فلما كانت الليلة ٢٨٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن إسحاق الموصلي قال: ثم إن الجارية أمرَتْ بإحضار الطعام فحضر؛ فجعلت تأخذ وتضع قدَّامي، وكان في المجلس من أصناف الرياحين وغريب الفواكه ما لا يكون إلا عند الملوك، ثم دعت بالشراب فشربت قدحًا، ثم ناولتني قدحًا وقالت: هذا أوان المذاكرة والأخبار. فاندفعتُ أذاكرها وقلت: بلغني أنه كان كذا وكذا، وكان رجل يقول كذا، حتى حكيت لها عدة أخبار حسان، فانسرَّتْ بذلك وقالت: إني لَأعجب كيف يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذه الأخبار، وإنما هي أحاديث ملوك. فقلت: كان لي جار يحادث الملوك وينادمهم، وإذا تعطَّلَ حضرتُ بيته، فربما حدَّث بما سمعت. فقالت: لعمري لقد أحسنتَ الحفظ.
ثم أخذنا في المذاكرة، وكلما أسكت ابتدأت هي حتى قطعنا أكثر الليل، وبخور العود يعبق، وأنا في حالةٍ لو توهَّمَها المأمون لَطار شوقًا إليها، فقالت لي: إنك من ألطف الرجال وأظرفهم؛ لأنك ذو أدب بارع، وما بقي إلا شيء واحد. فقلت لها: وما هو؟ قالت: لو كنتَ تترنم بالأشعار على العود. فقلت لها: إني كنتُ تعلَّقت بهذا قديمًا، ولكن لمَّا لم أُرزَق حظًّا فيه أعرضتُ عنه وفي قلبي منه حرارة، وكنت أحب في هذا المجلس أن أُحسِن شيئًا منه لتكمل ليلتي. قالت: كأنك عرضت بإحضار العود. فقلت: الرأي لك، وأنت صاحبة الفضل، ولك المنة في ذلك. فأمرت بعود فحضر، وغنَّت بصوت ما سمعتُ بمثل حُسْنه مع حُسْن الأدب وجودة الضرب والكمال الراجح، ثم قالت: هل تعرف هذا الصوت لمَن؟ وهل تعرف الشعر لمَن؟ قلتُ: لا. قالت: الشعر لفلان، والمغنى لإسحاق. قلت: وهل إسحاق — جُعِلتُ فداكِ — بهذه الصفة؟ قالت: بخٍ بخٍ! إسحاق بارع في هذا الشأن. فقلت: سبحان الله الذي أعطى هذا الرجل ما لم يُعْطِه أحدًا سواه! قالت: فكيف لو سمعتَ هذا الصوت منه! ثم لم نزل على ذلك حتى إذا كان انشقاق الفجر أقبلَتْ عليها عجوز كأنها داية لها، وقالت: إن الوقت قد حضر. فنهضت عند قولها، وقالت: لتستر ما كان منَّا، فإن المجالس بالأمانات. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.