فلما كانت الليلة ١٥٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن أبا الحسن ودَّع الجارية ورجع إلى دكانه، فلما جلس فيه وجد قلبه انقبض، وضاق صدره، وتحيَّرَ في أمره، ولم يزل في فكرٍ بقيةَ يومه، وفي اليوم الثاني ذهب إلى علي بن بكار، وجلس عنده حتى ذهبت الناس، وسأله عن حاله فأخذ في شكوى الغرام، وما به من الوَجْد والهيام، وأنشد قول الشاعر:
وقول الشاعر:
فقال له أبو الحسن: أنا ما رأيت ولا سمعت بمثلك في محبتك، كيف يكون هذا الوَجْد وضعف الحركة، وقد تعلَّقت بحبيب موافق؟ فكيف إذا تعلَّقت بحبيب مخالف مخادع، فكان أمرك ينكشف؟ قال أبو الحسن: فركن علي بن بكار إلى كلامي، وشكرني على ذلك، وكان لي صاحب يطلع على أمري وأمر علي بن بكار، ويعلم أننا متوافقان، ولم يعلم أحدٌ ما بيننا غيره، وكان يأتيني فيسألني عن حال علي بن بكار، وبعد قليل سألني عن الجارية، فقلت له: قد دعته إليها، وكان بينه وبينها ما لا مزيد عليه، وهذا آخِر ما انتهى من أمرهما، ولكني دبرت لنفسي أمرًا أريد إعراضه عليك. فقال له صاحبه: ما هو؟ قال أبو الحسن: اعلم أني رجل معروف بكثرة المعاملات بين الرجال والنساء، وأخشى أن ينكشف أمرهما فيكون سببًا لهلاكي وأخذ مالي وهتك عيالي، وقد اقتضى رأيي أن أجمع مالي، وأجهز حالي، وأتوجه إلى مدينة البصرة، وأقيم بها حتى أنظر ما يكون من أحوالهما بحيث لا يشعر بي أحد، فإنَّ المحبة قد تمكنت منهما، ودارت المراسلة بينهما؛ والحال أن الماشي بينهما جارية، وهي كاتمة لأسرارهما، وأخشى أن يغلب عليها الضجر فتبوح بسرِّهما لأحد فيشيع خبرهما، ويؤدي ذلك إلى الهلاك، ويكون سببًا لتلفي، وليس لي عذر عند الناس. فقال له صاحبه: قد أخبرتني بخبر خطير يخاف من مثله العاقل الخبير، كفاك الله شر ما تخافه وتخشاه، ونجَّاك مما تخاف عقباه، وهذا الرأي هو الصواب.
فانصرف أبو الحسن إلى منزله، وصار يقضي مصالحه، ويتجهز للسفر إلى مدينة البصرة، فما مضى ثلاثة أيام حتى قضى مصالحه، وسافر إلى البصرة، فجاء صاحبه بعد ثلاثة أيام ليزوره فلم يجده، فسأل عنه جيرانه فقالوا له: إنه توجه من مدة ثلاثة أيام إلى البصرة؛ لأن له معاملة عند تجارها، فذهب ليطالب أرباب الديون، وعن قريب يأتي. فاحتار الرجل في أمره، وصار لا يدري أين يذهب، وقال: يا ليتني لم أفارق أبا الحسن. ثم دبَّر حيلةً يتوصَّل بها إلى علي بن بكار، فقصد داره وقال لبعض غلمانه: استأذِنْ لي سيدك لأدخل أسلم عليه. فدخل الغلام وأخبر سيده به، ثم عاد إليه وأذن له في الدخول، فدخل عليه فوجده ملقًى على الوسادة، فسلَّمَ عليه فردَّ عليه السلام ورحَّب به، ثم إن ذلك الرجل اعتذر إليه في تخلفه عنه تلك المدة، ثم قال له: يا سيدي، إن بيني وبين أبي الحسن صداقة، وإني كنت أودعه أسراري، ولا أنقطع عنه ساعة، فغبت في بعض المصالح مع جماعة من أصحابي مدة ثلاثة أيام، ثم جئت إليه فوجدتُ دكانه مقفولة، فسألت عنه الجيران فقالوا إنه توجه إلى البصرة، ولم أعلم له صديقًا أوفى منك، فبالله أن تخبرني بخبره. فلما سمع علي بن بكار كلامه تغيَّر لونه واضطرب، وقال: لم أسمع قبل هذا اليوم خبرَ سفَرِه، وإنْ كان الأمر كما ذكرتَ فقد حصل لي التعب. ثم أفاض دمع العين، وأنشد هذين البيتين:
ثم إن علي بن بكار أطرق رأسه إلى الأرض يتفكر، وبعد ساعة رفع رأسه إلى خادم له، وقال له: امضِ إلى دار أبي الحسن، واسأل عنه هل هو مقيم أو مسافر؟ فإن قالوا سافر فاسأل إلى أي ناحية توجَّه. فمضى الغلام، وغاب ساعة، ثم أقبل إلى سيده وقال: إني لما سألت عن أبي الحسن أخبرني أتباعه أنه سافر إلى البصرة، ولكن وجدت جارية واقفة على الباب، فلما رأتني عرفتني ولم أعرفها، وقالت لي: هل أنت غلام علي بن بكار؟ فقلت لها: نعم. فقالت: إني معي رسالة إليه من عند أعز الناس عليه. فجاءت معي، وهي واقفة على الباب. فقال علي بن بكار: أدخلها. فطلع الغلام إليها وأدخلها، فنظر الرجل الذي عند ابن بكار إلى الجارية، فوجدها ظريفة، ثم إن الجارية تقدَّمَتْ إلى علي بن بكار وسلَّمَتْ عليه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.