فلما كانت الليلة ٣٠٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن صالحًا قال: فقصصت القصة على أمير المؤمنين وأخبرته بجميع ما جرى، فتعجَّبَ الرشيد من كرم يحيى وسخائه ومروءته وخساسة منصور ورداءته، وأمر أن تُرَدَّ الجوهرة إلى يحيى بن خالد وقال: كل شيء قد وهبناه لا يجوز أن نعود فيه. وعاد صالح إلى يحيى بن خالد وذكر له قصة منصور وسوء فعله، فقال يحيى: يا صالح، إذا كان الإنسان مثلًا ضيق الصدر مشغول الفكر، فمهما صدر منه لا يُؤاخَذ به؛ لأنه ليس ناشئًا عن قلبه. وصار يتطلَّب العذر لمنصور، فبكى صالح وقال: لا يجري الفلك الدائر بإبراز رجل إلى الوجود مثلك، فوا أسفَا! كيف يتوارى مَن له خُلُقٌ مثل خُلُقك، وكرمٌ مثل كرمك تحت التراب! وأنشد هذين البيتين:
حكاية المزوِّر
ومما يُحكَى أنه كان بين يحيى بن خالد وبين عبد الله بن مالك الخزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها، وسبب العداوة بينهما أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك محبة عظيمة، بحيث إن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون: إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين. حتى مضى على ذلك زمان طويل والحقد في قلوبهما، فاتفق أن الرشيد قلَّدَ ولايةَ أرمينية لعبد الله بن مالك الخزاعي وسيَّرَه إليها، فلما استقرَّ في تختها قصده رجل من أهل العراق كان فيه فضل أدب وذكاء وفطنة، إلا أنه ضاق ما بيده وفني ما له واضمحل حاله، فزوَّرَ كتابًا على لسان يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافَرَ إليه في أرمينية، فلما وصل إلى بابه سلَّمَ الكتابَ إلى بعض حجَّابه، فأخذ الحاجب الكتاب وسلَّمَه إلى عبد الله بن مالك بن الخزاعي، ففتحه وقرأه وتدبَّرَه، فعلم أنه مزوَّر، فأمر بإحضار الرجل، فلما تمثَّلَ بين يدَيْه دعا له وأثنى عليه وعلى أهل مجلسه، فقال له عبد الله بن مالك: ما حملك على بُعْد المشقة ومجيئك إليَّ بكتاب مزوَّر؟ ولكن طِبْ نفسًا فإننا لا نخيِّب سعيك. فقال الرجل: أطال الله بقاء مولانا الوزير، إن كان ثقل عليك وصولي فلا تحتج في منعي بحجة، فإن أرض الله واسعة، والرازق حي، والكتاب الذي أوصلتُه إليك من يحيى بن خالد صحيح غير مزوَّر. فقال عبد الله: أنا أكتب كتابًا لوكيلي ببغداد وآمره فيه أن يسأل عن حال هذا الكتاب الذي أتيتني به، فإن كان ذلك حقًّا صحيحًا غير مزوَّر، قلَّدْتُك إمارةَ بعض بلادي أو أعطيتك مائتَيْ ألف درهم مع الخيل والنجب الجليلة والتشريف إنْ أردتَ العطاء، وإنْ كان الكتابُ مزوَّرًا أمرتُ أن تُضرَب مائتَيْ خشبة وأن تحلق لحيتك. ثم أمر به عبد الله أن يُحمَل إلى حجرة، وأن يُجعَل له فيها ما يحتاج إليه حتى يتحقَّق أمره، ثم كتب كتابًا إلى وكيله ببغداد مضمونه: «إنه قد وصل إليَّ رجل ومعه كتاب يزعم أنه من يحيى بن خالد، وأنا أسيء الظن بهذا الكتاب، فيجب ألَّا تهمل هذا الأمر، بل تمضي بنفسك وتحقق أمر هذا الكتاب، وتُسرِع إليَّ بردِّ الجواب لأجل أن نعلم صدقه من كذبه.» فلما وصل إليه الكتاب ببغداد ركب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.