فلما كانت الليلة ٢١٦
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملكة بدور لما رأت الفص صاحت من فرحتها، وخرَّت مغشيًّا عليها. فلما أفاقت قالت في نفسها: إن هذا الفص كان سببًا في فراق محبوبي قمر الزمان، ولكنه بشير الخير. ثم أعلمت السيدة حياة النفوس بأن وجوده بشارة الاجتماع. فلما أصبح الصباح جلست على كرسي المملكة، وأحضرت ريس المركب، فلما حضر قبَّل الأرض بين يديها، فقالت: أين خلَّيتم صاحب هذا الزيتون؟ قال: يا ملك الزمان، تركناه في بلاد المجوس، وهو خولي بستان. فقالت له: إن لم تأتِ به فلا تعلم ما يجري عليك، وعلى مركبك من الضرر. ثم أمرت بالختم على مخازن التجار، وقالت لهم: إن صاحب هذا الزيتون غريمي، ولي عليه دين، وإن لم يأتِ لأقتلنَّكم جميعًا وأنهب تجارتكم. فأقبلوا على الريس ووعدوه بأجرة مركبه ويرجع ثاني مرة، وقالوا له: خلِّصنا من هذا الغاشم. فنزل الريس إلى المركب وحلَّ قلوعها، وكتب الله له السلامة حتى دخل الجزيرة في الليل، وطلع إلى البستان، وكان قمر الزمان قد طال عليه الليل، وتذكَّر محبوبته، فقعد يبكي على ما جرى له وهو في البستان، ثم إن الريس دق الباب على قمر الزمان، ففتح الباب وخرج إليه، فحمله البحرية ونزلوا به إلى المركب، وحلوا القلوع وساروا، ولم يزالوا سائرين أيامًا وليالي وقمر الزمان لا يعلم ما يوجب ذلك، فسألهم عن السبب، فقالوا له: أنت غريم الملك صاحب جزائر الأبنوس صهر الملك أرمانوس، وقد سرقتَ ماله يا منحوس. فقال: والله عمري ما دخلت هذه البلاد ولا أعرفها.
ثم إنهم ساروا به حتى أشرفوا على جزائر الأبنوس، وطلعوا به على السيدة بدور؛ فلما رأته عرفته وقالت: دعوه عند الخدام ليدخلوا به الحمام. وأفرجت عن التجار، وخلعت على الريس خلعة تساوي عشرة آلاف دينار، ودخلت على حياة النفوس وأعلمتها بذلك، وقالت لها: اكتمي الخبر حتى أبلغ مرادي، وأعمل عملًا يُؤرَّخ ويُقرَأ بعدنا على الملوك والرعايا. وحين أمرت أن يدخلوا بقمر الزمان الحمام، دخلوا به الحمام وألبسوه لبس الملوك، ولما طلع قمر الزمان من الحمام صار كأنه غصن بان أو كوكب يخجل بطلعته القمران، وردَّت روحه إليه، ثم توجه إليها ودخل القصر، فلما نظرته صبَّرت قلبها حتى يتم مرادها، وأنعمت عليه بمماليك وخدم وجمال وبغال، وأعطته خزانة مال، ولم تزل ترقِّي قمر الزمان من درجة إلى درجة حتى جعلته خازندار، وسلَّمت إليه الأموال، وأقبلت عليه وقرَّبته منها وأعلمت الأمراء بمنزلته، فأحبوه جميعهم، وصارت الملكة بدور كل يوم تزيد له في المرتبات، وقمر الزمان لا يعرف ما سبب تعظيمها له، ومن كثرة الأموال صار يهب ويتكرَّم، ويخدم الملك أرمانوس حتى أحبَّه، وكذلك أحَبَّه الأمراء والخواص والعوام، وصاروا يحلفون بحياته. كل ذلك وقمر الزمان يتعجب من تعظيم الملكة بدور له، ويقول في نفسه: والله إن هذه المحبة لا بد لها من سبب، وربما يكون هذا الملك إنما يكرمني هذا الإكرام الزائد لأجل غرض فاسد، فلا بد أن أستأذنه وأسافر عن بلاده.
