فلما كانت الليلة ١٩٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قمر الزمان أفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من شعره، قال الوزير للملك: يا ملك الزمان، إلى متى وأنت محجوب عن العسكر عند ولدك قمر الزمان؟ فربما ينفسد عليك نظامُ المملكة بسبب بُعْدك عن أرباب دولتك، والعاقل إذا ألَمَّتْ بجسمه أمراض مختلفة يجب عليه أن يبدأ بمداواة أعظمها، والرأي عندي أن تنقل ولدك من هذا المكان إلى القصر الذي في السراية المطل على البحر، وتنقطع عند ولدك فيه، وتجعل للموكب والديوان في كل جمعة يومين؛ الخميس والإثنين، فيدخل عليك فيهما الأمراء والوزراء، والحجَّاب والنوَّاب، وأرباب الدولة، وخواص المملكة، وأصحاب الصولة، وبقية العساكر والرعية، ويعرضون عليك أحوالهم، فاقضِ حوائجهم واحكم بينهم، وخذ وأعطِ معهم، وَأْمُر وَانْهَ بينهم، وبقية الجمعة تكون عند ولدك قمر الزمان، ولا تزال على تلك الحالة حتى يفرِّج الله عنك وعنه، ولا تأمن أيها الملك من نوائب الزمان، وطوارق الحدثان؛ فإن العاقل دائمًا محاذر، وما أحسن قول الشاعر:
فلما سمع السلطان من الوزير هذا الكلام، رآه صوابًا ونصيحةً في مصلحته، فأثَّر عنده وخاف أن ينفسد عليه نظام الملك، فنهض من وقته وساعته، وأمر بتحويل ولده من ذلك المكان إلى القصر الذي في السراية المطل على البحر، ويمشون إليه على ممشاة في وسط البحر عرضها عشرون ذراعًا، وبدائر القصر شبابيك مطلة على البحر، وأرض ذلك القصر مفروشة بالرخام الملون، وسقفه مدهون بأفخر الدهان من سائر الألوان، ومنقوش بالذهب واللَّازورد؛ ففرشوا لقمر الزمان فيه البُسُط الحرير، وألبسوا حيطانه الديباج، وأَرْخَوْا عليه الستارات المكلَّلة بالجواهر، ودخل فيه قمر الزمان، وصار من شدة العشق كثير السهر، فاشتغل خاطره، واصفرَّ لونه، وانتحل جسمه، وجلس والده الملك شهرمان عند رأسه وحزن عليه، وصار الملك في كل يوم إثنين ويوم خميس يأذن في أن يدخل عليه مَن شاء الدخول من الأمراء والوزراء، والحجَّاب والنواب، وأرباب الدولة، وسائر العساكر والرعية في ذلك القصر؛ فيدخلون عليه ويؤدُّون وظائفَ الخدمة، ويقيمون عنده إلى آخر النهار، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى حال سبيلهم، وبعد ذلك يدخل الملك عند ولده قمر الزمان في ذلك المكان، ولا يفارقه ليلًا ولا نهارًا، ولم يزل على تلك الحالة مدة أيام وليالٍ من الزمان.
هذا ما كان من أمر قمر الزمان ابن الملك شهرمان، وأما ما كان من أمر الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والسبعة قصور، فإن الجن لما حملوها ونيَّموها في فراشها، لم يَبْقَ من الليل إلا ثلاث ساعات، ثم طلع الفجر فاستيقظت من منامها، وجلست والتفتت يمينًا وشمالًا فلم تَرَ معشوقها الذي كان في حضنها؛ فارتجف فؤادها، وزلَّ عقلها، وصرخت صرخةً عظيمة، فاستيقظ جميع جواريها والدَّايات والقهرمانات ودخلن عليها، فتقدَّمَتْ إليها كبيرتهن وقالت لها: يا سيدتي، ما الذي أصابك؟ فقالت لها: أيتها العجوز النحس، أين معشوقي الشاب المليح الذي كان نائمًا هذه الليلة في حضني؟ فأخبريني أين راح. فلما سمعت منها القهرمانة هذا الكلام، صار الضياء في وجهها ظلامًا، وخافت من بأسها خوفًا عظيمًا، وقالت: يا سيدتي بدور، أي شيء هذا الكلام القبيح؟ فقالت السيدة بدور: ويلك يا عجوز النحس! أين معشوقي الشاب المليح، صاحب الوجه الصبيح، والعيون السود، والحواجب المقرونة، الذي كان بائتًا عندي من العشاء إلى قرب طلوع الفجر؟ فقالت: والله ما رأيت شابًّا ولا غيره، فبالله يا سيدتي لا تمزحي هذا المزاح الخارج عن الحد، فتروح أرواحنا، وربما بلغ أباك هذا المزاح، فمَن يخلِّصنا من يده؟ وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.