب الدار جذبوه بي، وظنوا أنني الذي كانوا يرتقبونه، ثم رفعوا الزنبيل إلى رأس الحائط، وإذا بأربع جوارٍ يقلن لي: انزل على الرحب والسعة. ومشت بين يدي جارية بشمعة حتى نزلت إلى دار فيها مجالس مفروشة لم أَرَ مثلها إلا في دار الخلافة، فجلست فما شعرت بعد ساعة إلا بستور قد رُفِعت في ناحية من الجدار، وإذا بوصائف يتماشين وفي أيديهن الشموع ومجامر البخور من العود القاقلي، وبينهن جارية كأنها البدر الطالع، فنهضَتْ وقالت: مرحبًا بك من زائر! ثم أجلستني وسألتني عن خبري، فقلت لها: إني انصرفت من عند بعض إخواني، وغرَّ بي الوقت، وحصرني البول في الطريق، فملت إلى هذا الزقاق فوجدتُ زنبيلًا مُلقًى فأجلسني النبيذ في الزنبيل، ورُفِع بي الزنبيل إلى هذه الدار، هذا ما كان من أمري. فقالت: لا ضير عليك، وأرجو أن تحمد عاقبة أمرك. ثم قالت لي: فما صناعتك؟ فقلت: تاجر في سوق بغداد. فقالت: هل تروي من الأشعار شيئًا؟ قلتُ: أروي شيئًا ضعيفًا. قالت: فذاكِرْنا فيه، وأنشدنا شيئًا منه. فقلت: إن للداخل دهشة، ولكن تبدئين أنتِ. قالت: صدقتَ. ثم أنشدت شعرًا رقيقًا من كلام القدماء والمحدثين، وهو من أجود أقاويلهم، وأنا أسمع ولا أدري أأعجب من حُسْنها وجمالها أم من حُسْن روايتها؟ ثم قالت: هل ذهب ما كان عندك من الدهشة؟ قلت: إي والله. قالت: إنْ شئتَ فأنشدنا شيئًا من روايتك. فأنشدتها لجماعة من القدماء ما فيه الكفاية، فاستحسنت ذلك، ثم قالت: والله ما ظننتُ أن يوجد في أبناء السوقة مثل هذا. ثم أمرَتْ بالطعام.
فقالت لها أختها دنيازاد: ما أحلى حديثك، وأحسنه، وأطيبه، وأعذبه! فقالت: وأين هذا ممَّا أحدِّثكم به الليلة القابلة إنْ عشتُ وأبقاني الملك؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.