فلما كانت الليلة ٢٩٠
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة الثاني لما سمع شعر الجارية صرخ صرخة عظيمة، وشقَّ ما عليه من الثياب، وخرَّ مغشيًّا عليه، فأرادوا أن يرخوا عليه الستارة بحسب العادة فتوقفت حبالها، فلاحت من هارون الرشيد التفاتة إليه، فنظر على بدنه آثار ضرب مقارع، فقال الرشيد بعد النظر والتأكيد: يا جعفر، والله إنه شاب مليح إلا أنه لص قبيح. فقال جعفر: من أين عرفت ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: أَمَا رأيتَ ما على جنبَيْه من أثر السياط؟ ثم أسبلوا عليه الستارة، وأتوه ببدلة غير التي كانت عليه فلبسها واستوى جالسًا على حالته الأولى مع الندماء، فلاحت منه التفاتة فوجد الخليفة وجعفرًا يتحدثان سرًّا، فقال لهما: ما الخبر يا فتيان؟ فقال جعفر: يا مولانا خير، غير أنه لا خفاء عليك أن رفيقي هذا من التجار، وقد سافر جميع الأمصار والأقطار، وصحب الملوك والأخيار، وهو يقول لي: إن الذي حصل من مولانا الخليفة في هذه الليلة إسراف عظيم، ولم أَرَ أحدًا فعل مثل فعله في سائر الأقاليم؛ لأنه شقَّ كذا وكذا بدلة، كل بدلة بألف دينار، وهذا إسراف زائد. فقال الخليفة الثاني: يا هذا، إن المال مالي، والقماش قماشي، وهذا من بعض الأنعام على الخدام والحواشي، فإن كل بدلة شققتها لواحد من الندماء الحضار، وقد رسمت لهم مع كل بدلة خمسمائة دينار. فقال الوزير جعفر: نِعْمَ ما فعلتَ يا مولانا. ثم أنشد هذين البيتين:
فلما سمع الشاب هذا الشعر من الوزير جعفر رسم له ألف دينار وبدلة، ثم دارت بينهم الأقداح، وطاب لهم الراح، فقال الرشيد: يا جعفر، اسأله عن الضرب الذي على جنبَيْه حتى ننظر ما يقول في جوابه. فقال: لا تعجل يا مولانا، وترفَّق بنفسك، فإن الصبر أجمل. فقال: وحياة رأسي، وتربة العباس إن لم تسأله لأخمدنَّ منك الأنفاس. فعند ذلك التفت الشاب إلى الوزير، وقال له: ما لك مع رفيقك تتسارران؟ فأخبرني بشأنكما. فقال: خير. فقال الشاب: سألتك بالله أن تخبرني بخبركم، ولا تكتم عني شيئًا من أمركم. فقال: يا مولاي، إنه أبصر على جنبَيْك ضربًا، وأثر سياط ومقارع، فتعجَّبَ من ذلك غاية العجب، وقال: كيف يُضرَب الخليفة؟ وقصدُه أن يعلم ما السبب. فلما سمع الشاب ذلك تبسَّمَ وقال: اعلموا أن حديثي غريب، وأمري عجيب، لو كُتِب بالإبر على آماق البصر لَكان عبرة لمَن اعتبر. ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
فلما سمعوا منه هذا الكلام، حلف له جعفر وورى في يمينه أنهم لم يكونوا المذكورين؛ فضحك الشاب وقال: اعلموا يا سادتي أنني لست أمير المؤمنين، وإنما سميتُ نفسي بهذا الاسم لأبلغ ما أريد من أولاد المدينة، وإنما اسمي محمد علي بن علي الجوهري، وكان أبي من الأعيان فمات، وخلَّف لي مالًا كثيرًا من ذهب، وفضة، ولؤلؤ، ومرجان، وياقوت، وزبرجد، وجواهر، وعقارات، وحمامات، وغيطان، وبساتين، ودكاكين، وطوابين، وعبيد، وجوارٍ، وغلمان؛ فاتفق في بعض الأيام أنني كنت جالسًا في دكاني، وحولي الخدم والحشم، وإذا بجارية قد أقبلت راكبة على بغلة، وفي خدمتها ثلاث جوارٍ كأنهن الأقمار، فلما قربت مني نزلت على دكاني وجلست عندي، وقالت لي: هل أنت محمد الجوهري؟ فقلت لها: نعم هو، أنا مملوكك وعبدك. فقالت: هل عندك عقد جوهر يصلح لي؟ فقلت: يا سيدتي، الذي عندي أعرضه عليك، وأحضره بين يديك، فإن أعجبك منه شيء كان يسعد المملوك، وإن لم يعجبك شيء فبسوء حظي. وكان عندي مائة عقد من الجوهر فعرضت عليها الجميع، فلم يعجبها شيء من ذلك، وقالت: أريد أحسن مما رأيت. وكان عندي عقد صغير اشتراه والدي بمائة ألف دينار، ولم يوجد مثله عند أحد من السلاطين الكبار، فقلت لها: يا سيدتي، بقي عندي عقد الفصوص والجواهر، الذي لا يملك مثله أحد من الأكابر والأصاغر. فقالت لي: أرني إياه. فلما رأته قالت: هذا مطلوبي، وهو الذي طول عمري أتمناه. ثم قالت لي: كم ثمنه؟ فقلت لها: ثمنه على والدي مائة ألف دينار. فقالت: ولك خمسة آلاف دينار فائدة. فقلت: يا سيدتي، العقد وصاحبه بين يديك، ولا خلاف عندي. فقالت: لا بد من الفائدة، ولك المنة الزائدة. ثم قامت من وقتها وركبت البغلة بسرعة، وقالت لي: يا سيدي، باسم الله تفضل صحبتنا لتأخذ الثمن، فإن نهارك اليوم بنا مثل اللبن. فقمت وقفلت الدكان وسرت معها في أمان إلى أن وصلنا الدار، فوجدتها دارًا عليها آثار السعادة لائحة، وبابها مزركش بالذهب والفضة واللازورد، ومكتوب عليه هذان البيتان:
فنزلت الجارية ودخلت الدار، وأمرتني بالجلوس على مصطبة الباب إلى أن يأتي الصيرفي، فجلستُ على باب الدار ساعة، وإذا بجارية خرجت إليَّ وقالت: يا سيدي، ادخل الدهليز فإن جلوسك على الباب قبيح. فقمت ودخلت الدهليز، وجلست على الدكة، فبينما أنا جالس، وإذا بجارية خرجت إليَّ وقالت لي: يا سيدي، إن سيدتي تقول لك: ادخل واجلس على باب الإيوان حتى تقبض مالك. فقمت ودخلت البيت وجلست لحظة، وإذا بكرسي من الذهب وعليه ستارة من الحرير، وإذا بتلك الستارة قد رُفِعت، فبان من تحتها تلك الجارية التي اشترت مني ذلك العقد، وقد أسفرت عن وجهٍ كأنه دائرة القمر، والعقد في عنقها، فطاش عقلي واندهش لُبِّي من رؤية تلك الجارية لفرط حُسْنها وجمالها، فلما رأتني قامت من فوق الكرسي وسعت إلى نحوي، وقالت لي: يا نور عيني، هل كل مَن كان مليحًا مثلك ما يرثي لمحبوبته؟ فقلت: يا سيدتي، الحسن كله فيكِ، وهو من بعض معانيكِ. فقالت: يا جوهري، اعلم أني أحبك، وما صدقت أني أجيء بك عندي. ثم إنها مالت عليَّ فقبَّلتُها وقبَّلتني، وإلى جهتها جذبتني، وعلى صدرها رمتني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.