فلما كانت الليلة ١٣٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير دندان قال لضوء المكان: فبينما تاج الملوك جالس، وإذا بعجوز أقبلت عليه وتقدمت إليه وخلفها جاريتان، وما زالت ماشية حتى وقفت على دكان تاج الملوك، فرأت قدَّه واعتدالَه وحُسْنَه وجماله، فتعجبت من ملاحته ورشحت في سراويلها، ثم قالت: سبحان مَن خلقك من ماء مهين، سبحان مَن جعلك فتنةً للعالمين، ولم تزل تتأمَّل فيه وتقول: ما هذا بشر، إن هذا إلا ملك كريم. ثم دنت منه وسلمت عليه، فردَّ عليها السلام، وقام لها واقفًا على الأقدام، وتبسَّمَ في وجهها؛ هذا كله بإشارة عزيز. ثم أجلسها إلى جانبه وصار يروح عليها إلى أن استراحت، ثم إن العجوز قالت لتاج الملوك: يا ولدي يا كامل الأوصاف والمعاني، هل أنت من هذه الديار؟ فقال تاج الملوك بكلام فصيح عذب مليح: والله يا سيدتي، عمري ما دخلت هذه الديار إلا هذه المرة، ولا أقامت فيها إلا على سبيل الفرجة. فقالت: لك الإكرام من قادم على الرحب والسعة، ما الذي جئتَ به معك من القماش؟ فأرني شيئًا مليحًا، فإن المليح لا يحمل إلا المليح.
فلما سمع تاج الملوك كلامها خفق فؤاده ولم يفهم معنى كلامها، فغمزه عزيز بالإشارة، فقال لها تاج الملوك: عندي كل ما تشتهين من الشيء الذي لا يصلح إلا للملوك وبنات الملوك، فلمَن تريدين حتى أقلِّب عليك ما يصلح لأربابه؟ وأراد بذلك الكلام أن يفهم معنى كلامها. فقالت له: أريدها قماشًا يصلح للسيدة دنيا بنت الملك شهرمان. فلما سمع تاج الملوك ذِكْر محبوبته، فرح فرحًا شديدًا وقال لعزيز: ائتني بأفخر ما عندك من البضاعة. فأتاه عزيز ببقجة وحلها بين يديه، فقال لها تاج الملوك: اختاري ما يصلح لها، فإن هذا شيء لا يوجد عند غيري. فاختارت العجوز شيئًا يساوي ألف دينار وقالت: بكم هذا؟ وصارت تحدِّثه وتحكُّ بين أفخاذها بكلوة يديها، فقال لها: وهل أساوم مثلك في هذا الشيء الحقير؟ الحمد لله الذي عرَّفني بك. فقالت له العجوز: أعوذ وجهَك المليح برب الفلق، إن وجهك مليح وفعلك مليح، هنيئًا لمَن تنام في حضنك وتضم قوامك الرجيح، وتحظى بوجهك الصبيح، وخصوصًا إذا كانت صاحبة حُسْن مثلك. فضحك تاج الملوك حتى استلقى على قفاه، ثم قال: يا قاضي الحاجات على أيدي العجائز الفاجرات. فقالت له: يا ولدي ما الاسم؟ قال: اسمي تاج الملوك. فقالت: إن هذا الاسم من أسماء الملوك، ولكنك في زيِّ التجار. فقال لها عزيز: من محبته عند أهله ومعزته عليهم سموه بهذا الاسم. فقالت العجوز: صدقتَ، كفاكم الله شر الحساد، ولو فتَّتَ بمحاسنكم الأكباد.
ثم أخذت القماش ومضت وهي باهتة في حُسْنه وجماله وقدِّه واعتداله، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا وقالت لها: يا سيدتي، جئتُ لك بقماش مليح. فقالت لها: أرني إياه. فقالت: يا سيدتي ها هو، فقلِّبيه وانظريه. فلما رأته السيدة دنيا قالت لها: يا دادتي، إن هذا قماش مليح ما رأيته في مدينتنا. فقالت العجوز: يا سيدتي، إن بائعه أحسن منه، كأنَّ رضوانًا فتح أبواب الجنان وسها فخرج منها التاجر الذي يبيع هذا القماش، وأنا أشتهي في هذه الليلة أن يكون عندك وينام بين نهودك؛ فإنه فتنة لمَن يراه، وقد جاء مدينتنا بهذه الأقمشة لأجل الفرجة. فضحكت السيدة دنيا من كلام العجوز وقالت: أخزاك الله يا عجوز النحس، إنك خرفت ولم يبقَ لك عقل. ثم قالت: هات القماش حتى أبصره بصرًا جيدًا. فناولتها إياه فنظرته ثانيًا فرأته شيئًا قليلًا وثمنه كثير، وتعجَّبَتْ من حُسْن ذلك القماش؛ لأنها ما رأت في عمرها مثله، فقالت لها العجوز: يا سيدتي، فلو رأيتِ صاحبَه لَعرفتِ أنه أحسن مَن يكون على وجه الأرض. فقالت لها السيدة دنيا: هل سألتِه إن كان له حاجة يُعلِمنا بها فنقضيها له؟ فقالت العجوز وقد هزَّتْ رأسها: حفظ الله فراستَكِ، والله إن له حاجة، وهل أحد يخلو من حاجة؟ فقالت لها السيدة دنيا: اذهبي إليه وسلِّمي عليه وقولي له: شرفَتْ بقدومك مدينتُنا، ومهما كان لك من الحوائج قضيناه لك على الرأس والعين. فرجعت العجوز إلى تاج الملوك في الوقت، فلما رآها طار قلبه من الفرح، ونهض لها قائمًا على قدميه، وأخذ يدها وأجلسها إلى جانبه؛ فلما جلست واستراحت، أخبرته بما قالته السيدة دنيا. فلما سمع ذلك فرح غاية الفرح، واتسع صدره وانشرح، وقال في نفسه: قد قضيت حاجتي. ثم قال للعجوز: لعلك توصلين إليها كتابًا من عندي وتأتيني بالجواب. فقالت: سمعًا وطاعة. فلما سمع ذلك منها قال لعزيز: ائتني بدواة وقرطاس، وقلم من نحاس. فلما أتاه بتلك الأدوات كتب هذه الأبيات:
ثم كتب في إمضائه: إن هذا الكتاب، من أسير الأشواق المسجون في سجن الاشتياق، الذي ليس له إطلاق إلا بالوصال ولو بطيف الخيال؛ لأنه يقاسي أليم العذاب من فرقة الأحباب. ثم أفاض دمع العين وكتب هذين البيتين:
ثم طوى الكتاب وختمه وأعطاه العجوز وقال: أوصليه إلى السيدة دنيا. فقالت: سمعًا وطاعة. ثم أعطاها ألف دينار وقال: اقبلي هذه مني هدية. فأخذتها وانصرفت داعية له، ولم تزل ماشية حتى دخلت على السيدة دنيا، فلما رأتها قالت لها: يا دادتي، أي شيء طلب من الحوائج حتى نقضيها له؟ فقالت لها: يا سيدتي، قد أرسل معي كتابًا ولا أعلم بما فيه. ثم ناولتها الكتاب، فأخذته وقرأته وفهمت معناه ثم قالت: من أين إلى أين حتى يراسلني هذا التاجر ويكاتبني؟ ثم لطمت وجهها وقالت: لولا خوفي من الله تعالى لصلبته على دكانه. فقالت العجوز: وأي شيء في هذا الكتاب حتى أزعج قلبك؟ هل فيه شكاية مظلمة، أو فيه طلب ثمن القماش؟ فقالت لها: ويلكِ، ما فيه ذلك، وما فيه إلا عشق ومحبة، وهذا كله منك، وإلا فمن أين يتوصَّل هذا الشيطان إلى هذا الكلام؟ فقالت لها العجوز: يا سيدتي، أنت قاعدة في قصرك العالي، وما يصل إليك أحد ولا الطير الطائر، سلامتك من اللوم والعتاب، وما عليك من نبيح الكلاب، فلا تؤاخذيني حيث أتيتُكِ بهذا الكتاب ولا أعلم ما فيه، ولكن الرأي أن تردي إليه جوابًا وتهدِّديه فيه بالقتل وتنهيه عن هذا الهزيان، فإنه ينتهي ولا يعود. فقالت السيدة دنيا: أخاف أن أكاتبه فيطمع. فقالت العجوز: إنه إذا سمع التهديد والوعيد رجع عمَّا هو فيه. فقالت: عليَّ بدواة وقرطاس، وقلم من نحاس. فلما أحضروا لها تلك الأدوات، كتبت هذه الأبيات:
ثم طوت الكتاب وأعطته للعجوز وقالت لها: أعطيه له وقولي له: كفَّ عن هذا الكلام. فقالت لها: سمعًا وطاعة. ثم أخذت الكتاب وهي فرحانة ومضت إلى منزلها وباتت في بيتها، فلما أصبح الصباح، توجهت إلى دكان تاج الملوك فوجدته في انتظارها، فلما رآها كاد أن يطير من الفرح، فلما قربت منه، نهض إليها قائمًا وأقعدها بجانبه، فأخرجت له الورقة وناولته إياها وقالت له: اقرأ ما فيها. ثم قالت له: إن السيدة دنيا لما قرأَتْ كتابك اغتاظت، ولكنني لاطفتها ومازحتها حتى أضحكتها ورقَّتْ لك وردَّتْ لك الجوابَ. فشكر تاج الملوك على ذلك وأمر عزيزًا أن يعطيها ألف دينار، ثم إنه قرأ الكتاب وفهمه وبكى بكاءً شديدًا، فرَقَّ له قلب العجوز وعظم عليها بكاؤه وشكواه، ثم قالت له: يا ولدي، وأي شيء في هذه الورقة حتى أبكاك؟ فقال لها: إنها تهدِّدني بالقتل والصلب وتنهاني عن مراسلتها، وإن لم أراسلها يكون موتي خيرًا من حياتي، فخذي جوابَ كتابها ودعيها تفعل ما تريد. فقالت له العجوز: وحياة شبابك، لا بد أني أخاطر معك بروحي وأبلغك مرادك وأوصلك إلى ما في خاطرك. فقال لها تاج الملوك: كل ما تفعلينه أجازيك عليه ويكون في ميزانك، فإنك خبيرة بالسياسة وعارفة بأبواب الدناسة، وكل عسير عليك يسير، والله على كل شيء قدير. ثم أخذ ورقة وكتب فيها هذه الأبيات:
ثم إنه تنفَّسَ الصعداءَ وبكى حتى بكت العجوز، وبعد ذلك أخذت الورقة منه وقالت له: طِبْ نفسًا وقَرَّ عينًا، فلا بد أن أبلِّغَك مقصودَك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.