فلما كانت الليلة ١٦١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري ودَّعه وانصرف وهو لا يدري كيف يعمل في إسعاف علي بن بكار، وما زال ماشيًا وهو متفكر في أمره إذ رأى ورقة مطروحة في الطريق، فأخذها ونظر عنوانها وقرأه، فإذا هو: «من المحب الأصغر إلى الحبيب الأكبر»، ففتح الورقة فرأى مكتوبًا فيها هذان البيتان:
وبعدُ؛ فاعلم يا سيدي أنني لم أدرِ سببَ قطع المراسلة بيني وبينك، فإن يكن صدَرَ منك الجفاء فأنا أقابله بالوفاء، وإن يكن ذهب منك الوداد فأنا أحفظ الودَّ على البعاد، فأنا معك كما قال الشاعر:
فلما قرأها، وإذا بالجارية أقبلت وهي تتلفت يمينًا وشمالًا، فرأت الورقة في يده، فقالت له: يا سيدي، إن هذه الورقة وقعت مني. فلم يردَّ عليها جوابًا ومشى، ومشت الجارية خلفه إلى أن أقبل على داره ودخل والجارية خلفه، فقالت له: يا سيدي، ردَّ لي هذه الورقة فإنها سقطت مني. فالتفت إليها وقال: يا جارية لا تخافي ولا تحزني، ولكن أخبريني بالخبر على وجه الصدق فإني كتوم للأسرار، وأحلِّفك يمينًا أنك لا تخفي عني شيئًا من أمر سيدتك، فعسى الله أن يعينني على قضاء أغراضها، ويسهل الأمور والصعاب على يدي. فلما سمعت الجارية كلامه قالت: يا سيدي، ما ضاع سرٌّ أنت حافِظُه، ولا خابَ أمرٌ أنت تسعى في قضائه، اعلم أن قلبي مال إليك، فأنا أخبرك بحقيقة الأمر وأعطني الورقة. ثم أخبرته بالخبر كله، وقالت: الله على ما أقول شهيد. فقال لها: صدقتِ؛ فإن عندي علمًا بأصل الخبر. ثم حدَّثَها بحديث علي بن بكار، وكيف أخذ ضميره، وأخبرها بالخبر من أوله إلى آخره. فلما سمعت ذلك فرحت، واتفقَا على أنها تأخذ الورقة وتعطيها لعلي بن بكار، وبجميع ما يحصل ترجع إليه وتخبره، فأعطاها الورقةَ فأخذتها وختمتها كما كانت، وقالت: إن سيدتي شمس النهار أعطتها لي مختومةً، فإذا قرأها وردَّ لي جوابها آتيك به. ثم إن الجارية ودَّعَتْه وتوجَّهَتْ إلى علي بن بكار فوجدته في الانتظار، فأعطته الورقة وقرأها، ثم كتب لها ورقة رد الجواب وأعطاها لها، فأخذتها ورجعت بها إلى الجوهري حكم الاتفاق، ففضَّ ختمها وقرأها، فرأى مكتوبًا فيها:
وبعدُ؛ فإنني لم يصدر مني جفاء، ولا تركت وفاء، ولا نقضت عهدًا، ولا قطعت ودًّا، ولا فارقت أسفًا، ولا لقيت بعد الفراق إلا تلفًا، ولا علمت أصلًا بما ذكرتم، ولا أحب غير ما أحببتم، وحقِّ عالم السر والنجوى ما قصدي غير الاجتماع بمَن أهوى، وشأني كتمان الغرام، وإنْ أمرضني السقام، وهذا شرح حالي، والسلام.
