فلما كانت الليلة ١٥٧
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجارية قالت لأبي الحسن: إن سيدتي لما سمعت هذا الشعر وقعت مغشيًّا عليها، فأمسكت يدها ورششت ماء الورد على وجهها، فأفاقت، فقلت لها: يا سيدتي، لا تهتكي نفسك، ومَن يحويه قصرك بحياة محبوبك أن تصبري، فقالت: هل في الأمر أكثر من الموت؟ فأنا أطلبه لأن فيه راحتي. فبينما نحن في هذا القول إذ غنَّتْ جارية بقول الشاعر:
فلما فرغَتْ من الشعر وقعَتْ مغشيًّا عليها، فنظرها الخليفة فأتى مسرعًا إليها، وأمر برفع الشراب، وأن تعود كل جارية إلى مقصورتها، وأقام عندها باقي ليلته إلى أن أصبح الصباح، فاستدعى الأطباء وأمرهم بمعالجتها، ولم يعلم بما هي فيه من العشق والغرام، وأقمت عندها حتى ظننت أنه قد صلحت حالها، وهذا الذي عاقني عن المجيء إليكما، وقد خلفت عندها جماعة من خواصها لما أمرتني بالمسير إليكما لآخذ خبر علي بن بكار وأعود إليها. فلما سمع أبو الحسن كلامها تعجَّبَ وقال لها: والله إني أخبرتك بجميع ما كان من أمره، فعودي إلى سيدتك، وسلمي عليها، وحثِّيها على الصبر، وقولي لها: اكتمي السر، وأخبريها أني عرفت أمرها، وهو أمر صعب يحتاج إلى التدبير. فشكرَتْه الجارية، ثم ودَّعته، وانصرفت إلى سيدتها.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر أبي الحسن، فإنه لم يزل في دكانه إلى آخر النهار، فلما مضى النهار قام وقفل دكانه، وأتى إلى دار علي بن بكار، فدقَّ الباب فخرج له بعض غلمانه وأدخله، فلما دخل عليه، تبسَّمَ واستبشر بقدومه، وقال له: يا أبا الحسن، أوحشتني لتخلُّفِك عني في هذا اليوم، وروحي متعلقة بك باقي عمري. فقال له أبو الحسن: دَعْ هذا الكلام، فلو أمكن فداك كنت أفديك بروحي، وفي هذا اليوم جاءت جارية شمس النهار، وأخبرتني أنه ما عاقها عن المجيء إلا جلوس الخليفة عند سيدتها، وأخبرتني بما كان من أمر سيدتها. وحكى له جميع ما سمعه من الجارية؛ فتأسَّفَ علي بن بكار غاية التأسُّف وبكى، ثم التفت إلى أبي الحسن وقال له: بالله أن تساعدني على ما بُليت به، وأخبرني ماذا تكون الحيلة؟ وأسألك من فضلك المبيتَ عندي هذه الليلة لأستأنس بك. فامتثل أبو الحسن أمره، وأجابه إلى المبيت عنده، وباتا يتحدثان في تلك الليلة، ثم إن علي بن بكار بكى وأرسل العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ علي بن بكار من شعره صرخ صرخة عظيمة، ووقع مغشيًّا عليه، فظن أبو الحسن أن روحه خرجت من جسده، ولم يزل في غشيته حتى طلع النهار، فأفاق وتحدث مع أبي الحسن، ولم يزل أبو الحسن جالسًا عند علي بن بكار إلى ضحوة النهار، ثم انصرف من عنده، وجاء إلى دكانه وفتحها، وإذا بالجارية جاءته، ووقفت عنده، فلما نظر إليها أومأت إليه بالسلام، فردَّ عليها السلام، وبلَّغته سلامَ سيدتها، وقالت له: كيف حال علي بن بكار؟ فقال لها: يا جارية لا تسألي عن حاله وما هو فيه من شدة الغرام؛ فإنه لا ينام الليل، ولا يستريح بالنهار، وقد أنحله السهر، وغلب عليه الضجر، وصار في حال لا يسرُّ حبيبًا. فقالت له: إن سيدتي تسلِّم عليك وعليه، وقد كتبت له ورقة، وهي في حال أعظم من حاله، وقد سلَّمَتْني الورقةَ وقالت: لا تأتيني إلا بجوابها، وافعلي ما أمرتُكِ به. وها هي الورقة معي، فهل لك أن تسير معي إلى علي بن بكار، ونأخذ منه الجواب؟ فقال لها أبو الحسن: سمعًا وطاعةً. ثم قفل الدكان، وأخذ معه الجارية، وذهب بها من مكان غير الذي جاء منه، ولم يزالا سائرين حتى وصلَا إلى دار علي بن بكار، ثم أوقف الجارية على الباب ودخل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.