ثم إنه توجه إلى الملكة بدور وقال لها: أيها الملك، إنك أكرمتني إكرامًا زائدًا، ومن تمام الإكرام أن تأذن لي في السفر، وتأخذ مني جميع ما أنعمت به عليَّ. فتبسمت الملكة بدور وقالت له: ما حملك على طلب الأسفار، واقتحام الأخطار، وأنت في غاية الإكرام وتزايد الإنعام؟ فقال لها قمر الزمان: أيها الملك، إن هذا الإكرام إذا لم يكن له سبب فإنه من أعجب العجب، خصوصًا وقد أوليتني من المراتب ما حقه أن يكون للأخيار، مع أنني من الأطفال الصغار. فقالت له الملكة بدور: وسبب ذلك أني أحبك لفرط جمالك الفائق، وبديع حسنك الرائق، وإن مكَّنْتَني مما أريده منك أزِدْك إكرامًا وعطاءً وإنعامًا، وأجعلك وزيرًا على صغر سنك كما جعلني الناس سلطانًا عليهم وأنا في هذا السن، ولا عجب اليومَ في رئاسة الأطفال، ولله در مَن قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام خجل واحمرَّت خدوده حتى صارت كالضرام، وقال: لا حاجة لي بهذا الإكرام المؤدي إلى ارتكاب الحرام، بل أعيش فقيرًا من المال غنيًّا بالمروءة والكمال. فقالت له الملكة بدور: أنا لا أغتر بورعك الناشئ عن التيه والدلال، ولله در مَن قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام، وفهم الشعر والنظام، قال: أيها الملك، إنه لا عادة لي بهذه الفعال، ولا طاقة لي على حمل هذه الأثقال، التي يعجز عن حملها أكبر مني، فكيف بي على صغر سني؟ فلما سمعت كلامه الملكة بدور تبسَّمت، وقالت: إن هذا لشيء عجاب، كيف يظهر الخطأ من خلال الصواب إذا كنت صغيرًا؟ فكيف تخشى الحرام وارتكاب الآثام وأنت لم تبلغ حدَّ التكليف، ولا مؤاخذةَ في ذنب الصغير ولا تعنيف؟ فقد ألزمت نفسك الحجَّة بالجدال، وحقت عليك كلمة الوصال، فلا تُظهِر بعد ذلك امتناعًا ولا نفورًا، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، فأنا أحقُّ منك بخشية الوقوع في الضلال، وقد أجاد مَن قال:
فلما سمع قمر الزمان هذا الكلام، تبدَّل الضياء في وجهه بالظلام، وقال: أيها الملك، إنه يوجد عندك من النساء والجواري الحسان ما لا يوجد له نظير في هذا الزمان، فهلَّا استغنيتَ بذلك عني؟ فمِلْ إلى ما شئتَ منهنَّ ودعني. فقالت: إن كلامك صحيح، ولكن لا يشتفي بهن من عشقك ألم ولا تبريح، وإذا فسدت الأمزجة والطبيعة فهي لغير النصح سميعة مطيعة، فاترك الجدال واسمع قول مَن قال:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
وقول الآخر:
فلما سمع قمر الزمان منها هذه الأشعار، وتحقَّق أنه ليس له مما أرادته فرار، قال: يا ملك الزمان، إن كان ولا بد فعاهِدْني على أنك لا تفعل بي هذا الأمر غير مرة واحدة، وإن كان ذلك لا يجدي في إصلاح الطبيعة الفاسدة، وبعد ذلك لا تسألني فيه على الأبد، لعلَّ الله يصلح مني ما فسد. فقالت: عاهدتك على ذلك، راجيًا أن الله علينا يتوب، ويمحو بفضله عنا عظيم الذنوب، فإن نطاق أفلاك المغفرة لا يضيق عن أن يحيط بنا، ويكفِّر عنا ما عَظُم من سيئاتنا، ويخرجنا إلى نور الهدى من ظلام الضلال، وقد أجاد وأحسن مَن قال:
