فلما كانت الليلة ٣٠٠
قالت لها أختها: يا أختي أتممي لنا حديثك. قالت: حبًّا وكرامة إن أذن لي الملك. فقال الملك: احكي يا شهرزاد.
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام قال للخليفة: إن السيدة زبيدة تقبِّل الأرض بين يديك، وتقول لك: أنت تعرف أنها قد عملت هذا التاج، وأنه محتاج إلى جوهرة كبيرة تكون في رأسه، وفتشت دخائرها فلم تجد فيها جوهرة كبيرة على غرضها. فقال الخليفة للحجَّاب والنوَّاب: فتشوا على جوهرة كبيرة على غرض زبيدة. ففتشوا فلم يجدوا شيئًا يوافقها، فأعلموا الخليفة بذلك، فضاق صدره وقال: كيف أكون خليفة وملك الأرض وأعجز عن جوهرة؟! ويلكم! فاسألوا التجار. فسألوا التجار فقالوا لهم: لا يجد مولانا الخليفة الجوهرة إلا عند رجل من البصرة يُسمَّى أبا محمد الكسلان. فأخبروا الخليفة بذلك، فأمر وزيره جعفرًا أن يرسل بطاقة إلى الأمير محمد الزبيدي المتولِّي على البصرة أن يجهِّز أبا محمد الكسلان، ويحضر به بين يدي أمير المؤمنين، فكتب الوزير بطاقة بمضمون ذلك، وأرسلها مع مسرور.
ثم توجَّه مسرور بالبطاقة إلى مدينة البصرة، ودخل على الأمير محمد الزبيدي ففرح به، وأكرمه غاية الإكرام، ثم قرأ عليه بطاقة أمير المؤمنين هارون الرشيد فقال: سمعًا وطاعة. ثم أرسل مسرورًا مع جماعة من أتباعه إلى أبي محمد الكسلان، فتوجهوا إليه وطرقوا عليه الباب، فخرج لهم أحد الغلمان، فقال له مسرور: قل لسيدك إن أمير المؤمنين يطلبك. فدخل الغلام وأخبره بذلك، فخرج فوجده مسرورًا حاجب الخليفة، ومعه أتباع الأمير محمد الزبيدي، فقبَّل الأرض بين يديه، وقال: سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين، ولكن ادخلوا عندنا. فقالوا: ما نقدر على ذلك إلا على عجل كما أمرنا أمير المؤمنين، فإنه ينتظر قدومك. فقال: اصبروا عليَّ يسيرًا حتى أجهِّز أمري. ثم دخلوا معه إلى الدار بعد استعطاف زائد، فرأوا في الدهليز ستورًا من الديباج الأزرق المطرز بالذهب الأحمر. ثم إن أبا محمد الكسلان أمر بعض غلمانه أن يدخلوا مع مسرور الحمام الذي في الدار ففعلوا، فرأى حيطانه ورخامه من الغرائب، وهو مزركش بالذهب والفضة، وماؤه ممزوج بماء الورد، واحتفل الغلمان بمسرور ومَن معه وخدموهم أتمَّ الخدمة، ولما خرجوا من الحمام ألبسوهم خلعًا من الديباج منسوجة بالذهب، ثم دخل مسرور وأصحابه فوجدوا أبا محمد الكسلان جالسًا في قصره، وقد عُلِّقت على رأسه ستور من الديباج المنسوج بالذهب المرصع بالدر والجوهر، والقصر مفروش بمساند مزركشة بالذهب الأحمر، وهو جالس على مرتبته، والمرتبة على سرير مرصع بالجواهر.
فلما دخل عليه مسرور رحَّبَ به وتلقَّاه وأجلسه بجانبه، ثم أمر بإحضار السماط، فلما رأى مسرور ذلك السماط قال: والله ما رأيت عند أمير المؤمنين مثل ذلك السماط أبدًا. وكان في ذلك السماط أنواع الأطعمة، وكلها موضوعة في أطباق صيني مذهبة، قال مسرور: فأكلنا وشربنا، وفرحنا إلى آخر النهار، ثم أعطانا كل واحد خمسة آلاف دينار، ولما كان اليوم الثاني ألبسونا خلعًا خضراء مذهبة، وأكرمونا غاية الإكرام، ثم قال له مسرور: لا يمكننا أن نقعد زيادة على تلك المدة خوفًا من الخليفة. فقال له أبو محمد الكسلان: يا مولانا، اصبر علينا إلى غدٍ حتى نتجهَّزَ ونسير معكم. فقعدوا ذلك اليوم وباتوا إلى الصباح، ثم إن الغلمان شدوا لأبي محمد الكسلان بغلة بسرج من الذهب مرصَّع بأنواع الدر والجواهر، فقال مسرور في نفسه: يا ترى إذا حضر أبو محمد بين يدي الخليفة بتلك الصفة، هل يسأله عن سبب تلك الأموال؟ ثم بعد ذلك ودَّعوا أبا محمد الزبيدي، وطلعوا من البصرة وساروا، ولم يزالوا سائرين حتى وصلوا إلى مدينة بغداد، فلما دخلوا على الخليفة ووقفوا بين يديه أمره بالجلوس فجلس، ثم تكلم بأدب وقال: يا أمير المؤمنين، إني جئت معي بهدية على وجه الخدمة، فهل أحضرها عن إذنك؟ قال الرشيد: لا بأس بذلك. فأمر بصندوق وفتحه وأخرج منه تحفًا، من جملتها أشجار من الذهب، وأوراقها من الزمرد الأبيض، وثمارها ياقوت أحمر وأصفر ولؤلؤ أبيض. فتعجَّبَ الخليفة من ذلك، ثم أحضر صندوقًا ثانيًا وأخرج منه خيمة من الديباج مكللة باللؤلؤ والياقوت والزمرد والزبرجد وأنواع الجواهر، وقوائمها من عود هندي رطب، وأذيال تلك الخيمة مرصعة بالزمرد الأخضر، وفيها تصوير كل الصور من سائر الحيوانات والطيور والوحوش، وتلك الصور مكللة بالجواهر واليواقيت والزمرد والزبرجد والبلخش وسائر المعادن.
فلما رأى الرشيد ذلك فرح فرحًا شديدًا، ثم قال أبو محمد الكسلان: يا أمير المؤمنين، لا تظن أني حملت لك هذا فزعًا من شيء، ولا طمعًا في شيء، وإنما رأيت نفسي رجلًا عاميًّا، ورأيت هذا لا يصلح إلا لأمير المؤمنين، وإن أذنت لي فرجتك على بعض ما أقدر عليه. فقال الرشيد: افعل ما شئت حتى ننظر. فقال: سمعًا وطاعة. ثم حرَّك شفتيه وأومأ إلى شراريف القصر فمالت إليه، ثم أشار إليها فرجعت إلى موضعها، ثم أشار بعينه فظهرت إليه مقاصير مقفلة الأبواب، ثم تكلم عليها وإذا بأصوات طيور تجاوبه؛ فتعجَّبَ الرشيد من ذلك غاية العجب وقال له: من أين لك هذا كله، وأنت ما تُعرَف إلا بأبي محمد الكسلان، وأخبروني أن أباك كان حجَّامًا يخدم في حمام، وما خلَّف لك شيئًا. فقال: يا أمير المؤمنين اسمع حديثي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.