فلما كانت الليلة ١٥٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شمس النهار ملأت الكأس وأعطته لعلي بن بكار، ثم أمرت جارية أن تغني، فأنشدت هذين البيتين:
فلما فرغت من شعرها، شرب علي بن بكار كأسه، ورده إلى شمس النهار فملأته وناولته لأبي الحسن فشربه، ثم أخذت العود وقالت: لا يغني على قدحي غيري. ثم شدَّت الأوتار، وأنشدت هذه الأشعار:
وقول الشاعر:
فلما سمع علي بن بكار وأبو الحسن والحاضرون شِعر شمس النهار، كادوا أن يطيروا من الطرب، ولعبوا وضحكوا؛ فبينما هم على هذا الحال، وإذا بجارية أقبلت وهي ترتعد من الخوف، وقالت: يا سيدتي قد وصل أمير المؤمنين، وها هو بالباب، ومعه عفيف ومسرور وغيرهما. فلما سمعوا كلام الجارية كادوا أن يهلكوا من الخوف، فضحكت شمس النهار وقالت: لا تخافوا. ثم قالت للجارية: ردي عليهم الجواب بقدر ما نتحوَّل من هذا المكان. ثم إنها أمرت بغلق باب القبة، وإرخاء الستور على أبوابها وهم فيها، وأغلقت باب القاعة، ثم خرجت إلى البستان، وجلست على سريرها، وأمرت جاريةً أن تكبس رجليها، وأمرت بقية الجواري أن يمضين إلى أماكنهن، وأمرت الجارية أن تدع الباب مفتوحًا ليدخل الخليفة، فدخل مسرور ومَن معه، وكانوا عشرين وبأيديهم السيوف، فسلَّموا على شمس النهار، فقالت لهم: لأي شيء جئتم؟ فقالوا: إن أمير المؤمنين يسلِّم عليك، وقد استوحش لرؤيتك، ويخبرك أنه كان عنده اليوم سرور وحظ زائد، وأحب أن يكون ختام السرور بوجودك في هذه الساعة، فهل تأتين عنده أو يأتي عندك؟ فقامت وقبَّلت الأرض، وقالت: سمعًا وطاعة لأمر أمير المؤمنين. ثم أمرت بإحضار القهرمانات والجواري فحضرن، وأظهرت لهن أنها مقبلة على ما أمر به الخليفة، وكان المكان كاملًا في جميع أموره، ثم قالت للخدام: امضوا إلى أمير المؤمنين، وأخبروه أنني في انتظاره بعد قليلٍ إلى أن أهيِّئ له مكانًا بالفرش والأمتعة. فمضى الخدام مسرعين إلى أمير المؤمنين، ثم إن شمس النهار قلعت ودخلت إلى معشوقها علي بن بكار، وضمَّته إلى صدرها وودعته، فبكى بكاءً شديدًا، وقال: يا سيدتي، هذا الوداع متِّعيني به لعله يكون على تلف نفسي وهلاك روحي في هواك، ولكن أسأل الله أن يرزقني الصبر على ما بلاني به من محبتي. فقالت له شمس النهار: والله ما يصير في التلف إلا أنا؛ فإنك قد تخرج إلى السوق وتجتمع بمن يسلِّيك فتكون مصونًا، وغرامك مكنونًا، وأما أنا فسوف أقع في البلاء، خصوصًا وقد وعدت الخليفة بميعاد، فربما يلحقني من ذلك عظيم الخطر بسبب شوقي إليك، وحبي لك، وتعشُّقي فيك، وتأسُّفي على مفارقتك، فبأي لسان أغني؟ وبأي قلب أحضر عند الخليفة؟ وبأي كلام أنادم أمير المؤمنين؟ وبأي نظر أنظر إلى مكانٍ ما أنت فيه؟ وكيف أكون في حضرةٍ لم تكن بها؟ وبأي ذوق أشرب مدامًا ما أنت حاضره؟ فقال لها أبو الحسن: لا تتحيري واصبري، ولا تغفلي عن منادمة أمير المؤمنين هذه الليلة، ولا تريه تهاونًا.
