فلما كانت الليلة ١٦٤
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الجوهري لما سمع هذا الكلام رجع إلى داره التي هو ساكن بها، وقال في نفسه: إن الذي حصل لي هو الذي خاف منه أبو الحسن وذهب إلى البصرة، وقد وقعت فيه. ثم إنَّ نهْبَ داره اشتهر عند الناس، فأقبلوا إليه من كل جانب ومكان، فمنهم مَن هو شامت ومنهم مَن هو حامل همَّه، فصار يشكو لهم، ولم يأكل طعامًا ولم يشرب شرابًا؛ فبينما هو جالس متندم، وإذا بغلام من غلمانه دخل عليه وقال له: إن شخصًا بالباب يدعوك لم أعرفه. فخرج إليه الجوهري وسلَّم عليه ووجده إنسانًا لم يعرفه، فقال له الرجل: إن لي حديثًا بيني وبينك. فأدخله الدار وقال له: ما عندك من الحديث؟ فقال الرجل: امضِ معي إلى دارك الثانية. فقال الجوهري: وهل تعرف داري الثانية؟ فقال: إن جميع خبرك عندي، وعندي أيضًا ما يفرج الله به همك. فقلت في نفسي: أنا أمضي معه حيث أراد. ثم توجهت إلى أن أتينا الدار، فلما رأى الرجل الدار قال: إنها بغير بواب، ولا يمكن القعود فيها، فامضِ معي إلى غيرها.
فلم يزل الرجل يدور بي من مكان إلى مكان وأنا معه حتى دخل علينا الليل، ولم أسأله عن أمر من الأمور، ثم إنه لم يزل يمشي وأنا أمشي معه حتى خرجنا إلى الفضاء وهو يقول: اتبعني. وصار يهرول في مشيه، وأنا أهرول وراءه حتى وصلنا إلى البحر، فطلع بنا في زورق وقذف بنا الملاح حتى عدَّانا إلى البر الثاني، فنزل من ذلك الزورق ونزلت خلفه، ثم إنه أخذ بيدي ونزل بي في درب لم أدخله طول عمري، ولم أعلم هو في أي ناحية، ثم إن الرجل وقف على باب دار وفتحها ودخل وأدخلني معه، وأغلق بابها بقفل من حديد، ثم مشى بي في دهليزها حتى دخلنا على عشرة رجال كأنهم رجل واحد، وهم إخوة، فلما دخلنا عليهم سلَّم عليهم ذلك الرجل، فردوا عليه السلام، ثم أمروني بالجلوس فجلست، وكنت ضعفت من شدة التعب، فجاءوا إليَّ بماء ورد ورشُّوه على وجهي، وسقوني شرابًا، وقدموا إليَّ طعامًا، فقلت: لو كان في الطعام شيء مضرٌّ ما أكلوا معي. فلما غسلنا أيدينا عاد كلٌّ منا إلى مكانه، وقالوا: هل تعرفنا؟ فقلت: لا، ولا عمري عرفت موضعكم، بل ولا أعرف مَن جاء بي إليكم. فقالوا: أطلِعْنا على خبرك ولا تكذب في شيء. فقلت لهم: اعلموا أن حالي عجيب، وأمري غريب، فهل عندكم شيء من خبري؟ قالوا: نعم، نحن الذين أخذنا أمتعتك في الليلة الماضية، وأخذنا صديقك والتي كانت تغني. فقلت لهم: أسبل الله عليكم ستره، أين صديقي هو والتي كانت تغني؟ فأشاروا لي بأيديهم إلى ناحية، وقالوا: ها هنا، ولكن والله يا أخي ما ظهر على سرِّهما أحدٌ منَّا، ومن حيث أتينا بهما لم نجتمع بهما، ولم نسألهما عن حالهما؛ لما رأينا عليهما من الهيبة والوقار، وهذا هو الذي منعنا عن قتلهما، فأخبرنا عن حقيقة أمرهما، وأنت في أمان على نفسك وعليهما. قال الجوهري: فلما سمعت هذا الكلام كدت أن أهلك من الخوف والفزع، وقلت لهم: اعلموا أن المروءة إذا ضاعت لا توجد إلا عندكم، وإذا كان عندي سرٌّ أخاف إفشاءه فلا يخفيه إلا صدوركم. وصرت أبالغ في هذا المعنى، ثم إن وجدت المبادرة لهم بالحديث أنفع من كتمانه، فحدَّثتهم بجميع ما وقع لي حتى انتهيت إلى آخر الحديث.
