فلما كانت الليلة ٢١١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن السيدة بدور لما أعلمت حياة النفوس بقصتها، وأمرتها بالكتمان، تعجبت من ذلك غاية العجب، ورقت لها، ودعت لها بجمع شملها على محبوبها قمر الزمان، وقالت لها: يا أختي، لا تخافي ولا تفزعي، واصبري إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. ثم إن حياة النفوس أنشدت هذين البيتين:
فلما فرغت من شعرها قالت: يا أختي، إن صدور الأحرار قبور الأسرار، وأنا لا أفشي لك سرًّا. ثم لعبتا وتعانقتا ونامتا إلى قُرَيْب الأذان، ثم قامت حياة النفوس وأخذت دجاجة وذبحتها، وتلطخت بدمها، وقلعت سروالها وصرخت، فدخل عليها أهلها، وزغردت الجواري، ودخلت عليها أمها وسألتها عن حالها، وأقامت عندها إلى المساء. وأما الملكة بدور فإنها لما أصبحت قامت وذهبت إلى الحمام واغتسلت وصلت الصبح، ثم توجهت إلى مجلس الحكومة وجلست على كرسي المملكة وحكمت بين الناس. فلما سمع الملك أرمانوس الزغاريد سأل عن الخبر فأخبروه بافتضاض بكارة ابنته؛ ففرح بذلك واتسع صدره وانشرح، وأولم الولائم، ولم يزالوا على تلك الحالة مدة من الزمان.
هذا ما كان من أمرهما، وأما ما كان من أمر الملك شهرمان؛ فإنه بعد خروج ولده إلى الصيد والقنص هو ومرزوان كما تقدَّم، صبر حتى أقبل عليه الليل فلم يجئ ولده، فتحيَّر عقله ولم ينم تلك الليلة، وقلق غاية القلق، وزاد وَجْدُه واحترق، وما صدق أن الفجر انشقَّ حتى أصبح ينتظر ولده إلى نصف النهار فلم يجئ، فأحس قلبه بالفراق، والتهب على ولده من الإشفاق، ثم بكى حتى بل ثيابه بالدموع، وأنشد من قلب مصدوع:
فلما فرغ من شعره مسح دموعه، ونادى في عسكره بالرحيل والحث على السفر الطويل، فركب الجيش جميعه، وخرج السلطان وهو محترق القلب على ولده قمر الزمان، وقلبه بالحزن ملآن، ثم فرَّق جيشه يمينًا وشمالًا، وأمامًا وخلفًا؛ ست فرق، وقال لهم: الاجتماع غدًا عند مفرق الطريق. فتفرقت الجيوش والعسكر كما ذكرنا، وسافرت الخيول، ولم يزالوا مسافرين بقية النهار إلى أن جن الليل، فساروا جميع الليل إلى نصف النهار حتى وصلوا إلى مفرق أربع طرق، فلم يعرفوا أي طريق سلكها، ثم رأوا أثر أقمشة مقطعة، ورأوا اللحم مقطعًا، ونظروا أثر الدم باقيًا، وشاهدوا كل قطعة من الثياب واللحم في ناحية؛ فلما رأى الملك شهرمان ذلك صرخ صرخة عظيمة من صميم قلبه، وقال: وا ولداه! ولطم على وجهه، ونتف لحيته، ومزَّق ثوبه، وأيقن بموت ولده، وزاد في البكاء والنحيب، وبكت لبكائه العساكر، وكلهم أيقنوا بهلاك قمر الزمان، وحثوا على رءوسهم التراب، ودخل عليهم الليل وهم في بكاء ونحيب حتى أشرفوا على الهلاك، واحترق قلب الملك بلهيب الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
فلما فرغ من إنشاده رجع بجيوشه إلى مدينته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.