فلما كانت الليلة ١٣٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الوزير لما أخذ مفاتيح الدكان توجَّهَ إليها هو والغلامان، ووضعوا فيها أمتعتهم، وأمروا غلمانهم أن ينقلوا إليها جميعَ ما عندهم من البضائع والقماش والتحف، وكان ذلك شيئًا يساوي خزائن مال، فنقلوا جميعَ ذلك إلى الدكان وباتوا تلك الليلة. فلما أصبح الصباح، أخذهما الوزير ودخل بهما الحمام، فلما دخلوا الحمام تنظفوا وأخذوا غايةَ حظِّهم، وكان كلٌّ من الغلامين ذا جمال باهر، فصار في الحمام على حد قول الشاعر:
ثم خرجَا من الحمام، وكان شيخ السوق لما سمع بدخولهما الحمامَ قعد في انتظارهما، وإذا بهما قد أقبلَا وهما كالغزالين، وقد احمرَّتْ خدودهما واسودَّتْ عيونهما ولمعت أبدانهما، فكأنهما غصنان مثمران أو قمران زاهيان. فقال لهما: يا أولادي، حمَّامكم نعيم دائم. فقال تاج الملوك بأعذب كلام: ليتك كنتَ معنا. ثم إن الاثنين قبَّلَا يدَيْه ومشيَا قدامه حتى وصلَا إلى الدكان تعظيمًا له؛ لأنه كبير السوق، وقد أحسن إليهما بإعطائهما الدكان. فلما رأى أردافهما في ارتجاج، زاد به الوَجْد وهاج، وشخر ونخر، ولم يَبْقَ له مصطبر؛ فأحدق بهما العينين وأنشد هذين البيتين:
فلما سمعَا منه هذا الشعر، أقسمَا عليه أن يدخل معهما الحمَّام، وكانا قد تركَا الوزير داخل الحمام؛ فلما دخل معهما شيخ السوق الحمامَ ثاني مرة، سمع الوزير بدخوله، فخرج إليه من الخلوة واجتمع به في وسط الحمام وعزم عليه فامتنع، فمسك في إحدى يديه تاج الملوك وفي يده الأخرى عزيز، ودخلَا به خلوة أخرى، فانقاد لهما ذلك الشيخ الخبيث، فحلف تاج الملوك ألَّا يحمِّيه غيره، وحلف عزيز ألَّا يصب عليه الماء غيره، فقال له الوزير: إنهما أولادك. فقال شيخ السوق: أبقاهما الله لك، لقد حلَّتْ في مدينتنا البركةُ والسعود بقدومكم وقدوم أتباعكم. ثم أنشد هذين البيتين:
فشكروه على ذلك، وما زال تاج الملوك يحميه وعزيز يصبُّ عليه الماء، وهو يظن أن روحه في الجنة، حتى أتمَّا خدمته، فدعا لهما، وجلس جنب الوزير على أنه يتحدَّث معه، ولكن معظم قصده النظر إلى تاج الملوك وعزيز، ثم بعد ذلك جاءت لهم الغلمان بالمناشف، فتنشفوا ولبسوا حوائجهم ثم خرجوا من الحمام، فأقبل الوزير على شيخ السوق وقال له: يا سيدي، إن الحمام نعيم الدنيا. فقال شيخ السوق: جعله الله لك ولأولادك عافيةً، وكفاهما الله شرَّ العين، فهل تحفظون شيئًا مما قالته البلغاء في الحمَّام؟ فقال تاج الملوك: أنا أنشد لك بيتين وهما:
فلما فرغ تاج الملوك من شعره قال عزيز: وأنا أحفظ في الحمَّام شيئًا. فقال شيخ السوق: أسمعني إياه. فأنشد هذين البيتين:
فلما فرغ عزيز من شعره، تعجَّبَ شيخ السوق من صباحتهما وفصاحتهما وقال لهما: والله لقد حزتُمَا الفصاحةَ والملاحة، فاسمعا أنتما مني. ثم أطرب النغمات وأنشد هذه الأبيات:
ثم سرح في رياض حسنهما نظر العين، وأنشد هذين البيتين:
فلما سمعوا ذلك، تعجبوا من هذه الأبيات، ثم إن شيخ السوق عزم عليهم فامتنعوا ومضوا إلى منزلهم ليستريحوا من تعب الحمام، ثم أكلوا وشربوا وباتوا تلك الليلة في منزلهم على أتم ما يكون من الحظ والسرور. فلما أصبح الصباح، قاموا من نومهم وتوضئوا وصلوا فرضهم واصطبحوا، ولما طلع النهار وفتحت الدكاكين والأسواق، خرجوا من المنزل وتوجهوا إلى السوق وفتحوا الدكان، وكان الغلمان قد هيَّئُوها أحسن هيئة وفرشوها بالبسط الحرير، ووضعوا فيها مرتبتين، كل واحدة منهما تساوي مائة دينار، وجعلوا فوق كل مرتبة نطعًا ملوكيًّا دائره من الذهب؛ فجلس تاج الملوك على مرتبة، وجلس عزيز على الأخرى، وجلس الوزير في وسط الدكان، ووقف الغلمان بين أيديهم، وتسامعت بهم الناس، فازدحموا عليهم وباعوا بعض أقمشتهم، وشاع ذكر تاج الملوك في المدينة، واشتهر فيها خبر حُسْنه وجماله، ثم أقاموا على ذلك أيامًا، وفي كل يوم يهرع الناس إليهم، فأقبل الوزير على تاج الملوك وأوصاه بكتمان أمره، وأوصى عليه عزيزًا ومضى إلى الدار ليدبِّر أمرًا يعود نفعه عليهم، وصار تاج الملوك وعزيز يتحادثان، وصار تاج الملوك يقول عسى أن يجيء أحد من عند السيدة دنيا. وما زال تاج الملوك على ذلك أيامًا وليالي وهو لا ينام، وقد تمكَّنَ منه الغرام، وزاد به النحول والأسقام، حتى حُرِم لذيذ المنام، وامتنع من الشراب والطعام، وكان كالبدر في تمامه؛ فبينما تاج الملوك جالس، وإذا بعجوز أقبلت عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.