فلما كانت الليلة ٢٢٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الأمجد قال للخازندار: ما نريد
منك إلا أن تبلغه هذين البيتين اللذين سمعتهما، وأسألك بالله أن تطوِّل
بالك علينا حتى أنشد لأخي هذين البيتين الآخَرين. ثم بكى بكاءً شديدًا،
وجعل يقول:
فِي الذَّاهِبِينَ الْأَوَّلِيـ
ـنَ مِنَ الْمُلُوكِ لَنَا بَصَائِرْ
كَمْ قَدْ مَضَى فِي ذَا الطَّرِيـ
ـقِ مِنَ الْأَكَابِرِ وَالْأَصَاغِرْ
فلما سمع الخازندار من الأمجد هذا الكلام بكى بكاءً شديدًا حتى بلَّ
لحيته، وأما الأسعد فإنه قد ترغرغت عيناه بالعَبَرات، وأنشد هذه
الأبيات:
الدَّهْرُ يَفْجَعُ بَعْدَ الْعَيْنِ
بِالْأَثَرِ
فَمَا الْبُكَاءُ عَلَى الْأَشْبَاحِ
وَالصُّوَرِ
مَا لِلَيَالِي أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَنَا
مِنَ اللَّيَالِي وَخَانَتْهَا يَدُ
الْغِيَرِ
فَقَدْ أَضْرَمَتْ كَيْدَهَا لِابْنِ الزُّبَيْرِ
وَمَا
رَعَتْ لِيَاذَتَهُ بِالْبَيْتِ وَالْحَجَرِ
وَلَيْتَهَا إِذْ فَدَتْ عَمْرًا بِخَارِجَةٍ
فَدَتْ عَلِيًّا بِمَنْ شَاءَتْ مِنَ
الْبَشَرِ
ثم خضب خذه بدمعه المدرار، وأنشد هذه الأشعار:
إِنَّ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ قَدْ
طُبِعَتْ
عَلَى الْخِدَاعِ وَفِيهَا الْمُكْرُ
وَالْحِيَلُ
سَرَابُ كُلِّ يَبَابٍ عِنْدَهَا شَنِبٌ
وَهَوْلُ كُلِّ ظَلَامٍ عِنْدَهَا كَحَلُ
ذَنْبِي إِلَى الدَّهْرِ فَلْيَكْرَهْ
سَجِيَّتَهُ
ذَنْبَ الْحِمَامِ إِذَا مَا أَحْجَمَ
الْبَطَلُ
ثم صعَّد الزفرات، وأنشد هذه الأبيات:
يَا طَالِبَ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ
إِنَّهَا
شَرَكُ الرَّدَى وَقَرَارَةُ الْأَكْدَارِ
دَارٌ مَتَّى مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا
أَبْكَتْ غَدًا تَبًّا لَهَا مِنْ دَارِ
غَارَاتُهَا لَا تَنْقَضِي وَأَسِيرُهَا
لَا يُفْتَدَى بِجَلَائِلِ الْأَخْطَارِ
كَمْ مُزْدَهٍ بِغُرُورِهَا حَتَّى بَدَا
مُتَمَرِّدًا مُتَجَاوِزَ الْمِقْدَارِ
قَلَبَتْ لَهُ ظَهْرَ الْمِجَنِّ
وَأَوْغَلَتْ
فِيهِ الْمُدَى وَتَرَتْ لِأَخْذِ الثَّارِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ خُطُوبَهَا تَفْجِي وَلَوْ
طَالَ الْمَدَى وَوَنَتْ سُرَى الْأَقْدَارِ
فَارْبَأْ بِعُمْرِكَ أَنْ يَمُرَّ
مُضَيَّعًا
فِيهَا سُدًى مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِظْهَارِ
وَاقْطَعْ عَلَائِقَ حُبِّهَا وَطِلَابِهَا
تَلْقَ الْهُدَى وَرَفَاهَةَ الْأَسْرَارِ
فلما فرغ الأسعد من شعره اعتنق أخاه الأمجد حتى صارا كأنهما شخص
واحد، وسلَّ الخازندار سيفه وأراد أن يضربهما، وإذا بفرسه جفل في البر،
وكان يساوي ألف دينار، وعليه سرج عظيم يساوي جملة من المال؛ فألقى
السيف من يده وذهب وراء فرسه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام
المباح.