فلما قرأ الجوهري هذه الورقة وعرف ما فيها، بكى بكاءً شديدًا، ثم إن الجارية قالت له: لا تخرج من هذا المكان حتى أعود إليك؛ لأنه قد اتهمني بأمر من الأمور، وهو معذور، وأنا أريد أن أجمع بينك وبين سيدتي شمس النهار بأي حيلة، فإني تركتها مطروحة، وهي تنتظر مني رد الجواب. ثم إن الجارية مضت إلى سيدتها، وبات الجوهري مشوش الخاطر، فلما أصبح الصباح، صلى الصبح وقعد ينتظر قدومها، وإذا بها أقبلت وهي فرحانة إلى أن دخلت عليه، فقال لها: ما الخبر يا جارية؟ فقالت: مضيت من عندك إلى سيدتي ودفعت لها الورقة التي كتبها علي بن بكار، فلما قرأتها وفهمت معناها، تحيَّر فكرها، فقلت لها: يا سيدتي، لا تخشي من فساد الأمر بينكما بسبب غياب أبي الحسن؛ فإني وجدتُ مَن يقوم مقامه، وهو أحسن منه وأعلى مقدارًا وأهلًا لكتمان الأسرار. وقد حدَّثْتُها بما بينك وبين أبي الحسن، وكيف توصَّلْتَ إليه وإلى علي بن بكار، وكيف سقطت تلك الرقعة مني ووقعتَ أنت عليها، وأخبرتها بما استقر عليه الأمر بيني وبينك. فتعجَّب الجوهري غاية العجب، ثم قالت له: إنها تشتهي أن تسمع كلامك لأجل أن تؤكد عليه فيما بينك وبينه من العهود، فاعزم في هذا الوقت على المسير معي إليها.
فلما سمع الجوهري كلام الجارية، رأى أن الدخول عليها أمر عظيم وخطر جسيم، لا يمكن الدخول فيه ولا التهجُّم عليه، فقال الجوهري للجارية: يا أختي، إني من أولاد العوام ولم أكن كأبي الحسن؛ لأن أبا الحسن كان رفيع المقدار، معروفًا بالاشتهار، مترددًا على دار الخلافة لاحتياجهم إلى بضاعته، وأما أنا فإن أبا الحسن كان يحدِّثني وأنا أرتعد بين يديه، وإذا كانت سيدتك رغبت في حديثي لها، فينبغي أن يكون ذلك في غير دار الخلافة، بعيدًا عن محل أمير المؤمنين؛ لأن جَناني لا يطاوعني على ما تقولين. ثم امتنع عن المسير معها، وصارت تتضمن له السلامة وتقول له: لا تخشَ ولا تَخَفْ. فبينما هما في هذا الكلام إذ لعبت رجلاه وارتعشت يداه، فقالت له الجارية: إن كان يصعب عليك الرواح إلى دار الخلافة، ولا يمكنك المسير معي، فأنا أجعلها تسير إليك، فلا تبرح من مكانك حتى أرجع إليك بها.
ثم إن الجارية مضت ولم تغب إلا قليلًا، وعادت إلى الجوهري وقالت له: احذر أن يكون عندك جارية أو غلام. فقال: ما عندي غير جارية سوداء كبيرة السن تخدمني. فقامت الجارية وأغلقت الأبواب بين جارية الجوهري وبينه، وصرفت غلمانه إلى خارج الدار، ثم خرجت الجارية وعادت ومعها جارية خلفها، ودخلت دار الجوهري فأعبقت الدار من الطيب، فلما رآها الجوهري نهض قائمًا ووضع لها مخدة، وجلس بين يديها، فمكثت ساعة لا تتكلم حتى استراحت، ثم كشفت وجهها فخُيِّل للجوهري أن الشمس أشرقت في منزله، ثم قالت لجاريتها: أهذا الرجل الذي قلتِ لي عليه؟ فقالت الجارية: نعم. فالتفتت إلى الجوهري وقالت له: كيف حالك؟ قال: بخير. ودعا لها، فقالت: إنك حمَّلتنا المسير إليك، وأن نطلعك على ما يكون من سر نائم. ثم سألته عن أهله وعياله، فأخبرها بجميع أحواله، وقال لها: إن لي دارًا غير هذه الدار جعلتها للاجتماع بالأصحاب والإخوان، وليس لي فيها إلا ما ذكرته لجاريتك. ثم سألته عن كيفية اطِّلاعه على أصل القصة، فأخبرها بما سألَتْه عنه من أول الأمر إلى آخره، فتأوَّهت على فراق أبي الحسن وقالت: يا فلان، اعلم أن أرواح الناس متلائمة في الشهوات، والناس بالناس، لا يتم عمل إلا بقول، ولا يتم غرض إلا بسعي، ولا تحصل راحة إلا بعد تعب … وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.