فلما كانت الليلة ١٣٥
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أنا الحاجب قال للعجوز: أنا لا أعرف جارية ولا غيرها، ولا يدخل أحدٌ حتى أفتِّشَه كما أمرني الملك. فقالت له العجوز وقد أظهرت الغضب: أنا أعرف أنك عاقل ومؤدب، فإن كان حالك قد تغيَّرَ فإني أُعلِمها بذلك وأخبرها أنك تعرَّضْتَ لجاريتها. ثم زعقت على تاج الملوك وقالت له: اعبري يا جارية. فعند ذلك عبر إلى داخل الدهليز كما أمرته، وسكت الخادم ولم يتكلم، ثم إن تاج الملوك عدَّ خمسة أبواب ودخل الباب السادس، فوجد السيدة دنيا واقفةً في انتظاره، فلما رأته عرفته، فضَمَّتْه إلى صدرها وضمَّها إلى صدره، ثم دخلت العجوز عليهما وتحيَّلَتْ على صرف الجواري، ثم قالت السيدة دنيا للعجوز: كوني أنتِ بوَّابةً. ثم اختلت هي وتاج الملوك، ولم يزالَا في ضمٍّ وعناقٍ والتفاف ساق على ساق إلى وقت السَّحَر. ولما أصبح الصباح، أغلقَتْ عليهما الباب ودخلت مقصورةً أخرى وجلست على جري عادتها وأتَتْ إليها الجواري، فقضَتْ حوائجهن وصارت تحدِّثهن، ثم قالت للجواري: اخرجْنَ الآنَ من عندي، فإني أريد أن أنشرح وحدي. فخرج الجواري من عندها، ثم إنها أتت إليهما ومعها شيء من الأكل، فأكلَا وأخذَا في الهراش إلى وقت السَّحَر، فأغلقت عليهما الباب مثل اليوم الأول، ولم يزالَا على ذلك مدة شهر كامل.
هذا ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا، وأما ما كان من أمر الوزير وعزيز، فإنهما لما توجَّهَ تاج الملوك إلى قصر بنت الملك ومكث تلك المدة، علمَا أنه لا يخرج منه أبدًا وأنه هالك لا محالة. فقال عزيز للوزير: يا والدي ماذا تصنع؟ فقال الوزير: يا ولدي، إن هذا الأمر مشكل، وإن لم نرجع إلى أبيه ونُعلِمه، فإنه يلومنا على ذلك. ثم تجهَّزَا في الوقت والساعة وتوجَّهَا إلى الأرض الخضراء والعمودين وتخت الملك سليمان شاه، وسارَا يقطعان الأودية في الليل والنهار إلى أن دخلَا على الملك سليمان شاه وأخبراه بما جرى لولده، وأنه من حين دخل قصر بنت الملك لم يعلمَا له خبرًا؛ فعند ذلك قامت عليه القيامة، واشتدت به الندامة، وأمر أن ينادي في مملكته بالجهاد، ثم برز العساكر إلى خارج مدينته ونصب لهم الخيام، وجلس في سرادقه حتى اجتمعت الجيوش من سائر الأقطار، وكانت رعيته تحبه لكثرة عدله وإحسانه، ثم سار في عسكر سدَّ الأفقَ، متوجِّهًا في طلب ولده تاج الملوك.
هذا ما كان من أمر هؤلاء، وأما ما كان من أمر تاج الملوك والسيدة دنيا، فإنهما أقامَا على حالهما نصف سنة وهما كل يوم يزدادان محبةً في بعضهما، وزاد على تاج الملوك العشق والهيام، والوَجْد والغرام، حتى أفصح لها عن الضمير وقال لها: اعلمي يا حبيبة القلب والفؤاد، أني كلما أقمتُ عندك ازددتُ هيامًا ووَجْدًا وغرامًا؛ لأني ما بلغت المرام بالكلية. فقالت له: وما تريد يا نور عيني وثمرة فؤادي؟ إن شئتَ غير الضمِّ والعناقِ والتفاف الساق على الساق، فافعل الذي يرضيك وليس لله فينا شريك. فقال: ليس مرادي هكذا، وإنما مرادي أن أخبرك بحقيقتي، فاعلمي أني لستُ بتاجر، بل أنا ملك ابن ملك، واسم أبي الملك الأعظم سليمان شاه الذي أنفذ الوزير رسولًا إلى أبيك ليخطبك لي؛ فلما بلغكِ الخبر، ما رضيتِ — ثم إنه قصَّ عليها قصته من الأول إلى الآخِر، وليس في الإعادة إفادة — وأريد الآن أن أتوجَّه إلى أبي ليرسل رسولًا إلى أبيك ويخطبك منه ونستريح.