فبينما هم في الكلام، وإذا بجارية قدمت وقالت: يا سيدتي، جاء غلمان أمير المؤمنين. فنهضت قائمة، وقالت للجارية: خذي أبا الحسن ورفيقه، واقصدي بهما أعلى الروشن المطل على البستان، ودعيهما هناك إلى الظلام، ثم تحيَّلي في خروجهما. فأخذتهما الجارية وأطلعتهما في الروشن، وأغلقت الباب عليهما، ومضت إلى حال سبيلها، وصارَا ينظران إلى البستان، وإذا بالخليفة قدم وقدَّامه نحو المائة خادم بأيديهم السيوف، وحواليه عشرون جارية كأنهن الأقمار، وعليهن أفخر ما يكون من الملبوس، وعلى رأس كل واحدة تاج مكلل بالجواهر واليواقيت، وفي يد كل واحدة شمعة موقودة، والخليفة يمشي بينهن، وهن محيطات به من كل ناحية، ومسرور وعفيف ووصيف قدَّامه، وهو يتمايل بينهم. فقامت له شمس النهار وجميع مَن عندها من الجواري، ولاقينه من باب البستان، وقبَّلن الأرض بين يديه، ولم يزلن سائرات أمامه إلى أن جلس على السرير، والذين في البستان من الجواري والخدم وقفوا حوله والشموع موقودة، والآلات تضرب إلى أن أمرهم بالانصراف والجلوس على الأسرَّة، فجلست شمس النهار على سرير بجانب سرير الخليفة، وصارت تحدثه؛ كل ذلك وأبو الحسن وعلي بن بكار ينظران ويسمعان، والخليفة لم يرهما.
ثم إن الخليفة صار يلعب مع شمس النهار، وأمر بفتح القبة ففُتِحت، وشرعوا طيقانها، وأوقدوا الشموع حتى صار المكان وقت الظلام كالنهار، ثم إن الخدم صاروا ينقلون آلات المشروب، فقال أبو الحسن: إن هذه الآلات والمشروب والتحف ما رأيت مثلها، وهذا شيء من أصناف الجواهر ما سمعت بمثله، وقد خُيِّلَ لي أنني في المنام، وقد اندهش عقلي، وخفق قلبي. وأما علي بن بكار فإنه لما فارقته شمس النهار لم يزل مطروحًا على الأرض من شدة العشق، فلما أفاق صار ينظر إلى هذه الفعال التي لا يوجد مثلها، فقال لأبي الحسن: أخي، أخشى أن ينظرنا الخليفة أو يعلم حالنا، وأكثر خوفي عليك، وأما أنا فإني أعلم أن نفسي من الهالكين، وما سبب موتي إلا العشق والغرام، وفرط الوَجْد والهيام، ونرجو من الله الخلاص مما بُلِينا به. ولم يزل علي بن بكار وأبو الحسن ينظران من الروشن إلى الخليفة وما هو فيه، حتى تكاملت الحضرة بين يدي الخليفة، ثم إن الخليفة التفت إلى جاريةٍ من الجواري وقال: هاتي ما عندك يا غرام من السماع المطرب. فأطربت بالنغمات، وأنشدت هذه الأبيات:
فلما سمعت شمس النهار هذا الشعر وقعت مغشيًّا عليها من فوق الكرسي الذي كانت عليه، وغابت عن الوجود، فقام الجواري واحتملنها، فلما نظر إليها علي بن بكار من الروشن وقع مغشيًّا عليه، فقال أبو الحسن: إن القضاء قسم الغرام بينكما بالسوية. فبينما هما يتحدثان وإذا بالجارية التي أطلعتهما الروشن جاءتهما وقالت: يا أبا الحسن، انهض أنت ورفيقك وانزلا، فقد ضاقت علينا الدنيا، وأنا خائفة أن يظهر أمرنا، فقوما في هذه الساعة وإلا متنا. فقال أبو الحسن: فكيف ينهض هذا الغلام معي ولا قدرةَ له على النهوض؟ فصارت الجارية ترش ماء الورد على وجهه حتى أفاق، فحمله أبو الحسن هو والجارية ونزلَا به من الروشن، ومشيَا قليلًا، ثم فتحت الجارية بابًا صغيرًا من حديد، وأخرجت أبا الحسن هو وعلي بن بكار على مصطبة، ثم صفَّقت الجارية بيديها، فجاء زورق فيه إنسان يجدف، فأطلعتهما الجارية في الزورق، وقالت للذي في الزورق: أطلعهما في ذلك البر. فلما نزلا في الزورق وفارقا البستان، نظر علي بن بكار إلى القبة والبستان، وودَّعهما بهذين البيتين:
ثم إن الجارية قالت للملاح: أسرع بهما. فصار يجدف لأجل السرعة والجارية معهم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.