فلما كانت الليلة ٣٠٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنه قال: وسرنا حتى وصلنا إلى القوم الذين كانوا دلُّوني عليها، ثم قلت: دلوني على طريق توصلني إلى بلادي. فدلوني ومشوا معي إلى ساحل البحر، وأنزلوني في مركب، وطاب لنا الريح وسار بنا ذلك المركب حتى وصلنا إلى مدينة البصرة، فلما دخلت الصبية دار أبيها رآها أهلها ففرحوا بها فرحًا شديدًا. ثم إني بخَّرت العقاب بالمسك، وإذا بالعفاريت قد أقبلوا عليَّ من كل مكان، وقالوا: لبيك، فما تريد أن نفعل؟ فأمرتهم أن ينقلوا كل ما في مدينة النحاس من المال والمعادن والجواهر إلى داري التي في البصرة، ففعلوا ذلك، ثم أمرتهم أن يأتوا بالقرد، فأتوا به ذليلًا حقيرًا، فقلت له: يا ملعون، لأي شيء غدرتَ بي؟ ثم أمرتهم أن يدخلوه في قمقم من نحاس، فأدخلوه في قمقم ضيِّق من نحاس، وسدوا عليه بالرصاص، وأقمت أنا وزوجتي في هناء وسرور، وعندي الآن يا أمير المؤمنين من نفائس الذخائر وغرائب الجواهر وكثير الأموال، ما لا يحيط به عدٌّ ولا يحصره حدٌّ، وإذا طلبتَ شيئًا من المال أو غيره أمرت الجن أن يأتوا لك به في الحال، وكل ذلك من فضل الله تعالى. فتعجَّبَ أمير المؤمنين من ذلك غاية العجب، ثم أعطاه من مواهب الخلافة عوضًا عن هديته، وأنعم عليه إنعامًا بما يليق به.
حكاية يحيى بن خالد
ومما يُحكَى أن هارون الرشيد استدعى رجلًا من أعوانه يقال له صالح، قبل الوقت الذي تغير فيه على البرامكة، فلما حضر بين يديه قال له: يا صالح، سِرْ إلى منصور وقل له: إن لنا عندك ألف ألف درهم، والرأي قد اقتضى أنك تحمل لنا هذا المبلغ في هذه الساعة، وقد أمرتك يا صالح أنه إن لم يحصل لك ذلك المبلغ من هذه الساعة إلى قبل المغرب، أن تزيل رأسه عن جسده وتأتيني به. فقال صالح: سمعًا وطاعة. ثم سار إلى منصور وأخبره بما ذكره أمير المؤمنين، فقال منصور: قد هلكتُ والله، فإن جميع متعلقاتي وما تملكه يدي إذا بيعت بأغلى قيمة لا يزيد ثمنها على مائة ألف، فمن أين أقدر يا صالح على التسعمائة ألف درهم الباقية؟ فقال له صالح: دبِّرْ لك حيلة تتخلَّص بها عاجلًا وإلا هلكتَ، فإني لا أقدر أن أتمهَّل عليك لحظة بعد المدة التي عيَّنَها لي الخليفة، ولا أقدر أن أخلَّ بشيء مما أمرني به أمير المؤمنين، فأَسْرِعْ بحيلة تخلص بها نفسك قبل أن تنصرم الأوقات. فقال منصور: يا صالح، أسألك من فضلك أن تحملني إلى بيتي لأودِّع أولادي وأهلي وأوصي أقاربي. قال صالح: فمضيت معه إلى بيته، فجعل يودِّع أهله وارتفع الضجيج في منزله وعلا البكاء والصياح والاستغاثة بالله تعالى، فقال صالح: قد خطر ببالي أن الله يجعل لك الفرج على يد البرامكة، فأذهب بنا إلى دار يحيى بن خالد.
فلما ذهبَا إلى يحيى بن خالد أخبره بحاله، فاغتمَّ لذلك وأطرق إلى الأرض ساعة، ثم رفع رأسه واستدعى خازن داره وقال له: كم في خزنتنا من الدراهم؟ فقال له: مقدار خمسة آلاف درهم. فأمر بإحضارها، ثم أرسل رسولًا إلى ولده الفضل برسالة مضمونها: «إنه قد عرض عليَّ للبيع جليلة لا تخرب أبدًا، فأرسِلْ لنا شيئًا من الدراهم.» فأرسل إليه ألف درهم، ثم أرسل إنسانًا آخر إلى ولده جعفر برسالة مضمونها: «إنه حصل لنا شغل مهم ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم.» فأنفذ له جعفر في الحال ألف ألف درهم، ولم يزل يحيى يرسل إلى البرامكة حتى جمع منهم لمنصور مالًا كثيرًا، وصالح ومنصور لا يعلمان هذا، فقال منصور ليحيى: يا مولاي، قد تمسكت بذلك وما أعرف هذا المال إلا منك كما هو عادة كرمك، فتمِّمْ لي بقية ديني واجعلني عتيقك. فأطرق يحيى وبكى وقال: يا غلام، إن أمير المؤمنين قد كان وهب لجاريتنا «دنانير» جوهرةً عظيمة القيمة، فاذهب إليها وقل لها ترسل لنا هذه الجوهرة. فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال: يا صالح، أنا ابتعت هذه الجوهرة لأمير المؤمنين من التجار بمائتَيْ ألف دينار، ووهبها أمير المؤمنين لجاريتنا دنانير العوادة، وإذا رآها معك عرفها وأكرمك وحقن دمك من أجلنا إكرامًا لنا، وقد تمَّ الآن مالُكَ يا منصور. قال صالح: فحملت المال والجوهرة إلى الرشيد ومنصور معي، فبينما نحن في الطريق إذ سمعته يتمثَّل بهذا البيت:
فعجبت من سوء طبعه ورداءته وفساده وخبث أصله وميلاده، ورددتُ عليه وقلت له: ما على وجه الأرض خير من البرامكة، ولا أخبث ولا أشر منك، فإنهم اشتروك من الموت، وأنقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك، ولم تشكرهم ولم تحمدهم ولم تفعل فعل الأحرار، بل قابلتَ إحسانهم بهذا المقال. ثم مضيت إلى الرشيد وقصصتُ عليه القصة وأخبرته بجميع ما جرى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.