فلما سمعَتْ ذلك الكلام فرحت فرحًا شديدًا؛ لأنه وافَقَ غرضها، ثم باتَا على هذا الاتفاق، واتفق بالأمر المقدور أن النوم غلب عليهما في تلك الليلة من دون الليالي، واستمرَّا إلى أن طلعت الشمس، وفي ذلك الوقت كان الملك شهرمان جالسًا في دست مملكته وبين يديه أمراء دولته، إذ دخل عليه عريف الصياغ وبيده حق كبير، فتقدَّمَ وفتحه بين يدي الملك وأخرج منه علبة لطيفة تساوي مائة ألف دينار، لما فيه من الجواهر واليواقيت والزمرد، مما لا يقدر عليه أحد من ملوك الأقطار؛ فلما رآها الملك تعجَّبَ من حُسْنها، والتفت إلى الخادم الكبير الذي جرى له مع العجوز ما جرى، وقال له: يا كافور، خذ هذه العلبة وامضِ بها إلى السيدة دنيا. فأخذها الخادم ومضى حتى وصل إلى مقصورة بنت الملك، فوجد بابها مغلقًا والعجوز نائمة على عتبته، فقال الخادم: إلى هذه الساعة وأنتم نائمون؟ فلما سمعت العجوز كلامَ الخادم، انتبهَتْ من منامها وخافت منه وقالت: اصبر حتى آتيك بالمفتاح. ثم خرجت على وجهها هاربةً.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الخادم، فإنه عرف أنها مرتابة، فخلع الباب ودخل المقصورة، فوجد السيدة دنيا معانقة لتاج الملوك وهما نائمان، فلما رأى ذلك تحيَّرَ في أمره وهَمَّ أن يعود إلى الملك، فانتبهَتِ السيدة دنيا فوجدَتْه، فتغيَّرَتْ واصفرَّ لونها وقالت له: يا كافور، استر ما ستر الله. فقال: أنا لا أقدر أن أخفي شيئًا عن الملك. ثم قفل الباب ورجع إلى الملك، فقال له الملك: هل أعطيتَ العلبةَ لسيدتك؟ فقال له الخادم: خُذِ العلبة ها هي، وأنا لا أقدر أن أخفي عنك شيئًا، اعلم أني رأيت عند السيدة دنيا شابًّا جميلًا نائمًا معها في فراش واحد وهما متعانقان. فأمر الملك بإحضارهما، فلما حضرَا بين يديه قال لهما: ما هذه الفعال؟ واشتدَّ به الغيظ، فأخذ نمشة وهمَّ أن يضرب تاج الملوك، فرمت السيدة دنيا وجهها عليه وقالت لأبيها: اقتلني قبله. فنهرها الملك، وأمرهم أن يمضوا بها إلى حجرتها، ثم التفت إلى تاج الملوك وقال له: ويلك، من أين أنت؟ ومَن أبوك؟ وما جسرك على ابنتي؟ فقال تاج الملوك: اعلم أيها الملك أنك إنْ قتلتني هلكتَ وندمتَ أنت ومَن في مملكتك. فقال له الملك: ولِمَ ذلك؟ فقال: اعلم أني ابن الملك سليمان شاه، وما تدري إلا وقد أقبَلَ عليك بخيله ورجله. فلما سمع الملك شهرمان ذلك الكلام، أراد أن يؤخر قتله ويضعه في السجن حتى ينظر صحة قوله، فقال له وزيره: يا ملك الزمان، الرأي عندي أن تعجِّل قتل هذا العلق، فإنه تجاسر على بنات الملوك. فقال للسياف: اضرب عنقه فإنه خائن. فأخذه السياف وشدَّ وثاقه ورفع يده، وشاوَرَ الأمراء أولًا وثانيًا، وقصد بذلك أن يكون في الأمر توانٍ، فزعق عليه الملك وقال له: إلى متى تشاور؟ إنْ شاورتَ مرةً أخرى ضربتُ عنقك. فرفع السياف يده حتى بان شعر إبطه، وأراد أن يضرب عنقه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.