فلما كانت الليلة ٢٠٩
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة بدور لما نزلت بظاهر مدينة الأبنوس لأجل الاستراحة، أرسل الملك أرمانوس رسولًا من عنده يكشف له خبر هذا الملك النازل بظاهر المدينة، فلما وصل إليهم الرسول سألهم، فأخبروه أن هذا ابن ملك تائه عن الطريق، وهو قاصد جزائر خالدان والملك شهرمان. فعاد الرسول إلى الملك أرمانوس وأخبره بالخبر، فلما سمع الملك أرمانوس هذا الكلام، نزل هو وأرباب دولته إلى مقابلته، فلما قدم على الخيام ترجَّلت السيدة بدور وترجَّل الملك أرمانوس وسلَّما على بعضهما، وأخذها ودخل بها إلى مدينته، وطلع بها إلى قصره، وأمر بمد السماط وموائد الأطعمة، وأمر بنقل السيدة بدور إلى دار الضيافة، فأقامت هناك ثلاثة أيام، وبعد ذلك أقبل الملك أرمانوس على السيدة بدور، وكانت دخلت في ذلك اليوم الحمام، وأسفرت عن وجهٍ كأنه البدر عند التمام؛ فافتتن بها العالم، وتهتَّكت بها الخلق عند رؤيتها، فعند ذلك أقبل الملك أرمانوس عليها وهي لابسة حلةً من الحرير مطرَّزة بالذهب المرصع بالجواهر، وقال لها: يا ولدي، إني بقيت شيخًا هرمًا، وعمري ما رُزِقت ولدًا غير بنت، وهي على شكلك وقدِّك في الحسن والجمال، وعجزت عن الملك؛ فهل لك يا ولدي أن تقيم بأرضي، وتسكن بلادي، وأزوِّجك ابنتي، وأعطيك مملكة؟ فأطرقت السيدة بدور رأسها، وعرق جبينها من الحياء، وقالت في نفسها: كيف يكون العمل وأنا امرأة؟ فإن خالفت أمره وسرت ربما يرسل خلفي جيشًا يقتلني، وإن أطعته ربما أفتضح، وقد فقدت محبوبي قمر الزمان، ولم أعرف له خبرًا، وما لي خلاص إلا أن أجيبه إلى قصده، وأقيم عنده حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
ثم إن السيدة بدور رفعت رأسها، وأذعنت للملك بالسمع والطاعة؛ ففرح الملك بذلك، وأمر المنادي أن ينادي في جزائر الأبنوس بالفرح والزينة، وجمع الحجَّاب والنواب والأمراء والوزراء وأرباب دولته وقضاة مدينته، وعزل نفسه من المُلك، وسلطن السيدة بدور، وألبسها بدلة الملك، ودخلت الأمراء جميعًا على السيدة بدور وهم لا يشكُّون في أنها شاب، وصار كلُّ مَن نظر إليها منهم جميعًا يبل سراويله لفرط حسنها وجمالها، فلما تسلطنت الملكة بدور ودقت لها البشائر بالسرور، شرع الملك أرمانوس في تجهيز ابنته حياة النفوس، وبعد أيام قلائل أدخلوا السيدة بدور على حياة النفوس، فكانتا كأنهما بدران اجتمعا أو شمسان في وقت طلعا، فردوا عليهما الأبواب، وأرخَوا الستائر بعد أن أوقدوا لهما الشموع، وفرشوا لهما الفرش، فعند ذلك جلست السيدة بدور مع السيدة حياة النفوس، فتذكَّرت محبوبها قمر الزمان، واشتدت بها الأحزان؛ فسكبت العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن السيدة بدور لما فرغت من إنشادها جلست إلى جانب السيدة حياة النفوس، وقبَّلتها في فمها، ونهضت من وقتها وساعتها توضأت، ولم تزل تصلي حتى نامت السيدة حياة النفوس، ثم دخلت السيدة بدور معها في الفرش، وأدارت ظهرها لها إلى الصباح؛ فلما طلع النهار دخل الملك هو وزوجته إلى ابنتهما، وسألاها عن حالها؛ فأخبرتهما بما جرى وما سمعته من الشعر.
هذا ما كان من أمر حياة النفوس وأبويها، وأما ما كان من أمر الملكة بدور، فإنها خرجت وجلست على كرسي المملكة، وطلع إليها الأمراء وأرباب الدولة وجميع الرؤساء والجيوش وهنَّوها بالملك، وقبَّلوا الأرض بين يديها ودعوا لها، فأقبلت عليهم وتبسمت، وخلعت عليهم وزادت في إقطاع الأمراء، فحبَّها العسكر والرعية، ودعوا لها بدوام الملك، وهم يعتقدون أنها ذكر. ثم إنها أمرت ونهت، وحكمت وعدلت، وأطلقت مَن في الحبوس، وأبطلت المكوس، ولم تزل قاعدة في مجلس الحكومة إلى أن دخل الليل، ثم دخلت المكان المعدَّ لها، فوجدت السيدة حياة النفوس جالسة، فجلست بجانبها، وطقطقت على ظهرها، ولاطفتها، وقبَّلتها بين عينيها، وأنشدت هذه الأبيات:
ثم إن الملكة بدور نهضت قائمة على قدميها ومسحت دموعها، وتوضأت وصلت، ولم تزل تصلي إلى أن غلب النوم على السيدة حياة النفوس فنامت، فجاءت الملكة بدور، ورقدت بجانبها إلى الصباح، ثم قامت وصلت الصبح وجلست على كرسي المملكة، وأمرت ونهت، وحكمت وعدلت.
هذا ما كان من أمرها، وأما ما كان من أمر الملك أرمانوس، فإنه دخل على ابنته وسألها عن حالها، فخبَّرته بجميع ما جرى لها، وأنشدته الشعر الذي قالته الملكة بدور، وقالت: يا أبي، ما رأيت أحدًا أكثر عقلًا وحياءً من زوجي، غير أنه يبكي ويتنهد. فقال لها أبوها: يا ابنتي اصبري عليه، فما بقي غير هذه الليلة الثالثة، فإن لم يدخل بك ويزل بكارتك، يكن لنا معه رأي وتدبير، وأخلعه من الملك وأنفيه من بلادنا. فاتفق مع ابنته على هذا الكلام، وأضمر هذا الرأي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.