فلما كانت الليلة ١٥١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفأرة لما سمعت كلام البرغوث، قالت: إذا كان الكلام على ما أخبرت، فاطمئن هنا وما عليك بأس، ولا تجد إلا ما يسرُّك، ولا يصيبك إلا ما يصيبني، وقد بذلت لك مودتي، ولا تندم على ما فاتك من دم التاجر، ولا تأسف على قُوتِكَ منه، وارضَ بما تيسَّرَ لك من العيش؛ فإن ذلك أسلم لك، وقد سمعت أيها البرغوث بعض الوعاظ ينشد هذه الأبيات:
فلما سمع البرغوث كلام الفأرة قال: يا أختي، قد سمعت وصيتك، وانقدتُ إلى طاعتك، ولا قوةَ لي على مخالفتك إلى أن ينقضي العمر بتلك النية الحسنة. فقالت له الفأرة: كفى بصدق المودة في صلاح النية. ثم انعقد الود بينهما، وكان البرغوث بعد ذلك يأوي إلى فراش التاجر ولا يتجاوز بلغته، ويأوي بالنهار مع الفأرة في مسكنها، فاتفق أن التاجر جاء ليلةً إلى منزله بدنانير كثيرة، فجعل يقلِّبها، فلما سمعت الفأرة صوت الدنانير أطلعت رأسها من جحرها، وجعلت تنظر إليها حتى وضعها التاجر تحت وسادة ونام، فقالت الفأرة للبرغوث: أَمَا ترى الفرصة والحظ العظيم، فهل عندك حيلة توصلنا إلى بلوغ الغرض من تلك الدنانير؟ قال البرغوث: إنه لا حسن لمن طلب الغرض إلا أن يكون قادرًا عليه، فإن كان ضعيفًا عنه وقع فيما يحذره ولم يدرك مراده مع الضعف، وإن استحكمت قوة المحتال كالعصفور الذي يلتقط الحب فيقع في الشبكة فيقتنصه صائده، وليس لك قوة على أخذ الدنانير ولا على إخراجها من البيت، وأنا لا طاقة لي على ذلك، بل ولا على حمل دينار واحد منها، فشأنك والدنانير. فقالت الفأرة: إني أعددت في جحري هذا سبعين منفذًا أخرج منها متى أردت الخروج، وأعددت للذخائر موضعًا حريزًا، وإن تحيَّلت أنت على إخراجه من البيت فلست أشك في الظفر إن ساعدني القدر. فقال لها البرغوث: قد التزمت لك بإخراجه من البيت.
ثم انطلق البرغوث إلى فراش التاجر ولدغه لدغة قوية لم يكن للتاجر جرى مثلها، ثم تنحى البرغوث إلى موضع يأمن فيه على نفسه من التاجر، وانتبه التاجر يفتش على البرغوث فلم يجد شيئًا، فرقد على جنبه الآخر، فلدغه البرغوث لدغة أشد من الأولى، فقلق التاجر وفارق مضجعه، وخرج إلى مصطبة على باب داره فنام هناك، ولم ينتبه إلى الصباح، ثم إن الفأرة أقبلت على نقل الدنانير حتى لم تترك منها شيئًا، فلما أصبح الصباح صار التاجر يتهم الناس ويظن الظنون. ثم قال الثعلب للغراب: واعلم أني لم أقل لك هذا الكلام أيها الغراب البصير العاقل الخبير، إلا ليصل إليك جزاء إحسانك إليَّ كما وصل للفأرة جزاء إحسانها إلى البرغوث، فانظر كيف جازاها أحسن المجازاة، وكافأها أحسن المكافأة. فقال الغراب: إن شاء المحسن يحسن أو لا يحسن، وليس الإحسان واجبًا لمَن التمس صلةً بقطيعة، وإن أحسنتُ إليك مع كونك عدوي، أكون قد تسبَّبْتُ في قطيعة نفسي، وأنت أيها الثعلب ذو مكر وخداع، ومَن شيمته المكر والخديعة لا يُؤمن على عهد، ومَن لا يؤمن على عهد لا أمان له، وقد بلغني من قريب أنك غدرت بصاحبك الذئب، ومكرت به حتى أهلكته بغدرك وحيلتك، وفعلت به هذه الأمور مع أنه من جنسك، وقد صحبته مدة مديدة فما أبقيت عليه، فكيف أثق منك بنصيحة؟ وإذا كان هذا فعلك مع صاحبك الذي من جنسك، فكيف يكون فعلك مع عدوك الذي من غير جنسك؟ وما مثالك معي إلا مثال الصقر مع ضواري الطير. فقال الثعلب: وما حكاية الصقر مع ضواري الطير؟ فقال الغراب: زعموا أن صقرًا كان جبَّارًا عنيدًا … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.