فلما كانت الليلة ٢٩٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الخليفة هارون الرشيد قال: أحضروا الجارية في هذا الوقت؛ فإني شديد الشوق إليها. فأحضروها، وقال للقاضي أبي يوسف: أريد وطأها في هذا الوقت؛ فإني لا أطيق الصبر عنها إلى مضي مدة الاستبراء، وما الحيلة في ذلك؟ فقال أبو يوسف: ائتوني بمملوك من مماليك أمير المؤمنين الذين لم يجر عليهم العتق. فأحضروا مملوكًا، فقال أبو يوسف: ائذن لي أن أزوجها منه، ثم يطلقها قبل الدخول، فيحل وطؤها في هذا الوقت من غير استبراء. فأعجب الرشيد ذلك أكثر من الأول، فلما حضر المملوك قال الخليفة للقاضي: أذنت لك في العقد. فأوجب القاضي النكاح، ثم قبله المملوك، وبعد ذلك قال له القاضي: طلقها ولك مائة دينار. فقال: لا أفعل. ولم يزل يزيده وهو يمتنع إلى أن عرض عليه ألف دينار، ثم قال للقاضي: هل الطلاق بيدي أم بيدك أم بيد أمير المؤمنين؟ قال: بل بيدك. قال: والله لا أفعل أبدًا. فاشتدَّ غضب أمير المؤمنين، وقال: ما الحيلة يا أبا يوسف؟ قال القاضي أبو يوسف: يا أمير المؤمنين لا تجزع؛ فإن الأمر هيِّن، ملِّك هذا المملوك للجارية. قال: ملَّكته لها. قال لها القاضي: قولي قبلت. فقالت: قبلت. فقال القاضي: حكمتُ بينهما بالتفريق؛ لأنه دخل في ملكها فانفسخ النكاح. فقام أمير المؤمنين على قدمَيْه وقال: مثلك مَن يكون قاضيًا في زماني. واستدعى أطباق الذهب فأُفرِغت بين يدَيْه، وقال للقاضي: هل معك شيء تضعه فيه؟ فتذكَّرَ مخلاة البغلة فاستدعاها، فمُلِئت له ذهبًا، فأخذها وانصرف إلى بيته. فلما أصبح الصباح قال لأصحابه: لا طريق إلى الدين والدنيا أسهل وأقرب من طريق العلم؛ فإني أُعطِيت هذا المال العظيم في مسألتين أو ثلاث. فانظر أيها المتأدب إلى لطف هذه الواقعة؛ فإنها اشتملت على محاسن، منها: دلال الوزير على الرشيد، وعلم الخليفة، وزيادة علم القاضي، فرحم الله تعالى أرواحهم أجمعين.
حكاية خالد بن عبد الله مع السارق المزيَّف
ومما يُحكَى أن خالد بن عبد الله القسري كان أمير البصرة، فجاء إليه جماعة متعلقون بشاب ذي جمال باهر، وأدب ظاهر، وعقل وافر، وهو حسن الصورة طيب الرائحة، وعليه سكينة ووقار، فقدَّموه إلى خالد، فسألهم عن قصته، فقالوا: هذا لص أصبناه البارحة في منزلنا. فنظر إليه خالد فأعجبه حسن هيئته ونظافته، فقال: اخلوا عنه. ثم دَنَا منه وسأله عن قصته فقال: إن القوم صادقون فيما قالوه، والأمر على ما ذكروا. فقال له خالد: ما حملك على ذلك وأنت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ قال: حملني على ذلك الطمع في الدنيا، وقضاء الله سبحانه وتعالى. فقال له خالد: ثكلتك أمك! أَمَا كان لك في جمال وجهك وكمال عقلك وحُسْن أدبك، زاجرٌ يزجرك عن السرقة؟ قال: دَعْ عنك هذا أيها الأمير، وامض إلى ما أمر الله تعالى، فذلك بما كسبَتْ يداي، وما الله بظلَّام للعبيد. فسكت خالد ساعة يفكِّر في أمر الفتى، ثم أدناه منه وقال له: إن اعترافك على رءوس الأشهاد قد رابني، وأنا ما أظنك سارقًا، ولعل لك قصة غير السرقة فأخبرني بها. قال: أيها الأمير، لا يقع في نفسك شيء سوى ما اعترفتُ به عندك، وليس لي قصة أشرحها إلا أني دخلت دار هؤلاء فسرقت ما أمكنني فأدركوني، وأخذوه مني، وحملوني إليك. فأمر خالد بحبسه، وأمر مناديًا ينادي بالبصرة: أَلَا مَن أحَبَّ أن ينظر إلى عقوبة فلان اللص وقطع يده، فَلْيحضر من الغداة إلى المحل الفلاني. فلما استقرَّ الفتى في الحبس، ووضعوا في رجليه الحديد، تنفَّسَ الصعداء وأفاض العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
فسمع ذلك الموكلون به، فأتوا خالدًا وأخبروه بما حصل منه؛ فلما جنَّ الليل أمَرَ بإحضاره عنده، فلما حضر استنطقه فرآه عاقلًا أديبًا فَطِنًا ظريفًا لبيبًا، فأمر له بطعام فأكل، وتحدَّثَ معه ساعةً، ثم قال له خالد: قد علمتُ أن لك قصة غير السرقة، فإذا كان الصباح وحضر الناس وحضر القاضي، وسألك عن السرقة فأنكرها، واذكر ما يدرأ عنك حدَّ القطع، فقد قال رسول الله ﷺ: «ادرءُوا الحدودَ بالشبهات.» ثم أمر به إلى السجن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.