فلما سمعوا حكايتي قالوا: وهل هذا الفتى علي بن بكار، وهذه شمس النهار؟ فقلت لهم: نعم. فذهبوا إليهما، واعتذروا لهما، ثم قالوا لي: إن الذي أخذناه من دارك ذهب بعضه، وهذا ما بقي منه. ثم ردوا إليَّ أكثر الأمتعة، والتزموا أنهم يعيدونها إلى محلها في داري، ويردُّون لي الباقي، ولكنهم انقسموا نصفين: فصار قسم منهم معي، وقسم منهم عليَّ، ثم خرجنا من تلك الدار.
هذا ما كان من أمري، وأما ما كان من أمر علي بن بكار وشمس النهار؛ فإنهما قد أشرفا على الهلاك من الخوف، ثم تقدَّمت إلى علي بن بكار وشمس النهار، وسلمت عليهما، وقلت لهما: يا ترى ما جرى للجارية والوصيفتين؟ وأين ذهبن؟ فقالا: لا علم لنا بهن. ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المكان الذي فيه الزورق، فأطلعونا فيه، وإذا هو الزورق الذي عدَّينا فيه بالأمس، فقذف بنا الملاح حتى أوصلنا إلى البر الثاني فأنزلونا، فما استقر بنا الجلوس على جانب البر حتى جاءت خيالة، وأحاطوا بنا من كل جانب، فوثب الذين معنا عاجلًا كالعقاب، فرجع لهم الزورق فنزلوا فيه وسار بهم في البحر، وبقيت أنا وعلي بن بكار وشمس النهار على شاطئ البحر لا نستطيع حركة ولا سكونًا، فقال لنا الخيالة: من أين أنتم؟ فتحيرنا في الجواب، قال الجوهري: فقلت لهم: إن الذين رأيتموهم معنا لا نعرفهم، وإنما رأيناهم هنا، وأما نحن فمغنيون، وأرادوا أخذنا لنغني لهم، فما تخلَّصنا منهم إلا بالحيلة ولين الكلام، فأفرجوا عنا في هذه الساعة، وقد كان منهم ما رأيتم من أمرهم.
فنظر الخيالة إلى شمس النهار وإلى علي بن بكار، ثم قالوا لي: لستَ صادقًا في كلامك، فإن كنتَ صادقًا فأخبرنا مَن أنتم؟ ومَن أين أنتم؟ وما موضعكم؟ وفي أي الحارات أنتم ساكنون؟ قال الجوهري: فلم أدرِ ما أقول. فوثبَتْ شمس النهار، وتقدمت إلى مقدِّم الخيالة، وتحدثت معه سرًّا، فنزل من فوق جواده وأركبها عليه، وأخذ بزمامها وصار يقودها، وكذلك فعل بعلي بن بكار، وفعل بي أيضًا، ثم إن مقدم الخيالة لم يزل سائرًا بنا إلى موضع على جانب البحر، وصاح بالرطانة، فأقبل له جماعة من البرية فطلَّعنا المقدم في زورق، وطلَّع أصحابه في زورق آخر، وقذفوا بنا إلى أن انتهينا إلى دار الخلافة، ونحن نكابد الموت من شدة الخوف، ولم نزل سائرين إلى أن انتهينا إلى المحل الذي نتوصَّل منه إلى موضعنا. فنزلنا إلى البر ومشينا، ومعنا جماعة من خيالة يؤانسوننا إلى أن دخلنا الدار، وحين دخلناها ودَّعَنا مَن كان معنا من الخيالة، ومضوا إلى حال سبيلهم، وأما نحن فقد دخلنا مكاننا ونحن لا نقدر أن نتحرك من مكاننا، ولا ندري الصباح من المساء، ولم نزل على هذه الحالة إلى أن أصبح الصباح، فلما جاء آخر النهار سقط علي بن بكار مغشيًّا عليه، وبكى عليه النساء والرجال، وهو مطروح لم يتحرك، فجاءني بعض أهله وقالوا: حدِّثنا بما جرى لولدنا، وأخبرنا بسبب الحال الذي هو فيه. فقلت لهم: يا قوم اسمعوا كلامي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.