فلما كانت الليلة ٣٠٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن وكيل عبد الله بن مالك الخزاعي لما وصل إليه الكتاب ببغداد، ركب من ساعته ومضى إلى دار يحيى بن خالد فوجده جالسًا مع ندمائه وخواصه، فسلَّمَ عليه وسلَّمَ إليه الكتاب، فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل: عُدْ إليَّ من الغد حتى أكتب لك الجواب. ثم التفت إلى ندمائه بعد انصراف الوكيل وقال: ما جزاء مَن تحمَّل عني كتابًا مزوَّرًا وذهب به إلى عدوي؟ فقال كل واحد من الندماء مقالًا، وجعل كلُّ واحد منهم يذكر نوعًا من العذاب، فقال لهم يحيى: لقد أخطأتم فيما ذكرتم، وهذا الذي أشرتم به من دناءة الهمم وخستها، وكلكم تعرفون قرب منزلة عبد الله من أمير المؤمنين، وتعلمون ما بيني وبينه من الغضب والعداوة، وقد سبَّبَ الله تعالى هذا الرجل وجعله واسطة في الصلح بيننا ووفَّقَه لذلك، وقيَّدَه ليخمد نار الحقد من قلوبنا، وهي تتزايد من مدة عشرين سنة وتصطلح بواسطته شئوننا، وقد وجب عليَّ أن أَفِي لهذا الرجل بتحقيق ظنونه وإصلاح شئونه، واكتب له كتابًا إلى عبد الله بن مالك الخزاعي مضمونه أنه يزيد في إكرامه ويستمر على أعذاره واحترامه. فلما سمع الندماء ذلك دعوا له بالخيرات، وتعجَّبوا من كرمه ووفور مروءته، ثم إنه طلب الورقة والدواة، وكتب إلى عبد الله بن مالك كتابًا بخط يده مضمونه:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك — أطال الله بقاءَك — وقرأته وسررت بسلامتك، وابتهجت باستقامتك وشمول سعادتك، وكان ظنك ذلك الرجل الحر زوَّرَ عني كتابًا ولم يحمل مني خطابًا، وليس الأمر كذلك، فإن الكتاب أنا كتبته وليس بمزوَّر ورجائي من إكرامك وإحسانك وحسن شيمتك أن تفي لذلك الرجل الكريم بأمله وأمنيته، وترعى له حقَّ حرمته وتوصله إلى غرضه، وأن تخصَّه منك بغامر الإحسان ووافر الامتنان، ومهما فعلته في حقِّه فأنا المقصود به والشاكر عليه.
ثم عنون الكتاب وختمه وسلَّمَه إلى الوكيل، فأنفذه الوكيل إلى عبد الله، فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر ذلك الرجل وقال له: أي الأمرين اللذين وعدتك بهما أحبُّ إليك لأحضره لك بين يديك؟ فقال الرجل: العطاء أحبُّ إليَّ من كل شيء. فأمر له بمائتَيْ ألف درهم وعشرة أفراس عربية؛ خمسة منها بالجلال الحرير، وخمسة بسروج المواكب المحلاة، وبعشرين تختًا من الثياب، وعشرة من المماليك ركاب خيل، وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة، ثم خلع عليه وأحسن إليه ووجهه إلى بغداد في هيئة عظيمة، فلما وصل إلى بغداد قصد باب دار يحيى بن خالد قبل أن يصل إلى أهله، وطلب الإذن في الدخول عليه، فدخل الحاجب إلى يحيى وقال له: يا مولاي، إن ببابنا رجلًا ظاهرَ الحشمة، جميلَ الخلقة، حَسَنَ الحال، كثير الغلمان، يريد الدخول عليك. فأذن له بالدخول، فلما دخل عليه قبَّلَ الأرض بين يديه، فقال له يحيى: مَن أنت؟ فقال له الرجل: أيها السيد، أنا الذي كنت ميتًا من جور الزمان، فأحييتَني من رمس النوائب، وبعثتني إلى جنة المطالب، أنا الذي زوَّرت كتابًا عنك وأوصلته إلى عبد الله بن مالك الخزاعي. فقال له يحيى: ما الذي فعل معك؟ وأي شيء أعطاك؟ فقال: أعطاني من يدك وجميل طويتك وشمول نِعَمك وعموم كرمك وعلو همتك وواسع فضلك، حتى أغناني وخولني وهاداني، وقد حملت جميع عطيته ومواهبه، وها هي ببابك والأمر إليك والحكم في يديك. فقال له يحيى: إن صنيعك معي أجمل من صنيعي معك، ولك عليَّ المنَّة العظيمة واليد البيضاء الجسيمة؛ حيث بدَّلْتَ العداوة التي كانت بيني وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة والمودة، فأنا أهب لك من المال مثل ما وهب لك عبد الله بن مالك. ثم أمر له من المال والخيل والتخوت بمثل ما أعطاه عبد الله، فعادت لذلك الرجل نعمته كما كانت بمروءة هذين الكريمين.
حكاية المأمون والفقيه الغريب
ورُوِي أن المأمون لم يكن في خلفاء بني العباس خليفة أعلم منه في جميع العلوم، وكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة العلماء، فيجلس المناظرون من الفقهاء والمتكلمين بحضرته على طبقاتهم ومراتبهم، فبينما هو جالس معهم إذ دخل في مجلسه رجل غريب وعليه ثياب بيض رثَّة، فجلس في آخِر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول، فلما ابتدءوا في الكلام وشرعوا في معضلات المسائل، وكان من عادتهم أنهم يديرون المسألة على أهل المجلس واحدًا بعد واحد، فكلُّ مَن وجد زيادة لطيفة أو نكته غريبة ذكرها، فدارت المسألة إلى أن وصلت إلى ذلك الرجل الغريب، فتكلَّمَ وأجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم، فاستحسن الخليفة كلامه … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.