ثم أعطته المواثيق والعهود، وحلفت له بواجب الوجود، أنه لا يقع بينها وبينه هذا الفعل إلا مرة في الزمان، وإن ألجأها غرامه إلى الموت والخسران، فقام معها على هذا الشرط إلى محل خلوتها لتطفئ نيران لوعتها، وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ذلك تقدير العزيز العليم. ثم حلَّ سراويله وهو في غاية الخجل، وعيونه تسيل من شدة الوجل؛ فتبسمت وأطلعته معها على السرير، وقالت له: لا ترى بعد هذه الليلة من نكير. ومالت عليه بالتقبيل والعناق، والْتِفاف ساقٍ على ساق، ثم قالت له: مدَّ يدك بين فخذيَّ إلى المعهود؛ لعله ينتصب إلى القيام من السجود. فبكى وقال: أنا لا أُحسِنُ شيئًا من ذلك. فقالت: بحياتي تفعل ما أمرتُكَ به مما هنالك. فمدَّ يده وفؤاده في زفير؛ فوجد فخذها ألين من الزبد وأنعم من الحرير؛ فاستلذَّ بلمسها، وجال بيده في جميع الجهات، حتى وصلت إلى قبَّة كثيرة البركات والحركات، فقال في نفسه: لعل هذا الملك خنثى، وليس بذكر ولا أنثى. ثم قال: أيها الملك، إني لم أجد لك آلةً مثل آلات الرجال، فما حملك على هذه الفعال؟ فضحكت الملكة بدور حتى استلقت على قفاها، وقالت له: يا حبيبي، ما أسرع ما نسيت ليالي بِتْناها. وعرَّفته بنفسها، فعرف أنها زوجته الملكة بدور بنت الملك الغيور صاحب الجزائر والبحور؛ فاحتضنها واحتضنته، وقبَّلتها وقبَّلته، ثم اضطجعا على فراش الوصال، وتناشدا قول مَن قال:
ثم إن الملكة بدور أخبرت قمر الزمان بجميع ما جرى لها من الأول إلى الآخر، وكذلك هو أخبرها بجميع ما جرى له، وبعد ذلك انتقل معها إلى العتاب، وقال لها: ما حملك على ما فعلتِه بي في هذه الليلة؟ فقالت: لا تؤاخذني فإن قصدي بذلك المزاح، ومزيد البسط والانشراح. فلما أصبح الصباح، وأضاء بنوره ولاح، أرسلت الملكة بدور إلى الملك أرمانوس والد الملكة حياة النفوس، وأخبرته بحقيقة أمرها، وأنها زوجة قمر الزمان، وأخبرته بقصتهما وبسبب افتراقهما من بعضهما، وأعلمته أن ابنته حياة النفوس بكر على حالها؛ فلما سمع الملك أرمانوس صاحب جزائر الأبنوس قصة الملكة بدور بنت الملك الغيور، تعجَّب منها غاية العجب، وأمر أن يكتبوها بماء الذهب، ثم التفت إلى قمر الزمان وقال له: يا ابن الملك، هل لك أن تصاهرني وتتزوج بنتي حياة النفوس؟ فقال له: حتى أشاور الملكة بدور، فإن لها عليَّ فضلًا غير محصور. فلما شاورها قالت له: نِعْمَ هذا الرأي! فتزوَّجْها وأكون أنا لها جارية؛ لأن لها عليَّ معروفًا وإحسانًا، وخيرًا وامتنانًا، وخصوصًا ونحن في محلها، وقد غمرنا إحسانُ أبيها. فلما رأى قمر الزمان أن الملكة بدور مائلة إلى ذلك، ولم يكن عندها غيرة من حياة النفوس، اتفق معها على هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.